فصل: الباب الثالث في المنكرات المألوفة في العادات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الباب الثالث في المنكرات المألوفة في العادات

فنشير إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها إذ لا مطمع في حصرها واستقصائها فمن ذلك منكرات المساجد اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة فإذا قلنا‏:‏ هذا منكر مكروه‏.‏

فاعلم أ المنع منه مستحب والسكوت عيه مكروه وليس بحرام إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه‏.‏

وإذا قلنا منكر محظور أو قلنا منكر مطلقاً فنريد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظوراً‏.‏

فمما يشاهد كثيراً في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهير عنه إلا عند الحنفي الذي يعتقد أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة إذ لا ينفع النهي معه‏.‏

ومن رأى مسيئاً في صلاته فسكت عليه فهو شريكه‏.‏

هكذا ورد به الأثر‏.‏

وفي الخبر ما يدل عليه إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوبه لا يراها أو انحراف عن القبلة بسبب ظلام أو عمى ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح‏.‏

فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به فإن هذا أفضل من ذكره وتطوعه لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها‏.‏

وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلاً أو عن الكسب الذي هو احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادراً على التعلم فليمتنع من القراءة قبل التعلم فإنه عاص به وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحناً فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها وإن كان الأكثر صحيحاً وليس يقدر

على التسوية فلا بأس له أن يقرأ ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره‏.‏

ولمنعه سراً منه أيضاً وجه ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها

فلست أرى به بأسا والله أعلم‏.‏

ومنها تراسل المؤذنين في الآذان وتطويلهم بمد كلماته وانحرافهم عن صوب القبلة بجميع الصدر في الحيعلتين أو انفراد كل واحد منهم بأذان ولكن من غير توقف إلى انقطاع أذان الآخر بحيث يضطرب على الحاضرين جواب الأذان لتداخل الأصوات‏.‏

فكل ذلك منكرات مكروهة يجب تعريفها‏.‏

فإن صدرت عن معرفة فيستحب المنع منها والحسبة فيها‏.‏

وكذلك إذا كان للمسجد مؤذن واحد وهو يؤذن قبل الصبح فينبغي أن يمنع من الأذان بعد الصبح فذلك مشوش للصوم والصلاة على الناس إلا إذا عرف أنه يؤذن قبل الصبح حتى لا يعول على أذانه في صلاة وترك سحور‏.‏

أو كان معه مؤذن آخر معروف الصوت يؤذن مع الصبح‏.‏

ومن المكروهات أيضاً تكثير الأذان مرة بعد أخرى بعد طلوع الفجر في مسجد واحد في أوقات متعاقبة متقاربة إما من واحد أو جماعة فإنه لا فائدة فيه إذا لم يبق في المسجد نائم ولم يكن الصوت مما يخرج عن المسجد حتى ينبه غيره فكل ذلك من المكروهات المخالفة لسنة الصحابة والسلف‏.‏

ومنها أن يكون الخطيب لابساً لثوب أسود يغلب عليه الإبريسم أو ممسكاً لسيف مذهب فهو فاسق والإنكار عليه واجب وأما مجرد السواد فليس بمكروه لكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض‏.‏

ومن قال إنه مكروه وبدعة أراد به أنه لم يكن معهوداً في العصر الأول ولكن إذا لم يرد فيه نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ومكروهاً ولكنه ترك للأحب‏.‏

ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة‏.‏

فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولا يجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه فإن

لم يقدر فلا يجوز سماع البدع‏.‏

قال الله تعالى لنبيه‏:‏ ‏"‏ فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ‏"‏‏.‏

ومهما كان كلامه مائلاً إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي وكان الناس يزدادون بكلامه جراءة وبعفو الله وبرحمته وثوقاً يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم منكر ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم بل لو رجح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج وإنما العدل تعديل الخوف والرجاء كما قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لو نادى مناد ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل‏.‏

ومهما كان الواعظ شاباً متزيناً للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله‏.‏

بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين وإلا فلا يزداد الناس به إلا تمادياً في الضلال ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضاً مظنة الفساد والعادات تشهد لهذه المنكرات ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلوات ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعهن من الجماعات فقالت‏:‏ لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن بعده لمنعهن وأما اجتياز المرأة في المسجد مستترة فلا تمنع منه إلا أن الأولى أن لا تتخذ المسجد مجازاً أصلاً‏.‏

وقراءة القراء بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن ويجاوز حد التنزيل منكر مكروه شديد الكراهة أنكره جماعة من السلف‏.‏

ومنها الحق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيساً وكذباً كالكذابين من طرقية الأطباء وكأهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه‏.‏

بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام‏.‏

ومنها ما هو مباح خارج المسجد كالخياطة وبيع الأدوية والكتب والأطعمة فهذا في المسجد أيضاً لا يحرم إلا بعارض وهو أن يضيق المحل على المصلين ويشوش عليهم صلاتهم فإن لم يكن

شيء من ذلك فليس بحرام والأولى تركه ولكن شرط إباحته أن يجري في أوقات نادرة وأيام معدودة فإن اتخاذ المسجد دكاناً على الدوام حرم ذلك ومنع منه‏.‏

فمن المباحات ما يباح بشرط القلة فإن كثر صار صغيرة‏.‏

كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بشرط عدم الإصرار فإن كان القليل من هذا لو فتح بابه لخيف منه أن ينجر إلى الكثير فليمنع منه وليكن هذا المنع إلى الوالي أو إلى القيم بمصالح المسجد من قبل الوالي لأنه لا يدرك ذلك بالاجتهاد وليس للآحاد المنع مما هو مباح في نفسه لخوفه أن ذلك يكثر‏.‏

ومنها دخول المجانين والصبيان والسكارى في المسجد ولا بأس بدخول الصبي المسجد إذا لم يعلب ولا يحرم عليه اللعب في المسجد ولا السكوت على لعبه إلا إذا اتخذ المسجد ملعباً وصار ذلك معتاداً فيجب المنع منه فهذا مما يحل قليله دون كثيره ودليل حل قليله ما روي في الصحيحين ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف لأجل عائشة رضي الله عنها حتى نظرت إلى الحبشة يزفنون ويلعبون بالدرق والحراب يوم العيد في المسجد ‏"‏ ولا شك في أن الحبشة لو اتخذوا المسجد ملعباً لمنعوا منه ولم ير ذلك على الندرة والقلة منكراً حتى نظر إليه بل أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبصرهم عائشة تطييباً لقلبها إذ قال دونكم ‏"‏ يا بني أرفدة ‏"‏ كما نقلناه في كتاب السماع‏.‏

وأما المجانين فلا بأس بدخولهم المسجد إلا أن يخشى تلويثهم له أو شتمهم أو نطقهم مما هو فحش أو تعاطيهم لما هو منكر في صورته ككشف العورة وغيره‏.‏

وأما المجنون الهادئ الساكن الذي قد علم بالعادة سكونه وسكوته فلا يجب إخراجه من

المسجد‏.‏

والسكران في معنى المجنون فإن خيف منه القذف أعني القيء أو الإيذاء باللسان وجب إخراجه‏.‏

وكذا لو كان مضطرب العقل فإنه يخاف ذلك منه وإن كان قد شرب ولم يسكر والرائحة منه تفوح فهو منكر مكروه شديد الكراهة‏.‏

وكيف لا ومن أكل الثوم والبصل فقد نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضور المساجد ولكن يحمل ذلك على الكراهة والأمر في الخمر أشد‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ينبغي أن يضرب السكران ويخرج من المسجد زجراً قلنا‏:‏ لا بل ينبغي القعود في المسجد ويدعى إليه ويؤمر بترك الشرب مهما كان في الحال عاقلاً فأما ضربه للزجر فليس ذلك إلى الآحاد بل هو إلى الولاة وذلك عند إقراره أو شهادة شاهدين فأما لمجرد الرائحة فلا‏.‏

نعم إذا كان يمشي بين الناس متمايلاً بحيث يعرف سكره فيجوز ضربه في المسجد وغير المسجد منعاً له عن إظهار أثر السكر فإن إظهار أثر الفاحشة فاحشة والمعاصي يجب تركها وبعد الفعل يجب سترها وستر آثارها فإن كان مستتراً مخفياً لأثره فلا يجوز أن يتجسس لعيه‏.‏

والرائحة قد تفوح من غير شرب‏.‏

بالجلوس في موضع الخمر وبوصوله إلى الفم دون الابتلاع فلا ينبغي أن يعول عليه‏.‏

منكرات الأسواق من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب‏.‏

فمن قال‏:‏ اشتريت هذه السلعة مثلاً بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذباً فهو فاسق‏.‏

وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكاً له في الخيانة وعصى بسكوته‏.‏

وكذا إذا علم به عيباً فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضياً بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره‏.‏

ومنها ترك الإيجاب والقبول والاكتفاء بالمعاطاة ولكن ذلك في محل الاجتهاد فلا ينكر إلا على من اعتقد وجوبه‏.‏

وكذا في الشروط الفاسدة المعتادة بين الناس يجب الإنكار فيها فإنها مفسدة للعقود‏.‏

وكذا في الربويات كلها وهي غالبة‏.‏

وكذا سائر التصرفات الفاسدة‏.‏

ومنها بيع الملاهي وبيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الصبيان فتلك يجب كسرها والمنع من بيعها كالملاهي وكذلك بيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة وكذلك بيع ثياب الحرير وقلانس الذهب والحرير أعني التي لا تصلح إلا للرجال أو يعلم بعادة البلد أنه لا يلبسه إلا لرجال فكل ذلك منكر محظور وكذلك من يعتاد بيع الثياب المبتذلة المقصورة التي يلبس على الناس بقصارتها وابتذالها ويزعم أنها جديدة فهذا الفعل حرام والمنع منه واجب وكذلك تلبيس انخراق الثياب بالرفو وما يؤدي إلى الالتباس وكذلك جميع أنواع العقود المؤدية إلى منكرات الشوارع فمن المنكرات المعتادة فيها‏:‏ وضع الاسطوانات وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة‏.‏

وغرس الأشجار وإخراج الرواشن والأجنحة ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطريق فكل ذلك منكر ن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلاً لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه‏.‏

وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب‏.‏

وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعى هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات‏.‏

ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك‏.‏

نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل‏.‏

وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه‏.‏

وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحاً فإن في ذلك تضييقاً بالطريق وإضراراً بالناس بسبب ترشيش النجاسة وبسبب استقذار الطباع للقاذورات‏:‏ وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق وتبديد قشور البطيخ‏.‏

أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب‏.‏

أو يضيق الطريق فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر ولكن ليس يختص به شخص معين إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق واحد والماء الذي يجتمع على الطريق من ميزاب معني فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق إن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس القيام بها وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه وإن كان يضيق الطريق ببسطه ذراعيه فيمنع منه بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعوداً يضيق الطريق فكلبه أولى بالمنع‏.‏

منها الصورة التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام يجب إزالتها على كل من يدخلها إن قدر فإن كان الموضع مرتفعاً لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر‏.‏

فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان‏.‏

ومنها كشف العورات والنظر إليها‏.‏

ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها‏.‏

ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاذ فهذا مكروه إن كان مع حائل ولكن لا يكون محظوراً إذا لم يخشى من حركة الشهوة‏.‏

وكذلك كشف العورة للحجام الذمي من الفواحش‏.‏

فإن المرأة لا يجوز لها أن تكشف بدنها الذمية في الحمام فكيف يجوز لها كشف العورات للرجال ومنها غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة وغسل الإزار والطاس النجس في الحوض

وماؤه قليل فإنه منجس للماء إلا على مذهب مالك فلا يجوز الإنكار فيه على المالكية ويجوز على الحنفية والشافعية وإن اجتمع مالكي وشافعي في الحمام فليس للشافعي منع المالكي من ذلك إلا بطريق الالتماس واللطف وهو أن يقول له‏:‏ إنا نحتاج أ نغسل اليد أولاً ثم نغمسها في الماء وأما أنت فمستغن عن إيذائي وتفويت الطهارة علي وما يجري مجرى هذا فإن مظان الاجتهاد لا يمكن الحسبة فيها بالقهر‏.‏

ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلق يزلق عليها الغافلون فهذا منكر ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فعنه يفضى إلى السقطة وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضواً وانخلاعه وكذلك ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام منكر ومن فعل ذلك وخرج وتركه فزلق به إنسان وانكسر عضو من أعضائه وكان ذلك في موضع لا يظهر فيه بحيث يتعذر الاحتراز عنه فالضمان متردد بين الذي تركه وبين الحمامي إذ حققه تنظيف الحمام والوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول وعلى الحمامي في اليوم الثاني إذ عادة تنظيف الحمام كل يوم معتادة والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادات فليعتبر بها‏.‏

وفي الحمام أمور أخر مكروهة ذكرناها في كتاب الطهارة فلتنظر هناك‏.‏

منكرات الضيافة فمنها فرش الحرير للرجال فهو حرام‏.‏

وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب أو الشراب أو استعمال ماء الورد في أواني الفضة أو ما رءوسها من فضة‏.‏

ومنها سماع الأوتار أو سماع القينات‏.‏

ومنها اجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره‏.‏

ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج ومن لم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات‏.‏

و أما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة فليس منكراً‏.‏

وكذلك على الأطباق والقصاع لا الأواني المتخذة على شكل الصور فقد تكون رءوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه‏.‏

وفي المكحلة الصغيرة من الفضة خلاف وقد خرج أحمد بن حنبل عن الضيافة بسببها‏.‏

ومهما كان الطعام حراماً أو كان الوضع مغصوباً أو كانت الثياب المفروشة حراماً فهو من أشد المنكرات فإن كان من فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور إذ لا يحل حضور مجالس الشرب وإن كان مع ترك الشرب ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته للفسق وإنما النظر في مجالسته بعد ذلك وأنه هل يجب بغضه في الله ومقاطعته كما ذكرناه في باب الحب والبغض في الله وكذلك إن كان فيهم من يلبس الحرير أو خاتم الذهب فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضروره‏.‏

فإن كان الثوب على صبي غير بالغ فهذا في محل النظر‏.‏

والصحيح أن ذلك منكر ويجب نزعه عنه إن كان مميزاً لعموم قوله عليه السلام ‏"‏ هذان حرام

على ذكور أمتي ‏"‏ وكما يجب منع الصبي من شرب الخمر لا لكونه مكلفاً لكن لأنه يأنس به فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه فكذلك شهوة التزين بالحرير تغلب عليه إذا اعتاده فيكون ذلك

بذراً للفساد يبذر في صدره فتنبت منه شجرة من الشهوة راسخة يعسر قلعها بعد البلوغ‏.‏

أما الصبي الذي لا يميز فيضعف معنى التحريم في حقه ولا يخلو عن احتمال والعلم عند الله فيه والمجنون في معنى الصبي الذي لا يميز نعم يحل التزين بالذهب والحرير للنساء من غير إساف‏.‏

ولا أرى رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فيها فإن هذا جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان‏:‏ والتزين بالحلق غير مهم بل في التقريط بتعليقه على الأذن وفي المخانق والأسورة كفاية عنه‏.‏

فهذا وإن كان معتاداً فهو حرام والمنع منه واجب والاستئجار عليه غير صحيح والأجرة المأخوذة عليه حرام إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة ولم يبلغنا إلى الآن فيه رخصة‏.‏

ومنها أن يكون في الضيافة مبتدع لا يتكلم ببدعته فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة عليه والإعراض عنه كما ذكرناه في باب البغض في الله‏.‏

وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح أعني ما يقل منه فأما اتخاذه صنعة وعادة ف ليس بمباح‏.‏

وكل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التلبيس فليس من جملة المنكرات كقول الإنسان مثلاً‏:‏ طلبتك اليوم مائة مرة وأعدت عليك الكلام ألف مرة وما يجري مجراه مما يعلم أنه ليس يقصد به التحقيق فذلك لا يقدح في العدالة ولا ترد الشهادة به‏.‏

وسيأتي حد المزا المباح والكذب المباح في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات‏.‏

ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر بل في المال منكران أحدهما‏:‏ الإضاعة‏.‏

والآخر‏:‏ الإسراف‏.‏

فالإضاعة‏:‏ تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه وهدم البناء من غير غرض‏.‏

والقاء المال في البحر وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمطرب وفي أنواع الفساد لأنها فوائد محرمة شرعاً فصارت كالمعدومة‏.‏

وأما الإسراف‏:‏ فقد يطلق لإرادة صرف المال إلى النائحة والمطرب والمنكرات وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة‏.‏

والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال فنقول‏:‏ من لم يملك إلا مائة دينار مثلاً ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ‏"‏ نزل هذا في رجل بالمدينة قسم جميع ماله ولم يبق شيئاً لعياله

فطولب بالنفقة فلم يقدر على شيء وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ‏"‏ وكذلك قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ‏"‏ فمن يسرف هذا الإسراف ينكر عليه ويجب على القاضي أن يحجر عليه إلا إذا كان الرجل وحده وكان له قوة

في التوكل صادقة فله أن ينفق جميع ماله في أبواب البر‏.‏

ومن له عيال أو كان عاجزاً عن التوكل فليس له أن يتصدق بجميع ماله‏.‏

وكذلك لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه وتزيين بنيانه فهو أيضاً إسراف محرم وفعل ذلك له ممن له مال كثير ليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة فكذا الدور وكذلك القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه ويصير إسرافاً باعتبار حال الرجل وثروته‏:‏ وأمثال هذه المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها‏.‏

فقس بهذه المنكرات المجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات الصوفية وخانات الأسواق فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور واستقصاء جميع المنكرات يستدعي استيعاب جميع تفاصيل الشرع أصولها وفروعها فلنقتصر على هذا القدر منها‏.‏

اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين‏.‏

أما العالم فلتقصيره في الخروج‏.‏

وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم‏.‏

وكل عامي عرف شوط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم‏.‏

ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها‏.‏

ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق‏:‏ لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق‏.‏

وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العلماء هم ورثة الأنبياء‏.‏

وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي‏.‏

وكذا كل من تيقن أن في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه الخروج فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات ثم يعلم ذلك أهل بيته ثم يتعدى بعد الفراغ منم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادى المكتنف ببلده ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم وهكذا إلى أقصى العالم فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً ولا يسقط

الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه وبغيره فيعلمه فرضه وهذا اشغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه‏.‏

الباب الرابع في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر

قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف وثانيه الوعظ وثالثه التخشين في القول ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة‏.‏

والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما‏:‏ التعريف والوعظ‏.‏

وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر وأما التخشين في القول كقوله‏:‏ يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذاك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه‏.‏

فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ‏"‏ ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ ‏"‏ قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ماله من صديق ‏"‏ ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار قدموا على ذلك موطنين أنفسهم وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام و نقتصر الآن على حكايات يعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم‏.‏

فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء‏.‏

وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشاً نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم أباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ولقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال‏:‏ ‏"‏ أتسمعون يا معشر قريش‏:‏ أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح ‏"‏ قال‏:‏ فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى أن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول‏:‏ انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً قال‏:‏ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض‏:‏ ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون‏:‏ أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم قال‏:‏ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نعم أنا الذي أقول ذلك ‏"‏ قال‏:‏ فلقد رأيت رجل منهم أخذ بمجامع ردائه قال‏:‏ وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله‏:‏ ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه وفي رواية أخرى عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له‏:‏ يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك‏.‏

قال‏:‏ فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم‏:‏ مكانكم‏!‏ وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال‏:‏ إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل ‏"‏ وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم‏.‏

وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال كان عينا أبو موسى الأشعري أمير بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال‏:‏ فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له‏:‏ أين أنت من صاحبه تفضله عليه فضع ذلك جمعاً ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول‏:‏ إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي‏.‏

فكتب إليه عمر‏:‏ أن أشخصه إلي‏.‏

قال‏:‏ فاشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب لخرج إلي فقال‏:‏ من أنت فقلت‏:‏ أنا ضبة فقال لي‏:‏ لا مرحباً ولا أهلاً قلت‏:‏ أما المرحب فمن الله وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال‏.‏

فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته فقال‏:‏ ما الذي شجر بينك وبين عاملي قال‏:‏ قلت الآن أخبرك به إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لك فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه فضع ذلك جمعاً ثم كتب إليك يشكوني‏.‏

قال‏:‏ فاندفع عمر رضي الله عنه باكياً وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك قال‏:‏ قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ثم اندفع باكياً وهو يقول‏:‏ والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه‏.‏

قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أما الليلة‏:‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هارباً من المشركين خرج ليلاً فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك ‏"‏ فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك‏.‏

قال‏:‏ فمشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فمم الغار فأنزله ثم قال‏:‏ والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك قال‏:‏ فدخل فلم ير فيه شيئاً فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ‏"‏ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ‏"‏ فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر فهذه ليلته‏.‏

وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم‏:‏ نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحاً فقلت‏:‏ يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم‏.‏

فقال لي‏:‏ أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام فبماذا أتألفهم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه قال‏:‏ فقاتلنا عليه فكان والله رشيد الأمر‏.‏

فهذا يومه‏.‏

ثم كتب إلى أبي موسى يلومه‏.‏

وعن الأصمعي قال‏:‏ دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له‏:‏ يا أبا محمد ما حاجتك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين وتفقد

أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم‏.‏

فقال له‏:‏ أجل أفعل ثم نهض وقام‏.‏

فقبض عليه عبد الملك فقال‏:‏ يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت فقال‏:‏ مالي إلى مخلوق حاجة‏.‏

ثم خرج فقال عبد الملك‏:‏ هذا وأبيك الشرف‏!‏ وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يوماً‏:‏ قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني‏.‏

فوقف الحاجب على الباب مدة فمر به

عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له‏:‏ يا شيخ أدخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك فدخل عطاء على الوليد على حاجبه وقال له‏.‏

ويلك أمرتك أن تدخل إلى رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إلي رجلاً لم يرضى أن يسميني بالاسم الذي اختاره الله لي‏.‏

فقال له حاجبه‏:‏ ما مر بي أحد غيره ثم قال لعطاء‏:‏ اجلس ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له‏:‏ بلغنا أن في جهنم وادياً يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه‏.‏

فصعق الوليد من قوله وكان جالساً بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشياً عليه فقال عمر لعطاء‏:‏ قتلت أمير المؤمنين‏.‏

فقبض عطاء على ذراع عمر ابن عبد العزيز فغمزه غمرة شديدة وقال له‏:‏ يا عمر إن الأمر جد فجد ثم قام عطاء وانصرف‏.‏

فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال‏:‏ مكنت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي‏.‏

وكان ابن أبي شميلة يوصف بالعقل والأدب فدخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك‏:‏ تكلم قال‏:‏ بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان لله فبكي عبد الملك ثم قال‏:‏ يرحمك الله لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون فقال الرجل‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه فبكى عبد الملك ثم قال‏:‏ لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت‏.‏

ويروى عن ابن عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل فقال الحجاج مرحباً بأبي سعيد إلي إلي ثم دعا بكرس فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقاً من شره والحسن ساكت عاض على إبهامه فقال‏:‏ يا أبا سعيد مالي أراك ساكتاً قال‏:‏ ما عسيت أن أقول قال‏:‏ أخبرني برأيك في أبي تراب قال‏:‏ سمعت الله جل ذكره يقول‏:‏ ‏"‏ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم ‏"‏ فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان فأقول‏:‏ ابن عم النبي عليه السلام وختنه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا يحول بينه وبينها‏.‏

وأقول‏:‏ إن كانت لعلي هناة فالله حسبه والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا‏.‏

فبسروجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً فدخل بيتاً خلفه وخرجنا‏.‏

قال عامر الشعبي‏:‏ فأخذت بيد الحسن فقلت‏:‏ يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره فقال‏:‏ إليك عني يا عامر يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة‏.‏

أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر الشعبي عالم أهل الكوفة‏.‏

أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت أو سكت فسلمت قال عامر‏:‏ يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها قال الحسن‏:‏ فذاك أعظم من الحجة عليك وأشد في التبعة‏.‏

قال‏:‏ وبعث الحجاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال‏:‏ أنت الذي تقول قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم قال‏:‏ نعم قال ما حملك على هذا قال‏:‏ ما أخذ الله على العلماء من المواثيق ‏"‏ ليبيننه للناس ولا يكتمونه ‏"‏ قال يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك‏.‏

وحكى أن حطيطاً الزيات جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال‏:‏ أنت حطيط قال‏:‏ نعم سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال‏:‏ إن سئلت لأصدقن وإن ابتليت لأصبرن وإن عوفيت لأشكرن‏.‏

قال‏:‏ فما تقول في قال‏:‏ أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة‏.‏

قال‏:‏ فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قال‏:‏ أقول إنه أعظم جرماً منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه‏.‏

قال‏:‏ فقال الحجاج ضعوا عليه العذاب‏.‏

قال‏:‏ فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فقيل للحجاج إنه في آخر رمق فقال‏:‏ أخرجوه فارموا به في السوق‏.‏

قال جعفر‏:‏ فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له‏:‏ حطيط ألك حاجة قال‏:‏ شربة ماء فأتوه بشربة ثم مات وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه‏.‏

وروى أن عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامر الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علماً ثم أقبل على الحسن البصري فسأله ثم قال‏:‏ هما هذان هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن‏.‏

فأقبل على الشعبي فقال‏:‏ يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة‏.‏

فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت قال الشعبي‏.‏

فقلت أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب قال‏.‏

فسر بقولي وأعجب به ورأيت البشر على وجهه وقال فلله الحمد ثم أقبل على الحسن فقال‏:‏ ما تقول يا أبا سعيد قال‏:‏ قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن

تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة ‏"‏ ويقول‏:‏ إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفاً لكتاب الله فانبذه يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين‏.‏

فقال ابن هبيرة‏:‏ أربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته‏.‏

فقال الحسن‏:‏ يا ابن هبيرة الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد يا ابن هبيرة‏:‏ إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقي رجلاً يغريك ويمنيك‏.‏

فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه‏.‏

قال الشعبي‏:‏ فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصلته فقال‏:‏ إليك عني يا عامر قال‏:‏ فخرجت إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلاً لما أدى إليه كنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا‏.‏

فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف وما شهدنا مشهد إلا برز علينا‏.‏

وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم‏.‏

قال عامر الشعبي‏:‏ وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه‏.‏

ودخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة فقال له‏:‏ ما تقول في القدر فقال‏:‏ جيرانك أهل القبور فتفكر فيهم وعن الشافعي رضي الله عنه قال‏:‏ حدثني عمي محمد بن علي قال‏:‏ إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال‏:‏ فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن ابن زيد فقال الحسن‏:‏ يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال‏:‏ فسأله فقال‏:‏ ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب فقال‏:‏ أشد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثير والأذى لهم‏.‏

فقال أبو جعفر‏:‏ قد سمعتم فقال الغفاريون‏:‏ يا أيمر المؤمنين سله عن الحسن بن زيد‏.‏

فقال‏:‏ يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد فقال‏:‏ أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه فقال‏:‏ قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أسأله عن نفسك‏.‏

فقال‏:‏ مما تقول في قال‏:‏ تعفيني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ أسألك بالله إلا أخبرتني‏.‏

قال‏:‏ تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك قال‏:‏ والله لتخبرني قال‏:‏ أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله وأشهد أن الظلم ببابك فاش‏.‏

قال‏:‏ فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له‏:‏ أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك‏!‏ قال‏:‏ فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم قال‏:‏ فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال‏:‏ والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك فقال ابن أبي ذؤيب‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي قال‏:‏ فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال له‏:‏ يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي فقال‏:‏ يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد‏.‏

وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال‏:‏ بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي‏:‏ ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي قال‏:‏ قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين قال‏:‏ أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال‏:‏ فقلت فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك قال‏:‏ وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قال‏:‏ قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به قال‏:‏ فاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال‏:‏ هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وانبسطت في الكلام‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه وإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثماً يزداد الله بها سخطاً عليه ‏"‏ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة ‏"‏ يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله‏.‏

إن الله هو الحق المبين‏.‏

إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه في ذات يده محموداً عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق‏.‏

وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً‏.‏

لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب‏.‏

تبتهج بالنعمة عندهم‏.‏

وتبتئس بما أصابهم من سوء‏.‏

يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئمام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال‏:‏ كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له‏:‏ يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعباً فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً‏.‏

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال‏:‏ ‏"‏ اقتضي مني ‏"‏ فقال الأعرابي‏:‏ قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتيت على نفسي‏.‏

فدعا له بخير ‏"‏ يا أمير المؤمنين رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من بربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها ‏"‏ يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك‏.‏

يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك ‏"‏ ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ‏"‏ قال الصغيرة‏:‏ التبسم والكبيرة‏:‏ الضحك فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك ‏"‏ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ‏"‏ قال الله تعالى في الزبور‏:‏ يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبرو الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء‏.‏

يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه يا أيمر المؤمنين حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له‏:‏ ما منعك من الخروج إلى عملك أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال‏:‏ لا قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فيهوي به في النار سبعين خريفاً ‏"‏ فقال له عمر رضي الله عنه ممن سمعت هذا قال‏:‏ من أبي ذر وسلمان فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا‏:‏ نعم سمعناه من رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال عمر‏:‏ وا عمراء من يتولاها بما فيها فقال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض‏.‏

قال‏:‏ فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني‏.‏

ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها ‏"‏ نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى الله إليه ‏"‏ وأنذر عشيرتك الأقربين ‏"‏ فقال‏:‏ يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئاً إن لي عمل ولكم عملكم وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لأئم‏.‏

وقال‏:‏ الأمراء أربعة فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده ‏"‏ وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً‏.‏

وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة فقال له‏:‏ يا جبريل صف لي النار فقال‏:‏ إن الله تعالى أمر بها فأوقد عيها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام لبكائه فقال‏:‏ أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال‏:‏ ‏"‏ أفلا أكون عبداً شكوراً ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه ‏"‏ قال‏:‏ أخاف أن أبتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء‏:‏ يا جبريل ويا محمد إن الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة ‏"‏ وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين‏.‏

يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طالب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه‏.‏

فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك‏.‏

ثم نهضت فقال لي‏:‏ إلى أين فقلت‏:‏ إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال‏:‏ قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة‏.‏

قلت‏:‏ أفعل إن شاء الله‏.‏

قال محمد بن مصعب‏:‏ فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال‏:‏ أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا‏.‏

وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك‏.‏

وعن ابن المهاجر قال‏:‏ قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجاً فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به فإذا طلع الفجر رجع إلى جار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فصلى بالناس فخرج ذات اليلة حين اسخر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول‏:‏ اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع‏.‏

فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له‏:‏ أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ومنا يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل فقال له‏:‏ أنت آمن على نفسك فقال‏:‏ الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت‏.‏

فقال‏:‏ ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي قال‏:‏ وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاجاً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلائ النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا‏:‏ هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فأئتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك من بالهدايا والأموال ليتقؤوا بهم على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف ولقد

كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي‏:‏ يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه‏:‏ مالك تبكي لا بكت عيناك فقال‏:‏ أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته ثم قال‏:‏ أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس‏:‏ ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يساء وإن قلت‏:‏ أجمع المال لأشيد سلطاني‏.‏

فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد‏.‏

وإن قلت أجمع المال‏.‏

لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد‏.‏

وإن قلت أجمع المال‏.‏

لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد القتل قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال‏:‏ يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً ثم قال‏:‏ من ملك الدنيا فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال‏.‏

يا ليتني لم أخلق ولم أرك شيئاً ثم قال‏:‏ كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً قال‏:‏ هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك‏.‏

فقال المنصور‏.‏

اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل‏.‏

وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرس‏:‏ عليك بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ثم قال‏:‏ يا ذا الرجل أما تتقي الله قال‏:‏ بلى قال‏.‏

أما تعرفه قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك قال‏:‏ ليس لي إلى ذلك من سبيل قال‏:‏ يقتلني قال‏:‏ لا قال‏:‏ كيف قال‏:‏ تحسن تقرأ قال‏:‏ لا فأخرج من مزود كان معه رقاً مكتوب فيه شيء فقال‏:‏ خذه فجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج قال‏:‏ وما دعاء الفرج قال‏:‏ لا يرزقه إلا الشهداء قلت‏:‏ رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هاذ الدعاء وما فضله قال‏:‏ من دعابه مساء وصباحاً هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له رزقه وأعطى أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً تقول‏:‏ اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في عملك وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً‏.‏

اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بنعمتك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن القى بك حملتني على غير الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم‏.‏

قال‏:‏ فأخذته صيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال‏:‏ ويلك وتحسن السحر فقلت‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال‏:‏ هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي وقال‏:‏ وقد نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف ثم قال‏:‏ أتعرفه قلت‏:‏ لا قال ذلك الخضر عليه السلام‏.‏

وعن أبي عمران الجوني قال‏:‏ لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتقشف وكان مؤاخياً لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديماً فهجره سفيان ولم يزره فاشتاق هرون إلى زيارته ليخلوا به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه كتاباً يقول فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني وقد كتبت لك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل مؤمن وزيارته ومواصلته فإذا ورد عليه كتابي فالعجل العجل‏.‏

فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال‏:‏ علي برجل من الباب فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني‏.‏

فقال‏:‏ يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور ثم سل عن سفيان الثوري فإذا رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به‏.‏

فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان فقيل له هو في المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون ن عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام علي برءوس الأصابع فبقيت واقفاً فما منهم أحد يعرض على الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه‏.‏

فما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال‏:‏ يأخذه بعضكم يقرؤون فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده‏.‏

قال عباد‏:‏ فأخذه بعضهم فخله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال‏:‏ اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي‏.‏

فقال‏:‏ اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا‏.‏

فقيل له‏:‏ ما نكتب فقال‏:‏ اكتبوا‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ن العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان‏.‏

أما بعد‏:‏ فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جلعتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك‏.‏

أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بغفك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والآرامل والأيتام أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك فشد يا هرون منزرك وأعد للمسألة جواباً وللبلاء جلباباً واعلم أنك تقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت ستراً دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا ينصفون يشربون الخمور ويضربون من يشربها‏!‏ ويزنون ويحدون الزاني ويسرقون ويقطعون السارق‏!‏ أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس فكيف بك يا هرون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ‏"‏ أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية فاتق الله يا هرون في رعيتك واحفظ محمد صلى الله عليه وسلم في أمته وأحسن الخلافة عليهم واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحد بعد واحد فمنهم من تزود زاداً نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته وإني أحسبك يا هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام‏.‏

قال عباد‏:‏ فألقي إلي الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي فناديت‏:‏ يا أهل الكوفة فأجابوني فقلت لهم‏:‏ يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم فقلت‏:‏ لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية قال‏:‏ فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة‏.‏

ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول‏:‏ انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا مالي ولملك يزول عني سريعاً ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي‏.‏

فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره‏.‏

فقال هرون‏:‏ اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وجده فاتركوا سفيان وشأنه‏.‏

ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله‏.‏

فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما

وعن عبد الله بن مهران قال‏:‏ حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته‏:‏ يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال‏:‏ لبيك يا بهلول فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك‏.‏

قال‏:‏ فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض ثم قال‏:‏ يا بهلول زدنا رحمك الله قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار‏.‏

قال‏:‏ أحسنت يا بهلول ودفع له جائزة‏:‏ فقال‏:‏ أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها قال‏:‏ يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز‏.‏

قال‏:‏ يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك قال‏:‏ فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني‏.‏

قال‏:‏ فأسبل هرون السجاف ومضى‏.‏

وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال‏:‏ دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له‏:‏ يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك فقال‏:‏ كان هذا مرة قلت له‏:‏ فاليوم قال‏:‏ أكاتم حالي إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأضن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فهيا فرح ما أعلنت بها‏.‏

ولقد كنت ليلة قاعداً في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت فقال‏:‏ أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك قال‏:‏ قلت له‏:‏ كتمان المصائب واستجلاب الفوائد قال‏:‏ فصاح وقال‏:‏ ما علمت أن أحداً بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته قال الحرث‏:‏ فأردت أن أزيد عليه فقلت له‏:‏ أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم قال‏:‏ فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه فعلمت إزالة عقله فأخرجت له ثوباً جديداً وقلت له‏:‏ هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال‏:‏ هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج فقلت له‏:‏ أين تريد فقال لي قم معي فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون فسلم عليه وقال‏:‏ يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم أستغفر الله من تقصيري فيك أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال‏:‏ من أنت قال‏:‏ أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظاً فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم قال‏:‏ فأمر بضرب عنقه فأخرج وأنا قاعد على الباب ملقوفاً في ذلك الثوب ومناد ينادي‏:‏ من ولي هذا فليأخذه قال الحرث‏:‏ فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله‏.‏

فأقمت في مسجد بالمقابر محزوناً على الفتى فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن وهو يقول‏:‏ يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم قلت‏:‏ وما فعلوا قال الساعة يلقونك فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت‏:‏ من أنتم قالوا‏:‏ الكاتمون أحوالهم حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده‏.‏

وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال كان أبو الحسين النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه وكان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار ‏"‏ لطف ‏"‏ فقرأه وأنكره لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئاً يعبر عنه بلطف‏.‏

فقال للملاح‏:‏ إيش في هذه الدنان قال‏:‏ وإيش عليك امض في شغلك فلما سمع النوري من الملاح

هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته فقال‏:‏ أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان قال‏:‏ وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد يريد أن يعم به مجلسه فقال النوري‏:‏ وهذا خمر قال‏:‏ نعم فقال‏:‏ أحب أن تعطيني ذلك المدري فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه‏:‏ أعطه حتى انظر ما يصنع فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله قال أبو الحسين‏:‏ فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال‏:‏ من أنت قلت‏:‏ محتسب قال‏:‏ ومن ولاك الحسبة

قلت‏:‏ الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ ما الذي حملك على ما صنعت فقلت‏:‏ شفقة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ ما الذي حملك على ما صنعت فقلت‏:‏ شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه وقال فأطرق مفكراً في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان فقلت‏:‏ في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن فقال‏:‏ هات خبرني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن فاستشعرت نفسي كبراً على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال فقال المعتضد‏:‏ اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر‏.‏

قال أبو الحسين فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن شرطي فقال المعتضد‏:‏ ما حاجتك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالماً فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد فأقام بالبصرة إلى توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد‏.‏

فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعلى أن يزقهم الشهادة فلما أخصلوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها‏.‏

وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا‏.‏

ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على تم كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحمد الله ودونه وحسن توفيقه‏.‏

كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة

وهو الكتاب العاشر من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه وأدب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيراً‏.‏

أما بعد‏:‏ فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن وحركات الجوارح ثمرات الخواطر والأعمال نتيجة الأخلاق والآداب رشح المعارف وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها‏.‏

ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه‏.‏

ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهر جمال الآداب النبوية ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب ثم رأيت كل كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب فاستثقلت تكريرها وإعادتها فإن طلب الإعادة ثقيل والنفوس مجبولة على معاداة المعادات فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلاً فصلاً محذوفة الأسانيد ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى وأعلاهم رتبة وأجلهم قدراً فكيف مجموعها ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معرباً عن مكارم الأخلاق والشيم ومنتزعاً عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم‏.‏

والله تعالى ولي التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه دليل المتحيرين ومجيب دعوة المضطرين‏.‏

ولنذكر فيه أولاً بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه ثم بيان جملة من آدابه وأخلاقه ثم بيان كلامه وضحكه ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس ثم بيان عفوه مع القدرة ثم بيان إغضائه عما كان يكره ثم بيان سخاوته وجوده ثم بيان شجاعته وبأسه ثم بيان تأديب الله تعالى حبيبه وصفيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق فكان يقول في دعائه ‏"‏ اللهم حسن خلقي وخلقي ‏"‏ ويقول‏:‏ ‏"‏ اللهم جنبني منكرات الأخلاق ‏"‏ فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ادعوني أستجب لكم ‏"‏ فأنزل عيه القرآن وأدبه به فكان خلقه القرآن‏.‏

قال سعد بن هشام‏:‏ دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ أما تقرأ القرآن قلت‏:‏ بلى قالت‏:‏ كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن‏.‏

وإنما أدبه القرآن بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً ‏"‏ ولماكسرت رباعيته وشج يوم أحد فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول‏:‏ ‏"‏ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ‏"‏ فأنزل اله تعالى‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ تأديباً له على ذلك‏.‏

وأمثال هذه التأديبات في القرآن لا تحصر وهو عليه السلام المقصود الأول بالتأديب والتهذيب ثم منه يشرق النور على كافة الخلق فإنه أدب بالقرآن وأدب الخلق به ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ‏"‏ ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق بما أوردناه في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فلا نعيده ثم لما أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنك لعلى خلق عظيم ‏"‏ فسبحانه ما أعظم شأنه وأتم امتنانه ثم انظر إلى عميم لطفه وعظيم فضله كيف أعطى ثم أثني فهو الذي زينه بالخلق الكريم ثم أضاف إليه ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ وإنك لعلى خلق عظيم ‏"‏ ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق أن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفافها قال علي رضي الله عنه يا عجباً لرجل مسلم يجتبيه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاة‏.‏

فقال له رجل‏:‏ أسمعته من رسول الله صلى الله عليه

وسلم فقال نعم وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيئ وقفت جارية في السبي فقالت‏:‏ يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط أنا ابنة حاتم الطائي‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق ‏"‏ فقام أبو بردة بن نيار فقال‏:‏ يا رسول الله الله يحب مكارم الأخلاق فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق ‏"‏ وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ‏"‏ ومن ذلك حسن المعاشرة وكرم الصنيعة ولين الجانب وبذل المعروف وإطعام الطعام وإنشاء السلام وعيادة المريض المسلم براً كان أو فاجراً وتشييع جنازة المسلم وحسن الجوار لمن جاورت مسلماً كان أو كافراً وتوقير ذي الشيبة المسلم وإجابة الطعام والدعاء عليه والعفو والإصلاح بين الناس والجود والكرم والسماحة والابتداء بالسلام وكظم الغيظ والعفو عن الناس واجتناب ما حرم الإسلام من اللهو والباطل والغناء والمعازف كلها وكل ذي وتر وكل ذي دخل والغلبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم‏.‏

قال أنس رضي الله عنه‏:‏ فلم يدع نصيحة جميلة غلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشاً أو قال عيباً أو قال شيناً إلا حذرناه ونهانا عنه ويكفي من ذلك كله هذه الآية ‏"‏ إن الله يأمر العدل والإحسان ‏"‏ الآية وقال معاذ‏:‏ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ يا معاذ أوصيك باتقاء الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح وأنهاك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصي إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية ‏"‏ فهكذا أدب عباد الله ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب‏.‏

بيان جملة من محاسن أخلاقه التي جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار فقال‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعف الناس لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر مما يجد من الثمر والشعير ويضع سائر ذلك في سبيل الله لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثم يعود على قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم معهن وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد ويجيب دعوة العبد الحر ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب ويكافئ عيها ويأكلها ولا يأكل الصدقة ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين يغضب لربه ولا يغضب لنفسه وينفد الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه‏.‏

وعرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبى وقال‏:‏ أنا لا أنتصر بمشرك وجد ن فضلاء أصحابه وخيارهم قتيلاً بين اليهود فلم يحف عليهم ولا زاد على مر الحق بل وداه بمائة ناقة وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقون به وكان يعصب الحجر على بطنه مرة من الجوع ومرة يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد ولا يتورع عن مطعم حلال وإن وجد تمر أو دون خبز أكله وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز بر أو شعير أكله وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله لا يأكل متكئاً ولا على خوان منديله باطن قدميه لم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى إيثاراً على نفسيه لا فقراً ولا بخلاً يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس أشد الناس تواضعاً وأسكنهم في غير كبر وأبلغهم في غير تطويل وأحسنهم بشراً لا يهوله شيء من أمر الدنيا ويلبس ما وجد فمرة شملة ومرة برد حبرة يمانياً ومرة جبة صوف ما وجد من المباح لبس وخاتمه فضة يلبسه في خنصره الأيمن والأيسر يردف خلفه عبده أو غيره يركب ما أمكنه مرة فرساً ومرة بعيراً ومرة بغلة شهباء ومرة حماراً ومرة يمشي راجلاً حافياً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة يعود المرضى في أقصى المدينة يحب الطيب ويكره الرائحة الرديئة ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألف أهل الشرف بالبر لهم يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم لا يجفو على أحد يقبل معذرة المعتذر إليه يمزح ولا يقول إلا حقاً يضحك من غير قهقهة يرى اللعب المباح فلا ينكره يسابق أهله وترفع الأصوات عليه فيصبر وكان له لقاح وغنم يتقوت هو وأهله من ألبانها وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ولا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد له منه من صلاح نفسه يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته ولا يهاب ملكاً لملكه يدعو

هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً قد جمع تعالى له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره وفي رعاية الغنم لا أب له ولا أم فعلمه

الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا ولزوم الواجب وترك الفضول‏.‏

وفقنا الله لطاعته في أمره والتأسي به في فعله آمين يا رب العالمين‏.‏

بيان جملة أخرى من آدابه وأخلاقه مما رواه أبو البحتري قال‏:‏ ما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة وما لعن امرأة قط ولا خادماً بلعنة وقيل له وهو في القتال‏:‏ لو لعنتم يا رسول اله فقال‏:‏ ‏"‏ إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً ‏"‏ وكان إذا سئل أن يدعو على أحد مسلم أو كافر عام أو خاص عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له وما ضرب بيده أحداً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله وخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك وما كن يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته وقال أنس رضي الله عنه‏:‏ والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه ‏"‏ لم فعلته ‏"‏ ولا لامني نساؤه إلا قال ‏"‏ دعوه إنما كان هذا

بكتاب وقدر ‏"‏ قالوا‏:‏ وما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مضجعاً إن فرشوا له اضطجع وإن لم يفرش له اضطجع على الأرض وقد وصفه الله تعالى في التوراة قبل أن يبعثه في السطر الأول فقال‏:‏ محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام ي - أتزر على وسطه هو ومن معه دعاة للقرآن والعلم يتوضأ على أطرافه‏.‏

وكذلك نعته في الإنجيل‏:‏ وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عيه وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال‏:‏ ‏"‏ ألك حاجة ‏"‏ فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجهه للجالس إليه ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواسع وأمانة قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ‏"‏ ولقد كان يدعوا أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم ويكنى من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه به ويكنى أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم

رضاً وكان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات وكان إذا قام من مجلسه قال‏:‏ ‏"‏ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إليه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ‏"‏ ثم يقول ‏"‏ علمنيهن جبريل عليه السلام ‏"‏‏.‏

بيان كلامه وضحكه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس منطقاً وأحلاهم كلاماً ويقول‏:‏ أنا أفصح العرب وإن أهل الجنة يتكلمون فيها بلغة محمد صلى الله عليه وسلم وكان نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بمهذار وكان كلامه كحرزات نظمن قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كان لا يسرد الكلام كسردكم هذا كان كلامه نزراً وأنتم تنثرون الكلام نثراً‏.‏

قالوا‏:‏ وكان أوجز الناس كلاماً وبذاك جاءه جبريل وكان مع الإيجاز يجمع كل ما أراد وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضاً بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة وان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول المنكر ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق ويعرض عمن تكلم بغير جميل ويكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره وكان إذا سكت تكلم جلساؤه ولا يتنازع عنده في الحديث ويعظ بالجد والنصيحة ويقول‏:‏ ‏"‏ لا تضربوا القرآن بعضه ببعض فإنه أنزل على وجوه ‏"‏ وكان أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما تحدثوا به وخلطاً لنفسه بهم ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء به وتوقيراً له قال‏:‏ ولقد جاءه أعرابي يوماً وهو عيه السلام متغير اللون ينكره أصحابه فأراد أن يسأله فقالوا‏:‏ لا تفعل يا أعرابي فإنا ننكر لونه فقال‏:‏ دعوني فوالذي بعثه بالحق نبياً لا أدعه حتى يتبسم فقال‏:‏ يا رسول الله بلغنا أن المسيح يعني الدجال يأتي الناس بالثريد وقد هلكوا جوعاً أفترى لي بأبي أنت وأمي أن أكف عن ثريده تعففاً وتنزهاً حتى أهلك هرالا أم أضرب في ثرده حتى إذا تضلعت شبعاً آمنت بالله وكفرت به قالوا‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال‏:‏ ‏"‏ لا بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين ‏"‏ قالوا‏:‏ وكان من أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرآن أو يذكر الساعة أو يخطب بخطبة عظة وكان إذا سر ورضي فهو أحسن الناس رضاً فإن وعظ وعظ بجد وإن غضب وليس يغضب إلا الله لم يقم لغضبه شيء وكذلك كان في أموره كلها وكان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله وتبرأ من الحول والقوة واستنزل الهدى فيقول ‏"‏ اللهم أرني الحق حقاً فأتبعه وأرين المنكر منكراً وأرزقني اجتنابه وأعذني من أن يشتبه علي فأتبع هواي بغير هدى منك واجعل هواي تبعاً لطاعتك وخذ رضا نفسك من نفسي في عافية واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ‏"‏‏.‏

بيان أخلاقه وآدابه في الطعام كان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف والضفف ما كثرت عليه الأيدي وكان إذا وضعت المائدة قال ‏"‏ بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل به نعمة الجنة ‏"‏ وكان كثيراً إذا جلس يأكل يجمع ركبتيه وبين قدميه كما يجلس المصلي إلا أن الركبة تكون فوق الركبة والقدم فوق القدم ويقول‏:‏ ‏"‏ إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ‏"‏ وكان لا يأكل الحار ويقول‏:‏ ‏"‏ إنه غير ذي بركة وإن اله لم يطعمنا ناراً فأبردوه ‏"‏ وكان يأكل مما يليه ويأكل بأصابعه الثلاث وربما استعان بالرابعة ولم يأكل بأصبيعن ويقول‏:‏ ‏"‏ إن ذلك أكلة الشيطان ‏"‏ وجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه وقال‏:‏ ‏"‏ ما هذا ياعبد الله ‏"‏ قال‏:‏ بأبي أنت وأمي نجعل السمن والعسل في البرمة ونضعها على النار ثم نغليه ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل في البرمة ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا الطعام طيب ‏"‏ وكان يأكل خبر الشعير غير منخول وكان يأكل الغثاء بالرطب وبالملح وكان أحب الفواكه الرطبة إليه البطيخ والعنب وكان يأكل البطيخ بالخبز وبالسكر وربما أكله بالرطب ويستعين باليدين جميعاً وأكل يوماً الرطب في يمينه وكان يحفظ النوى في يساره فمرت شاة فأشار إليها بالنوى فجعلت تأكل من كفه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتى فرغ وانصرفت الشاة وكان رما أكل العنب خرطاً يرى زؤانه على لحيته كحرز اللؤلؤ وكان أكثر طعامه الماء والتمر وكان يجمع اللبن بالتمر ويسميهما الأطيبين وكان أحب الطعام إليه اللحم ويقول‏:‏ ‏"‏ هو يزيد في السمع وهو سيد الطعام في الدنيا والآخرة ولو سألت ربي أن يطعمنيه كل يوم لفعل ‏"‏ وكان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول‏:‏ ‏"‏ إنها شجرة أخي يونس عليه السلام ‏"‏ قالت عائشة رضي الله عنها وكان يقول ‏"‏ يا عائشة إذ طبختم قدراً فأكثروا فيها من الدباء فإنه يشد قلب الحزين ‏"‏ وكان يأكل لحم الطير الذي يصاد وكان لا يتبعه ولا يصيده ويحب أن يصاد له ويؤتى به فيأكله وكان إذا أكل اللحم لم يطأطئ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه وفعاثم ينتهشه انتهاشاً وكان يأكل الخبز والسمن وكان يحب من الشاة الذراع والكف ومن القدر الدباء ومن الخل ومن التمر والعجوة ودعا في العجوة بالبركة وقال‏:‏ طهي من الجنة وشفاء من السم والسحر ‏"‏ وكان يحب من البقول الهندباء والباذروج والبقلة الحمقاء التي يقال لها الرجلة‏:‏ وكان يكره الكليتين لمكانهما من البول وكان لا يأكل من الشاة سبعاً‏:‏ الذكر والأنثيين والمثانة المرارة والغدد والحياء و الدم ويكره ذلك وكان لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث وما ذم طعاماً قط لكن إن أعجبه أكله وإن كرهه تركه وإن عافه لم يبغضه إلى غيره وكان يعاف الضب والطحال ولا يحرمها وكان يعلق بأصابعه الصفحة ويقول‏:‏ آخر الطعام أكثر بركة‏.‏

وكان يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر وكان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ويقول‏:‏ إنه لا يدري في أي الطعام البركة‏:‏ وإذا فرغ قال‏:‏ ‏"‏ الحمد لله اللهم لك الحمد أطعمت فأشبعت وسقيت فأروبت لك الحمد غير مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ‏"‏ وكان إذا أكل الخبز واللحم خاصة غسل يديه غسلاً جيداً ثم يمسح بفضل الماء على وجهه وكان يشرب في ثلاث دفعات وله فيها ثلاث تسميات وفي أواخرها ثلاث تحميدات وأن يمص الماء مصاً ولا يعب عبا وكان يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه فإن كان من على يساره أجل رتبة قال للذي على يمينه ‏"‏ السنة أن تعطي فإن أجبت آثرتهم ‏"‏ وربما كان يشرب بنفس واحد حتى يفرغ وكان لا يتنفس في الإناء بل ينحرف عنه وأتى بإناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه وقال‏:‏ ‏"‏ شربتان في شربة وإدامان في إناء واحد ‏"‏ ثم قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا أحرمه ولكن أكره الفخر

والحساب بفضول الدنيا غداً وأحب التواضع فإن من تواضع لله رفعه الله ‏"‏ وكان في بيته أشد حياء من العاتق لا يسألهم طعاماً ولا يتشهاه عليهم إن أطعموه أكل وما أعطوه قبل وما سقوه شرب وكان ربما قام فأخذ ما يأكل بنفسه أو يشرب‏.‏

بيان آدابه وأخلاقه في اللباس كان صلى الله عليه وسلم يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداؤ أو قميص أو جبة أو غير ذلك وكان يعجبه الثياب الخضر وكان أكثر لباسه البياض ويقول‏:‏ ‏"‏ ألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم ‏"‏ وكان يلبس القباء المحشق للحرب وغير الحرب وكان له قباء سندس فيلبسه فتحسن خضرته على بياض لونه وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين ويكون الأزار فوق ذلك إلى نصف الساق وكان قميصه مشدود الأزرار وربما حل الأزرار في الصلاة وغيرها وكانت له ملحفة مصبوغه بالزعفران وربما صلى بالناس فيها وحدها وربما ليس الكساء وحده ما عليه غيره وكان له كساء ملبد يلبسه ويقول ‏"‏ إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة وربما لبس إزار الواحد ليس عليه غيره ويعقد طرفيه بين كتفيه وربما أم به الناس على الجنائز وربما صلى في بيته في الإزار الواحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه ويكون ذلك الإزار الذي جامع فيه يومئذ وكان ربما صلى بالليل في الإزار ويرتدي ببعض الثوب مما يلي هدبه ويلقى البقية على بعض نسائه فيصلي كذلك ولقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له أم سلمة‏:‏ بأبي أنت وأمي ما فعل ذلك الكساء الأسود فقال‏:‏ ‏"‏ كسوته ‏"‏ فقالت ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده وقال أنس‏:‏ وربما رأيته يصلي بنا الظهر في شملة عاقداً بين طرفيه وكان يتختم وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر به الشيء وكان يتخم به على الكتب ويقول الخاتم على الكتاب خير من التهمة وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلى إليها وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وعلى جبهته وكانت له عمامة تسمى‏:‏ السحاب فوهبها من علي فربما طلع على فيها فيقول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتاكم علي في السحاب ‏"‏ وكان إذا لبس ثوباً لبسه من قبل ميامنه ويقول‏:‏ ‏"‏ الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس ‏"‏ وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً ثم يقول‏:‏ ‏"‏ ما من مسلم يكسو مسلماً من سمل ثيابه لا يسكوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حياً وميتاً ‏"‏ وكان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه وعرضه ذراع وشبر أو نحوه وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته وكان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه وكان اسم رايته‏:‏ العقاب‏.‏

واسم سيفه الذي يشهد به الحروب‏:‏ ذو الفقار‏.‏

وكان له سيف يقال له‏:‏ المخذم‏.‏

وآخر يقال له‏:‏ الرسوب‏:‏ وآخر يقال له القضيب‏.‏

وكانت قبضة سيفه محلاة بالفضة‏.‏

وكان يلبس المنطقة من الآدم فيها ثلاث حلق هن فضة وكان اسم قوسه‏:‏ الكتوم‏.‏

وجعبته الكافور وكان اسم ناقته‏:‏ القصواء وهي التي يقال لها‏:‏ العضبا اسم بغلته‏:‏ الدلدل‏:‏ وكان سام حماره يعفور واسم شاته التي يشرب لبنها عينة وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون عنه فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا على وجوههم وأجسادهم ويبتغون بذلك البركة‏.‏

كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة حتى أتى بقلائد من ذهب وفضة فقسمها بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال‏:‏ يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل‏:‏ فقال ويحك فمن يعدل عليه بعدي فلما ولي قال ‏"‏ ردوه علي رويداً ‏"‏ وروى جابر‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبض للناس يوم خيبر من فضة في ثوب بلال فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله أعدل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل فقد خبت إذن وخسرت إن كنت لا أعدل ‏"‏ فقام عمر فقال‏:‏ ألا أضرب ععنقه فإنه منافق فقال‏:‏ معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال‏:‏ من يمنعك مني فقال‏:‏ ‏"‏ الله ‏"‏ فقال‏:‏ فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله

عليه وسلم السيف وقال‏:‏ من يمنعك مني فقال‏:‏ كن خير أخذ قال‏:‏ قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏:‏ فقال‏:‏ لا غير أني لا أقاتلك ولا أكون معك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلي سبيله فجاء أصحابه فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس وروى أنس‏:‏ أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت‏:‏ أردت قتلك فقال‏:‏ ما كان الله ليسلطك على ذلك‏:‏ قالوا‏:‏ أفلا تقتلها فقال‏:‏ لا‏:‏ وسحره رجل من اليهود فأخبره جبريل عيه أفضل الصلاة والسلام بذلك حتى استخرجه وحل العقد فوجد لذلك خفة ما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره عليه قط وقال علي رضي الله عنه‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا الزبير والمقداد فقال‏:‏ انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها‏:‏ فانطلقنا حتى أتينا روضة خاخ فقلنا أخرجي الكتاب فقالت‏:‏ ما معي من كتاب فقلنا‏:‏ لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم أمراً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا حاطب ما هذا قال‏:‏ يا رسول الله لا تعجل علي أني كنت امرأ ملصقاً في قومي وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهلهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ولا ارتداداً عن ديني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ‏"‏ وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار‏:‏ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه وقال‏:‏ ‏"‏ رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ‏"‏ وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ لا يبلغن أحد منكم من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ‏"‏‏.‏

بيان إغضائه صلى الله عليه وسلم عما كان يكرهه

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة لطيف الظاهر والباطن يعرف في وجهه غضبه ورضاه وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة وكان لا يشافه أحد بما يكرهه دخل عليه رجل وعليه رجل وعليه صفرة فكرهها فلم يقل له شيئاً حتى خرج فقال لبعض القوم‏:‏ لو قلتم لهذا أن يدع هذه‏:‏ يعني الصفرة وبال أعرابي في المسجد بحضرته فهم به الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تزرموه ‏"‏ أي لا تقطعوا عليه البول ثم قال له‏:‏ ‏"‏ إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ قربوا ولا تنفروا ‏"‏ وجاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له ‏"‏ أحسنت إليك ‏"‏ قال الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال‏:‏ ‏"‏ أحسنت إليك ‏"‏ قال‏:‏ نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما

قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال‏:‏ نعم فلما كان الغد أو العشى جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك ‏"‏ فقال الأعرابي‏:‏ نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها وأعلم فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ‏"‏‏.‏

بيان سخاوته وجوده صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئاً وكان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كان أجود الناس كفاً وأوسع الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة أكرمهم عشيرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه وأن رجلاً أتاه فسأله فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين فرجع إلى قومه وقال‏:‏ أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة‏.‏

وما سئل شيئاً قط فقال لا‏.‏

وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها وجاء رجل فسأله فقال‏:‏ ‏"‏ ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه ‏"‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال الرجل‏:‏ أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف السرور في وجهه ولما قفل م حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً ‏"‏‏.‏

بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم أنجد الناس وأشجعهم قال علي رضي الله عنه‏:‏ لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً وقال أيضاً‏:‏ كنا إذا احمر البأس ولقى القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه قيل‏:‏ وكان صلى الله عليه وسلم قليل الكلام قليل الحديث فإذا أمر الناس بالقتال تشمر وكان من أشد الناس بأساً وكان الشجاع هو الذي يقرب منه في الحرب

لقربه من العدو وقال عمران بن حصين‏:‏ ما لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب‏.‏

وقالوا‏:‏ كان قوي البطش ولما غشيه المشركون نزل عن بغلته فجعل يقول‏:‏ ‏"‏ أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ‏"‏ فما رؤى يومئذ أحد من أشد منه‏.‏

بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً في علو منصبه قال ابن عامر‏:‏ رأيته يرمي الجمرة على ناقة شهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وكان يركب الحمار موكفاً عليه قطيفة وكان منع ذلك يستردف وكان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك ويخصف النعل ويرقع الثوب وكان يصنع في بيته مع أهله في حاجتهم وكان أصحابه لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وأتى صلى الله عليه وسلم برجل فأرعد من هيبته فقال له‏:‏ هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد وكان يجلس بين أصحابه مختلطاً بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلساً يعرفه الغريب فبنوا له دكاناً من طين فكان يجلس عيه وقالت له

عائشة رضي الله عنها كل جعلني الله فداك متكئاً فإنه أهون عليك قال‏:‏ فأصغى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ثم قال‏:‏ بل آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد‏:‏ وكان لا يأكل على خوان ولا سكرجة حتى لحق بالله تعالى‏.‏

وكان لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال‏:‏ لبيك‏:‏ وكان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقاً بهم وتواضعاً لهم وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحياناً ويذكرون أشياً من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا ولا يزجرهم إلا عن حرام‏.‏

بيان صورته وخلقته صلى الله عليه وسلم وكان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد بل كان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسباً إلى الطول ونسب هو عليه السلام إلى الربعة ويقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ جعل الخير كله في الربعة‏.‏

وأما لونه فقد كان أزهر اللون ولم يكن بالآدم ولا بالشديد البياض والأزهر هو الأبيض الناصع وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل ونعته بعضهم بأنه مشرب بحمرة فقالوا‏:‏ إنما كان المشرب منه بالحمرة ما ظهر للشمس والرياح كالوجه والرقبة والأزهر الصافي عن الحمرة ما تحت الثياب منه‏.‏

وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه كاللؤلؤ أطيب من المسك الأذفر‏.‏

وأما شعره فقد كان رجل الشعر حسنه ليس بالسبط لا الجعد القطط وكان إذا مشطه بالمشط يأتى كأنه حبك‏.‏

الرمل‏.‏

وقيل‏:‏ كان شعره يضرب منكبيه وأكثر الرواية أنه كان إلى شحمة أذنيه‏.‏

ربما جعله غدائر أربعاً تخرج كل أذن من بين غديرتين‏.‏

وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ‏.‏

وكان شيبه في الرأس واللحية سبع عشرة شعرة ما زاد على ذلك‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأنورهم لم يصفه واصف إلا شبه بالقمر ليلة البدر وكان يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته وكانوا يقولون هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث يقول‏:‏ أمين مصطفى للخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما وكان أبلج ما بين الحاجبين كأن ما بينهما الفضة الخلصة وكانت عيناه نجلاوين أدعجهما وكان في عينيه تمزج من حمرة وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها وكان أقنى العرنين أي مستوى الأنف وكان مفلج الأسنان أي متفرقها وكان إذا افتر ضاحكاً افتر بالطويل الوحه ولا المكلثم كث اللحية وكان يعفى لحيته ويأخذ من شاربه وكان أحسن عباد الله عنقاً لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وفي حمرة الذهب وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضاً كالمرآة في استوائها وكالقمر في بياضه موصول ما بين لبته وسرته بشعر منقاد كالقضيب لم يكن في صدره ولا بطنه شعر غيره وكانت له عن ثلاث يغطي الإزار منها واحدة ويظهر اثنتان وكان عظيم المنكبين أشعرهما ضخم الكراديس أي رءوس العظام من المنكبين والمرفقين والوركين وكان واسع الظهر ما بين كتفيه خاتم النبوة وهو مما يلي منكبه الأيمن فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس وكان عبل العضدين والذراعين طويل الزندين رحب الراحتين سائل الأطراف كأن أصابعه قضبان الفضة كفه ألين من الخز كأن كفه كف عطار طيباً مسها بطيب أو لم يمسها يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها على رأسه وكان عبل ما تحت الإزار ن الفخذين والساق وكان معتدل الخلق في السمن بدن في آخر زمانه وكان لحمه متماسكاً يكاد وأما مشيه صلى الله عليه وسلم فكان يمشي كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب يخطو تكفياً ويمشي الهوينى بغير تبختر والهوينى تقارب الخطا وكان عليه الصلاة والسلام يقول‏:‏ ‏"‏ أنا أشبه الناس بآدم صلى الله عليه وسلم وكان أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً ‏"‏ وكان يقول‏:‏ ‏"‏ إن لي عند ربي عشرة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد وأنا الحاشر يحشر الله العباد على قدمى وأنا رسول الرحمة ورسول التوبة ورسول الملاحم والمقفى قفيت الناس جميعاً وأنا قثم ‏"‏ قال البحتري والقثم الكامل الجامع والله أعلم‏.‏

بيان معجزاته وآياته الدالة على صدقه اعلم أن من شاهد أحواله صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعادياته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته مع ما يحكى من عجائب أجوبته في مضايق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذي يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة تقوم بها القوة البشرية بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القح كان يراه فيقول‏:‏ والله ما هذا وجه كذاب فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده وإنما أوردنا بعض أخلاقه لتعرف محاسن الأخلاق وليتنبه لصدقه عليه الصلاة والسلام وعلوا منصبه ومكانته العظيمة عند الله إذ آتاه الله جميع ذلك وهو رجل أمي لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ولم يسافر قط ي طلب علم ولم يزل بين أظهر الجهال من الأعراب يتيماً فضلاً عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه وغير ذلك من خواص النبوة لولا صريح الوحي ومن لقوة البشر الاستقلال بذلك فلو لم يكن له إلا هذه الأمور الظاهرة لكان فيه كفاية‏.‏

وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما لا يستريب فيه محصل فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار واشتملت عليه الكتب الصحيحة إشارة إلى مجامعها من غير تطويل بحكاية التفصيل‏.‏

فقد خرق الله العادة على يده غير مرة إذ شق له القمر بمكة لما سألته قريش آية وأطعم النفر الكثير في منزل جابر وفي منزل أبي طلحة ويوم الخندق ومرة أطعم ثمانين من أربعة أمداد شعير وعناق وهو من أولاد المعز فوق العتود ومرة أكثر من ثمانين رجلاً من أقراص شعير حملها أنس في يده ومرة أهل الجيش من تمر يسير ساقته بنت بشير في يدها فأكلوا كلهم حتى شبعوا من ذلك

وفضل لهم ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش وتوضئوا من قدح صغير ضاق عن أن يبسط عليه السلام يده فيه وأهراق عليه السلام وضوءه في عين تبوك ولا ماء فيها ومرة أخرى في بئر الحديبية فجاشتا بالماء فشرب من عين تبوك أهل الجيش وهم ألوف حتى رووا وشرب من بئر الحديبية ألف وخمسمائة ولم يكن فيها قبل ذلك ماء وأمر عليه السلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزود أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير وهو موضع بروكه فزودهم كلهم منه وبقي منه فحبسه ورمى الجيش بقبضته من تراب فعميت عيونهم ونزل بذلك القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ وأبطل الله تعالى الكهانة بمبعثه صلى الله عليه وسلم فعدمت وكان ظاهرة موجودة وحن الجذع الذي كان يخطب إليه لما عمل له المنبر حتى سمع منه جميع أصحابه مثل صوت الإبل فضمه إليه فسكن ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين النطق بذلك وعجزوا عنه‏.‏

وهذا مذكور في سورة يقرأ بها في جميع جوامع الإسلام من شرق الأرض إلى غربها يوم الجمعة جهراً تعظيماً للآية التي فيها‏.‏

وأخبر عليه السلام بالغيوب وأنذر عثمان بأن تصيبه بلوى بعدها الجنة وبأن عمار اتقتله الباغية وأن الحسن يصلح الله به فئتين من المسلمين عظيمتين وأخبر عليه السلام عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه وهذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعفة بها لا بنجوم ولا بكشف ولا بخط ولا بزجر لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه‏.‏

واتبعه سراقة بن مالك فساخت قدماً فرسه في الأرض وأتبعه دخان حتى استغاثه فدعا له فانطلق الفرس وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سواراً كسرى فكان كذلك وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء اليمن وأخبر بمن قتله وخرج على مائة من قريش ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ولم يروه وشكا إليه البعير بحضرة أصحابه وتذلل له وقال لنفر من أصحابه مجتمعين ‏"‏ أحدكم في النار ضرسه مثل أحد فماتوا كلهم على استقامة وارتد منهم واحد فقتل مرتداً ‏"‏ وقال لآخرين منهم‏:‏ آخركم موتاً ي النار فسقط آخرهم موتاً في النار فاحترق فيها فمات ودعا شجرتين فأتتاه واجتمعتا ثم أمرهما فافترقتا‏.‏

وكان عيه السلام نحو الربعة فإذا مشى مع الطوال طالهم ودعا عليه السلام النصارى إلى المباهلة فامتنعوا فعرفهم صلى الله عليه وسلم أنهم إن فعلوا ذلك هلكوا فعلموا صحة قوله فمتنعوا وأتاه عامر بن الطفيل بن مالك وأربد بن قيس وهما فارسا العرب وفاتكاهم عازمين على قتله عليه السلام فحيل بينهما وبين ذلك ودعا عليهما فهلك عامر بغدة وهلك أربد بصاعقة أحرقته وأخبر وأعم عليه الصلاة والسام السم فمات الذي أكله معه وعاش هو صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنين وكلمه الذراع المسموم‏.‏

وأخبر عليه السلام يوم بدر بمصارع صناديد قريش ووقفهم على مصارعهم رجلاً رجلاً فلم يتعدوا واحد منهم ذلك الموضع وأنذر عليه السلام بأن طوائف من أمته يغزون في البحر فكان كذلك وزويت له الأرض فأرى مشارقها ومغاربها وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها فكان كذلك فقد بلغ ملكهم من أول المشرق‏:‏ من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر ولم يتسعوا في الجنوب ولا في الشمال كما أخبر صلى الله عليه وسلم سواء بسواء‏.‏

وأخبر فاطمة ابنته رضي الله عنها بأنها أول أهله لحاقاً به فكان كذلك‏.‏

وأخبر نساءه بأن أطولهن يداً أسرعهن لحاقاً به فكانت زينب بنت جحش الأسدية أطولهن يداً بالصدقة أولهن لحوقاً به رضي الله عنها‏.‏

ومسح ضرع شاة حائل لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏

وفعل ذلك مرة أخرى في خيمة أم معبد الخزاعية‏.‏

وندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها عليه السام بيده فكانت أصح عينيه وأحسنهما وتفل في عين على رضي الله عنه وهو أرمد يوم خيبر فصح من وقته وبعثه بالراية وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم

وأصيبت رجل بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم فمسحها بيده فبرات من حيثها وقل زاد جيش كان معه عليه السلام فدعا بجميع ما بقي فاجتمع شيء يسير جداً فدعا فيه بالبركة ثم أمرهم فأخذوا فلم يبق وعاء في العسكر إلا ملئ من ذلك وحكى الحكم بن العاص بن وائل‏:‏ مشيته عليه السلام مستهزئاً فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ كذلك فكن‏:‏ فلم يزل يرتعس حتى مات وخطب عليه السلام امرأة فقال له أبوها‏:‏ إن بها برصاً امتناعاً من خطبته واعتذاراً ولم يكن بها برص فقال عليه السلام‏:‏ فلتكن كذلك‏:‏ فبرصت وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر‏.‏

إلى غير ذلك من آياته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم وإنما اقتصرنا على المستفيض‏.‏

ومن يستريب في انخراق العادة على يده ويزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواتراً بل المتواتر هو القرآن فقط كمن يستريب في شجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم الطائي ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع الوقائع يورث علماً ضرورياً ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهي المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق‏:‏ وليس لنبي معجزة باقية سواه صلى الله عليه وسلم إذ تحدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغاء الخلق وفصحاء العرب وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم‏.‏

وكان ينادي بين أظهرهم ‏"‏ أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏"‏‏.‏

وقال ذلك تعجيزاً لهم فعجزوا عن ذلك وصرفوا عنه حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه ثم انتشر ذلك بعده في أقطار العالم شرقاً وغرباً قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر وقد انقرض اليوم قريب من خمسمائة سنة فلم يقدر أحد على معارضته‏.‏

فأعظم بغباوة من ينظر في أحواله ثم في أقواله ثم في أفعاله ثم في أخلاقه ثم في معجزاته ثم في استمرار شرعه إلى الآن ثم في انتشاره في أقطار العالم ثم في إذعان ملوك الأرض له في

عصره وبد عصره مع ضعفه ويتمه ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه‏.‏

وما أعظم توفيق من آمن به وصدقه واتبعه في كل ما ورد وصدر فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للإقتداء به في الأخلاق والأفعال والأحوال والأقوال بمنه وسعة جوده‏.‏