فصل: الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين على القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق **


19- وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل‏}‏ أي التحريف بالزيادة والنقصان ‏{‏من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏، وحال هذا القول كالقول السابق‏.‏‏ 20- وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذي فرض عليك القرآن‏}‏ أي أحكامه وفرائضه ‏{‏لرادك إلى معاد‏}‏‏.‏ وروي أنه عليه السلام لما خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال‏:‏ تشتاق إلى بلدك ومولدك‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ نعم، فقال جبريل عليه السلام‏:‏ فإن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد‏}‏ يعني إلى مكة ظاهرًا عليهم‏.‏‏ 21- وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كانت لكم‏}‏ أيها اليهود ‏{‏الدار الآخرة عند اللّه خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدًا‏}‏ أي ما عاشوا ‏{‏بما قدمت أيديهم واللّه عليم بالظالمين‏}‏‏.‏ والمراد بالتمني التمني بالقول، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة كما هو المسلم به عند المخالف والموافق والوصول إلى المنزل الذي وصل إليه في الدارين، والوصول إلى الرياسة العظيمة، لا يجوز له - وهو غير واثق من جهة الرب بالوحي - أن يتحدى أعدى الأعداء بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة، لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك، فكيف الحال في أعقل العقلاء‏.‏ فثبت أنه ما أقدم على هذا التحدي إلا بعد الوحي واعتماده التام‏.‏ وكذا لا شك أنهم كانوا من أشد أعدائه، وكانوا أحرص الناس في تكذيبه، وكانوا متفكرين في الأمور التي بها ينمحي الإسلام أو تحصل الذلة لأهله، وكان المطلوب منهم أمرًا سهلًا لا صعبًا، فلو لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم صادقًا في دعواه عندهم لبادروا إلى القول به لتكذيبه، بل أعلنوا هذا التمني بالقول مرارًا وشهروا أنه كاذب يفتري على اللّه أنه قال كذا، ويدعي من جانب نفسه ادعاء ويقول تارةً‏:‏ والذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه، يعني مات مكانه، ويقول تارةً‏:‏ لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ونحن تمنينا مرارًا وما متنا مكاننا فظهرت بصرفهم عن تمنيهم مع كونهم على تكذيبه أحرص الناس معجزته وبانت حجته، وفي هذه الآية إخباران عن الغيب‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ أن قوله ‏{‏لن يتمنوه‏}‏ يدل دلالة بينة على أن ذلك لا يقع في المستقبل من أحد منهم فيفيد عموم الأشخاص‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ أن قوله أبدًا يدل على أنه لا يوجد في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل يفيد عموم الأوقات فبالنظر إلى العمومين هما غيبان 22- وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ فأخبر بأنهم لا يفعلون ألبتة، ووقع كما أخبر، وهذه الآية دالة على الإعجاز من وجوه أربعة‏:‏ ‏(‏أولها‏)‏ أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي غاية الحرص على إبطال أمره، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى الأدلة على ذلك، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا‏}‏ صار حرصهم أشد، فلو كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به، فحيث ما أتوا به ظهر الإعجاز‏.‏ ‏(‏وثانيها‏)‏ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان متهمًا عندهم في أمر النبوة، لكنه كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب، فلو كان كاذبًا لما تحداهم بالغًا في التحدي إلى النهاية، بل كان عليه أن يخاف مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره، فلو لم يعلم بالوحي عجزهم عن المعارضة لما جاز أن يحملهم عليها بهذا التقريع‏.‏

‏(‏وثالثها‏)‏ أنه لو لم يكن قاطعًا في أمره لما قطع في أنهم لا يأتون بمثله لأن المزور لا يجزم بالكلام، فجزمه يدل على كونه جازمًا في أمره‏.‏

‏(‏ورابعها‏)‏ أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه، لأنه من عهده عليه السلام إلى عصرنا هذا لم يحل وقت من الأوقات من يعادي الدين والإسلام، وتشددوا عليه في الوقيعة فيه، ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط‏.‏ فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على الإعجاز مما تشتمل عليه هذه الآية، فهذه الأخبار وأمثالها تدل على كون القرآن كلام اللّه، لأن عادة اللّه جارية على أن مدعي النبوة لو أخبر عن شيء ونسب إلى اللّه كذبًا لا يخرج خبره صحيحًا‏.‏ في الباب الثامن عشر من كتاب الاستثناء هكذا‏:‏ ‏(‏فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب‏)‏‏.‏ ‏22- فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهذا الرب لم يكن تكلم به، بل ذلك النبي صوره في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه‏)‏‏.‏

‏(‏الأمر الرابع‏)‏ ما أخبر من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد علم أنه كان أميًا ما قرأ ولا كتب ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء ولا مجالسة مع الفضلاء، بل تربى بين قوم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعرفون الكتاب، وكانوا عارين عن العلوم العقلية أيضًا، ولم يغب عن قومه غيبة يمكن له التعلم فيها من غيرهم، والمواضع التي خالف القرآن فيها في بيان القصص والحالات المذكورة ‏[‏في‏]‏ كتب أهل الكتاب كقصة صلب المسيح عليه السلام وغيرها فهذه لمخالفة قصدية‏:‏ إما لعدم كون بعض هذه الكتب أصلية كالتوراة والإنجيل المشهورين، وإما لعدم كونها إلهامية، ويدل على ما ذكرت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون‏}‏‏.‏

‏(‏الأمر الخامس‏)‏ ما فيه من كشف أسرار المنافقين حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، وكان اللّه يطلع رسوله على تلك الأحوال حالًا فحالًا، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، وكذا ما فيه من كشف حال اليهود وضمائرهم‏.‏

‏(‏الأمر السادس‏)‏ جمعه لمعارف جزئية وعلوم كلية لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة من علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقلية والسير والمواعظ والحكم، وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والشيم‏.‏ وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما دينية أو غيرها ولا شك أن الأولى أعظمها شأنًا وأرفعها مكانًا، فهي إما علم العقائد والأديان، وإما علم الأعمال‏.‏ أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة اللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أما معرفة اللّه تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه وأفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب، بل لا يقرب منه، وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر، وهو علم الفقه‏.‏ ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن، وإما أن يكون علم التصوف المتعلق بتصفية الباطن ورياضة القلوب، وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يوجد في غيره، كقوله‏:‏ ‏{‏خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن‏}‏ يعني ارفع سفاهتهم وجهالتهم بالخصلة التي هي أحسن وهي الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة‏.‏ وقوله ‏{‏فإذا الذي‏}‏ إلخ يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضة إلى المودة ونحو هذه الأقوال كثيرة فيه‏.‏ فثبت أنه جامع لجميع العلوم النقلية أصولها وفروعها، ويوجد فيه التنبيه على أنواع الدلالات العقلية والرد على أرباب الضلال ببراهين قاهرة وأدلة باهرة سهلة المباني مختصرة المعاني، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم‏}‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحيها الذي أنشأها أول مرة‏}‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا‏}‏ ولنعم ما قيل‏:‏ جميع العلم في القرآن، لكن تقاصرت عنه أفهام الرجال‏.‏

‏(‏الأمر السابع‏)‏ كونه بريئًا عن الاختلاف والتفاوت مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير اللّه لوقعت فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك‏.‏ ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير اللّه كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا‏}‏ وإلى هذه الأمور السبعة المذكورة أشار اللّه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض‏}‏ لأن مثل هذه البلاغة والأسلوب العجيب والإخبار عن الغيوب والاشتمال على أنواع العلوم والبراءة من الاختلاف والتفاوت، مع كون الكتاب كبيرًا مشتملًا على أنواع العلوم لا يأتي إلا من العالم الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة مما في السماوات والأرض‏.‏

‏(‏الأمر الثامن‏)‏ كونه معجزة باقية متلوّة في كل مكان مع تكفل اللّه بحفظه، بخلاف معجزات الأنبياء فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت النزول إلى زماننا هذا، وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين وحجتها قاهرة، ومعارضته ممتنعة وفي الأزمان كلها القرى والأمصار مملوءة بأهل اللسان وأئمة البلاغة، والملحد فيهم كثير والمخالف العنيد حاضر ومهيأ، وتبقى إن شاء اللّه هكذا ما بقيت الدنيا وأهلها في خير وعافية‏.‏ ولما كان المعجز منه بمقدار أقصر سورة فكل جزء منه بهذا المقدار معجزة، فعلى هذا يكون القرآن مشتملًا على أكثر من ألفي معجزة‏.‏

‏(‏الأمر التاسع‏)‏ أن قارئه لا يسأمه وسامعه لا يمجه، بل تكراره يوجب زيادة محبته كما قيل‏:‏

وخير جليس لا يمل حديثه ** وترداده يزداد فيه تجملا

وغيره من الكلام، ولو كان بليغًا في الغاية يمل مع الترديد في السمع ويكره في الطبع، ولكن هذا الأمر بالنسبة إلى من له قلب سليم لا إلى من له طبع سقيم‏.‏

‏(‏الأمر العاشر‏)‏ كونه جامعًا بين الدليل ومدلوله فالتالي له إذا كان ممن يدرك معانيه يفهم مواضع الحجة والتكليف معًا في كلام واحد باعتبار منطوقه ومفهومه، لأنه ببلاغة الكلام يستدل على الإعجاز، وبالمعاني يقف على أمر اللّه ونهيه ووعده ووعيده‏.‏

‏(‏الأمر الحادي عشر‏)‏ حفظه لمتعلميه بالسهولة، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ فحفظه ميسر على الأولاد الصغار في أقرب مدة ويوجد في هذه الأمة في هذا الزمان أيضًا مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن بحيث يمكن أن يكتب القرآن من حفظ كل منهم من الأول إلى الآخر، بحيث لا يقع الغلط في الإعراب فضلًا عن الألفاظ ولا يخرج في جميع ديار أوربا عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي الحفاظ في قرية من قرى مصر مع فراغ بال المسيحيين وتوجههم إلى العلوم والصنائع منذ ثلثمائة سنة، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولكتابهم‏.‏

‏(‏الأمر الثاني عشر‏)‏ الخشية التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماع القرآن، والهيبة التي تعتري تاليه، وهذه الخشية قد تعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفسيره، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة ومنهم من استمر على كفره، ومنهم من كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه‏.‏

روي أن نصرانيًا مر بقارئ فوقف يبكي فسئل عن سبب البكاء فقال الخشية التي حصلت له من أثر كلام الرب، وأن جعفر الطيار رضي اللّه عنه لما قرأ القرآن على النجاشي وأصحابه ما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر رضي اللّه عنه من القراءة، وأن النجاشي أرسل سبعين عالمًا من العلماء المسيحية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ عليهم سورة ‏(‏يس‏)‏ فبكوا وآمنوا فنزل في حق الفريقين أو أحدهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ وقد عرفت حال جبير بن مطعم رضي اللّه عنه، وعتبة، وابن المقنع، ويحيى بن حكم الغزالي‏.‏ وقال نور اللّه الشوستري في تفسيره‏:‏ إن العلامة علي القوشجي لما راح من وراء النهر إلى الروم جاء إليه حبر من أحبار اليهود لتحقيق الإسلام وناظره إلى شهر وما سلم دليلًا من أدلة العلامة إلى هذا الحين فجاء يومًا وقت الصبح وكان العلامة مشتغلًا بتلاوة القرآن على سطح الدار، وكان كريه الصوت في الغاية، فلما دخل الباب وسمع القرآن أثر القرآن في قلبه تأثيرًا بليغًا، فلما وصل إلى العلامة قال‏:‏ إني أدخل في الإسلام فأدخله العلامة في الإسلام ثم سئل عن السبب فقال‏:‏ ما سمعت مدة عمري كريه الصوت مثلك، فلما وصلت إلى الباب سمعت منك القرآن وقد حصل تأثيره البليغ فيَّ فعلمت أنه وحي‏.‏ فثبت من الأمور المذكورة أن القرآن معجز وكلام اللّه، كيف لا وحسن الكلام يكون لأجل ثلاثة أشياء‏:‏ أن تكون ألفاظه فصيحة وأن يكون نظمه مرغوبًا، وأن يكون مضمونه حسنًا‏.‏ وهذه الأمور الثلاثة متحققة في القرآن بلا ريب ونختم هذا الفصل ببيان ثلاث فوائد‏:‏

‏(‏الفائدة الأولى‏)‏ سبب كون معجزة نبينا من جنس البلاغة أيضًا أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله أيضًا، لأنهم يبلغون فيه الدرجة العليا فيقفون فيه على الحد الذي يمكن للبشر الوصول إليه، فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحد المذكور علموا أنه من عند اللّه، وذلك كالسحر في زمن موسى عليه السلام فإنه كان غالبًا على أهله وكاملين فيه، ولما علم السحرة الكملة أن حد السحر تخييل لما لا ثبوت له حقيقة ثم رأوا عصاه انقلبت ثعبانًا يتلقف سحرهم الذي كانوا يقلبونه من الحق الثابت إلى المتخيل الباطل من غير أن يزداد حجمها، علموا أنه خارج عن السحر ومعجزة من عند اللّه فآمنوا به‏.‏ وأما فرعون فلما كان قاصرًا في هذه الصناعة ظن أنه سحر أيضًا، وإن كان أعظم من سحر سحرته‏.‏ وكذا الطب لما كان غالبًا على أهل زمن عيسى عليه السلام، وكانوا كاملين فيه، فلما رأوا إحياء الميت وإبراء الأكمه علموا بعلمهم الكامل أنهما ليسا من حد الصناعة الطبية، بل هو من عند اللّه‏.‏ والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول عليه السلام إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديًا لمعارضتها كما تشهد به كتب السير، فلما أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بما عجز عن مثله جميع البلغاء عُلم أن ذلك من عند اللّه قطعًا‏.‏

‏(‏الفائدة الثانية‏)‏ نزول القرآن منجمًا ومفرقًا ولم ينزل دفعة واحدة بوجوه‏:‏ ‏(‏أحدها‏)‏ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن من أهل القراءة، فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه، ولجاز عليه السهو‏.‏ ‏(‏وثانيًا‏)‏ أنه لو أنزل عليه الكتاب دفعة فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ، فلما أنزل اللّه منجمًا حفظه وبقي سنة الحفظ في أمته‏.‏ ‏(‏وثالثها‏)‏ في صورة نزول الكتاب دفعة لو كان نزول جميع الأحكام دفعة واحدة على الخلق لكان يثقل عليهم ذلك، ولما نزل مفرقًا لا جرم نزلت التكاليف قليلًا قليلًا، فكان تحملها أسهل، كما روي عن بعض الصحابة أنه قال‏:‏ لقد أحسن اللّه إلينا كل الإحسان، كنا مشركين فلو جاءنا رسول اللّه بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة فلما قبلناها وذقنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة إلى أن تم الدين وكملت الشريعة‏.‏ ‏(‏ورابعها‏)‏ أنه إذا شاهد جبريل حالًا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة، وعلى احتمال أذية القوم‏.‏ ‏(‏وخامسها‏)‏ أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجمًا ثبت كونه معجز، فإنهم لو قدروا لوجب أن يأتوا بمثله منجمًا مفرقًا‏.‏ ‏(‏وسادسها‏)‏ كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم، فكانوا يزدادون بصيرة، لأن الإخبار عن العيوب كان ينضم بسبب ذلك إلى الفصاحة‏.‏ ‏(‏وسابعها‏)‏ أن القرآن لما نزل منجمًا مفرقًا وتحداهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن، فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة‏.‏ ‏(‏وثامنها‏)‏ أن السفارة بين اللّه وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إليهم منصب عظيم، فلو نزل القرآن دفعة واحدة كان زوال هذا المنصب عن جبريل عليه السلام محتملًا‏.‏ فلما نزل مفرقًا منجمًا بقي ذلك المنصب العظيم عليه‏.‏

‏(‏الفائدة الثالثة‏)‏ سبب تكرار بيان التوحيد وحال القيامة وقصص الأنبياء في مواضع أن العرب كانوا مشركين وثنيين ينكرون هذه الأشياء، وغير العرب بعضهم مثل أهل الهند والصين والمجوس كانوا مثل العرب في الإنكار، وبعضهم كأهل التثليث كانوا في الإفراط والتفريط في اعتقاد هذه الأشياء، فلأجل التقرير والتأكيد كرر بيان هذه الأشياء‏.‏ ولتكرار القصص أسباب أخر أيضًا، منها‏:‏ أن إعجاز القرآن لما كان باعتبار البلاغة أيضًا وكان التحدي بهذا الاعتبار فكررت القصص بعبارات مختلفة إيجازًا وإطنابًا مع حفظ الدرجة العليا للبلاغة في كل مرتبة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر، لأن هذا الأمر عند البلغاء خارج عن القدرة البشرية‏.‏ ومنها أنه كان لهم أن يقولوا إن الألفاظ الفصيحة التي كانت مناسبة لهذه القصص استعملتها وما بقيت الألفاظ الأخرى مناسبة لها، وأن يقولوا إن طريق كل بليغ يخالف طريق الآخر، فبعضهم يقدر على الطريق المطنب، وبعضهم يقدر على الموجز فلا يلزم من عدم القدرة على نوع عدم القدرة مطلقًا‏.‏ أو أن يقولوا إن دائرة البلاغة ضيقة في بيان القصص وما صدر عنك بيانها مرة محمول على البخت والاتفاق فلما كررت القصص إيجازًا وإطنابًا لم يبق عذر من هذه الأعذار الثلاثة‏.‏ ومنها أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يضيق صدره بإيذاء القوم وشرهم كما أخبر اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ فيقص اللّه قصة من قصص الأنبياء مناسبة لحاله في ذلك الوقت لتثبيت قلبه، كما أخبر اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏‏.‏ ومنها أن المسلمين كان يحصل لهم الإيذاء من أيدي الكفار، أو أن قومًا كانوا يسلمون، أو أن الكفار كان المقصود تنبيههم فكان اللّه ينزل في كل موضع من هذه القصص ما يناسبه، لأن حال السلف تكون عبرة للخلف‏.‏ ومنها أن القصة الواحدة قد تشتمل على أمور كثيرة فتذكر تارةً وتقصد بها بعض الأمور قصدًا، وبعضها تبعًا وتعكس مرة أخرى ‏.‏ والحق أنها لا تملك من مقومات الدولة أي شيء فما زالت تعيش على إعانات بعض الدول الأجنبية في فزع ورعب دائم‏.‏‏.‏ وعن قريب سيطردها العرب من أرضهم شر طردة ولن يلتئم لهم شمل، ولن يتنصر لهم جيش وسيهزم الجمع ويولون الدبر ‏{‏وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده‏}‏‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في رفع شبهات القسيسين على القرآن

‏(‏الشبهة الأولى‏)‏ لا نسلم بأن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة، ولو سلمنا بذلك فهو يكون دليلًا ناقصًا على الإعجاز، لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلسان العرب، ويلزم أن تكون جميع الكتب التي توجد في الألسن الأخرى مثل اليوناني واللاطيني وغيرهما في الدرجة العالية من بلاغة كلام اللّه، على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى‏.‏

‏(‏والجواب‏)‏ عدم تسليم كون عبارة القرآن في الدرجة العليا - مكابرة محضة، لما عرفت في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، وقولهم لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة حقة بلسان العرب، لكن التقريب غير تام لأن هذه المعجزة لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوا واعترفوا بها وعرفها أهل اللسان بسليقتهم وغيرهم من العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام وعرفها العوام من الفرق بشهادة ألوف ألوف من أهل اللسان والعلماء، فظهر أنها معجزة يقينًا، ودليل كامل لا ناقص كما زعموا، وصارت سببًا من الأسباب الكثيرة التي يعلم بها أن القرآن كلام اللّه ولا يدعي أهل الإسلام أن سبب كون القرآن كلام اللّه منحصر في كونه بليغًا فقط وكذا لا يدعون أن معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم منحصرة في بلاغة القرآن فقط بل يدعون إن هذه البلاغة سبب من الأسباب الكثيرة لكون القرآن كلام اللّه، وأن القرآن بهذا الاعتبار أيضًا معجزة من المعجزات الكثيرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما عرفت في الفصل الأول، وستعرف في الباب السادس إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وهذه المعجزة ظاهرة في هذا الزمان أيضًا لألوف ألوف من أهل اللسان وماهري علم البيان، وعجز المخالفين ثابت من ظهورها إلى هذا الحين وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين من الهجرة، وقد عرفت في الأمر الثاني من الفصل الأول أن قول النظام مردود وما قال أبو موسى الملقب بمزدار راهب المعتزلة من أن الناس قادرون على مثل هذا القرآن فصاحة ونظمًا وبلاغة فهو مردود أيضًا كقول النظام، على أن مزدار هذا كان رجلًا مجنونًا استولت على دماغه اليبوسة بسبب كثرة الرياضة فهذى بأمثال هذه الهذيات كثيرًا فكان يقول مثلًا إن اللّه قادر على أن يكذب ويظلم ولو فعل لكان إلهًا كاذبًا ظالمًا وإن من لابس السلطان كافر لا يرث ولا يورث، وقوله يلزم أن يكون جميع الكتب إلخ غير مسلم، لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي مر ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول، ولم يثبت ادعاء مصنفيها بالإعجاز، ولا عجز فصحاء هذه الألسن عن معارضتها‏.‏ فإن ادعى أحد هذه الأمور بالنسبة إلى هذه الكتب فعليه الإثبات‏.‏ وإلا فلا بد أن يمتنع عن مثل هذا الادعاء الباطل‏.‏

على أن شهادة بعض المسيحيين في حق الكتب المذكورة بأنها في هذه الألسن مثل القرآن في اللسان العربي في الدرجة العليا من البلاغة غير مقبولة، لأنهم إذا لم يكونوا من أهل اللسان فلا يميزون غالبًا في لسان الغير بين المذكر والمؤنث، ولا بين المفرد والتثنية والجمع ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور، فضلًا عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ وعدم تميزهم هذا لا يختص بالعربي، بل فيه وفي العبراني واليوناني واللاطيني على طريقة واحدة، ومنشأ عدم التمييز سذاجة كلامهم سيما إذا كان هذا البعض من أهل إنكلترة فإنهم يشاركون في هذه السذاجة غيرهم من المسيحيين ويمتازون عنهم بعادة أخرى أيضًا، وهي أنهم إذا عرفوا ألفاظًا معدودة من لسان الغير يظنون أنهم تبحروا في المعرفة، وإذا تعلموا مسائل معدودة من علم يعدون أنفسهم من علماء هذا العلم، والفرنساويون واليونانيون طاعنون عليهم في هذه العادة‏.‏ ويشهد على الدعوى الأولى أن الأب سركيس الهاروني مطران الشام جمع بإذن البابا أربانوس الثامن كثيرًا من القسيسين والرهبان والعلماء ومعلمي اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها ليصلحوا الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة والنقصانات الغزيرة فاجتهدوا في هذا الباب اجتهادًا تامًا في سنة ألف وستمائة وخمس وعشرين من الميلاد فأصلحوا، لكنه لما بقيت بعد الإصلاح التام في تراجمهم النقصانات التي هي لازمة لسجية المسيحيين اعتذروا عنه في المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة، وإني أنقل عذرهم عن المقدمة المذكورة بعبارتهم وألفاظهم وهي هذه‏:‏ ‏(‏ثم إنك في هذا النقل تجد شيئًا من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضاد لها كالجنس المذكر بدل المؤنث، والعدد المفرد بدل الجمع، والجمع بدل المثنى والرفع مكان الجر والنصب في الاسم والجزم في الفعل وزيادة الحروف عوض الحركات وما يشابه ذلك، فكان سببًا لهذا كله سذاجة كلام المسيحيين فصار لهم نوع تلك اللغة مخصوصًا، ولكن ليس في اللسان العربي فقط، بل في اللاطيني واليوناني والعبراني تغافلت الأنبياء والرسل والآباء الأولون عن قياس الكلام، لأنه لم يرد روح القدس أن نقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود الضيقة التي حددتها الفرائض فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة‏)‏ انتهى كلامهم‏.‏

ويشهد على الدعوى الثانية أن أبا طالب خان السياح ألف كتابًا باللسان الفارسي سماه بـ ‏(‏المسير الطالبي‏)‏ وهو مشتمل على أحوال سياحته، وكتب فيه من حالات كل إقليم ساح فيه ما رأى فيه من المحاسن والذمائم، فكتب محاسن أهل إنكلترة وذمائمهم، وإني أترجم الذميمة الثامنة من كتابه لتعلق الحاجة بها في هذا المقام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الثامنة‏)‏ خطؤهم في معرفة حد العلوم ولسان الغير، لأنهم يحسبون أنفسهم عارفي كل لسان ومن أهل كل علم إذا عرفوا ألفاظًا معدودة من ذلك اللسان أو مسائل معدودة من ذلك العلم ويؤلفون الكتب فيهما وينشرون هذه المزخرفات بعد الطبع، ووقفت على هذا المعنى بشهادة الفرنساويين واليونانيين لأن تحصيل ألسنتهم رائج في أهل إنكلترة، وحصل لي اليقين بمشاهدة تصرفاتهم في اللسان الفارسي‏)‏ انتهى، ثم قال‏:‏ ‏(‏اجتمع في لندن الكتب الكثيرة من هذا النوع بحيث كادت تبقى الكتب الحقة بعد برهة من الزمان غير مميزة‏)‏، انتهى كلامه‏.‏ وقولهم على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة إلخ -لا ورود له في حق القرآن، لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر هذه الأمور السبعة والعشرين، ولا تجد آية طويلة فيه تكون خالية من ذكر أمر من هذه الأمور‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ الصفات الكاملة الإلهية مثل كونه واحدًا وقديمًا وأزليًا وأبديًا وقادرًا وعالمًا وسميعًا وبصيرًا ومتكلمًا وحكيمًا وخبيرًا وخالق السماوات والأرض ورحيمًا ورحمانًا وصبورًا وعادلًا وقدوسًا ومحييًا ومميتًا وغيرها‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏ تنزيه اللّه عن المعايب والنقائص مثل الحدوث والعجز والجهل والظلم وغيرها‏.‏ ‏(‏الثالث‏)‏ الدعوة إلى التوحيد الخالص والمنع عن الشرك مطلقًا وعن التثليث الذي هو شعبة الشرك يقينًا كما علمت في الباب الرابع‏.‏ ‏(‏الرابع‏)‏ ذكر الأنبياء عليهم السلام‏.‏ ‏(‏الخامس‏)‏ تنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها‏.‏ ‏(‏السادس‏)‏ مدح المؤمنين بالأنبياء‏.‏ ‏(‏السابع‏)‏ ذم منكريهم‏.‏ ‏(‏الثامن‏)‏ تأكيد الإيمان بالأنبياء عمومًا وبالمسيح خصوصًا‏.‏ ‏(‏التاسع‏)‏ الوعد بأن المؤمنين يغلبون المنكرين عاقبة الأمر‏.‏ ‏(‏العاشر‏)‏ حقيقة القيامة وجزاء الأعمال في يومها‏.‏ ‏(‏الحادي عشر‏)‏ ذكر الجنة والنار‏.‏ ‏(‏الثاني عشر‏)‏ ذم الدنيا وبيان عدم ثباتها‏.‏ ‏(‏الثالث عشر‏)‏ مدح العقبى وبيان ثباتها‏.‏ ‏(‏الرابع عشر‏)‏ بيان حل الأشياء وحرمتها‏.‏ ‏(‏الخامس عشر‏)‏ بيان أحكام تدبير المنزل‏.‏ ‏(‏السادس عشر‏)‏ بيان أحكام سياسات المدن‏.‏ ‏(‏السابع عشر‏)‏ التحريض على محبة اللّه وأهل اللّه‏.‏ ‏(‏الثامن عشر‏)‏ بيان الأشياء التي هي ذريعة الوصول إلى اللّه‏.‏ ‏(‏التاسع عشر‏)‏ الزجر عن مصاحبة الفجار والفساق‏.‏ ‏(‏العشرون‏)‏ تأكيد خلوص النية في العبادات البدنية والمالية‏.‏ ‏(‏الحادي والعشرون‏)‏ التهديد على الرياء والسمعة‏.‏ ‏(‏الثاني والعشرون‏)‏ التأكيد على تهذيب الأخلاق بالإجمال والتفصيل‏.‏ ‏(‏الثالث والعشرون‏)‏ التهديد على الأخلاق الذميمة بالإجمال‏.‏ ‏(‏الرابع والعشرون‏)‏ مدح الأخلاق الحسنة، مثل الحلم والتواضع والكرم والشجاعة والعفة وغيرها‏.‏ ‏(‏الخامس والعشرون‏)‏ ذم الأخلاق القبيحة مثل الغضب والتكبر والبخل والجبن والظلم وغيرها‏.‏ ‏(‏السادس والعشرون‏)‏ وعظ التقوى‏.‏ ‏(‏السابع والعشرون‏)‏ الترغيب إلى ذكر اللّه وعبادته، ولا شك أن هذه الأمور محمودة عقلًا ونقلًا، وجاء ذكر هذه الأمور في القرآن مرارًا للتأكيد، والتقرير، ولو كانت هذه المضامين قبيحة فأي مضمون يكون حسنًا‏.‏

نعم لا يوجد في القرآن‏:‏ -‏[‏1‏]‏ أن النبي الفلاني زنى بابنته‏.‏ -‏[‏2‏]‏ أو زنى بزوجة الغير وقتله بالحيلة‏.‏ -‏[‏3‏]‏ أوعبد العجل‏.‏ -‏[‏4‏]‏ أو ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى المعابد لها‏.‏ -‏[‏5‏]‏ أو افترى على اللّه الكذب، وكذب في التبليغ وخدع بكذبه نبيًا آخر مسكينًا وألقاه في غضب الرب‏.‏ -‏[‏6‏]‏ أو أن داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد ولد الزنا وهو فارض بن يهودا‏.‏ -‏[‏7‏]‏ أو أن الرسول الأعظم ابن اللّه البكر أبا الأنبياء زنى ابنه الأكبر بزوجة أبيه‏.‏ -‏[‏8‏]‏ وابنه الثاني بزوجة ابنه، وسمع هذا النبي العظيم الشأن ما صدر عن ابنيه المحبوبين وما أجرى عليهما الحد، غير أنه دعا على الأكبر وقت موته لأجل هذه الحركة الشنيعة ولم ينقل في حق الآخر الغضب أيضًا، بل دعا له بالبركة التامة عند الموت‏.‏ -‏[‏9‏]‏ أو أن الرسول العظيم الآخر البكر الثاني أيضًا الزاني بزوجة الغير زنى ابنه الحبيب ببنته الحبيبة وسمع، وما أجرى عليهما الحد لعله امتنع عن الحد لأنه كان مبتلى بالزنا أيضًا في زعمهم، فكيف يجري على الغير سيما على أولاده وهذا القدر مسلم بين اليهود والنصارى ومصرح به في كتب العهد العتيق المسلمة عند الفريقين‏.‏ -‏[‏10‏]‏ أو أن يحيى عليه السلام الرسول الذي هو أعظم الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام وإن كان الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه بشهادة عيسى عليه السلام أيضًا لم يعرف إلهه الثاني ومرسله الذي هو عيسى باعتبار العلاقة المجهولة معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريدًا لعبده هذا وما لم يحصل الاصطباغ منه وما لم ينزل على هذا الإله الثاني الإله الثالث في شكل الحمامة، وبعد ما رأى نزول الثالث على الثاني في الشكل المذكور تذكر أمر الإله الأول الأب أن الإله الثاني هو ربه ومالكه وخالق الأرض والسماوات‏.‏ -‏[‏11‏]‏ أو أن الرسول الآخر السارق الذي كان عنده الكيس للسرقة أعني يهود الأسخريوطي الذي هو صاحب الكرامات والمعجزات وأحد الحواريين الذين هم أعلى منزلة من موسى بن عمران وسائر الأنبياء الإسرائيلية على زعمهم باع دينه بدنياه بثلاثين درهمًا، ورضي بتسليم إلهه بأيدي اليهود على هذه المنفعة القليلة حتى أخذوا إلهه وصلبوه لعل هذه المنفعة كانت عظيمة عنده، لأنه كان صيادًا مفلوكًا لصًا، وإن كان رسولًا صاحب معجزات أيضًا على زعمهم فثلاثون درهمًا عنده كانت أحب وأعظم رتبة من هذا الإله المصلوب‏.‏ -‏[‏12‏]‏ أو أن قيافا رئيس الكهنة الذي ثبتت نبوته بشهادة يوحنا الإنجيلي أفتى بقتل إلهه وكذبه وكفره وأهانه ووقع في حق هذا الإله المصلوب ثلاثة أمور عجيبة من ثلاثة أنبياء عدد التثليث أن اعظم أنبيائه الإسرائيلية لم يعرفه معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريدًا له ولم ينزل عليه الإله الثالث في شكل الحمامة، وأن نبيه الثاني رضي بتسليمه ورجح منفعة ثلاثين درهمًا منزلة ألوهيته ووعده، وأن رسوله الثالث أفتى بقتله وكذبه وكفره أعاذنا اللّه من أمثال هذه الاعتقادات السوء في حق الأنبياء عليهم السلام‏.‏ ولا يؤاخذني على ما نقلت هذه المزخرفات على سبيل الإلزام واللّه ثم باللّه لا أعتقد في حق الأنبياء هذه الكذبات وهم بريئون منها، وأقول القدر الذي نقلت من حال يحيى عليه السلام إلى حال قيافا مصرح به في العهد الجديد‏.‏

وكذا لا يوجد في القرآن هذه المسائل الفخيمة التي عجزت في أكثرها عقولنا، بل عقول العالم ويعتقدها الفرقة القديمة العظيمة الشأن، أعني فرقة كاثلك التي عددها بحسب ادعاء بعض آبائها في هذا الزمان أيضًا بقدر مائتي مليون‏.‏ -‏[‏1‏]‏ إن مريم عليها السلام قد حبلت بها أمها بلا قرب الزوج كما انكشفت هذه الحقيقة على البابويين من مدة قريبة‏.‏ ومثل ‏[‏2‏]‏ أن مريم والدة اللّه حقيقة‏.‏ ومثل ‏[‏3‏]‏ أن كل خبز من الخبزات وإن كانت بمقدار مليونات غير متعددة يستحيل في العشاء الرباني في آن واحد في أمكنة مختلفة إلى المسيح الكامل بلاهوته وناسوته الذي تولد من العذراء إذا فرض أن مليونات من الكهنة في أطراف العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا قدسوا في آن واحد‏.‏ ومثل ‏[‏4‏]‏ أن خبزًا واحدًا إذا كسره الكاهن ولو إلى مائة ألف كسرة يصير كل كسرة منه أيضًا مسيحًا كاملًا وإن كان وجود الحبوب ثم الطحن ثم العجن ثم وجود الخبز ثم الكسرة كلها من الحوادث بمشاهدة فتعطل حكم الحبس عندهم في هذه الأمور كلها‏.‏ ومثل ‏[‏5‏]‏ أنه لا بد أن يصطنع الصورة والتماثيل ويسجد قدامهن‏.‏ ومثل ‏[‏6‏]‏ أنه لا خلاص بدون الإيمان بالبابا وإن كان غير صالح في نفس الأمر‏.‏

ومثل ‏[‏7‏]‏ أن أسقف رومية هو البابا دون غيره وهو رأس الكنيسة ومعصوم من الغلط، وأن ‏[‏8‏]‏ كنيسة رومية هي أم الكنائس كلها ومعلمتها‏.‏ ومثل ‏[‏9‏]‏ أن للبابا ولمتعلقيه خزانة من قدر جزيل من استحقاقات القديسين أن يمنحوا الغفرانات سيما إذا استوفوا ثمنًا وافيًا لأجلها كما هو المروج عندهم‏.‏ ومثل ‏[‏10‏]‏ أن البابا له منصب تحليل الحرام وتحريم الحلال‏.‏ قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء بروتستنت في الصفحة 66 من كتابه المسمى بأجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليديين المطبوع سنة 1852 في بيروت هذا‏:‏ ‏(‏والآن تراهم يزوجون العم بابنة أخيه، والخال بابنة أخته، والرجل بامرأة أخيه ذات الأولاد خلافًا لتعليم الكتب المقدسة ولمجامعهم المعصومة‏.‏ وقد أضحت هذه المحرمات حلالًا عند أخذهم الدراهم عليها، وكم من التحديدات وضعوها على الإكليريكيين بتحريم الزيجة الناموسية المأمور بها من رب الشريعة‏)‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏وكم حرموا أصناف الأطعمة ثم أباحوا ما حرموه، وفي عصرنا أباحوا أكل اللحوم في صومهم الكبير الذي طالما شددوا بتحريهما فيه‏)‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏ وفي الرسالة الثانية من كتاب الثلاث عشرة رسالة في الصفحة 88‏:‏

‏(‏فرنسيس ذابادلا الكردينال يقول‏:‏ إن البابا مأذون أن يعمل ما يريد حتى ما لا يحل أيضًا، وهو أكبر من اللّه سبحان اللّه عما يصفون‏)‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏

ومثل ‏[‏11‏]‏ أن أنفس الصديقين تتوجه إلى العذاب في المطهر وتتقلب في نيرانه حتى يمنحها البابا الغفران أو يخلصها القسوس بقداساتهم بعد استيلائهم على أثمانها، وهو غير جهنم‏.‏ وأهل هذه يحصلون السندات من نواب البابا وخلفائه لتحصيل النجاة من عذابه‏.‏ لكن العجب من هؤلاء العقلاء أنهم إذا اشتروا سندات من خليفة اللّه النافذ أمره في الأرض والسماء فلم لا يطلبون منه وصولات ممضية بختم الذين أعتقهم من العذاب، ولما كانت قدرة الباباوات تزيد يومًا فيومًا بفيض روح القدس اخترع البابا لاون العاشر للمغفرة تذاكر تعطى منه أو من وكيله للمشتري بمغفرة خطاياه الماضية والمستقبلة أيضًا، وكان مكتوبًا فيها هكذا‏:‏ ‏(‏ربنا يسوع المسيح يرحمك ويعفو عنك باستحقاقات آلامه المقدسة‏.‏ وبعد فقد وهب لي بقدرة سلطان رسله بطرس وبولس والبابا الجليل في هذه النواحي أن أغفر لك أولًا عيوبك الاكليروسية مهما كانت ثم خطاياك ونقائصك مهما كانت تفوت الإحصاء، بل أيضًا الخطايا المحفوظ حلها للبابا، وبقدر امتداد مفاتيح الكنيسة الرومانية أغفر لك كل العذابات التي سوف تستحقها في المطهر وأردك إلى أسرار الكنيسة المقدسة وإلى اتحادها وإلى ما كنت حاصلًا عليه عند عمادك من العفة والطهارة حتى أنك متى مت تغلق في وجهك أبواب العذابات وتفتح لك أبواب الفردوس وإن لم تمت الآن فهي باقية لك بفاعلية تامة إلى آخر ساعة موتك باسم الأب والابن والروح القدس آمين‏)‏ كتب بيد الأخ يوحنا تنزل الوكيل الثاني‏.‏ ومثل ‏[‏12‏]‏ أن مسافة جهنم فراغ مكعب في قلب الأرض كل من أضلاعه مائتا ميل‏.‏ ومثل ‏[‏13‏]‏ أن البابا يرسم الصليب على نعليه وغيره على وجهه لعل نعلي البابا ليسا أدون من الصليب ومن وجوه الأساقفة الآخرين‏.‏ ومثل ‏[‏14‏]‏ أن بعض القديسين وجهه كوجه الكلب وجسده كجسد الإنسان، وهو يشفع لهم عند اللّه‏.‏ قال المعلم المذكور في الصفحة 114 من كتابه المذكور طاعنًا على تلك الفرقة أو الكتابة‏:‏ ‏(‏وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق اللّه مثلها، كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس ويقدمون له أنواع العبادة إذ يلقبونه ويسجدون أمامه ويشعلون له الشموع ويطلقون البخور ويلتمسون شفاعته، فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل النطقي والقداسة في أدمغة الكلاب‏؟‏ أي هي من عصمة كنائسهم من الغلط‏؟‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏

وهذا القول هل يليق بالمسيحيين الخ صادق يقينًا، وهذا القديس مشابه لبعض قديسي مشركي الهند، ولعل محبة المسيحيين من أهل أوربا للكلاب لأجل كونها على صورة هذا القديس المكرم‏.‏

ومثل ‏[‏15‏]‏ أن خشبة الصليب وتصاوير الأب الأزلي والابن والروح القدس يسجد لها بالسجود الحقيقي العبادي وأن صور القديسين يسجد لها بالسجود الإكرامي، وإني متحير ما معنى استحقاق الأشياء الأولية للسجود العبادي، لأن تعظيمهم لخشبة الصليب لا يخلو إما أن يكون مثلها قد مس جسد المسيح، وهو ارتفع عليه بحسب زعمهم، وإما لأجل أنها واسطة فداء، وإما لأجل أن دمه سال عليه‏.‏ فإن كان الأول يلزم أن يكون نوع الحمير معبودًا لهم أعلى من الصليب عندهم، لأن المسيح عليه السلام ركب على الأتان والجحش ومساجد المسيح وكانا موضوعي راحته ودخوله ممجدًا إلى أورشليم، والحمار يشارك الإنسان في الجنس القريب والحيوانية، فهو جسم نام حساس متحرك بالإرداة بخلاف الخشب الذي ليست له قدرة الحس والحركة‏.‏ وإن كان الثاني فيهودا الاسخريوطي الدافع أحق بالتعظيم لأنه الواسطة الأولى والذريعة الكبرى للفداء، فإنه لولا تسليمه لما أمكن لليهود مسك المسيح وصلبه، ولأنه مساوٍ للمسيح عليه السلام في الإنسانية وعلى صورة الإنسان الذي هو صورة اللّه، وكان ممتلئًا بروح القدس صاحب الكرامات والمعجزات فالعجب أن هذه الواسطة الأولى عندهم ملعونة والصغرى مباركة معظمة‏.‏ وأما الثالث فلأن الشوك المضفور إكليلًا على رأس المسيح عليه السلام قد فاز أيضًا بالمنصب الأعلى، وهو سيلان الدم عليه فما باله لا يعظم ولا يعبد ويشعل بالنار، وهذا الخشب يعبد إلا أن يقولوا إن هذا سر مثل سر التثليث والاستحالة خارج عن إدراك العقول البشرية وأفحش منه تعظيم صورة أقنوم الأب، لأنك قد عرفت في الأمر الثالث والرابع من مقدمة الباب الرابع أن اللّه بريء من الشبه وما رآه أحد ولا يقدر أن يراه أحد في الدنيا فإذا كان كذلك فأي أب من آبائهم رآه فصوره‏؟‏ ومن أين علموا أن هذه الصورة مطابقة لصورته تعالى وليست مطابقة لصورة شيطان من الشياطين، أو لصورة كافر من الكفار‏؟‏ ولم لا تعبدون كل إنسان سواء أكان مسلمًا أم كافرًا لأن الإنسان على صورة اللّه بحسب نص التوراة‏.‏ والعجب أن البابا يسجد لهذه الصورة الوهمية الجمادية التي لا حس ولا حركة لها ويحقر صورة اللّه التي هي الإنسان ويمد رجله لذلك الإنسان لكي يقبل حذاءه وما ظهر لي فرق بين هؤلاء أهل الكتاب ومشركي الهند وجدت عوامهم كعوامهم وخواصهم كخواصهم في هذه العبادة وعلماء مشركي الهند يقولون مثل قول علمائهم في الاعتذار‏.‏ ومثل ‏[‏16‏]‏ أن البابا هو القاضي الأعلى في الحكم على تفسير معاني الكتب واخترعت هذه العقيدة في الأجيال المتأخرة وإلا لما قدر اكستاين وفم الذهب وغيرهما من القدماء الذين لم يكونوا باباوات ولم يستأذنوهم أن يفسروا جميع الكتب المقدسة من تلقاء أنفسهم، وتفاسيرهم قبلت عند جميع كنائس عصرهم لعل الباباوات حصل لهم هذا القضاء الأعلى بمطالعة تفاسيرهم بعد ما صنفوها‏.‏ ومثل ‏[‏17‏]‏ أن الأساقفة والشمامسة ممنوعون من الزواج، ولذلك يفعلون ما لا يفعله المتزوجون، وقاوم في كثير من الأحيان بعض معلميهم اجتهاد الباباوات فأنقل بعض أقوالهم عن كتاب الثلاث عشرة رسالة في الرسالة الثالثة في الصفحة 144 و 145‏:‏

القديس برنردوس يقول - وعظ عدد 66 في نشيد الإنشاد‏:‏ نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس فملؤها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الإدناس‏.‏ والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفًا في بلاد البورتكال سنة 1300 يقول‏:‏ يا ليت إن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة ولا سيما أكليروس سبانيا لأن أبناء الرعية هناك أكثر عددًا بيسير من أبناء الكهنوت، ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر كتب أنه وجد قسوسًا قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا‏.‏ انتهى كلامه بلفظه ملخصًا‏.‏ وكيف يعتقد العصمة في حقهم إذا كانوا شابين شاربي الخمر وما نجا روبيل ابن يعقوب عليه السلام فزنى ببلهاء سرية أبيه، ولا يهوذا بن يعقوب عليه السلام فزنى بزوجة ابنه، ولا داود عليه السلام فزنى بزوجة أوريا مع كونه ذا زوجات كثيرة ولا لوط عليه السلام فزنى في حالة خمار الخمر بابنتيه، وهكذا‏.‏ فإذا كان حال الأنبياء وأبنائهم على عقائدهم هكذا فكيف يرجى منهم العصمة، بل الحق أن الفاروس بيلاجيوس ويوحنا صادقان في أن أبناء الرعية هناك أكثر عددًا بيسير من أبناء الكهنوت، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا‏.‏

وأمثال هذه المسائل كثيرة أطوي الكشح عن بيانها خوفًا من التطويل‏.‏ فأقول‏:‏

لعل هذه المضامين العالية التي نقلتها وأمثالها لو وجدوها في القرآن لاعترفوا بأنه كلام اللّه وقبلوه، لكنهم لما وجدوه خاليًا منها ومن أمثالها فكيف يعترفون ويقبلون لأن المضامين الحسنة المألوفة عندهم هي هذه المضامين وأمثالها، لا المضامين التي ذكرت في القرآن‏.‏ وأما بعض المضامين التي توجد في القرآن في ذكر الجنة والنار وغيرهما ويزعمون أنها قبيحة فأذكرها إن شاء اللّه تعالى في الشبهة الثالثة بأجوبتها فانتظر‏.‏‏

‏(‏الشبهة الثانية‏)‏ أن القرآن مخالف لكتب العهد العتيق والجديد في مواضع، فلا يكون كلام اللّه‏.‏

والجواب‏:‏ أولًا - أن هذه الكتب لما لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها وكذا لم يثبت أن كل كتاب منها إلهامي قد ثبت أنها مختلفة اختلافًا معنويًا في مواضع كثيرة ومملوءة بالأغلاط الكثيرة يقينًا - كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول - وقد ثبت التحريف فيها أيضًا كما عرفت في الباب الثاني فلا تضر مخالفتها القرآن في المواضع المذكورة، بل تكون دليلًا على كون المواضع المذكورة غلطًا أو محرفة في الكتب المذكورة كسائر الأغلاط والتحريفات التي عرفتها في البابين الأولين، وقد عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من هذا الباب أن هذه المخالفة قصدية لأجل التنبيه على أن ما خالف القرآن غلط أو محرف لا أنها سهوية‏.‏ ‏(‏والجواب الثاني‏)‏ أن المخالفة التي بين القرآن وبين كتب العهدين في ذم القسيسين على ثلاثة أنواع‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ باعتبار الأحكام المنسوخة‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن لا يوجد ذكرها في العهدين‏.‏ ‏(‏والثالث‏)‏ باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن يخالف بيان هذه الكتب، ولا مجال لهم أن يطعنوا على القرآن باعتبار هذه الأنواع‏.‏

‏(‏أما الأول‏)‏ فلأنك قد عرفت في الباب السادس بما لا مزيد عليه أن النسخ لا يختص بالقرآن، بل وجد في الشرائع السابقة بالكثرة، وأنه لا استحالة فيه، وأن الشريعة العيسوية نسخت جميع أحكام التوراة إلا تسعة أحكام من الأحكام العشرة المشهورة، وقد وقع فيها التكميل أيضًا على زعمهم، والتكميل أيضًا نوع من أنواع النسخ، فصارت هذه الأحكام أيضًا منسوخة بهذا الوجه فبعد ذلك ليس من شأن المسيحي العاقل أن يطعن على القرآن باعتبار هذا النوع‏.‏

‏(‏وأما الثاني‏)‏ فهو كالأول أيضًا، وشواهده كثيرة أكتفي منها على ثلاثة عشر شاهدًا‏:‏‏

‏(‏الشاهد الأول‏)‏ الآية التاسعة من رسالة يهودا هكذا‏:‏ ‏(‏وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجًا عن جسد موسى لم يجسر أن يورد حكم افتراء، بل قال لينتهرك الرب‏)‏ فمخاصمة ميخائيل إبليس عن جسد موسى لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق‏.‏‏ ‏(‏الشاهد الثاني‏)‏ ثم في تلك الرسالة هكذا 14‏:‏ ‏(‏وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلًا‏:‏ هو ذا قد جاء الرب في ربوات قديسية‏)‏ 15 ‏(‏ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاط فجار‏)‏ ولا أثر لهذا الخبر أيضًا في كتاب من كتب العهد العتيق‏.‏ ‏(‏الشاهد الثالث‏)‏ الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني عشر من الرسالة العبرانية هكذا‏:‏ ‏(‏وكان المنظر هكذا مخيفًا حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد‏)‏، وهذا الحال مذكور في الباب التاسع عشر من سفر الخروج، لكن لا توجد فيه ولا في كتاب من كتب العهد العتيق هذه الفقرة‏:‏ ‏(‏حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد‏)‏‏.‏‏ ‏)‏الشاهد الرابع‏)‏ الآية الثامنة من الباب الثالث من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس هكذا‏:‏ ‏(‏وكما قاوم ينيس ويمبريس موسى‏)‏ إلخ، وهذا الحال مذكور في الباب السابع من سفر الخروج ولا أثر لهذين الاسمين في هذا الباب ولا في باب آخر ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق‏.‏‏ ‏(‏الشاهد الخامس‏)‏ الآية السادسة من الباب الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا‏:‏ ‏(‏وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا‏)‏ ولا يوجد لهذا أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة، ولا في كتاب أعمال الحواريين مع أن لوقا أحرص الناس على تحرير أمثال هذه الأحوال‏.‏‏ ‏(‏الشاهد السادس‏)‏ في الآية الخامسة والثلاثين من الباب العشرين من كتاب الأعمال هكذا‏:‏ ‏(‏متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ‏)‏، وهذا القول لا يوجد له أثر في إنجيل من الأناجيل الأربعة‏.‏

‏(‏الشاهد السابع‏)‏ الأسماء التي ذكرت في الباب الأول من إنجيل متى بعد زربابل لا توجد في كتاب من كتب العهد العتيق‏.‏ ‏‏(‏الشاهد الثامن‏)‏ في الباب السابع من كتاب الأعمال هكذا‏:‏ 23 ‏(‏ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل‏)‏‏.‏ 24‏:‏ ‏(‏وإذا رأى واحدًا مظلومًا حامى عنه وأنصف المغلوب إذ قتل المصري‏)‏‏.‏ 25‏:‏ ‏(‏فظن أن إخوته يفهمون أن اللّه على يده يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا‏)‏‏.‏ 26‏:‏ ‏(‏وفي اليوم الثاني ظهر لهم وهم يتخاصمون فساقهم إلى السلامة قائلًا‏:‏ أيها الرجال أنتم أخوة لماذا تظلمون بعضكم بعضًا‏)‏ 27‏:‏ ‏(‏فالذي كان يظلم قريبه دفعه قائلًا‏:‏ من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا‏)‏ 28‏:‏ ‏(‏أتريد أن تقتلني كما قتلت أمس المصري‏)‏، وهذا الحال مذكور في الباب الثاني من كتاب الخروج، لكن بعض الأشياء ذكرت في كتاب الأعمال وما جاء ذكرها في كتاب الخروج، وعبارة الخروج هكذا‏:‏‏ 11- وفي تلك الأيام لما شب موسى خرج إلى إخوته وأبصر تعبدهم ورأى رجلًا من أهل مصر يضرب رجلًا من إخوته العبرانيين‏)‏‏.‏ 12‏:‏ ‏(‏فالتفت إلى الجانبين فلم ير أحدًا‏.‏ فقتل المصري ودفنه في الرمل‏)‏ 13‏:‏ ‏(‏وأنه خرج من اليوم الثاني ونظر إلى رجلين عبرانيين يختصمان فقال للظالم منهما‏:‏ لم تضرب صاحبك‏؟‏‏)‏‏.‏ 14‏:‏ ‏(‏فقال له ذلك الرجل‏:‏ من جعلك سلطانًا علينا أو قاضيًا لعلك تريد قتلي كما بالأمس قتلت المصري‏)‏‏.‏‏ ‏(‏الشاهد التاسع‏)‏ الآية السادسة من رسالة يهودا هكذا‏:‏ ‏(‏والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام‏)‏‏.‏ ‏(‏الشاهد العاشر‏)‏ في الآية الرابعة من الباب الثاني من الرسالة الثانية لبطرس‏:‏ ‏(‏اللّه لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء‏)‏ وهذا الحال الذي نقله بطرس ويهودا الحواريان لا يوجد في كتاب من كتب العهد العتيق، بل الظاهر أنه كاذب لأن المراد بهؤلاء الملائكة المحبوسين الشياطين، والشياطين ليسوا بمحبوسين بقيود أبدية كما يشهد عليه الباب الأول من كتاب أيوب والآية الثانية عشرة من الباب الأول من إنجيل مرقس، والآية الثامنة من الباب الخامس من الرسالة الأولى لبطرس وغيرها من الآيات‏.‏‏ ‏(‏الشاهد الحادي عشر‏)‏ الآية الثامنة عشرة من الزبور المائة والرابع على وفق الترجمة العربية، ومن الزبور المائة والخامس على وفق التراجم الأخر هكذا‏:‏ ‏(‏وذلت بالقيود رجلاه وبالحديد عبرت نفسه‏)‏ وحال كون يوسف مسجوننا مذكور في الباب التاسع والثلاثين من سفر التكوين وليس ذلت رجليه بالقيود وعبرت نفسه بالحديد مذكورين فيه، ولا يلزم هذان الأمران للمسجون وإن كانا غالبين‏.‏‏ ‏(‏ الشاهد الثاني عشر‏)‏ في الآية الرابعة من الباب الثاني عشر من كتاب هوشع هكذا‏:‏ ‏(‏وغلب الملاك وتقوى وبكى وسأله‏)‏ إلخ وحال مصارعة الملك يعقوب مذكور في الباب الثاني والثلاثين من سفر التكوين ولا يوجد فيه بكاء يعقوب‏.‏‏ ‏(‏الشاهد الثالث عشر‏)‏ يوجد في الإنجيل ذكر الجنة والجحيم والقيامة وجزاء الأعمال فيها وإن كان بالإجمال، ولا أثر لهذا في الكتب الخمسة لموسى، بل لا يوجد فيها سوى المواعيد الدنيوية للمطيعين والتهديدات الدنيوية للعاصين‏.‏

وهكذا توجد مواضع كثيرة‏.‏ فظهر مما ذكرنا أنه إذا ذكر بعض الأحوال في كتاب ولا يوجد ذكره في الكتاب المتقدم لا يلزم منه تكذيب الكتاب المتأخر وإلا يلزم أن يكون الإنجيل كاذبًا لاشتماله على الحالات التي لم تذكر في التوراة ولا في كتاب آخر من كتب العهد العتيق‏.‏ فالحق أن الكتاب المتقدم لا يلزم أن يكون مشتملًا على الحالات كلها‏.‏ ألا ترى أن أسماء جميع أولاد آدم وشيث وأنوس وغيرهم وكذا أحوالهم ليست مذكورة في التوراة‏؟‏ وفي تفسير دوالي ورجردمييت ذيل شرح الآية الخامسة والعشرين من الباب الرابع عشر من سفر الملوك الثاني هكذا‏:‏ ‏(‏لا يوجد ذكر هذا الرسول يونس إلا في هذه الآية‏)‏‏.‏ وفي البلاغ المشهور الذي كان إلى أهل نينوى‏:‏ ‏(‏ولا يوجد في كتاب من الكتب إخباراته عن الحوادث الآتية التي جرأ بها يوربعام السلطان على محاربة سلاطين السريا وسببه ليس منحصرًا في أن الكتب الكثيرة للأنبياء لا توجد عندنا، بل سببه هذا أيضًا أن الأنبياء لم يكتبوا كثيرًا من أخبارهم عن الحوادث الآتية‏)‏ انتهى‏.‏ فهذا القول يدل صراحة على ما قلت، والآية الثلاثون من الباب العشرين من إنجيل يوحنا هكذا‏:‏ ‏(‏وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب‏)‏ والآية الخامسة والعشرون من الباب الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا هكذا‏:‏ ‏(‏وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة‏)‏‏.‏ وهذا الكلام وإن لم يخل من المبالغة الشاعرية، لكنه لا شك يفيد أن جميع حالات عيسى عليه السلام ما كتبت، فالطاعن باعتبار النوع الثاني على القرآن حاله كحال الطاعن باعتبار النوع الأول بلا تفاوت‏.‏

‏(‏وأما النوع الثالث‏)‏ فلأن مثل هذه الاختلافات توجد بين كتب العهد العتيق بعضها مع بعض وبين الأناجيل بعضها مع بعض وبين الإنجيل والعهد العتيق، كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول‏.‏ وتوجد في النسخ الثلاث للتوراة، أعني العبرانية واليونانية والسامرية، وقد حصل لك الاطلاع على بعض الاختلافات أيضًا في الباب الثاني، لكن القسيسين من عادتهم أنهم يغلطون عوام المسلمين في كثير من الأوقات بهذه الشبهة فالأنسب أن أذكر بعض هذه الاختلافات ولا أخاف من التطويل اليسير لأنه لا يخلو من الفائدة المهمة‏.‏ ‏(‏الاختلاف الأول‏)‏ أن الزمان من خلق آدم إلى زمن الطوفان باعتبار العبرانية ألف وستمائة وست وخمسون سنة ‏[‏1656‏]‏ وباعتبار اليونانية ألفان ومائتان واثنتان وستون سنة ‏[‏2262‏]‏ وعلى وفق السامرية ألف وثلثمائة وسبع سنين ‏[‏1307‏]‏‏.‏ ‏(‏الاختلاف الثاني‏)‏ أن الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام باعتبار العبرانية مائتان واثنتان وتسعون سنة ‏[‏292‏]‏ وباعتبار اليونانية ألف واثنتان وسبعون سنة ‏[‏1072‏]‏ وباعتبار السامرية تسعمائة واثنتان وأربعون سنة ‏[‏942‏]‏‏.‏ ‏(‏الاختلاف الثالث‏)‏ يوجد في النسخة اليونانية بين أرفخشد وشالح بطن واحد، هو قينان، ولا يوجد في العبرانية والسامرية ولا في السفر الأول من أخبار الأيام، وفي تاريخ يوسيفس، لكن لوقا الإنجيلي اعتمد على اليونانية فزاد قينان في بيان نسب المسيح فيجب على المسيحيين أن يعتقدوا صحة اليونانية وكون غيرها غلطًا لئلا يلزم كذب إنجيلهم‏.‏

‏(‏الاختلاف الرابع‏)‏ أن موضع بناء الهيكل أعني المسجد باعتبار العبرانية جبل عيبال، وباعتبار السامرية جبل جرزيم، وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الباب الثاني فلا أطول الكلام في توضيحها‏.‏ ‏(‏الاختلاف الخامس‏)‏ إن الزمان من خلق آدم إلى ميلاد المسيح باعتبار العبرانية ‏[‏4004‏]‏ وباعتبار اليونانية ‏[‏5872‏]‏ وباعتبار السامرية ‏[‏4700‏]‏ وفي المجلد الأول من تفسير هنري واسكات ‏(‏أن اهليز أخذ التاريخ بعد تصحيح أغلاط يوسيفس واليونانية وعلى تحقيقه من خلق العالم إلى ميلاد المسيح ‏[‏5411‏]‏ ومن الطوفان إلى الميلاد ‏[‏3155‏]‏ انتهى‏.‏ وجارلس روجر في كتابه الذي قابل فيه التراجم الإنجليزية نقل خمسة وعشرين قولًا من أقوال المؤرخين في بيان المدة التي من خلق العالم إلى ميلاد المسيح وإلى سنة ألف وثمانمائة وسبع وأربعين، ثم اعترف أنه لا يطابق قولان منها أو أن تمييز الصحيح عن الغلط محال، وأنا أنقل ترجمة كلامه وأكتفي ببيانها إلى ميلاد المسيح لأن المدة التي بعدها لا اختلاف فيها للمؤرخين فلا حاجة إلى نقل الغاية الأخرى‏.‏

المدة التي من خلق آدم إلى ميلاد المسيح

أسماء المؤرخين

4192

‏[‏1‏]‏ ماريانوس سكونوس

4141

‏[‏2‏]‏ لارنت يوس كودومانوس

4103

‏[‏3‏]‏ توماليديت

4079

‏[‏4‏]‏ ميكائيل مستلي نوس

4062

‏[‏5‏]‏جي بابتست رك كيولس

4053

‏[‏6‏]‏ جيكب سليانوس

4051

‏[‏7‏]‏هنري كوس بوندانوس

4041

‏[‏7‏]‏ وليم لينك

4021

‏[‏9‏]‏ ارازمس ربن هولت

4005

‏[‏10‏]‏ جيكوبوس كيبالوس

4003

‏[‏11‏]‏أرج بشب أشر

4983

‏[‏12‏]‏ديوني سيوس بتاويوس

3973

‏[‏13‏]‏ بشب بك

3971

‏[‏14‏]‏ كرن زيم

3970

‏[‏15‏]‏ ايلي اس ريوس نيروس

3968

‏[‏16‏]‏جوهانيس كلاوريوس

3966

‏[‏17‏]‏ كرستيانوس لونكرمونتانوس

3964

‏[‏18‏]‏فلب ملاتختون

3963

‏[‏19‏]‏جيكب هين لي نوس

3958

‏[‏20‏]‏ الفون سوس سال مرون

3949

‏[‏21‏]‏ إسكي ليكر

3927

‏[‏22‏]‏ميتهيوس برول ديوس

2836

‏[‏23‏]‏ اندرياس هل وي كيوس

3760

‏[‏24‏]‏الرواج العام لليهود

4004

‏[‏25‏]‏الرواج العام للمسيحيين

‏(‏ولا يطابق قولان من هذه الأقوال، ومن لم يتأمل في هذا الأمر في حين من الأحيان يفهم أن هذا الأمر العجيب في غاية الإشكال، لكن الظاهر أن المؤرخين المقدسين لم يريدوا في حين من الأحيان أن يكتبوا التاريخ بالنظم ولا يمكن الآن لأحد أن يعلم العدد الصحيح‏)‏ انتهى كلام جارلس روجر‏.‏ فظهر من كلامه أن معرفة الصحيح الآن محال جدًا، وأن المؤرخين من أهل العهد العتيق أيضًا كتبوا ما كتبوا رجمًا بالغيب، وأن الرائج العام في اليهود يخالف الرائج العام في المسيحيين، فأنصف أيها اللبيب، إنه لو فهمت مخالفة القرآن المجيد لتاريخ من تواريخهم المقدسة التي حالها كما عرفت، لا تشك لأجل هذه المخالفة في القرآن، لا واللّه بل نقول إن مقدسيهم غلطوا وكتبوا ما كتبوا سيما إذا لاحظنا تواريخ العالم جزمنا أن تحرير مقدسيهم في أمثال هذه الأمور ليس له إلا رتبة الظن والتخمين، ولذلك لا نعتمد على هذه الأقوال الضعيفة‏.‏