فصل: باب ضَالَّةِ الْغَنَمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب فِي اللُّقَطَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللقطة‏)‏ كذا للمستملي والنسفي، واقتصر الباقون على البسملة وما بعدها‏.‏

واللقطة الشيء الذي يلتقط، وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين‏.‏

وقال عياض‏:‏ لا يجوز غيره‏.‏

وقال الزمخشري في الفائق‏:‏ اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها‏.‏

كذا قال، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون قال‏:‏ وأما بالفتح فهو اللاقط‏:‏ وقال الأزهري‏:‏ هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح‏.‏

وقال ابن بري‏:‏ التحريك للمفعول نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس‏.‏

وفيها لغتان أيضا‏:‏ لقاطة بضم اللام، ولقطة بفتحها‏.‏

وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال‏:‏ لقاطة ولقطة ولقطه ولقطة ما لاقط قد لقطه ووجه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة‏.‏

وذلك لمعنى فيها اختصت به، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها فسميت باسم الفاعل لذلك‏.‏

*3*باب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلَامَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه‏)‏ أورد فيه حديث أبي بن كعب ‏"‏ أصبت صرة فيها مائة دينار ‏"‏ كذا للمستملي، وللكشميهني ‏"‏ وجدت ‏"‏ وللباقين ‏"‏ أخذت‏"‏‏.‏

ولم يقع في سياقه ما ترجم به صريحا، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي ذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا فَقَالَ احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا فَاسْتَمْتَعْتُ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا آدم حدثنا شعبة، وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة‏)‏ هكذا ساقه عاليا ونازلا، والسياق للإسناد النازل‏.‏

وقد أخرجه البيهقي من طريق آدم مطولا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها‏)‏ في رواية حماد بن سلمة وسفيان الثوري وزيد بن أنيسة عند مسلم وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق الثوري وأحمد وأبو داود من طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث ‏"‏ فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه ‏"‏ لفظ مسلم‏.‏

وأما قول أبي داود‏:‏ إن هذه الزيادة زادها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة فتمسك بها من حاول تضعيفها فلم يصعب، يل هي صحيحة، وقد عرفت من وافق حمادا عليها وليست شاذة‏.‏

وقد أخذ بظاهرها مالك وأحمد‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة، لأنه قد يصيب الصفة‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها، وهي فائدة قوله‏:‏ ‏"‏ اعرف عفاصها الخ ‏"‏ وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة، قال‏:‏ ويتأول قوله‏:‏ ‏"‏ اعرف عفاصها ‏"‏ على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله‏.‏

أو لتكون الدعوى فيها معلومة‏.‏

وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن فيه تنبيها على حفظ الوعاء وغيره لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت النفقة، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى‏.‏

قلت‏:‏ قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها، وسيأتي أيضا في حديث زيد بن خالد في آخر أبواب اللقطة، وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبينة فجاء آخر فأقام بينة أخرى أنها له، وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم‏.‏

وقال بعض متأخري الشافعية‏:‏ يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك‏.‏

لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان، بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ البينة على المدعي ‏"‏ ثم قال‏:‏ أما إذا صحت الزيادة فتخص صورة الملتقط من عموم ‏"‏ البينة على المدعي ‏"‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ احفظ وعاءها وعددها ووكاءها ‏"‏ الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم، وقرأ بها الحسن في قوله‏:‏ ‏"‏ قبل وعاء أخيه ‏"‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏"‏ إعاء ‏"‏ بقلب الواو المكسورة همزة‏.‏

والوعاء ما يجعل فيه الشيء، سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك‏.‏

والوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها‏.‏

وزاد في حديث زيد بن خالد ‏"‏ العفاص ‏"‏ وسيأتي ذكره وشرحه وحكم هذه العلامات في الباب الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلقيته بعد بمكة‏)‏ القائل شعبة، والذي قال‏:‏ ‏"‏ لا أدري ‏"‏ هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث، قال شعبة‏:‏ فسمعته بعد عشر سنين يقول‏:‏ ‏"‏ عرفها عاما واحدا‏"‏‏.‏

وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث ‏"‏ قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا‏"‏‏.‏

وأغرب ابن بطال فقال‏:‏ الذي شك فيه هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة انتهى‏.‏

ولم يصب في ذلك إن تبعه جماعة منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة وقال‏:‏ قالوا في حديثهم جميعا ثلاثة أحوال، إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة‏.‏

وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي في الباب الذي يليه فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال‏:‏ يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه، أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي‏.‏

قال المنذري‏:‏ لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، إلا شيء جاء عن عمر انتهى‏.‏

وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء‏.‏

وحكى بن المنذر عن عمر أربعة أقوال‏:‏ يعرفها ثلاثة أحوال، عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام‏.‏

ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها‏.‏

وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر‏.‏

وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط‏.‏

قال‏:‏ والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم تثبت واستذكر واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أبيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته ‏"‏ ارجع فصل فإنك لم تصل ‏"‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم‏.‏

وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم‏.‏

وسيأتي بقبة الكلام على حديث أبي بن كعب في أواخر أبواب اللقطة قريبا إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب ضَالَّةِ الْإِبِلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ضالة الإبل‏)‏ أي هل تلتقط أم لا‏؟‏ والضال الضائع، والضال في الحيوان كاللقطة في غيره، والجمهور على القول بظاهر الحديث في أنها لا تلتقط‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشافعية‏.‏

وكذا إذا وجدت بقرية فيجوز التملك على الأصح عندهم، والخلاف عند المالكية أيضا، قال العلماء حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس‏.‏

وقالوا‏:‏ في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته عن صغار السباع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ الْإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرحمن‏)‏ هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ربيعة‏)‏ هو ابن أبي عبد الرحمن المعروف بالرأي بسكون الهمزة، وقد رواه ابن وهب عن الثوري وغيره ‏"‏ أن ربيعة حدثهم ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مولى المنبعث‏)‏ بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في العلم والشرب وهنا في مواضع، ويأتي في الطلاق والأدب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي‏)‏ في رواية مالك عن ربيعة ‏"‏ جاء رجل ‏"‏ وزعم ابن بشكوال وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن، ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئا من ذلك، وفيه بعد أيضا لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، وقيل السائل هو الراوي وفيه بعد أيضا لما ذكرناه‏.‏

ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني من وجه آخر عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه ‏"‏ إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لكن رواه أحمد من وجه آخر عن زيد بن خالد فقال فيه ‏"‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو أن رجلا سأل ‏"‏ على الشك‏.‏

وأيضا فإن في رواية ابن وهب المذكورة عن زيد بن خالد ‏"‏ أتى رجل وأنا معه ‏"‏ فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل‏.‏

ثم ظفرت بتسمية السائل وذلك فيما أخرجه الحميدي والبغوي وابن السكن والبارودي والطبراني كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري عن ربيعة عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال‏:‏ عرفها سنة ثم أوثق وعاءها ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وقد ذكر أبو داود طرفا منه تعليقا ولم يسق لفظه‏.‏

وكذلك البخاري في تاريخه‏.‏

وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية، قال‏:‏ عرفها حولا ‏"‏ الحديث، وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي‏.‏

وروى الإسماعيلي في ‏"‏ الصحابة ‏"‏ من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه ‏"‏ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال‏:‏ إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه ‏"‏ الحديث وإسناده واه جدا، وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله اللقطة نجدها، قال‏:‏ أنشدها ولا تكتم ولا تغيب ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسأله عما يلتقطه‏)‏ في أكثر الروايات أنه سأل عن اللقطة، زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث ‏"‏ الذهب والفضة ‏"‏ وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلا وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وفي إعطائه الحكم المذكور‏.‏

ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ ‏"‏ وسئل عن اللقطة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها‏)‏ في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم ‏"‏ اعرف وكاءها أو قال عفاصها ‏"‏ ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد ‏"‏ فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها ‏"‏ زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب‏.‏

ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب ‏"‏ اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ‏"‏ ووافقه الأكثر‏.‏

نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ ‏"‏ عرفها حولا، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا اعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك ‏"‏ الحديث‏.‏

وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات‏.‏

ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة‏.‏

وقال النووي‏:‏ يجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين، فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏"‏ ثم ‏"‏ في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفا فيحمل على تعدد القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق‏.‏

واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر، وقيل يستحب‏.‏

وقال بعضهم يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده‏.‏

والعفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة‏:‏ الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره، وقيل له العفاص أخذا من العفص وهو الثني لأن الوعاء يثنى على ما فيه وقد وقع في ‏"‏ زوائد المسند ‏"‏ لعبد الله بن أحمد من طريق الأعمش عن سلمة في حديث أبي ‏"‏ وخرقتها ‏"‏ بدل عفاصها، والعفاص أيضا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة‏.‏

قلت‏:‏ فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني، وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأول، والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة‏.‏

ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر والكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن والذرع فيما يذرع‏.‏

وقال جماعة من الشافعية‏:‏ يستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان، واختلفوا فيما إذا عرف بعض الصفات دون بعض بناء على القول بوجوب الدفع لمن عرف الصفة، قال ابن القاسم‏:‏ لا بد من ذكر جميعها، وكذا قال أصبغ‏.‏

لكن قال لا يشترط معرفة العدد، وقول ابن القاسم أقوى لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ عرفها ‏"‏ بالتشديد وكسر الراء أي اذكرها للناس، قال العلماء‏:‏ محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول‏:‏ من ضاعت له نفقة أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئا من الصفات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ سنة ‏"‏ أي متوالية فلو عرفها سنة متفرقة لم يكف كأن يعرفها في كل سنة شهرا فيصدق أنه عرفها سنة في اثنتي عشرة سنة‏.‏

وقال العلماء‏:‏ يعرفها في كل يوم مرتين ثم مرة ثم في كل أسبوع ثم في كل شهر، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز بوكيله، ويعرفها في مكان سقوطها وفي غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن جاء أحد يخبرك بها‏)‏ جواب الشرط محذوف تقديره فأدها إليه‏.‏

وفي رواية محمد بن يوسف عن سفيان كما سيأتي في آخر أبواب اللقطة ‏"‏ فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها ‏"‏ وقد تقدم البحث فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإلا فاستنفقها‏)‏ سيأتي البحث فيه بعد أبواب، واستدل به على أن الملتقط يتصرف فيها سواء كان غنيا أو فقيرا‏.‏

وعن أبي حنيفة إن كان غنيا تصدق بها وإن جاء صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة أو تغريمه، قال صاحب الهداية‏:‏ إلا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب، وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال يا رسول الله فضالة الغنم‏)‏ أي ما حكمها‏؟‏ فحذف ذلك للعلم به‏.‏

قال العلماء‏:‏ الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له لقطة‏.‏

ويقال للضوال أيضا الهوامي والهوافي بالميم والفاء والهوامل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لك أو لأخيك أو للذئب‏)‏ فيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال‏:‏ هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع‏.‏

وفيه حث له على أخذها لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها‏.‏

ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب ‏"‏ فقال خذها، فإنما هي لك ‏"‏ الخ، وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على رد إحدى الروايتين عن أحمد في قوله‏:‏ ‏"‏ يترك التقاط الشاة‏"‏، وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها‏.‏

واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط‏.‏

وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها‏.‏

وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها فدل على أنها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشاة ‏"‏ هي لك أو لأخيك أو للذئب ‏"‏ وبين قوله في اللقطة ‏"‏ شأنك بها أو خذها ‏"‏ بل هو أشبه بالتملك لأنه لم يشرك معه ذئبا ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النفقة يغرمها إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ يجب تعريفها، فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلا أن الشافعي قال‏:‏ لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصح‏.‏

قال النووي‏:‏ احتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى ‏"‏ فإن جاء صاحبها فأعطها إياه ‏"‏ وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة ولا نفاها فثبت حكمها بدليل آخر انتهى‏.‏

وهو يوهم أن الرواية الأولى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا غيره في حديث زيد بن خالد، نعم عند أبي داود والترمذي والنسائي والطحاوي والدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في ضالة الشاة ‏"‏ فاجمعها حتى يأتيها باغيها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هو بالعين المهملة الثقيلة أي تغير، وأصله في الشجر إذا قل ماؤه فصار قليل النضرة عديم الإشراق، ويقال للوادي المجدب أمعر، ولو روي تمغر بالغين المعجمة لكان له وجه أي صار بلون المغرة وهو حمرة شديدة إلى كمودة، ويقويه أن قوله في رواية إسماعيل بن جعفر ‏"‏ فغضب حتى احمرت وجنتاه أو وجهه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مالك ولها‏)‏ زاد في رواية سليمان بن بلال عن ربيعة السابقة في العلم ‏"‏ فذرها حتى يلقاها ربها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معها حذاؤها وسقاؤها‏)‏ الحذاء بكسر المهملة بعدها معجمة مع المد أي خفها، وسقاؤها أي جوفها وقيل عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط‏.‏

*3*باب ضَالَّةِ الْغَنَمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ضالة الغنم‏)‏ كأنه أفردها بترجمة ليشير إلى افتراق حكمها عن الإبل، وقد انفرد مالك بتجويز أخذ الشاة وعدم تعريفها متمسكا بقوله‏:‏ ‏"‏ هي لك ‏"‏ وأجيب بأن اللام ليست للتمليك كما أنه قال أو للذئب والذئب لا يملك باتفاق، وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها منه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً يَقُولُ يَزِيدُ إِنْ لَمْ تُعْرَفْ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ قَالَ يَحْيَى فَهَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَزِيدُ وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ قَالَ فَقَالَ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل بن عبد الله‏)‏ هو ابن أبي أويس، وقد روى الكثير عن شيخه هنا سليمان بن بلال بواسطة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى‏)‏ هو ابن سعيد الأنصاري، وسبق في العلم من وجه آخر عن سليمان بن بلال عن ربيعة فكأن له فيه شيخين، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد الفهمي عن سليمان بن بلال عنهما جميعا عن يزيد مولى المنبعث، وأخرجه النسائي وابن ماجة والطحاوي من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة عن يزيد فجعل ربيعة شيخ يحيى لا رفيقه، لكن سيأتي في آخر الطلاق من رواية سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن يزيد مرسلا ‏"‏ قال سفيان قال يحيى وقال ربيعة عن يزيد بن خالد قال سفيان ولقيت ربيعة فحدثني به ‏"‏ فالحاصل أن من رواه عن يحيى عن يزيد عن زيد يكون قد سوى الإسناد فإن يحيى إنما سمع ذكر زيد فيه بواسطة ربيعة، ويحتمل أن يكون يحيى لما حدث به سفيان كان ذاهلا عنه ثم ذكره لما حدث به سليمان والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فزعم‏)‏ أي قال‏.‏

والزعم يستعمل في القول المحقق كثيرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم عرفها سنة، يقول يزيد إن لم تعرف استنفق بها صاحبها‏)‏ أي ملتقطها وكانت وديعة عنده ‏(‏قال يحيى هذا الذي لا أدري أهو في الحديث أم شيء من عنده‏)‏ أي من عند يزيد، والقائل يقول يزيد هو يحيى بن سعيد الأنصاري‏.‏

والقائل ‏"‏ قال ‏"‏ هو سليمان، وهما موصولان بالإسناد المذكور ‏"‏ والغرض أن يحيى بن سعيد شك هل قوله‏:‏ ‏"‏ ولتكن وديعة عنده ‏"‏ مرفوع أو لا، وهذا القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبي والإسماعيلي من طريق يحيى بن حسان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى فقال فيه‏:‏ ‏"‏ فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك ‏"‏ وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهمي عن سليمان عن يحيى وربيعة جميعا عند الطحاوي، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم بعد أبواب ‏"‏ إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه، لأنها وديعة عنده ‏"‏ وسيأتي الكلام على المراد بكونها وديعة هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال يزيد وهي تعرف أيضا‏)‏ هو بتشديد الراء وهو موصول بالإسناد المذكور، ولم يشك يحيى في كون هذه الجملة موقوفة على يزيد، ولم أرها مرفوعة في شيء من الطرق؛ وقد تقدم حكاية الخلاف فيه في الباب الذي قبله‏.‏

*3*باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها‏)‏ أي غنيا كان أو فقيرا كما تقدم، أورد فيه حديث زيد بن خالد المذكور من جهة مالك عن ربيعة وفيه قوله‏:‏ ‏"‏ ثم عرفها ستة، فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها ‏"‏ فيه حذف تقديره فإن جاء صاحبها فأدها إليه وإن لم يجيء فشأنك بها، فحذف من هذه الرواية جواب الشرط الأول وشرط ‏"‏ إن ‏"‏ الثانية والفاء من جوابها قاله ابن مالك في حديث أبي الآتي في أواخر أبواب اللقطة بلفظ ‏"‏ فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها ‏"‏ وإنما وقع الحذف من بعض الرواة دون بعض، فقد تقدم حديث أبي في أول اللقطة بلفظ ‏"‏ فاستمتع بها ‏"‏ بإثبات الفاء في الجواب الثاني، ومضى من رواية الثوري عن ربيعة في حديث الباب بلفظ ‏"‏ وإلا فاستنفقها ‏"‏ ومثله ما سيأتي بعد أبواب من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ ‏"‏ ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه ‏"‏ ولمسلم من طريق ابن وهب المقدم ذكرها ‏"‏ فإذا لم يأت لها طالب فاستنفقها‏"‏‏.‏

واستدل به على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف، وهو ظاهر نص الشافعي، فإن قوله‏:‏ ‏"‏ شأنك بها ‏"‏ تفويض إلى اختياره، وقوله‏:‏ ‏"‏ فاستنفقها ‏"‏ الأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشافعية اشتراط التلفظ بالتمليك، وقيل تكفي النية وهو الأرجح دليلا، وقيل تدخل في ملكه بمجرد الالتقاط، وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ربيعة بلفظ ‏"‏ وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏شأنك بها‏)‏ الشأن الحال أي تصرف فيها، وهو بالنصب أي الزم شأنك بها، ويجوز الرفع بالابتداء والخبر ‏"‏ بها ‏"‏ أي شأنك متعلق بها، واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا‏؟‏ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة، ومن حجة الجمهور قوله في الرواية الماضية ‏"‏ ولتكن وديعة عندك ‏"‏ وقوله أيضا عند مسلم في رواية بشر بن سعيد عن زيد بن خالد ‏"‏ فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه ‏"‏ فإن ظاهر قوله‏:‏ ‏"‏ فإن جاء صاحبها الخ‏"‏‏.‏

بعد قوله‏:‏ ‏"‏ كلها ‏"‏ يقتضي وجوب ردها بعد أكلها فيحمل على رد البدل، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات، والتقدير فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها إن لم يجيء صاحبها فإن جاء صاحبها فأدها إليه، وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه ‏"‏ فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور، وروى أبو داود أيضا من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن زيد بن خالد في هذا الحديث ‏"‏ فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ‏"‏ وإذا تقرر هدا أمكن حمل قول المصنف في الترجمة ‏"‏ فهي لمن وجدها ‏"‏ أي في إباحة التصرف فيها حينئذ، وأما أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكت عنه، قال النووي‏:‏ إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط أخذها بزوائدها المتصلة والمنفصلة، وأما بعد التملك فإن لم يجيء صاحبها فهي لمن وجدها ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها فإن كانت موجومة بعينها استحقها بزوائدها المتصلة ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك وهو قول الجمهور‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ لا يلزمه، وهو ظاهر اختيار البخاري والله أعلم‏.‏

وسأذكر بقية فوائد حديث زيد بن خالد بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ

وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطا أو نحوه‏)‏ أي ماذا يصنع به، هل يأخذه أو يتركه‏؟‏ وإذا أخذه هل يتملكه أو يكون سبيله سبيل اللقطة‏؟‏ وقد اختلف العلماء في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث الخ‏)‏ تقدم الكلام عليه مستوفى في الكفالة، وأورده هنا مختصرا، وسبق توجيه استنباط الترجمة منه وأنها من جهة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ساقه الشارع مساق الثناء على فاعله، فبهذا التقدير تم المراد من جواز أخذ الخشبة من البحر‏.‏

وقد اختلف العلماء في ذلك على ما سأذكره‏.‏

وأما السوط وغيره فلم يقع له ذكر في الباب، فاعترضه ابن المنير بسبب ذلك، وأجيب بأنه استنبطه بطريق الإلحاق‏.‏

ولعله أشار بالسوط إلى أثر يأتي بعد أبواب في حديث أبي بن كعب، أو أشار إلى ما أخرجه أبو داود من حديث جابر قال‏:‏ ‏"‏ رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به ‏"‏ وفي إسناده ضعف، واختلف في رفعه ووقفه، والأصح عند الشافعية أنه لا فرق في اللقطة بين القليل والكثير في التعريف وغيره، وفي وجه لا يجب التعريف أصلا، وقيل تعرف مرة وقيل ثلاثة أيام وقيل زمنا يظن أن فاقده أعرض عنه، وهذا كله في قليل له قيمة أما ما لا قيمة له كالحبة الواحدة فله الاستبداد به على الأصح، وفي الباب الذي يليه في حديث التمرة حجة لذلك، وعند الحنفية أن كل شيء يعلم أن صاحبه لا يطلبه كالنواة جاز أخذه والانتفاع به من غير تعريف، إلا أنه يبقى على ملك صاحبه‏.‏

وعند المالكية كذلك إلا أنه يزول ملك صاحبه عنه، فإن كان له قدر ومنفعة وجب تعريفه‏.‏

واختلفوا في مدة التعريف، فإن كان مما يتسارع إليه الفساد جاز أكله ولا يضمن على الأصح‏.‏