فصل: خِلَافَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.قِصَّةُ اسْتِشْهَادِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

وَكَانَ قِصَّةُ اسْتِشْهَادِهِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أتخافان أن تكون قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ.
قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ.
قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ.
قَالَا: لَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا.
قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوِ النَّحْلِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ في الركعة الأول حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي-أَوْ أَكَلَنِي- الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ صَلَاةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي. فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَامُ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، فَقَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا. فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ. أَيْ: إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا.
قَالَ: كَذَبْتَ، بَعْدَمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ، وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ، وَحَجُّوا حَجَّكُمْ؟ فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهُ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٍ.
قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ، لَا عَلَيَّ وَلَا لِي. فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ، قَالَ: رَدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ، قَالَ: ابْنُ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ إِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ. يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَسَلْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ وَلَا تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ، وَانْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ.
قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أذنت لي فأذخلوني، وَإِنْ رَدَّتْنِي رَدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَّ الرِّجَالُ فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ.
قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ-أَوِ الرَّهْطِ- الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: لِيَشْهَدْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ-كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ- فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
وَقَالَ: أَوْصَى الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الْإِسْلَامِ وَجُبَاةُ الْمَالِ وَغَيْظُ الْعَدُوِّ وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَعْرَابِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الْإِسْلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَفِّي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ. فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي. فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ فَأُدْخِلَ، فَوَضَعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلَتْ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ.
وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَلَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ؟ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى أَنْ لَا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ. ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانَ، فَبَايَعَهُ وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَلِجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً عَلَى الْأَشْهَرِ، وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي تُوُفِّيَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبُويِعَ لِعُثْمَانَ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ دُخُولَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ الشُّورَى ثُمَّ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

.خِلَافَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

ثَالِثُهُمْ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ ** ذُو الْحِلْمِ وَالْحَيَا بِغَيْرِ مَيْنِ

بَحْرُ الْعُلُومِ جَامِعُ الْقُرْآنِ ** مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ

بَايَعَ عَنْهُ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ ** بِكَفِّهِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ

(ثَالِثُهُمْ) فِي الْخِلَافَةِ وَالْفَضْلِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِدَعْوَةِ الصِّدِّيقِ إِيَّاهُ، وَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُقْيَةَ ابْنَتَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَهِيَ مَعَهُ، وَتَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ لِمَرَضِهَا، وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهَا زَوَّجَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا وَبِذَلِكَ تَسَمَّى (ذُو النُّورَيْنِ) لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَتَيْ نَبِيٍّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(ذَا الْحِلْمِ) التَّامِّ الَّذِي لَمْ يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ (وَالْحَيَاءِ) الْإِيمَانِيِّ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»، وَقَالَ: «أَشَدُّكُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ»، (بَحْرُ الْعُلُومِ) الْفَهْمُ التَّامُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَقُومُ بِهِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَرْكَعُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ.
(جَامِعُ الْقُرْآنِ) لَمَّا خَشِيَ الِاخْتِلَافَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخِصَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ خِلَافَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَتَبَ الْمُصْحَفَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي دَرَسَهَا جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ سِنِي حَيَاتِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ كَانَ فِي الْغَزَوَاتِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامَ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى، وَجَعَلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ يُفَضِّلُ قِرَاءَتَهُ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا خَطَّأَهُ الْآخَرُ أَوْ كَفَّرَهُ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى خِلَافٍ شَدِيدٍ وانتشار الكلام السيئ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَرَكِبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَلِفَ فِي كِتَابِهَا كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُتُبِهِمْ، وَذَكَرَ لَهُ مَا شَاهَدَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ كَفِّ الْمُنَازَعَةِ وَدَفْعِ الِاخْتِلَافِ، فَاسْتَدْعَى بِالصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِجَمْعِهَا فَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَدْعَى بِهَا عُثْمَانُ وَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَكْتُبَ وَأَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَكُتِبَ لِأَهْلِ الشَّامِ مُصْحَفًا، وَلِأَهْلِ مِصْرَ آخَرَ، وَبَعَثَ إِلَى الْبَصْرَةِ مُصْحَفًا، وَإِلَى الْكُوفَةِ بِآخَرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا، وَإِلَى الْيَمَنِ مِثْلَهُ، وَأَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الْمَصَاحِفِ (الْأَئِمَّةُ) ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ فَحَرَقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافٌ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَرَقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ: لَوْ لَمْ يَصْنَعْهُ هُوَ لَصَنَعْتُهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي عُثْمَانَ تَقُولُونَ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ، وَاللَّهِ مَا حَرَقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ وَلِيتُ مِثْلَ مَا وَلِيَ لَفَعَلْتُ الَّذِي فَعَلَ.
(مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ) كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخْذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَى ثِيَابَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ-يَعْنِي ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ الرَّاوِي عَنْهُمْ- وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَدَخَلَ عُمَرُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ. فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ».
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَاهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ: اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رسول الله ما لي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ».
(بَايَعَ عَنْهُ) حِينَ ذَهَبَ لِمَكَّةَ فِي حَاجَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ (سَيِّدُ الْأَكْوَانِ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِكَفِّهِ) ضَرَبَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ» لَمَّا غَابَ عَنْهَا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ انْحِبَاسُهُ بِمَكَّةَ هُوَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ كما قال محمدبن إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مَنْ بَنِي عِدَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرِفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلَظِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزُّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ فَقَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ: «لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ» وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. فَبَايَعَ النَّاسَ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، فَكَانَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِيَ أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِابِطَ نَاقَتِهِ قَدْ مَالَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر. قال: يابن عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي عَنْهُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنُ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ. وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ». وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزُّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فبايع الناس، فقال رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَا: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لِأَخِيكَ الْوَلِيدِ فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ؟ فَقَصَدْتُ لِعُثْمَانَ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ لَكَ.
قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَانْصَرَفْتُ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ إِذْ جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأنِ الْوَلِيدِ.
قَالَ: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ خَلُصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَخْلُصُ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا.
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ فَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ، كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ، وَلَا غَشَشْتُهُ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مَثَلُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيَسَ لِي مِنَ الْحَقِّ مِثْلَ الَّذِي لَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغْنِي عَنْكُمْ؟ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مَنْ شَأنِ الْوَلِيدِ فَسَآخُذُ فِيهِ بِالْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قَالَ الْأَحْنَفُ: انْطَلَقْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنْزِلِنَا إِذْ جَاءَنَا آتٍ فَقَالَ: النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبِي، فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَتَخَلَلْتُهُمْ حَتَّى قُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطِلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ عُثْمَانُ يَمْشِي. فَقَالَ: هَهُنَا عَلِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: هَهُنَا الزُّبَيْرُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: هَهُنَا طَلْحَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: هَهُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» فَابْتَعْتُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهُ، فَقَالَ: «اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ» قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ» فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهَا-يَعْنِي بِئْرَ رُومَةَ- قَالَ: «اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكَ أَجْرُهَا» قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ: «مَنْ يُجَهِّزُ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ خِطَامًا وَلَا عِقَالًا. قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ جَزْءٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ يَوْمَ أُصِيبَ عُثْمَانَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ اطلاعه، فقال: ادعو لِي صَاحِبَيْكُمُ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ، فَدُعِيَا لَهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي فَجَعَلْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ بِئْرٍ يَسْتَعْذِبُ مِنْهُ إِلَا بِئْرَ رُومَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي صَاحِبُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ.
وَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحُثُّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله علي مائتي بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ مِنْ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا، مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا».
وَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بعد اليوم» مرتي. حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي قِصَّةِ تَوَعُّدِهِمْ إِيَّاهُ بِالْقَتْلِ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ». فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا تَمَنَّيْتُ بَدَلًا بِدِينِي مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ لَهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا. فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَيْنَا إِقْبَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلِمَةٍ أَنْ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي» (ثَلَاثًا).
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْنَةً فَقَالَ: «يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا الْمُقَنَّعُ يَوْمَئِذٍ مَظْلُومًا» فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا-أَوْ قَالَ- اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً» فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ».
وَلَهُ عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ قَالَ: «كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ» قَالُوا: نَصْنَعُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَلَيْكُمْ هَذَا وَأَصْحَابَهُ-أَوِ- اتَّبِعُوا هَذَا وَأَصْحَابَهُ» قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَيِيْتُ، فَأَدْرَكْتُ الرَّجُلَ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَذَا» فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ: هَذَا وَأَصْحَابُهُ يَذْكُرُهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَكَلَّمْتُ. وَذَكَرَ الْفِتَنَ فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُتَقَنِّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ: «هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى» فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا وَعَظَّمَهَا، قَالَ: ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي مِلْحَفَةٍ فَقَالَ: هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْحَقِّ».
قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مُسْرِعًا-أَوْ مُحْضِرًا- وَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْهِ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَذَا».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَهْجُمُونَ عَلَى رَجُلٍ مُعْتَجِرٍ بِبُرْدَةٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُبَايِعُ النَّاسَ» قَالَ: فَهَجَمْنَا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعْتَجِرًا يُبَايِعُ النَّاسَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى خِلَافَتِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ فَضَائِلِهِ مَعَ ذِكْرِ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي فَضَائِلِهِ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ مِنَ السَّابِقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ كِفَايَةٌ.
وَكَانَ الْاعْتِدَاءُ عَلَى حَيَاتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ بُويِعَ لَهُ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَأَمَّا عُمْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ جَاوَزَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.