فصل: سنة ست عشرة وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **


 سنة خمس عشرة وخمسمائة

فيها قتل الأفضل بن أمير الجيوش يوم الأحد سلخ شهر رمضان وعمره سبع وخمسون سنة لأن مولده بعكا سنة ثمان وخمسين وأربعمائة‏.‏

وكان سبب ذلك أنه لما كان ليلة عيد الفطر جهز ما جرت العادة بتجهيزه من الدواب والآلات لركوب الخليفة وجلس بين يديه إلى أن عرضت الطبول على العادة كل سنة والدواب والسلاح ثم عاد وأدى ما يجب من سلام الخليفة فتقدم إلى القائد أبي عبد الله بن فاتك بأن يأمر صاحب السير أن يصف العساكر إلى صوب باب الخوخة‏.‏

وركب الأفضل من مكانه والناس على طبقاتهم وخرج من باب الخوخة قاصداً دار الذهب فلما حصل بها وقع التعجب من الناس في نزوله ليلة الموسم ولم يعلم أحد ما قصد وكان قصده أن يكمل تعليق المجلس الذي يجلس فيه‏.‏

فصلى بدار الذهب الظهر فلما قرب العصر ركب منها وقد انصرف أكثر المستخدمين ظنا منهم أنه يبيت فيها‏.‏

فسار إلى الزهري فإذا الأمراء والأجناد والمستخدمون والرهجية قد اتجهوا لخدمته وكان قد ضجر وتغير خلقه ولا سيما في الصيام‏.‏

فلما رأى اجتماع الناس وكثرتهم أبعدهم فتقدموا ووقفوا عند باب الساحل فأنفذ أيضا يخرج من أبعدهم وبقى في عدة يسيرة وأبعد صبيان السلاح من ورائه فوثب عليه من دكان دقاق بالملاحين أربعة نفر متتابعين كلما اشتغل من حوله واحد خرج غيره فرمى من الفرس إلى الأرض وضربوه ثمان ضربات‏.‏

وكان القائد بعيدا منه لأخذ رقاع الناس وسماع تظلمهم وتفريق الصدقات على الفقراء بالطريق فلما سمع الضوضاء أسرع إليه ورمى نفسه إلى الأرض عليه فوجده قد قضى نحبه‏.‏

وحمل على أيدي مقدمي ركابه والقائد راجل وهم يبشرون الناس بالسلامة‏.‏

وقتل من الذين خرجوا عليه ثلاثة وقطعوا وأحرقوا وسلم الرابع وكان اسمه سالماً ولم يعلم به إلا لما ظفر به مع غيره بعد مدة‏.‏

ولم يزل الأفضل محمولا ولا يمكن أحد من الوصول إليه إلى أن دخل به على مرتبته التي كان يجلس عليها أو يمطى‏.‏

وقال القائد للخليفة أدركني وتسلم ملكك لئلا أغلب عليه‏.‏

وصار أي من لقيه يهنئه بسلامة السلطان ويوهم أهله أن الطبيب عنده ويأمرهم بتهيئة الفراريج والفواكه‏.‏

وعاد إلى قاعة الجلوس فوجدها قد غصت بالناس فرد عليهم السلام وهنأهم وأظهر قوة عزم ثم عاد إلى القاعة الكبيرة وقد حضر إليه متولى المائدة الأفضلية واستأذنه على السماط المختص بالعيد فقال له اذبح ووسع فالسلطان بكل نعمة وهو الذي يجلس على السماط في غد ومع ذلك فكان في قلق وخوف شديد من أن يبلغ أولاد الأفضل فيجري عنهم ما لا يستدرك وتنهب الدار‏.‏

فلما أصبح الصباح وركب الخليفة ودخل إلى الدهليز الذي كان يركب منه الأفضل ومعه الأستاذون المحنكون قال القائد أبو عبد الله للخليفة‏:‏ عن إذن مولانا أفتح الباب وكان قد منع من الدخول إلى الدار فقال الخليفة‏:‏ نعم ففتح على الأفضل وقال له القائد‏:‏ الله يطيل عمر أمير المؤمنين ويفسح في مدته ويورثه أعمار مماليكه هذا وزيره قد صار إلى الله تعالى وهذا ملكه يتسلمه‏.‏

ثم ضربت للوقت المقرمة على الأفضل وأمر الخليفة بإحضار من بالقاعة من الأمراء والأجناد فدخل الناس على غير طبقاتهم إلى أن مثلوا بين يدي الخليفة وهو قاعد على الحصير عند المقرمة فقال الخليفة للأمراء‏:‏ هذا وزيري قد صار إلى الله تعالى ومنكم إلي ومني إليكم وقد كان القائد واسطته إليكم وهو اليوم واسطتي إليكم‏.‏

فشكر الحاضرون ذلك هذا والقائد وولده مشدودو الأوساط بالمناطق وصاحب الباب على ما كانوا عليه‏.‏

وتقدم إلى الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة أن يكتب إلى الأعمال بذلكن وأمر الأمراء بالانصراف‏.‏

ثم قال القائد‏:‏ يا مولانا الأموال والجواهر على اختلافها في الخزائن الكبار عنده وهي مقفلة ومفاتيحها عندي وختم عليها وهي في بيت المال المصون وكذلك المفضض التي عند المستخدمين برسم الاستعمال والميناء الذهب المرصعة والتي بغير ترصيع والبلور التي برسم استعماله جميع ذلك مثبت عند متولي دفتر المجلس إلا خزانة الكسوة التي برسم ملبوسه ما عندي منها خبر فأمر من يدخل ويختم عليها‏.‏

فأمر متولي الخزائن الخاص وكان سيف الأستاذين ومتولي بيت المال ومتولي الدفتر وهم كبار الأستاذين المحنكين بأن يدخلوا ويجتمعوا ولا يعترض غيرها لا لولده ولا لجهته ولا لبناته ولا لأحد من عياله‏.‏

فتوجهوا وقرعوا الباب‏.‏

فلما شاهدهم النساء تحققوا الوفاة وقام الصراخ من جميع جوانب المواضع وكانت ساعة أزعجت كل من بمصر والجيزة والجزيرة ثم أسكتوا‏.‏

وأنفذت الرسل لختم الخزائن التي بمصر‏.‏

فبينما هم على ذلك في الليل إذ وصل إلى الخليفة رقعتان على يد أستاذ من القاهرة من رجلين من جملة الحاشية يذكران فيها أن أولاد الأفضل قد جمعوا عدة وشنعت حاشيتهم أن في بكرة هذه الليلة يستنصرون بالبساطية والأرمن ويثورون في طلب الوزارة لأخيهم الأكبر فامتعض الخليفة لذلك وهم بالإرسال إليهم وقتلهم ثم تقرر الأمر على أن يودعوا الخزانة من غير إهانة ولا قيود فتوجه إليهم فإذا جميع حاشيتهم وغيرها عندهم والخيل قد شدت فأودعوا الخزانة‏.‏

فلما أصبح الصباح كان قد حمل من القصر في الليل طوافير فيها عدة موائد للفطر في يوم العيد وحمل برسم فطر الخليفة الصواني الذهب وعليها اللفائف الشرب المذهبة‏.‏

وكان قد هيئ للخليفة من الليل موضع للمبيت بحيث يبعد عن الأفضل وعين من وقع الاختيار عليه لقراءة القرآن عند الأفضل‏.‏

فلما كان السحر من عيد الفطر جئ بين يدي الخليفة بما أحضر من قصوره في مواعينه الذهب المرصعة وعليها المناديل المذهبة من التمر المحشو والجوارشيات بأنواع الطيب وغير ذلك فاستدعى الخليفة القائد وأمره بالمضي إلى باب الحرم لإحضار الأجل المرتضى ابن الأفضل فمضى لذلك فأبت أمه من تمكنهم منه فما زال بها حتى أسلمته إليه بعد جهد‏.‏

فأتى به الخليفة فسلم به وضمه الخليفة إليه وقبله بين عينيه وأجلسه عن يمينه والقائد عن شماله وبقية ثم كبر مؤذنو القصر فسمى الخليفة وأخذ تمرة وأكل بعضها وناولها للقائد ثم ناول الثانية لولد الأفضل فقام كل منهما وقبل الأرض ولم يجلس‏.‏

وتقدم كل من الحاضرين فأخذ من يد الخليفة من التمر ووقف‏.‏

فاستدعى القائد الفراش الذي معه الصينيتان النحاس وأمر فراشي الأسمطة بنقل ما في الأواني التي بين يدي الخليفة في الصواني لتفرق في الأمراء الذين بالقاعة والدهاليز فنقلت إليها وحملت إلى المقرمة التي الأفضل وراءها وختم المقرئون‏.‏

ثم أظهر الخليفة الحزن على فقد وزيره فتلثم وتلثم جميع المحنكين والحاشية وجلس الخليفة على المخدة عند المقرمة وأمر حسام الملك حاجب الباب بإحضار القاضي والداعي والأمراء فدخل الناس على طبقاتهم‏.‏

فلما رأوا زي الخليفة اشتد البكاء والعويل وخرق كل أحد ما عليه ورميت المناديل يعني العمائم إلى الأرض وبكى الخليفة وحاشيته ساعة‏.‏

ثم سأل القائد الخليفة أن يفطر على ثمرة بحيث يشاهده جميع من حضر ففعل ذلك‏.‏

ثم أشار الخليفة إلى القائد أن يكلم الناس عنه‏:‏ فقال‏:‏ أمير المؤمنين يرد السلام عليكم وقد شاهدتم فعله وكونه لم يشغله مصابه بوزيره ومدبر دولته ودولة آبائه عن قضاء فرض هذا اليوم وقد أفطر بمشاهدتكم وأمركم بالإفطار‏.‏

فمسح الخليفة بيده على الصواني وتقدم القائد إلى الخليفة وصار يناوله من الصواني بيده فأول ما مد إلى القاضي ثم الداعي ونزل الناس للأكل‏.‏

ورفعت الصواني فأخذ القائد يد الداعي وقربه من الخليفة فناوله الخليفة الخطبة وكانت على يساره ملفوفة في منديل شرب بياض مذهب فقبلها الداعي وجعلها على رأسه وضمها إلى صدره‏.‏

وتقدم القائد لحسام الملك بأن يأخذ الأمراء جميعهم ويطلعون إلى المصلى بالقاهرة لقضاء الصلاة فتوجهوا في زي الحزن والمؤذنون بين أيديهم‏.‏

فصلى الداعي بالناس ثم صعد المنبر فوقف على الدرجة الثالثة منه وخطب‏.‏

وكانت الخطبة مبيتة فيها الدعاء للأفضل والترحم عليه وعندما توجه الناس إلى المصلى أمر ولد الأفضل بالمضي إلى أمه وإخوته وجهات أبيه ليرد عليهم السلام من أمير المؤمنين ويفطرهم‏.‏

وخلا الخليفة بالقائد وأمره بإخراج جميع الجواهر فقام إلى خزانة كانت قد بنيت برسم الأفضل فوجد بها خيمة ففتحها وأخرج قمطرين عليهما حلية ذهب مملوءين جواهر ما بين عقود مفصلة بياقوت وزمرد وسبح وقمطرا فيه إحدى عشرة شرابة طول كل شرابة شبران بجواهر ما يقع عليها نظر وصناديق فضة مملوءة مضافات ما بين عصائب وتيجان ذهب مرصعة بجواهر نفيسة‏.‏

ففتحت كلها فشاهد الخليفة منها ما لا يوصف فسر بذلك سرورا كبيرا وشكر القائد وقال‏:‏ والله إنك المأمون حقاً مالك في هذا النعت شريك‏.‏

فقبل الأرض ويديه‏.‏

ولهذا النعت قضية‏.‏

وذلك أنه لما كان في الأيام المستنصرية وعمر القائد يومئذ اثنتا عشرة سنة وكان من جملة خاصة المستنصر يرسله إلى بيت المال وخزانة الصاغة في مهماته فيجد منه النهضة والأمانة فيقول هذا المأمون دون الجماعة‏.‏

ودرجت السنون فذكرها الخليفة الآمر في ذلك الوقت فقال له‏:‏ أنت المأمون على الحقيقة لأجل ذلك‏.‏

ثم عاد حسام الملك أفتكين صاحب الباب والداعي وجميع الأمراء من المصلى ومثلوا بين يدي الخليفة‏.‏

ووقع حينئذ الاهتمام بتجهيز الأفضل وتقدم إلى زمام القصور بإخراج ما قد مازجه عرف الأئمة وتقدم إلى ريحان متولى بيت المال بإخراج ما يجب إخراجه برسم المأتم فمضيا‏.‏

وتقدم إلى حسام الملك بإعلام الأمراء والاجناد والشهود والقضاة والمتصدرين والمقربين وبنى الجوهري الوعاظ وغيرهم لحضور الجنازة وتلاوة القرآن‏.‏

فعاد زمام القصور ومتولى بيت المال ومعهما عشرون صينية ملفوفة في عراض دبيقي بياض مملوءة صندلا مطحونا ومسكا وكافورا وحنوطا وقطنا وفي صدر الآخر منديل ديباج فيه ما رسم بإحضاره من ملابس الخلفاء وطيالسهم‏.‏

ووصلت أيضا الموائد على رءوس الفراشين وهي مائة شدة صحبة متولى المائدة الآمرية فمد السماط بين يدي الخليفة ومد سماطان أحدهما بالقاعة وهو برسم الأمراء والآخر برسم القاضي والداعي والشهود والمقربين والوعاظ والمؤمنين وحمل إلى الجهات فلما انقضى الأكل عاد الجميع بالقاعة وذكر أنه ختم على الأفضل في هاتين الليلتين واليوم نيف وخمسون ختمة‏.‏

فلما انقضى معظم الليلة الثاني من شوال تقدم الخليفة بإحضار داعي الدعاة ولي الدولة ابن عبد الحقيق وأمره بغسل الأفضل على ما يقتضيه مذهبه وكفن بما حضر من القصر وأخرج للداعي بذلتان مكملتان مذهبة وحرير عوضا عما كان على الأفضل من ثياب الدم فإنها لم تنزع عنه وعند كمال غسله دفع للداعي ألف دينار‏.‏

فلما كان في الثالثة من نهار يوم الثلاثاء ثاني شوال خرج التابوت بالجمع الذي لا يحصى والناس بأجمعهم رجالة وليس وراءهم راكب إلا الخليفة بمفرده وهو ملثم‏.‏

فلما خرج التابوت من بلد مصر أمر الخليفة بركوب القائد والمرتضى ولد الأفضل وذكر أن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة ركب حماراً فلما وصلت الجنازة إلى باب زويلة ترجل القائد والمرتضى ومشيا وبعث الخليفة خواصه إلى أخويه أبي الفضل جعفر وأبي القاسم عبد الصمد وأمرهما إذا وصل التابوت إلى باب الزهومة أن يخرجا بغير مناديل بعمائم صغار وطيالس فإذا قضيا ما يجب من حق سلام الخليفة سلما على القائد أبي عبد الله بمثل ما كانا يسلمان على الأفضل ويمشيان معه وراء التابوت‏.‏

فاعتمدا ذلك‏.‏

فاستعظم الناس هذه الحالة والمكارمة ولم يزالا مع الناس وراء التابوت إلى أن دخل من باب العيد‏.‏

فلما صار التابوت في وسط الإيوان هم الخليفة بأن يترجل فسارع إليه القائد والمرتضى وصاح الناس بأجمعهم‏:‏ العفو يا أمير المؤمنين‏.‏

عدة مرار‏.‏

فترجل الخليفة على الكرسي وصلى عليه ورفع التابوت فمشى وراءه وركب الخليفة الفرس على ما كان عليه ونزل التربة ظاهر باب النصر ووقف على شفير القبر إلى أن حضر التابوت‏.‏

واستفتح ابن القارح المغربي وقرأ‏:‏ ‏"‏ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ‏"‏ الآية‏.‏

فوقعت من الناس موقعا عظيما وبكوا وبكى الخليفة وهم بنزول القبر ليلحده بيده ثم أمر الداعي فنزل وألحده والخليفة قائم إلى أن كملت مواراته ثم ركب من التربة والناس بأجمعهم بين يديه إلى قصره‏.‏

وأخرج من قاعة الفضة بالقصر ثلاثون حسكة وثلاثون بخورا مكملة وخمسون مثقال ند وعود وشمع كثير فأشعلت الشموع إلى أن صلى الصبح وأطلق البخور واستقر جلوس الناس فصلى القاضي بالناس وفتح باب مجلس الأفضل المعلق بالستور الفرقوبي الذي لم يكن حظه منه إلا جوازه عليه قتيلا‏.‏

ورفعت الستور وجلس الخليفة على المخاد الطرية التي عملت في وسطه وسلم الناس على منازلهم وتلي القرآن العظيم‏.‏

وتقدمت الشعراء في رثائه إلى أن استحق الختم فختم‏.‏

ثم خرج القائد والأمراء إلى التربة فكان بها مثل ما كان بالدار من الآلات وكان عمر الأفضل يوم مات سبعاً وخمسين سنة ومدة ولايته ثمانية وعشرون عاماً ويقال إن الآمر وافق المأمون على قتله فرتب له من قتله‏.‏

ثم أمر أن يكتب سجل بتعزية الكافة في الأفضل والثناء على خصائصه ومساعيه وإشعارهم بصرف العناية إليهم ومد رواق العدل عليهم وتفريقه على نسخ تتلى على رءوس الأشهاد وبسائر البلاد‏.‏

فكتب ما مثاله‏:‏ هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بما رآه وأمر به من تلاوة على كافة من بمدينة مصر حرسها الله تعالى من الأشراف والأمراء ورجال العساكر المؤيدة على اختلاف طبقاتهم فارسهم ومترجلهم وراجلهم والقضاة والشهود والأماثل وجميع الرعايا بأنكم قد علمتم ما أحدثته الأيام بتصاريفها وجرت به الأقدار على عادتها ومألوفها من فقد السيد الأجل الأفضل ونعوته قدس الله روحه ونور ضريحه وحشره مع مواليه الطاهرين الذين جعلهم أعلام الهدى ومصابيحه الذي كان عماد دولة أمير المؤمنين وحمال أثقالها وعلى يديه وحسن سيرته اعتمادها ومعولها وتخطى الحمام إليه واخترام المنية إياه وتسلطها عليه وما تدارك الله الدولة به من حفظ نظامها واستتار أمورها بعد هذا الفادح العظيم والتئامها وما رآه أمير المؤمنين من تهذيبه الأمور بنظره السعيد ومباشرته إياها بعزمه الشديد ورأيه السديد واهتمامه بمصالح الكافة وإسباغ ظل الإحسان عليهم والرأفة حتى أصبحت الدولة الفاطمية بذلك ظليلة المناكب منيرة الكواكب محروسة الأرجاء والجوانب‏.‏

ولما كانت همة أمير المؤمنين مصروفة إلى الاهتمام بكم والنظر في مصالحكم والإحسان إليكم وتأمين سربكم وإعذاب شربكم ومد رواق العدل عليكم وإنصاف مظلومكم من ظالمكم وضعيفكم من قويكم ومشروفكم من شريفكم وكف عوادي المضار بأسرها عنكم وتمكينكم من التصرف في أديانكم على ما يعتقده كل منكم جارين على رسمكم وعادتكم من غير اعتراض عليكم رأى ما خرج به عالي أمره من كتب هذا السجل وتلاوته على جميعكم لتثقوا به وتسكنوا إليه وتتحققوا جميل رأى أمير المؤمنين فيكم وأنه لا يشغله عن مصالح الكافة شاغل وأن باب رحمته مفتوح لمن قصده وإحسانه عميم شامل وله إلى تأمل أحوال الصغير والكبير منكم عين ناظرة وفي إحسان سياستكم عزيمة حاضرة وأفعال ظاهرة‏.‏

والله تعالى يمده بحسن الإرشاد ويبلغه المراد في مصالح العباد والبلاد بمنه وعونه‏.‏

فاعلموا هذا من أمير المؤمنين ورسمه وانتهوا إلى موجبه وحكمه وليعتمد الأمير متولى المعونة بمصر تلاوته على منبر الجامع العتيق بمصر ليعيه كل من سمعه ويصل علم مضمونه إلى من لم يحضر قراءته ليتحققوا ما ذكر فيه وأودعه وليحمل الناس على ما أمرتهم فيه وليحذر من مجاوزته وتعديه‏.‏

ثم أمر الخليفة بإنشاء منشور يتلى مضمونه‏:‏ خرج أمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين بإنشاء هذا المنشور بأن يعتمد في ديوان التحقيق والمجلس وسائر دواوين الدولة قاصيها ودانيها قريبها ونائيها إمضاء ما كان السيد الأجل الأفضل قرره وخرجت به توقيعاته الثابتة عليها علامته في الأحكام والأموال بتصاريف الأحوال إذ أمر أمير المؤمنين راض بأفعاله محقق لأقواله حامد لمقاصده ممض لأحكامه عارف بسداد رأيه في نقضه وإبرامه على أوضاعها وأحكامها وتقريراته في كل منها‏.‏

فليحذر كافة الأمراء وسائر الولاة نصرهم الله وأظفرهم وجميع النواب والمستخدمين والكتاب والمتصرفين بجميع الأعمال من تأول فيه أو تعقيد بغير شيئا من أحكامها على ما قرره وأمر به‏.‏

وليجلد هذا المنشور في ديوان التحقيق والمجلس بعد ثبوته في جميع الدواوين وليصدر الإعلان به إلى كافة الجهات بهذا المرسوم تثبيتا لهذا الأمر المذكور المحتوم إن شاء الله تعالى وفي السادس والعشرين من شوال عمل تمام الشهر على تربة الأفضل كما عملت الصبحة والثالث‏.‏

فلما انقضى الختم وانصرف الناس ركب الخليفة بموكبه‏.‏

ونزل إلى التربة وترحم عليه وعاد‏.‏

ذكر هذا جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي في تاريخه‏.‏

وقال ابن ميسر‏:‏ وأقام الخليفة في دور الأفضل وفي دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة وغيرهما مدة أربعين يوما والكتاب بين يديه يكتبون ما ينقل إلى القصور فوجد له من الذخائر النفيسة ما لا يحصى‏.‏

فيما وجد له ستة آلاف ألف دينار عينا وفي بيت الخاصة ثلاثة آلاف ألف دينار وفي البيت البراني ثلاثة آلاف ألف ومائتا ألف وخمسون ألف دينار ومائتين وخمسين إردبا دراهم ورقاً وثلاثين راحلة من الذهب العراقي المغزول برسم الرقم وعشرة بيوت في كل بيت عشرة مسامير ذهب كل مسمار وزنه مائتا مثقال عليها العمائم المختلفة الألوان وتسعمائة ثوب ديباج ملونة وخمسمائة صندوق من دق دمياط وتنيس برسم كسوة بدنه ولعبة من عنبر على قدر جسده برسم ما يعمل عليها من ثيابه لتكتسب الرائحة ومن الطيب والآلات ما لا يحصى عدده ومن الأبقار والجاموس والأغنام والجمال ما بلغ ضمان ألبان ونتاجه في سنة نحو أربعين ألف دينار ودواية يكتب منها مرصعة بالجواهر قوم جوهرها باثني عشر ألف دينار وخمسمائة ألف مجلدة من الكتب العلمية‏.‏

قال‏:‏ وأخذ الآسر في نقل ما بدار الأفضل إلى القصر وهو يرتب ما يحمل بنفسه هو وأصحابه واستمر ذلك مدة شهرين وأيام والأموال تحمل على بغال وجمال إلى القصر والآمر وذكر متولي الخزابة بالقصر أن مما وجد في دار الأفضل ستة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار وورق قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار وسبعمائة طوق ما بين ذهب وفضة ومن الأسطال والصحاف والشربات والأباريق والقدور والزبادي الذهب والفضة المختلفة الأجناس ما لا يحصى كثرة ومن براني الصيني الكبار المملوء بالجواهر التي بعضها منظوم كالسبح وبعضها منثور شيء كثير‏.‏

وكان الأفضل في أوقات الشرب يصف في مجلسه صواني الذهب وبينها البراني المملوءة بالجواهر فإذا أحب فرغب البرنية في الصينية فتكون ملئها‏.‏

ووجد له من أصناف الديباج وما يجري مجراه من عتابي ونحوه تسعون ألف ثوب وثلاث خزائن كبار مملوءة صناديق كلها دبيقي وشرب عمل تنيس ودمياط على كل صندوق شرح ما فيه وجنسه‏.‏

وخزانة الطيب مملوءة أسفاطا فيها العود وغيره مكتوب على كل سفط وزنه وجنسه وبراني بها المسك والكافور وشيء كثير من العنبر‏.‏

ووجد مجلس يجلس فيه للشرب فيه ثمان جوار متقابلات أربع منهن بيض من كافور وأربع سود من عنبر قيام في المجلس عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى بأيديهن مذاب من أعظم الجوهر فإذا دخل من باب المجلس ووطىء العتبة نكسن رءوسهن خدمة له بحركات قد أحكمت فإذا جلس في صدر المجلس ووجد له من المقاطع والستور والفرش والمطارح والمخاد والمساند الديباج والدبيقي الحريري والذهب على اختلاف الأجناس أربع حجر كل حجرة مملوءة من هذا الجنس‏.‏

ووجد له عدة صناديق ملء خزانة فيها أحقاق ذهب عراقي برسم الاستعمال‏.‏

ووجد له منقلات عدة تزيد على المائة ملبسة بالذهب والفضة مرصعة بالجوهر وثمانمائة جارية منها خمسة وستون حظية لكل واحدة حجرة وخزائن مملوءة بالكسوة والآلات الذهب والفضة من كل صنف‏.‏

وكان في مخازنه تحت يد عماله والجباة وضمان النواحي من المال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والخشب وغير ذلك ما يتعب شرحه‏.‏

وحمل من داره أربعة آلاف بساط وستون حملا طنافس وخمسمائة قطعة بلور وخمسمائة قطعة محكم برسم النقل وألف عدل من متاع اليمن والمغرب وتسعة آلاف سرج‏.‏

قال ابن ميسر‏:‏ وكان الأفضل من العدل وحسن السيرة في الرعية والتجار على صفة جميلة تجاوز ما سمع به قديماً وشوهد أخيرا ولم يعرف أحد صودر ولا ضبط عليه‏.‏

ولما حصر الاسكندرية كان به يهودي يبالغ في سبه وشتمه ولعنه فلما دخل الأفضل البلد قبض عليه وقدمه للقتل وقد عدد عليه ذنوبه فقال اليهودي‏:‏ إن معي خمسة آلاف دينار خذها مني وأعتقني واعف عني‏.‏

فقال‏:‏ والله لولا خشية أن يقال قتله حتى يأخذ ماله لقتلتك وعفا عنه ولم يأخذ منه شيئا‏.‏

وكان إذا غضب على أحد اعتقله ولم يقتله فلما مات أطلق من سجنه عشرة آلاف إنسان فإنه كان إذا اعتقل أحداً نسيه ولا يرى بإخرابه‏.‏

وكانت محاسنه كثيرة‏.‏

وهو أول من أفرد مال المواريث ومنع من أخذ شيء من التركات على العادة القديمة وأمر بحفظها لأربابها فإذا حضر من يطلبها وطالعه القاضي بثبوت استحقاقه أمره في الحال بإطلاق ما ثبت له‏.‏

واجتمع بمودع الحكم من مال المواريث التي تنتظر وصول مستحقها من شرق الدنيا وغربها مائة ألف وثلاثون ألف دينار فرفع إليه قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الرأس عيني لما ولى أن قد اعتبرت ما في مودع الحكم من مال المواريث فكان مائة ألف دينار ورفعها إلى بيت المال أولى من تركها في المودع فإن لها السيرة الطويلة لم يطلب شيء منها‏.‏

فوقع رقعته‏:‏ إنما قلدناك الحكم ولا رأي لنا فيما لا نستحقه فاتركه على حاله لمستحقيه ولا تراجع فيه‏.‏

فأخذها هذا القاضي غرفاً‏.‏

وبلغ ارتفاع خراج مصر في أيامه لسنة خمسة آلاف ألف دينار ومتحصل الأهراء ألف ألف إردب‏.‏

وبنى في أيامه من المساجد والجوامع جامع الفيلة بالجرف المعروف بالرصد والمسجد المعروف بالجيوشي على سطح الجبل‏.‏

وبنى مئذنة جامع عمرو بمصر الكبيرة والمئذنة السعيدة به أيضا والمئذنة المستجدة وجامع الجيزة‏.‏

وعمل خيمة الفرح التي سميت بالقاتول اشتملت على ألف ألف وأربعمائة ألف ذراع من الثياب وقائم ارتفاع العمود الذي لها خمسون ذراعا بذراع العمل وبلغت النفقة عليها عشرة آلاف ألف دينار‏.‏

وللشعراء فيها عدة مدائح‏.‏

وكان الأفضل يقول الشعر‏.‏

فمن شعره في غلامه تاج المعالي‏:‏

أقضيب يميس أم هو قدّ ** أو شقيق يلوح أو هو خدّ

أنا مثل الهلال خوفاً عليه ** وهو كالبدر حين وافاه سعد

وكان شديد الغيرة على نسائه‏.‏

اطلع من سطح داره فرأى جارية من جواريه متطلعة إلى الطريق فأمر بضرب عنقها‏.‏

فلما وضعت الرأس بين يديه أنشد‏:‏

نظرت إليها وهي تنظر ظلّها ** فنزّهت نفسي عن شريك مقارب

أغار على أعطافها من ثيابها ** ومن مسك لها في الذّوائب

ولي غيرةٌ لو كان للبدر مثلها ** لما كان يرضى باجتماع الكواكب

قال‏:‏ وكان عدة الوعاظ والقراء والمنشدين في عزاء الأفضل أربعمائة وعشرين شخصاً فخرج أمر الخليفة أن يعطى كل واحد منهم ثمانين دينارا الصغير مثل الكبير فقال ابن أبي قيراط‏:‏ يا مولانا هذا مال كثير‏.‏

فقال‏:‏ إنفاذ أمرنا هذا من بعض حقه علينا‏.‏

فجاء مبلغ ما دفع نحواً من أربعة وثلاثين ألف دينار‏.‏

قال‏:‏ والأفضل هو الذي أنشأ بستان البعل والمنتزه المعروف بالتاج والخمس وجوه والبستان الكبير والبستان الخاص بقيلوب وجدد بستان الأمير تميم ببركة الحبش وأنشأ الروضة بحرى الجزيرة وكان يمضي إليها في العشاريات الموكبية رحمه الله‏.‏

في مستهل ذي القعدة خلع على القائد أبي عبد الله بن فاتك بذلة مذهبة بشدة الخليفة الداعية وحلت المنطقة من وسطه وخلع على ولده بذلة مذهبة وحلت منطقته أيضا وعلى جميع إخوته بمثل ذلك‏.‏

واستمر ينفذ الأمور لا يخرج شيء عن نظره إلى مستهل ذي الحجة ففي يوم الجمعة ثانيه خلع عليه من ملابس الخاص الشريف في فرد كم مجلس العيد وطوق بطوق ذهب مرصع وسيف ذهب مرصع وسلم على الخليفة فأمر الخليفة الأمراء وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه‏.‏

ومشى في ركابه القواد على عادة من تقدمه وخرج بتشريف الوزارة ودخل على باب العيد راكباً ووصل إلى داره فضاعف الرسوم وأطلق الهبات‏.‏

وفي خامسه اجتمع الأمراء واستدعى الشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة فحضر بالسجل في لفافة خاص مذهبة فسلمه الخليفة إلى الأجل المأمون من يده فقبله وسلمه لزمام القصر وأمر الخليفة المأمون فجلس عن يمينه وقرئ السجل على باب المجلس وهو أول سجل قرئ بهذا المكان وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان‏.‏

ورسم للشيخ أبي الحسن أن ينقل نسبة الأمراء والمحنكين والناس جميعهم من الآمري إلى المأموني ولم يكن أحد قبل ذلك ينتسب للأفضل ولا لأمير الجيوش‏.‏

وقدمت للمأمون الدواة فعلم في مجلس الخليفة وتقدم للأمراء والأجناد فقبلوا الأرض وشكروا هذا الإحسان‏.‏

وأحضرت الخلع فخلع على حاجب الحجاب حسام الملك وطوق بطوق ذهب وسيف ذهب ومنطقة ذهب وخلع على الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست وعلى الشيخ أبي البركات بن أبي الليث وعلى أبي الرضا سالم بن الشيخ أبي الحسن وعلى أبي المكارم أخيه وعلى أبي محمد أخيهما وعلى أبي الفضل يحيى بن سعيد الميمذي ووصل بدنانير كثيرة بحكم أنه قرأ السجل‏.‏

وخلع على أبي الفضائل بن أبي الليث صاحب مغفر المجلس‏.‏

ثم استدعى غذى الملك سعيد ابن عمار الضيف متولى أمور الضيافات والرسل الواصلين الحضرة من جميع الجهات وأخذ أقلامه على التوقيعات فخلع عليه‏.‏

وفي الأيام الأفضلية لم يكن أحد يدخل مجلسه ولا يصل لعتبته لا من الحجاب ولا غيرهم سوى غذى الملك هذا فإنه كان يقف من داخل العتبة وكانت هذه الخدمة إذ ذاك من أجل الخدم وأكبرها‏.‏

قالوا أتاه النّعت وهو السيد ال - - أمون حقّا والأجلّ الأشرف ومغيث أمة أحمد ومجيرها ما زادنا شيئا على ما نعرف وذلك أنه نعت في سجله المقروء على الكافة بالأجل المأمون تاج الخلافة وجيه الملك فخر الصنائع ذخر أمير المؤمنين‏.‏

ثم تجدد له في نعوته بعد ذلك الأجل المأمون تاج الخلافة عز الإسلام فخر الأنام نظام الدين والدنيا‏.‏

ثم نعت بما كان ينعت به الأفضل وهو السيد الأجل المأمون أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي رعاة المؤمنين‏.‏

ولما استمر نظر المأمون للدولة بالغ الخليفة في شكره فقال له المأمون‏:‏ ثم كلام يحتاج إلى خلوة‏.‏

فأمر بخلو المجلس‏.‏

فقال‏:‏ يا مولانا امتثال الأمر متعب ومخالفته أصعب وما تتسع خلافة قدام آمر الدولة وهو في دست خلافته ومنصب آبائه وأجداده وما في قواي ما يرومه ويكفيني هذا المقدار وهيهات أن أقوم به والأمر كبير‏.‏

فتغير الخليفة وأقسم‏:‏ إن كان لي وزير غيرك‏!‏ فقال المأمون‏:‏ لي شروط وقد كنت مع الأفضل وكان اجتهد في النعوت وحل المنطقة فلم أفعل وكان أولاده يكتبون إليه بكوني قد خنته في المال والأهل وما كان والله العظيم ذلك مني يوما قط ومع ذلك معاداة الأهل جميعهم والأجناد وأرباب الطيالس والأقلام وهو يعطيني كل ورقة تصل إليه منهم وما يسمع كلامهم‏.‏

فقال الخليفة‏:‏ فإذا كان فعل الأفضل معك ما ذكرته إيش يكون فعلي أنا فقال‏:‏ يعرفني المولى ما يأمر به فأمتثله بشرط ألا يكون عليه زائداً‏.‏

فأول ما ابتدأ به أن قال‏:‏ أريد الأموال لا تبقى إلا بالقصر ولا تصل الكسوات من الطراز والثغور إلا إليه ولا تفرق إلا منه وتكون أسمطة الأعياد فيه وتوسع في رواتب القصور من كل صنف وزيادة رسم منديل الكم‏.‏

فقال المأمون‏:‏ سمعا وطاعة أما الكسوات والجبايات والأسمطة فما تكون إلا بالقصور وأما توسعة الرواتب فما ثم من يخالف الأمر وأما منديل الكم فقد كان الرسم في كل يوم ثلاثين دينارا يكون في كل يوم مائة دينار ومولانا سلام الله عليه يشاهد ما يعمل بعد ذلك في الركوبات وأسمطة الأعياد وغيرها‏.‏

ففرح الخليفة‏.‏

وقال المأمون‏:‏ أريد بهذا مسطوراً بخط أمير المؤمنين ويقسم لي فيه ألا يلتفت لحاسد ولا ينقبض ومهما ذكر عني يطلعني عليه ولا يأمر فيّ بأمر سراً ولا جهراً يكون فيه ذهاب نفسي وانحطاط قدري وتكون هذه الأيمان باقية إلى وقت وفاتي فإذا توفيت تكون لأولادي ولمن أخلفه بعدي‏.‏

فحضرت الدواة وكتب ذلك جميعه وأشهد الله في آخرها على نفسه‏.‏

فعندما حصل الخط بيد المأمون وقف وقبل الأرض وجعله على رأسه وكان الخط نسختين فلما قبض على المأمون في رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة كما سيأتي إن شاء الله أنفذ الخليفة طلب الأمان فأنفد إليه نسخة منهما فحرقها وبقيت النسخة الأخرى فأعدمت‏.‏

في هذه السنة هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام فأهلكت شيئا كثيرا من الناس والحيوان‏.‏

 سنة ست عشرة وخمسمائة

في المحرم كان المولد الآمري‏.‏

وتقرر السلام على الخليفة في يومي الاثنين والخميس فأما في يومي السبت والثلاثاء فيركب الوزير بالرهجية إلى القصر ويركب الخليفة إلى ضواحي القاهرة للنزهة وأما الأحد والأربعاء فيجلس الوزير المأمون في داره على سبيل الراحة‏.‏

في صفر سب أحد صبيان الخاص الآمري صاحب الشرع وشهد عليه فضربت عنقه وصلب‏.‏

فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس‏.‏

وكانت الدولة قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية فلما جاءت الشدائد تغلبوا عليه ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه فلم يرموا أيديهم في يدها ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح عن ولاتهم‏.‏

ومضى ذلك السلف وخلفهم القاضي فخر الملك هذا في الأيام الأفضلية فجرى على تلك الوتيرة ودفع إلى محاصرة الفرنج له مدة سبع سنين فضاق خناقه وأيس فخرج من طرابلس إلى العراق مستنجداً فلم يجد ناصراً‏.‏

واختلت أحواله وعاد إلى دمشق وقد ملك الفرنج طرابلس فسار إلى مصر‏.‏

وقال في‏:‏ كتابه والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف وفخر يكفر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها فإن خرج الأمر بذلك فمنة كريمة وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدوله‏.‏

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل من الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود‏.‏

فقال المأمون للخليفة‏:‏ قد أجل الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه فإن العفو زكاة القدرة عليه ويشمله ما شمل أمثاله‏.‏

فأعجب الخليفة الآمر ذلك وخرج الأمر بأن تعدد على ابن عمار ذنوبه وذنوب أسلافه ويقال له‏:‏ قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك‏.‏

فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له‏:‏ قد غفر ذنبك وأنت مخير بين أمرين إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات‏.‏

فلما خوطب بذلك قبل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه وكلما خوطب في رفعه قال لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته‏.‏

فبلغته الحضرة النبوية ما تمناه وحصل له الأمن وأمر به إلى دار أعدت له وجعل فيها شهوات السمع والبصر وحملت إليه الضيافات الكثيرة وجرد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين‏.‏

فأقام أياما يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها ووصله من المواهب ما أربى على أمله‏.‏

وقرر له راتبا في كل شهر ستون دينارا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان‏.‏

وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم ورفع عنه الحاجب والمستخدمون وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله‏.‏

ولزم طريقة حمدت منه فاستمر إليه الإحسان وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما‏.‏

وفيه أفرج عن الأمير عضب الدولة عز الملك أبي منصور بنا وكان له في الاعتقال ثلاث عشرة سنة لأنه كان والي عكا وسلمها إلى الفرنج فلما وصل رماه الأفضل في الاعتقال فلما أفرج عنه أعيد عليه نظير ما كان قبض عنه للاصطبلات والخزائن وولي البحيرة‏.‏

وأفرج عن جماعة أمراء كانوا معتقلين منهم أبو المصطفى جوهر ودخل السجن وهو شاب فيه وصل رسول الشريف قاسم أمير مكة الذي حضر في الأيام الأفضلية بسبب أموال التجار ومعه كتاب بتهنئة المأمون فجهز إلى الأعمال القوصية بالاهتمام بالجناب الديوانية وترميم ما يحتاج إلى المرمة وتجديد عوض ما تلف وأطلق له ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعون إردباً برسم مكة وتخوت ثياب وخلع ومال وبخور‏.‏

وفيه غلا الزيت الطيب والسيرج فكتب المستخدمون في الخزائن ومشارفة الجوامع بأن يكون المطلق برسم الوقود وفي المشاهد عوضاً عن الزيت الطيب الزيت الحار فخرج الجواب بالتحذير من ذلك وبألا يطل إلا الزيت الطيب ولا يلتفت إلى غلو السعر في الخدم التي هي من حق الله تعالى فلا يجب الرخصة فيه ولا بنقص من المطلق شيء‏.‏

وبلغ المأمون أن مشارف الجوامع والمساجد اشترى من ماله صبراً وخلطه بالزيت لمنع القومة من التعرض لشيء منه فأنكر ذلك وأمر بإحضاره وأن يقوم من ماله بثمن الزيت الذي فيه الصبر ويطلق الزيت المستقر إطلاقه على تمامه‏.‏

وقيل له‏:‏ قومة الكنائس والمقيمون بها والطارقون لها لا يقتاتون إلا من فضلات وقود كنائسهم ونحن نبيح لهؤلاء الأكل ونحرم عليهم البيع‏.‏

وتقدم الأمر بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجي على جملتين إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة والثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة فانعقدت على جملة كثيرة من عين وأصناف وشرحت بأسماء أربابها وتعيين بلادها‏.‏

فلما حضرت أمر بكتابة سجل بالمسامحة إلى آخر سنة عشر وخمسمائة ومبلغ ما سومح به من البواقي ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم ومن الغلة ثلاثة آلاف الف وثمانمائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون إردبا ومن الأرز والكتان وحرق الصباغ وزريعة الوسمة والصباغ والفود والحديد والزفت والقطران والثياب والمآزر والغرادلي شيء كثير ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة رءوس ومن البسر والنخيل والجريد والسلب والأطراف والملح والأشنان والرمان وعسل النحل والشمع وعسل القصب شيء كثير ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا ومن الدواب والسمن والجبن والصوف والشعر شيء كثير‏.‏

وقد تقدم ذكر نسخة هذا السجل عند ذكر الخراج من هذا الكتاب‏.‏

وقرئ منشور بالجامع الأزهر وجامع عمرو بمصر بالمنع مما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادة وفسخ عقود الضمانات وإعفاء الكافة من المعاملين والضمناء من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ما داموا قائمين بأقساطهم‏.‏

فيه تحول الخليفة الآمر إلى اللؤلؤة وأقام فيها مدة النيل على الحكم الأول وأزال ما أحدث من البناء بالقرب منها وتحول معه الوزير المأمون بن البطائحي والشيخ أبو الحسن ابن أبي أسامة كاتب الدست وحاجب الحجاب وحسام الملك ورتبت الرهجية والحرس وأطلق لهم ما يقوم بهم‏.‏

وصار الخليفة يمضي في السراديب من اللؤلؤة إلى القصر في يومي السلام فلا يراه أحد سوى الأستاذين والخواص ويحضر الوزير على عادته ويحمل الأسمطة ويحضر الناس على العادة ويركب في يومي الثلاثاء والسبت إلى المتنزهات‏.‏

فيه تقدم الوزير بتجديد المشاهد التسعة التي بين القرافة والجبل‏.‏

وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر وتختم ويحذر من بيع الخمر فرأى الوزير أن يكون ذلك في سائر الأعمال فكتب إلى ولاة الأعمال وأن ينادي بأن من تعرض لبيع شيء من هذين الصنفين أو لشرائهما سرا وجهراً فقد عرض نفسه لتلافها وبرئت الذمة من هلاكها‏.‏

لما كان مستهل رجب عملت الأسمطة على العادة فقال الخليفة الآمر لوزيره المأمون‏:‏ قد أعدت لدولتي بهجتها وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم وقد زال حكمها وهي ليالي الوقود الأربع‏.‏

فامتثل الأمر وعملت‏.‏

واستجد في كل ليلة على الاستمرار برسم الخاصين الآمري والمأموني قنطار سكر ومثقالا مسك وديناران برسم المؤن ليعمل خشكنان وتشد في قعاب وسلال صفصاف وكان يسمى بالقعبة ويحمل ثلثا ذلك إلى القصر والثلث إلى دار المأمون‏.‏

ووصلت كسوة الشتاء فكانت أربعة آلاف قطعة وثلثمائة وخمس قطع‏.‏

ووصلت كسوة عيد الفطر وتشتمل على نحو عشرين ألف دينار وكان عندهم الموسم الكبير ويسمى بعيد الحلل لأن الحلل فيه تعم الجميع وفي غيره للأعيان خاصة‏.‏

وعمل الختم في آخر شهر رمضان بالقصر وعبئ سماط الفطرة في مجلس الملك بقاعة الذهب من القصر فكان سماطاً جميعه من حلاوة الموسم‏.‏

وصلى الخليفة الآمر بالناس صلاة العيد في المصلى ظاهر باب النصر وخطب وكان ذلك قد بطل في الأيام الجيوشية والأفضلية‏.‏

وكان الذي أنفق في أسمطة شهر رمضان عن تسع وعشرين ليلة خارجاً عن التوسعة المطلقة أصنافاً برسم الخليفة وجهاته وخارجا عن العطية وخارجاً عن رسم القراء والمسحرين وخارجاً عن الأشربة والحلاوات من ألعاب ستة عشر ألف دينار وأربعمائة وستة وثلاثين دينارا‏.‏

وجملة ما قدر على المنفق في شهر رمضان بما تقدم شرحه والتوسعة والصدقات والفطرة وكسوة الغرة والعيد مائة ألف دينار عينا‏.‏

وضرب في خميس العدس ألف دينار عملت عشرين ألف خروبة وكانت العادة أن يضرب في كل سنة خمسمائة دينار‏.‏

وفي شوال هذا وصل شاور من أسر الفرنج وكان مأسوراً من الأيام الأفضلية وطالت مدة أسره وبذلت عشيرته في افتكاكه جملةً كبيرة فلم يقبل منهم وطلب فيه أسير من الفرنج فلم يجبهم الأفضل إليه لأنه كان لا يطلق أسيرا أبداً‏.‏

فلما ولي المأمون الوزارة وميز رديني مقدم العربان الجذاميين وقبيلته وشاور من بني سعد فخذ من جذام وقف مجير أخو شاور وإخوته للمأمون وما زالوا به حتى أطلق الأسير فأطلق الفرنج شاوراً في شوال وأثبت في الطائفة المأمونية وكان هذا ابتداء حديث شاور‏.‏

وفيه تنبه ذكر الطائف النزارية وقرر بين يدي الخليفة بأن يسير رسولاً إلى صاحب ألموت بعد أن جمعت فقهاء الإسماعيلية والإمامية وهم لي الدولة أبو البركات بن عبد الحقيق داعي الدعاة وجميع دعاة الإسماعيلية وأبو محمد بن آدم متولى دار العلم وأبو الثريا ابن مختار فقيه الإسماعيلية ورفيقه أبو الفخر والشريف ابن عقيل وشيوخ الشرفاء وقاضي القضاة وأولاد المستنصر وجماعة من بني عم الخليفة وأبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست وجماعة من الأمراء وقال لهم المأمون‏:‏ ما لكم من الحجة في الرد على هؤلاء الخارجين على الإسماعيلية فقال كل منهم‏:‏ لم يكن لنزار إمامة ومن اعتقد هذا خرج عن المذهب وحل ووجب قتله وإن كان والده المستنصر نعته ولي عهد المسلمين ونعت إخوته منهم أبو القاسم أحمد بولي عهد وذكر حسين بن محمد الموصلي أن اليازوري لم يزل يسأل المستنصر إلى أن كتب اسمه على الدينار وهو ما مثاله‏:‏ ضربت في دولة آل الهدى ومن آل طه وآل ياسين مستنصرا باللّه جل اسمه وعبده الناصر للدّين في سنة كذا ولم يقم بعد ذلك إلا دون الشهر فاستعيدت وأمر ألا تسطر‏.‏

ودليل يعضد ذلك أنه لما جرت تلك الشدائد على الإمام المستنصر وسير أولاده وهم‏:‏ الأمير عبد الله إلى عكا إلى أمير الجيوش ثم أتبعه أبي علي والأمير أبي القاسم والد الحافظ إلى عسقلان وسير نزاراً إلى ثغر دمياط سير الأعلى إلى ولم يسمح بسفر الإمام المستعلى ولا خروجه من القصر لما أهله له من الخلافة ولا أبعده خوفاً من حضور المنية فلما وصل أمير الجيوش إلى البلاد بعد تهيئتها وتأمينها ورغب الإمام المستنصر في عقد نكاح ولده الإمام المستعلى على ابنته أخت الأفضل وعقد النكاح بنفسه سماه في كتاب الصداق مولى عهد أمير المؤمنين وعلم عليه بخطه‏.‏

ثم عند وفاة المستنصر بايع نزار الإمام المستعلى بما شاهده كل حاضر وبما ذكرته السيدة ابنة الإمام الظاهر شقيقه الإمام المستنصر في صحة إمامته‏.‏

فكتب الكتاب بجميع ذلك إلى صاحب ألموت مضناً بشهادة الجماعة بذلك‏.‏

ثم وصل في أثناء ذلك كتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قد قويت شوكتهم واشتدت في البلاد طمعتهم وأنهم يسيرون المال مع التجار إلى قوم يخبرون أسماءهم وأنهم سيروا لهم الآن ثلاثة آلاف دينار برسم النجوى وبرسم المؤمنين الذين ينزل الرسل عندهم ويختفون في محلهم فتقدم المأمون بالفحص عنهم والاحتراز التام على الآمر في ركوبه ومتنزهاته وحفظ الدور غيرها‏.‏

ولم يزل البحث التام في طلبهم إلى أن وجدوا عند قوم من أهل البلد فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال من البلاد المشرقية فراموا قتلهم فأشار المأمون بتركهم‏.‏

وأحضر الشيخ أبو القاسم بن الصيرفي وأمر بكتب سجل يقرأ على رءوس الأشهاد وتفرغ منه النسخ إلى البلاد بمعنى ما ذكر من نفي نزار عن الإمامة وشهر الجماعة المقبوض عليهم وصلبوا وامتنع الآمر من قبض الألفي دينار الواصلة للنجوى وأمر بحملها إلى بيت المال وأن تنفق في السودان عبيد الشراء خاصة‏.‏

وأمر بأن يحضر من بيت المال نظير المبلغ وتقدم بأن يصاغ قنديلين ذهباً وقنديلين فضة وأن يحمل قنديلان ذهبا وفضة إلى مشهد الحسين بعسقلان وقنديلان كذلك إلى التربة‏.‏

وأطلق المأمون من ماله ألفي دينار وتقدم بأن يصاغ بها قنديل ذهب وسلسلة فضة برسمه على قياس أحضر من عسقلان وأن يصاغ على المصحف الذي بخط علي بن أبي طالب وأطلق من حاصل الصناديق التي تشتمل على مال النجاري برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرق في الجوامع الثلاثة‏:‏ الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وجامع القرافة وعلى فقراء المؤمنين وعلى أرباب القصور‏.‏

وأطلق من الأهراء ألفا إردب قمحاً وتصدق عدة من الجهات بجملة كثيرة‏.‏

واشتريت عدة جوار من الحجر وكتب عتقهن وأطلق سراحهن‏.‏

قال ابن ميسر وقد ذكر هذا المجلس‏:‏ وقد كانت أخت نزار في قاعة بجانب الإيوان من القصر وعلى الباب ستر وعلى الستر إخوتها وبنو عمها وكبار الأستاذين‏.‏

فلما جرى هذا الفصل قام المأمون من مكانه ووقف بإزاء الستر وقال‏:‏ من وراء هذا الستر فعرف بها إخوتها وبنو عمها وأنه ليس غيرها وراء الستر‏.‏

فلما تحقق الحاضرون ذلك قالت‏:‏ اشهدوا علي يا جماعة الحاضرين وبلغوا عني جماعة المسلمين بأن أخي شقيقي نزاراً لم يكن له إمامة وأنني بريئة من إمامته جاحدة لها لا عنة لمن يعتقدها لما علمته من والدي وسمعته من والدتي لما أمر المستنصر بمضيها هي والجهة المعظمة والدة عبد الله أخي إلى المنظرتين اللتين على القناطر المعروفتين بالحرارة والبرياصة للنزهة أيام النيل جرى بينهما مشاجرة في ولديهما فأحضرهما المستنصرين يديه وأنكر عليهما وقال‏:‏ ما يصل أحد من ولديكما إلى الأمر صاحبه معروف في وقته‏.‏

وشاهدت والدي المستنصر في مرضته التي توفى فيها وقد أحضر المستعلى وأخذه معه في فراشه وقبل بين عينيه وأسر إليه طويلاً وقد دمعت عيناه وفي اليوم الذي انتقل والدي في ليلته استدعى عمتي بنت الظاهر فأسر إليها من بيننا ومد يده إليها فقبلها وعاهدها وأشهد الله تعالى معلناً ومظهراً‏.‏

فلما انتقل في تلك الليلة حضر صبيحتها الأفضل ومعه الداعي والأمراء والأجناد ووقف بظاهر المقرمة ثم جلس وكلهم قيام وأخذ في التعزية ثم قال‏:‏ يا مولاتنا من ارتضاه للخلافة فقالت‏:‏ هي أمانة قد عاهدني عليها وأوصاني بأن الخليفة من بعده ولده أبو القاسم أحمد‏.‏

فحضر وبايعته عمتي وبايعه أخوه الأكبر عبد الله فأشار الأفضل إلى نزار فبايعه وأمر بالتوكيل على نزار وتأخيره فأخر إلى مكان لا يصلح له‏.‏

واستدعى الأفضل الداعي وأمره بأخذ البيعة من نفسه ومن الموالي والأستاذين‏.‏

وسألت عمتي الأفضل في نزار فرفع عنه التوكيل عليه بعد أن كلمه بكلام فيه غلظة ووالله ما مضى أخي نزار إلى ناصر الدولة أفتكين بالإسكندرية لطلب إمامة ولا لادعاء حق ولكن طالب بالزوال للأفضل وإبطال أمره لما فعله معه‏.‏

والله يلعن من يخالف ظاهره باطنه‏.‏

فشكرها الناس على ذلك‏.‏

وكان سبب حضور أخت نزار في هذا المجلس أن المأمون قال للآمر‏:‏ قد كشفت الغطاء وفعلت ما لا يقدر أحد على فعله وأما القصر فما لي فيه حيلة‏.‏

ولوح أن أخت نزار وأولادها لا يمكنني كشف أمرهم‏.‏

فلما بلغ أخت نزار ذلك حضرت إلى الخليفة الآمر لتبرئ نفسها ورغبت أن تخرج للناس لتقول ما سمعته من والدها وشاهدته ليكون قولها حجة على من يدعي لأخيها ما ليس له‏.‏

فاستحسن الآمر ذلك منها وأحضر المأمون وأخاه شقيقه أبا الفضل جعفر بن المستعلى واتفقوا على يوم يجتمعون فيه‏.‏

فلما كان في شوال عمل المجلس المذكور‏.‏

وأما النزارية فإنها تقول إن المستنصرمات والأفضل صاحب الأمر والمستحوذ على المملكة والجند جنده وغلمان أبيه لا يعرفون سواه وكان نزار لما يرى من غلبة الأفضل على الدولة يتكلم بما بلغه فينكره فلما مات المستنصر والأفضل متخوف من شر نزار أقام أحمد ابنه المستعلى لأنه زوج أخته ولأنه صغير‏.‏

وفيها أراد الآمر أن يحضر إلى دار الملك في يوم النوروز الكائن في جمادى الآخرة ويركب إليها في المراكب على ما كان عليه الأفضل فمنعه المأمون من ذلك وقال‏:‏ يا مولانا الأفضل لا يجري مجرى أمير المؤمنين‏.‏

وحمل إليه من الثياب الفاخرة برسم جهاته ماله قيمة جليلة‏.‏

وفي شوال بلغ المأمون أن جزيرة قويسنا ومنية زفتى ليس فيهما جامع فتقدم إلى بعض خواصه وخلع عليه فسار وبنى جامعا على شاطىء النيل بمنية زفتى وقرر فيه خطيباً وإماماً ومؤذنين وفرش وأطلق برسمه نظير ما للجوامع‏.‏

وفيه وصل الفقيه أبو بكر محمد بن محمد الفهري الطرطوشي من الإسكندرية بالكتاب الذي حمله‏:‏ سراج الملوك فأكرمه وأمر بإنزاله في المجلس المهيأ للإخوة وتقدم برفع أدوية الكتاب وأوطئة الحساب وسلام الأمراء وعمل السماط وسارع إلى البادهنج واستدعى بالفقيه‏.‏

فلما شاهده وقف ونزل عن المرتبة وجلس بين يديه ثم انصرف ومعه أخو المأمون إلى مكان أعد له وحمل إليه ما يحتاج له وأمر مشارف الجوالي أن يحمل له في كل يوم خمسة دنانير بمقتضى توقيع مقتضب فامتنع الفقيه وأبي أن يقبل غير الدينارين اللذين كانا له في الأيام الأفضلية‏.‏

وصار المأمون يستدعيه في يومي راحته ويبالغ في كرامته ويقضي شفاعاته‏.‏

وكان السبب في حضوره أنه تكلم في الأيام الأفضلية في أمور المواريث وما يأخذه أمناء الحكم من أموال الأيتام وهو ربع العشر وأمر توريث الابنة النصف فلم يقبل ذلك ففاوض المأمون فيه وقال‏:‏ هذه قضية وجدتها وما أحدثتها وهي تسمى بالمذهب الدارج ويقال إن أمير الجيوش بدر هو الذي استجدها وهي أن كل من مات يعمل في ميراثه على حكم مذهبه وقد مر على ذلك سنون وصار أمراً مشروعا فكيف يجوز تغييره‏.‏

فقال له الفقيه‏:‏ إذا علمت ما يخلصك من الله غيرها فلك أجرها‏.‏

فقال أنا نائب الخليفة ومذهبه ومذهب جميع الشيعة من الزيدي والإمامي والإسماعيلي أن الإرث جميعه للابنة خاصة بلا عصبة ولا بيت مال ويتمسكون بأنه من كتاب الله كما يتمسك غيرهم وأبو حنيفة رحمه الله يوافقهم في القضية‏.‏

فقال الفقيه‏:‏ أنا مع وجود العصبة فلا بد من عدتها‏.‏

فقال المأمون أنا لا أقدر أن أرد على الجماعة مذهبهم والخليفة لا يرى به وينقضه على من أمر به بل أرى بشفاعة الفقيه أن أرد الجميع على رأى الدولة فيرجع كل أحد على حكم رأيه في مذهبه فيما يخلصه من الله ويبطل حكم بيت المال الذي لم يذكره الله في كتابه ولا أمر به الرسول عليه السلام‏.‏

فأجاب إلى ذلك‏.‏

وأمر الوزير أن يكتب به وأن يكتب بتعويض أمناء الحكم عما يقتضونه من ربع العشر بتقرير جار لهم في كل شهر من مال الديوان على المواريث الحشرية وأخذ الفقيه في ذكر بقية حوائج أصحابه وكتب منه توقيع فرغت منه نسخ منها ما سير إلى الثغور وكبار الأعمال وشملته العلامة الآمرية وبعدها العلامة المأمونية‏.‏

ونسخته بعد البسملة‏:‏ خرج أمر أمير المؤمنين بإنشاء هذا المنشور عندما طالعه السيد الأجل المأمون أمير الجيوش ونعوته والدعاء وهو الخالصة أفعاله في حياطة المسلمين وذو المقاصد المصروفة إلى النظر في مصالح الدنيا والدين والهمة الموقوفة على الترقي إلى درجات المتقين والعزائم الكافلة بتشديد أحوال الكافة أجمعين شيمة خصه الله بفضيلتها جبلة أسعد بجلالها وشريف مزيتها‏.‏

والله سبحانه يجعل آراءه للتوفيق مقارنة وأنحاء الميامن كافلةً ضامنة من أمر المواريث وما أجراها عليه الحكام الدارجون بتغاير نظرهم وقرروه من تغيير عما كان يعهد بتغلب آرائهم وما دخل عليها منهم من الفساد والخروج بها عن المعهود المعتاد وهو أن لكل دارج من الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مذاهبهم واعتقاداتهم تحمل ما يترك من موجوده على حكم مذهبه في حياته والمشهور من اعتقاده إلى حين وفاته فيخلص لحرم ذوي التشيع الوارثات جميع موروثهم وهو المنهج القويم لقول الله سبحانه‏:‏ ‏"‏ وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏"‏‏.‏

ويحمل من سواهن على مذهب مخلفيهن ويشركهم بيت مال المسلمين في موجودهم ويحمل إليه جزء من أموالهم التي أحلها الله لهن بعدهم عدولاً عن محجة الدولة وخروجاً عما جاء به العباد من الأئمة الذين نزل في بيتهم الكتاب والحكمة فهم قراء القرآن وموضحو غوامضه ومشكلاته بأوضح البيان وإليهم سلم المؤمنون وعلى هديهم وإرشادهم يعول الموقنون فلم يرض أمير المؤمنين الاستمرار في ذلك على قاعدة واهية الأصول بعيدة من التحقيق خالية من المحصول ولم ير إلا العود فيه إلى عادة آبائه المطهرين وأسلافه العلماء المهديين صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏

وخرج أمره إلى السيد الأجل المأمون بالإيعاز إلى القاضي ثقة الملك النائب في الحكم عنه بتحذيره والأمر له بتحذير جميع النواب في الأحكام بالمعزية القاهرة ومصر وسائر الأعمال دانيها وقاصيها قريبها ونائيها من الاستمرار على تلك السنة المتجددة ورفض تلك القوانين التي كانت معتمدة واستئناف العمل في ذلك بما يراه الأئمة المطهرة وأسلافه الكرام البررة وإعادة جميع مواريث الناس على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم إلى المعهود من رأي الدولة فيها والإفراج عنها برمتها لمستحقيها من غير اعتراض عليهم في قليلها ولا كثيرها وأن يضربوا عما تقدم صفحا ويطووا دونه كشحا منذ تاريخ هذا التوقيع وفيما يأتي بعده مستمرا غير مستدرك لما فات ومضى ولا متعقب لما ذهب وانقضى‏.‏

وليوف الأجل المأمون عضد الله به الدين بامتثال هذا المأمور والاعتماد على مضمون هذا المسطور وليحذر كلا من القضاة والنواب والمستخدمين في الباب وسائر الأعمال من اعتراض موجود أحد ممن يسقط الوفاة وله وارث بالغ رشيد حاضر أو غائب ذكرا كان أو أنثى من سائر الناس على اختلاف الأديان بشيء من التأولات أو تعقب ورثته بنوع من أنواع التعقبات إلا ما أوجبته بينهم المحاكمات والقوانين الشرعيات الواجبات نظراً إلى مصالح الكافة ومدا لجناح العاطفة عليهم والرأفة ومضاعفة للأنام وإبانةً عن شريف القصد إليهم والاهتمام‏.‏

فأما من يموت حشريا ولا وارث له حاضر ولا غائب فموجوده لبيت المال بأجمعه على الأوضاع السليمة والقوانين المعلومة القويمة إلا ما يستحقه خرج إن كان له أو دين عليه يثبت في جهته‏.‏

وإن سقط متوفى وله وارث غائب فليحفظ الحكام والمستخدمون على تركته احتياطاً حكميا وقانونا شرعيا مصوناً من الاصطلام محروساً من التفريط والاخترام فإن حضر وأثبت استحقاقه ذلك في مجلس الحكم بالباب على الأوضاع الشرعية الخالصة من الشبه والارتياب طولع بذلك ليخرج الأمر بتسليمه إليه والإشهاد يقبضه عليه‏.‏

وكذلك نمى إلى حضرة أمير المؤمنين أن شهود الحكم بالباب وجميع الأعمال إذا شارف أحد منهم بيع شيء مما يجري في المواريث من الترك التي يتولاها الحكام يأخذون ربع العشر من ثمن المبيع فيعود ذلك بالنقيصة في أموال الأيتام والتعرض إلى الممنوع الحرام اصطلاحاً استمروا على فعله واعتماداً لم يجر الأمر فيه على حكمه فكره ذلك وأنكره‏.‏

واستفظعه وأكبره واقتضى حسن نظره في الفريقين ما خرج به أمره من توفير مال الأيتام وتعويض من يباشر ذلك من الشهود جارياً يقام لكل منهم من الإنعام وأمر بوضع هذا الرسم وتعفيته وإبطاله وحسم مادته‏.‏

فليعتمد القاضي ثقة الملك ذلك بالباب وليصدر الإعلام إلى سائر النواب سلوكاً لمحجة الدين وعملاً بأعمال الفائزين السعداء المتقين بعد تلاوة هذا التوقيع في المسجدين الجامعين بالمعزية القاهرة المحروسة ومدينة مصر على رءوس الأشهاد ليتساوى في معرفة مضمونه كل قريب وبعيد وحاضر وباد ولتفرغ منه النسخ إلى جميع النواب عنه في الأعمال وليجلد في مجلس الحكم بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص الآمري وحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى حجة مودعة في اليوم وما بعده‏.‏

وكتب لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة‏.‏

ثم حضر الفقيه أبو بكر لوداع الوزير وعرفه ما عزم عليه من إنشاء مسجد بظاهر الثغر على البحر فكتب إلى ابن حديد بموافقة الفقيه على موضع يتخيره وأن يبالغ في إتقانه وسرعة إنجازه وتكون النفقة عليه من مال ديوانه دون مال الدولة‏.‏

وتوجه فبنى المسجد المذكور على باب البحر‏.‏

وأما المسجد الذي بالمحجة فإن المؤتمن عند مقامه بالثغر بناه‏.‏

وذكر للمأمون أيضا أن واحات البهنسا ليس بها جمعة تقام فأمر ببناء جامع بها ففرغ منه وأقيم فيه خطيب وإمام وقومة ومؤذنون وأطلق لهم ما هي عادة أمثالهم‏.‏

وقيل إن الذي أنشأه المأمون في وزارته وفي أيام الأفضل أحد وأربعون مسجداً مع ما أمر بتجديده بعد وزارته بالقاهرة ومصر وأعمالهما ما يناهز مائتي مسجد‏.‏

فيه بنيت دار ضرب بالقاهرة ودار وكالة‏.‏

وفي ذي القعدة مات الأمير السعيد محمود بن ظفر والي قوص‏.‏

وركب المأمون إلى الجامع الأزهر فلما كان وقت صلاة الصبح تقدم قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الراسعيني وصلى فلما قرأ الفاتحة لحقه زمع شديد وارتعد فلحن في الفاتحة وقرأ‏:‏ ‏"‏ والشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏"‏ فلما قال‏:‏ ‏"‏ نَاقَةَ اللّهِ وَسُقْيَاهَا ‏"‏ أرتج عليه فرد المؤتمن حيدرة أخو المأمون عليه فاشتد زمعه فكرر عليه الرد فلم يهتد وقال‏:‏ ‏"‏ وسقناها ‏"‏ بالنون‏:‏ فقرأ المأمون بقية السورة وسجد الناس‏.‏

وقام في الركعة الثانية وقد دهش فلم يفتح عليه بشيء فقرأ المأمون الفاتحة ‏"‏ قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ ‏"‏ وقنت وهو معه يلقنه‏.‏

فلما انقضت الصلاة اشتد غضب المأمون وأمر متولى الباب بأن يختم المقرئون‏.‏

وتخيل المقام وخرج من الجامع فوكل بالقاضي من يمضي به إلى داره ويأمره بالمقام بها من غير تصرف حتى يحفظ القرآن وقرر له راتباً فيما بعد ولزم داره‏.‏

وأنفذ للوقت إلى القاضي أبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربي من قضاة الغربية فأحضره وخلع عليه في القصر بذلة مذهبة وسلم به على الخليفة وسلم إليه السجل في لفافة مذهبة بنيابته في الكم العزيز والخطابة والصلاة وديوان الأحباس ودور الضرب بسائر أعمال المملكة ونعت فيه بالقاضي جلال الملك تاج الأحكام فقبله ووضعه على رأسه‏.‏

وتلى على منابر القاهرة ومصر‏.‏

وكان يحضر في يومي الاثنين والخميس إلى مجلس المظالم بين يدي المأمون ويستعرض القصص ويناقش فيها ويباحث مباحثة الفقهاء العلماء فزاد المأمون في إكرامه ورد إليه وكالة الخليفة وكتبت له الوكالة وشرف بالخلع‏.‏

وتولى قوص الأمير مؤيد الملك وخلع عليه وأمر أن يبنى بقوص دار ضرب وجهز معه مهندسين وضرابين وسكك العين والورق وعشرين ألف دينار وعشرين ألف درهم فضة فضربت هناك وصار ما يضرب باسم الآمر في ستة مواضع‏:‏ القاهرة ومصر وقوص وعسقلان وصور والإسكندرية‏.‏

وقرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه بن يوسف الإسرائيلي الأصل لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة جار وكسوة شتوية وعيدية ورسوم وأقطع داراً بالقاهرة وكتب له منشور نسخته بعد البسملة‏.‏

ولما كان من أشرف ما طرزت السيرة بقدره وأنفس ما وشحت الدول بجميل أثره تخليد الفضائل وإبداء ذكرها وإظهار المعارف وإيضاح سرها لا سيما صناعة الطب التي هي غاية الجدوى والنفع وورود الخبر بأنها قرينة إلى الشرع‏.‏

لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان خرج أمر سيدنا ومولانا لما يؤثره بعلو همته من إنماء العلوم وإشهارها واختصاص الدولة الفاطمية بإحياء الفضائل وتجديد آثارها ليبقى جمال ذلك شاهداً لها على مر الأيام متسقاً بما أفشاه لها من المآثر الجمة والمفاخر الجسام لشيخنا أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه أيده الله لصرف رعايته إلى شرح كتب أبقراط التي هي أشرف كتب الطب وأوفاها وأكثرها إغماضا وأبقاها وإلى التصنيف في غير ذلك من أنحاء العلوم مما يكون منسوباً إلى الأوامر العالية ورسم التوفر على ذلك والانتصاب له وحمل ما يكمل أولاً أولاً إلى خزائن الكتب وإقراء جميع من يحضر إليه من أهل هذه الصناعة وعرض من يدعيها واستشفافه فيما يعانيه فمن كملت عنده صناعته فليجره على رسمه ومن كان مقصراً فليستنهضه‏.‏

واعتمدنا عليه في ذلك لكونه مميزاً في البراعة في العلوم متصرفاً في فنونها مقدماً في بسطها وإظهار مكنونها ولأنه يبلغ الغرض المقصود في شرح هذه الكتب ويوفى عليه ويسلك أوضح السبل وأسدها إليه وفي جميع ما شرع له‏.‏

فليشرع في ذلك مستعيناً بالله منفسح الأمل بإنهاضنا له وجميل رأينا فيه بعد ثبوته في الدواوين إن شاء الله تعالى‏.‏

وكتب في ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة فانتصب لطالبي علم الطب وأقبل أطباء البلدين إليه واجتمع في أيدي الناس من أماليه كثير وجعل له يومين في الجمعة يشتغل فيهما ويتوفر في بقية الأسبوع على التصنيف وحمل ذلك إلى الخزائن واستخدم كاتبين لتبييض ما يؤلفه‏.‏

ولما أهل ذو الحجة جرى الحال في الهناء ومدائح الشعراء في القصر بين يدي الخليفة وبالدار المأمونية على الحال المستقرة واستقبله المأمون بالصيام وأخرج من ماله ما زاد عن المستقر في كل عام برسم الأطفال من الفقراء والأيتام من أهل البلدين وغيرهم ولم يتعرض لطلب ذلك من المميزين بحكم ما يعملونه من السنين المتقادمة‏.‏

ومما ابتكره ولم يسبقه إليه أحد أن استعمل ميقاط حرير فيه ثلاث جلاجل وفتح باب طاقة في الروشن من سور داره فصار إذا مضى شطر الليل وانقطع المشي طرت السلسلة ودلى الميقاط من الطاق وعلى هذا المكان جماعة مبيتون بحقه من المغاربة فمن حضر من الرجال والنساء بتظلمه سدد قصة في الميقاط بيده ويحركه بعد أن يقف من حضره على مضمون الرقعة فإن كانت مرافعةً لم يمكنوه من رفعها وإن كانت ظلامةً مكنوه من ذلك ويعوق صاحبها إلى أن يخرج الجواب‏.‏

وكان القصد بعمل ذلك أنه من حدث به ضرر من أهل الستر أو كانت امرأة من غير ذات البروز ولا تحب أن تظهر أو كانت مظلمة في الليل تتعجل مضرتها قبل النهار فلتأت لهذا الميقاط‏.‏

وحضرت كسوة عيد النحر وفرقت الرسوم على من جرت عادته بها خارجاً عما أمر به من تفرقة العين المختص بهذا العيد وأضحيته فكان منها سبعة عشر ألفا وستمائة دينار برسم القصور جميعها وجملة ما نحر وذبح الخليفة خاصة دون الوزير في ثلاثة أيام النحر ألف وتسعمائة وستة وأربعون رأساً منها نوق مائة وثلاثة عشر وبقر ثمانية عشر رأسا وجاموس خمسة عشر والبقية كباش ومبلغ المصروف على أسمطة الثلاثة أيام خارجاً عن أسمطة الوزير ألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا ومن السكر ثمانية وأربعون دينارا‏.‏

وعمل عيد الغدير على رسمه‏.‏

وركب الخليفة إلى قليوب ونزل بالبستان العزيزي لمشاهدة قصر الورد على العادة المستقرة والسنة المتقدمة وفرقت الصدقات في مسافة الطريق وضربت الخيم وقدمت الأسمطة‏.‏

ثم عاد في آخر النهار إلى قصره‏.‏

وفي هذه السنة سير المأمون وحشي بن طلائع إلى صور فقبض على مسعود بن سلار واليها لمخالفته وأحضره‏.‏

وفيها تجهز الأسطول وسارت المراكب فيها خمسة عشر ألف أردب قمحا وأقوات كثيرة إلى صور‏.‏

فلما وصل خرج إليه سيف الدولة مسعود واليها من جهة طغتكين فلما سلم عليهم سألوه النزول إليهم فلما حصل في المركب اعتقل وأقلع الأسطول به إلى مصر فأكرم وأنزل في دار وأطلق له ما يحتاج إليه وسبب القبض عليه كثرة شكوى أهل صور منه‏.‏

وفيها وصل البدل من ثغر عسقلان على العادة‏.‏