فصل: حَشْرُ الْخَلَائِقِ لِلْعَرْض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.حَشْرُ الْخَلَائِقِ لِلْعَرْض:

وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ ** وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ

وَارْتَكَمَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ ** وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ

وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ الْعَرْضُ لَهُ مَعْنَيَانِ:
مَعْنَى عَامٌّ وَهُوَ عَرْضُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي عَرْضُ مَعَاصِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيرُهُمْ بِهَا وَسَتْرُهَا عَلَيْهِمْ وَمَغْفِرَتُهَا لَهُمْ، وَالْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ العزيز في غيرما مَوْضِعٍ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا كَمَا قَالَ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 18]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الْكَهْفِ: 48]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النَّمْلِ: 83 84]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 6-8]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصَّافَّاتِ: 24]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الْغَاشِيَةِ: 26]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنَوْا أَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أنفسكم اليوم، وتزينوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 18].
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ».
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7-8]».
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْفَرَزْدَقِ: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7 8]. قَالَ حَسْبِي، لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا».
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7 8]، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجْزَى بِمَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرَّ، وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تَوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92]. قَالَ يَسْأَلُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَنْ خُلَّتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَعَمَّاذَا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَاذَا غَرَّكَ مِنِّي بِي، ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ، إِنَّ الْمَرْءَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ حَتَّى كُحْلَ عَيْنَيْهِ، وَعَنْ فُتَاتِ الطِّينَةِ بِأُصْبُعَيْهِ، فَلَا أَلْفَيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدٌ غَيْرُكَ أَسْعَدُ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنْكَ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92].
قَالَ {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: 39].
قَالَ لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ».
وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ».
وَفِيهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
وَفِيهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ بَيْنَمَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ-أو قال يابن عُمَرَ- هَلْ سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النجوى فقال: سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يضع عليه كنفه فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ أَنَا سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوِ الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ».
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عن أبي بزرة الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

.بَرَاءَةُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ:

وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [الْمَعَارِجِ: 10]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عَبَسَ: 34]، الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 100]، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، قَالَ فَيُفْرِحُ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ مَا فُعِلَ بِصَدِيقِي فُلَانٍ وَصَدِيقُهُ فِي الْجَحِيمِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ مَنْ بَقِيَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».
قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ لَهُمْ شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34 35]. قَالَ يَفِرُّ هَابِيلُ مِنْ قَابِيلَ وَيَفِرُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّهِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَبِيهِ، وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صَاحِبَتِهِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ ابْنِهِ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عَبَسَ: 37]، يَشْغَلُهُ عَنْ شَأْنِ غَيْرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ «أَنَّهُ إِذَا طَلَبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ يَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، حَتَّى إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أَسَالُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي».
وَارْتَكَمَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ ** وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ

وَعَنَتِ الوجوه للقيوم واقـ ** ـتص مِنْ ذِي الظُّلْمِ لِلْمَظْلُومِ

وَارْتَكَمَتْ اجْتَمَعَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ جَمْعُ هَوْلٍ وَهُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْهَائِلُ الْمُفْظِعُ وَانْعَجَمَ أَسْكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْبَلِيغُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا مُقْتَدِرًا عَلَى الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِي الْمَقَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هُودٍ: 105]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: 38].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108]، سَكَنَتْ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108].
قَالَ تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غَيْرِ مَنْطِقٍ، وَعَنْهُ الْهَمْسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَعَنْهُ هُوَ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الْهَمْسُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ كَأَخْفَافِ الْإِبِلِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَمْسًا سِرُّ الْحَدِيثِ وَوَطْءُ الْأَقْدَامِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ» الْحَدِيثَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ عَانٍ الْقَيُّومِ تَضْمِينٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 11]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُدِيرُهُ وَيَحْفَظُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَالظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الْعُمُومُ، فَيَتَنَاوَلُ الشِّرْكَ وَغَيْرَهُ مِنْ ظُلْمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَخَيْبَةٌ دُونَ خَيْبَةٍ، وَالْخَيْبَةُ كُلُّ الْخَيْبَةِ لِمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ بِهِ مُشْرِكٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا» الْحَدِيثَ وَاقْتُصَّ مِنْ ذِي الظُّلْمِ أَيِ اقْتُضَى مِنَ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّسَاءِ: 40]، وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غَافِرٍ: 17-20]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزُّمَرِ: 69]، {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزُّمَرِ: 75]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزُّمَرِ: 70]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَابُ الْقَصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقُّ الْأُمُورِ الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ، وَالْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَالصَّارِخَةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ».
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ».
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا».
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتُدْرُونَ مِنَ الْمُفْلِسِ» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى تُقَادَ الشَّاةُ الْجَلْحَاءُ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» قَالَ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: نَعَمْ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي واعتنقته، فقلت حديث بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ وَأَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ-أَوْ قَالَ الْعِبَادَ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قُلْتُ وَمَا بُهْمًا قَالَ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقْضِيَهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ حَقٌّ حَتَّى أَقْضِيَهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ».
وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْجَمَّاءَ لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَوَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَى رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاتين تنتطحان فَقَالَ: «أتدري ما تنتطحان يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ: لَا قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا».
وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ لِلْأَجْنَادِ ** وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ

وَشَهِدَ الْأَعْضَاءُ والجوارح ** وبدت السوءات وَالْفَضَائِحْ

وَابْتُلِيَتْ هُنَالِكَ السَّرَائِرْ ** وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ فِي الضَّمَائِرْ

وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ الْعُظَمَاءُ الرُّؤَسَاءُ الْكُبَرَاءُ لِلْأَجْنَادِ الرَّعَايَا أَيْ صَارُوا سَوَاءً فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مُشْتَرِكِينَ فِي هَوْلِهِ الْفَظِيعِ وَكَرْبِهِ الشَّدِيدِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَقَالٌ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4]، وَقَالَ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الْحَجِّ: 56]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غَافِرٍ: 16]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الِانْفِطَارِ: 19]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4] يَقُولُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حُكْمًا كَمُلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ وَيَوْمَ الدِّينِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِلْخَلَائِقِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الْفُرْقَانِ: 26]، أَيِ الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ الْمُلْكُ الْحَقُّ مُلْكُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرِيدُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَلِكٌ يَقْضِي غَيْرُهُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ: «يَقْبِضُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ وَفِي لَفْظٍ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ».
وَقَالَ قَتَادَةُ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الِانْفِطَارِ: 19]، وَالْأَمْرُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ يَوْمَ لَا يُمَلِّكُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئًا كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 49]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزُّمَرِ: 69]، وَقَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النَّحْلِ: 84]، إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النَّحْلِ: 89]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الْقَصَصِ: 74 75]، الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ- وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ- عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143]، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ»، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِلَفْظِ «يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا فَيَقُولُونَ لَا فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وأمته، فيدعى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُقَالُ وَمَا عِلْمُكُمْ فَيَقُولُونَ جَاءَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ عَدْلًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143]».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ: «نَعَمْ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41] فَقَالَ: «حَسْبُكَ الْآنَ» فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الْكَهْفِ: 49]، أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أَعْمَالِنَا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الْكَهْفِ: 49]، أَيْ لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا وَإِنْ صَغُرَ إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإسناده عن سعد بْنِ جُنَادَةَ قَالَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، نَزَلْنَا قَفْرًا مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْمَعُوا، مَنْ وَجَدَ عُودًا فَلْيَأْتِ بِهِ، وَمَنْ وَجَدَ حَطَبًا أَوْ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ قَالَ فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى جَعَلْنَاهُ رُكَامًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرَوْنَ هَذَا فَكَذَلِكَ تُجْمَعُ الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُمْ هَذَا، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَجُلٌ وَلَا يُذْنِبْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً فَإِنَّهَا مُحْصَاةٌ عَلَيْهِ».
وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَثَلُ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ فَأَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ لَمُوبِقَاتٌ».
وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الْكَهْفِ: 49]، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آلِ: عِمْرَانَ 30]، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 14]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 5]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [الْقَصَصِ: 75].
قَالَ الْبَغَوِيُّ يَعْنِي رَسُولَهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، فَقَالَ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ السَّائِقُ الْمَلِكُ وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّهِيدُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} أَضَاءَتْ {بِنُورِ رَبِّهَا} بِنُورِ خَالِقِهَا، ذلك حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَمَا يَتَضَارُّونَ فِي نُورِهِ كَمَا لَا يَتَضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الصَّحْوِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْحَدِيثُ لَا يَتَضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قَالَ قَتَادَةُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُمْ رِسَالَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ {وَالشُّهَدَاءِ} أي من الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَةِ: 143]، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِرٍ: 51]، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وَعَلَى الْكُفَّارِ بِالتَّكْذِيبِ.
وَشَهِدَتْ عَلَى كُلِّ جَاحِدٍ الْأَعْضَاءُ أَعْضَاؤُهُ وَالْجَوَارِحُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فُصِّلَتْ: 19-22]، الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ» قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وَبِالْكِرَامِ الْكُتَّابِ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ بُعْدًا وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ».
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ مُفْدَمًا عَلَى أَفْوَاهِكُمْ بِالْفِدَامِ، فَأَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَتِفُهُ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَلَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ قَالَ فِيهِ «ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ مَا أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَبْدُكَ، آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ وَبِكِتَابِكَ وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا قَالَ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ انْطِقِي، قال فتنطق فخذه وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِطُولِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [الْمُجَادَلَةِ: 18]، الْآيَةَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ: «إِنْ أَوَّلَ عَظْمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَتَكَلَّمُ يَوْمَ يُخْتَمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى» وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: «مِنَ الرِّجْلِ الشِّمَالِ».
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْعَى الْمُؤْمِنُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فِيمَا بينه وبينه فيعترف فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ عَمِلْتُ عَمِلْتُ عَمِلْتُ قَالَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنْهَا قَالَ فَمَا عَلَى الْأَرْضِ خَلِيقَةٌ تَرَى مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا وَتَبْدُو حَسَنَاتُهُ فَوَدَّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهَا وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فَيَجْحَدُ وَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا فَيَقُولُ لَا وَعَزَّتِكَ أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى على فيه قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فَأَنَا أَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فَخِذُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ تَلَا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِّفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا، فَيَقُولُ أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا فَيَقُولُ احْلِفُوا، فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ».
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْأَزْرَقِ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينَ، لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ جُلُودُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحُ فَتَقُولُ {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فُصِّلَتْ: 21]، فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الْجُحُودِ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ رَافِعٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ وَصَفَ رَجُلًا جَحَدَ قَالَ فَيُشِيرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى لِسَانِهِ فَيَرْبُو فِي فَمِهِ حَتَّى يَمْلَأَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ لِآرَابِهِ تَكَلَّمِي وَاشْهَدِي عَلَيْهِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجِلْدُهُ وَفَرْجُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ صَنَعْنَا عَمِلْنَا فَعَلْنَا وَلَهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ: «أَلَا تُحَدِّثُونَ بِأَعَاجِيبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ» فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بينما نحن جلوس إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكُ عِنْدَهُ غَدًا قَالَ:يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فُصِّلَتْ: 22]، الْآيَةَ كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ، أَوْ رَجُلَانِ مِنْ ثَقِيفٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ، فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} [فُصِّلَتْ: 22]، الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ لَفْظُهُ فِي إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَابْتُلِيَتْ أَيِ اخْتُبِرَتْ هُنَالِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ الْعَظِيمِ وَهَوْلِهِ الْجَسِيمِ السَّرَائِرُ جَمْعُ سَرِيرَةٍ وَهِيَ ضِدُّ الْعَلَانِيَةِ وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ الْمَسْتُورُ فِي الضَّمَائِرِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِقِ: 9].
قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْلَى السَّرَائِرُ، تَظْهَرُ الْخَفَايَا، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ تُخْتَبَرُ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ، فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَقَالَ صُمْتُ وَلَمْ يَصُمْ، وَصَلَّيْتُ وَلَمْ يُصَلِّ، وَاغْتَسَلْتُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، فَيُخْتَبَرُ حَتَّى يَظْهَرَ مَنْ أَدَّاهَا مِمَّنْ ضَيَّعَهَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُبْدِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ سِرٍّ، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ، يَعْنِي مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابن فُلَانٍ» عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.