فصل: كِتَابُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.حَقِيقَةُ الشُّكْرِ:

اعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ يَنْتَظِمُ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ، وَالْحَالُ هُوَ الْفَرَحُ الْحَاصِلُ بِإِنْعَامِهِ، وَالْعَمَلُ هُوَ الْقِيَامُ بِمَا هُوَ مَقْصُودُ الْمُنْعِمِ وَمَحْبُوبُهُ، وَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ وَبِالْجَوَارِحِ وَبِاللِّسَانِ، أَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَصْدُ الْخَيْرِ وَإِضْمَارُهُ لِكَافَّةِ الْخَلْقِ، وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْمِيدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا بِالْجَوَارِحِ فَاسْتِعْمَالُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ.

.بَيَانُ الشُّكْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى:

اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ شَاكِرًا لِمَوْلَاهُ إِلَّا إِذَا اسْتَعْمَلَ نِعْمَتَهُ فِي مَحَبَّتِهِ، أَيْ فِيمَا أَحَبَّهُ لِعَبْدِهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَ نِعْمَتَهُ فِيمَا كَرِهَهُ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ، كَمَا إِذَا أَهْمَلَهَا وَعَطَّلَهَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ بِالتَّضْيِيعِ، وَكُلُّ مَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا خُلِقَ آلَةً لِلْعَبْدِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى سَعَادَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ وَتَرْكَ الْكُفْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَكْرَهُهُ، وَلِتَمْيِيزِ ذَلِكَ مُدْرَكَانِ:
أَحَدُهُمَا: السَّمْعُ وَمُسْتَنَدُهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ.
الثَّانِي: بَصِيرَةُ الْقَلْبِ، وَهُوَ النَّظَرُ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ لِإِدْرَاكِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْجُودٍ خَلَقَهُ، إِذْ مَا خَلَقَ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ، وَتَحْتَ الْحِكْمَةِ مَقْصُودٌ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْبُوبُ.
وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى جَلِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ: أَمَّا الْجَلِيَّةُ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الشَّمْسِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهَارُ مَعَاشًا وَاللَّيْلُ لِبَاسًا فَتَتَيَسَّرُ الْحَرَكَةُ عِنْدَ الْإِبْصَارِ وَالسُّكُونُ عِنْدَ الِاسْتِتَارِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ الشَّمْسِ لَا كُلِّ الْحِكَمِ فِيهَا، بَلْ فِيهَا حِكَمٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ دَقِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْغَيْمِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَذَلِكَ لِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ؛ مَطْعَمًا لِلْخَلْقِ وَمَرْعًى لِلْأَنْعَامِ.
وَقَدِ انْطَوَى الْقُرْآنُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْحِكَمِ الْجَلِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا أَفْهَامُ الْخَلْقِ دُونَ الدَّقِيقِ الَّذِي يَقْصُرُونَ عَنْ فَهْمِهِ؛ إِذْ قَالَ تَعَالَى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا} [عَبَسَ: 25- 28] الْآيَةَ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَخَفِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْخَلْقِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ فَهْمُ الْخَلْقِ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ؛ لِتَسْتَلِذَّ الْعَيْنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصَّافَّاتِ: 6] فَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ سَمَاؤُهُ وَكَوَاكِبُهُ وَرِيَاحُهُ وَبِحَارُهُ وَجِبَالُهُ وَمَعَادِنُهُ وَنَبَاتُهُ وَحَيَوَانَاتُهُ وَأَعْضَاءُ حَيَوَانَاتِهِ لَا تَخْلُو ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ عَنْ حِكَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى عَشَرٍ إِلَى أَلْفٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَكَذَا أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْرَفُ حِكْمَتُهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْإِبْصَارِ وَالْيَدَ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ، وَهَكَذَا. فَإِذَنْ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِي جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ فِيهِ نِعْمَةَ اللَّهِ- تَعَالَى، فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ إِذْ خُلِقَتْ لَهُ الْيَدُ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ، وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْعَيْنِ إِذْ خُلِقَتْ لِيُبْصِرَ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَتَّقِيَ بِهَا مَا يَضُرُّهُ فِيهِمَا.
وَكَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا، وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا وَلَكِنْ يُضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْلِكُ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَخُلِقَتْ لِتُقَدَّرَ بِهِمَا الْأَمْوَالُ فَتَتَدَاوَلَهُمَا الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلِحِكَمٍ أُخْرَى، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ فِيهِمَا عَمَلًا يُخَالِفُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهِمَا، فَإِذَنْ مَنْ كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الْحِكْمَةَ فِيهِمَا.
وَكَذَا مَنْ كَسَرَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ مُهِمَّةٍ وَمِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْأَشْجَارِ وَخَلْقِ الْيَدِ، أَمَّا الْيَدُ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ لِلْعَبَثِ بَلْ لِلطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَمَّا الشَّجَرُ فَإِنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ لَهُ الْعُرُوقَ وَسَاقَ إِلَيْهِ الْمَاءَ وَخَلَقَ فِيهِ قُوَّةَ الِاغْتِذَاءِ وَالنَّمَاءِ لِيَبْلُغَ مُنْتَهَى نُشُوئِهِ فَيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ، فَكَسْرُهُ قَبْلَ مُنْتَهَى نُشُوئِهِ لَا عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ عِبَادُهُ مُخَالَفَةٌ لِمَقْصُودِ الْحِكْمَةِ وَعُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَلَهُ ذَلِكَ؛ إِذِ الشَّجَرُ وَالْحَيَوَانُ جُعِلَا فِدَاءً لِأَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا فَانِيَانِ هَالِكَانِ فَإِفْنَاءُ الْأَخَسِّ فِي بَقَاءِ الْأَشْرَفِ مُدَّةً مَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ مِنْ تَضْيِيعِهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13].
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الشُّكْرِ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَطُولُ.

.السَّبَبُ الصَّارِفُ لِلْخَلْقِ عَنِ الشُّكْرِ:

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ بِالْخَلْقِ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْغَفْلَةُ، فَإِنَّهُمْ مُنِعُوا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ النِّعَمِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ شُكْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا. ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ عَرَفُوا نِعْمَةً ظَنُّوا أَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَعْنَى الشُّكْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعْمَةَ فِي إِتْمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ بِهَا وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّكْرِ بَعْدَ حُصُولِ هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ وَاسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ.

.مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ:

اعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَلَاءً بِالْإِضَافَةِ، وَنِعْمَةً كَذَلِكَ، فَرُبَّ عَبْدٍ تَكُونُ لَهُ الْخَيْرَةُ فِي الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ صَحَّ بَدَنُهُ وَكَثُرَ مَالُهُ لَبَطِرَ وَبَغَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَقِ: 6- 7]، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ وَالْقَرِيبُ وَأَمْثَالُهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ أَيْضًا.
فَإِذَنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَلَاءُ نِعْمَةٌ أَيْضًا إِمَّا عَلَى الْمُبْتَلَى أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمُبْتَلَى، فَإِذَنْ كُلُّ حَالَةٍ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَلَاءٌ مُطْلَقٌ، وَلَا نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا عَلَى الْعَبْدِ وَظِيفَتَانِ: الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ إِذْ لَا صَبْرَ إِلَّا عَلَى غَمٍّ، وَلَا شُكْرَ إِلَّا عَلَى فَرَحٍ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ قَدْ يُغْتَمُّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفْرَحُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ الِاغْتِمَامُ وَالشُّكْرُ مِنْ حَيْثُ الْفَرَحُ، وَفِي كُلِّ فَقْرٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَةُ أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ الْعَاقِلُ بِهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهَا، إِذْ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى، فَلَوْ ضَعَّفَهَا اللَّهُ وَزَادَهَا مَاذَا كَانَ يَرُدُّهُ وَيَحْجِزُهُ؟ فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دِينِهِ، وَفِي الْخَبَرِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا».
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا مِنْ عُقُوبَةٍ إِلَّا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ، تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا، وَمُصِيبَةُ الْآخِرَةِ تَدُومُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ تُؤَخَّرْ عُقُوبَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا، فَلِمَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ؟
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ وَالْبَلِيَّةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَكَانَ لَابُدَّ مِنْ وُصُولِهَا إِلَيْهِ وَقَدْ وَصَلَتْ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْضِهَا أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ ثَوَابَهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَإِنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا طُرُقٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَكُلُّ بَلَاءٍ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِثَالُهُ الدَّوَاءُ الَّذِي يُؤْلِمُ فِي الْحَالِ وَيَنْفَعُ فِي الْمَآلِ، فَمَنْ عَرَفَ هَذَا تُصُوِّرَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلَايَا، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ النِّعَمَ فِي الْبَلَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ يَتْبَعُ مَعْرِفَةَ النِّعْمَةِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ أَكْبَرُ مِنَ الْمُصِيبَةِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي ثَوَابِ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَرِ: 10].
ثُمَّ مَعَ فَضْلِ النِّعْمَةِ فِي الْبَلَاءِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي دُعَائِهِ مِنْ بَلَاءِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ؛ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ إِلَّا الْيَقِينَ» وَأَشَارَ بِالْيَقِينِ إِلَى عَافِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ مَرَضِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ، فَعَافِيَةُ الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ عَافِيَةِ الْبَدَنِ، وَفِي دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَافِيَتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ».
فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْمَانَّ بِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

.كِتَابُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ:

الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ جَنَاحَانِ بِهِمَا يَطِيرُ الْمُقَرَّبُونَ إِلَى كُلِّ مَقَامٍ مَحْمُودٍ، وَمَطِيَّتَانِ بِهِمَا يَقْطَعُ مِنْ طُرُقِ الْآخِرَةِ كُلَّ عَقَبَةٍ كَؤُودٍ، فَلَا يَقُودُ إِلَى قُرْبِ الرَّحْمَنِ إِلَّا أَزِمَّةُ الرَّجَاءِ، وَلَا يَصُدُّ عَنْ نَارِ الْجَحِيمِ إِلَّا سِيَاطُ التَّخْوِيفِ. فَلَابُدَّ إِذًا مِنْ بَيَانِ حَقَائِقِهِمَا.

.بَيَانُ حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ:

قَدْ عَلِمَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَالْقَلْبَ كَالْأَرْضِ، وَالْإِيمَانَ كَالْبَذْرِ فِيهِ، وَالطَّاعَاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى تَقْلِيبِ الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا، وَمَجْرَى حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَسِيَاقَةِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، وَالْقَلْبَ الْمُسْتَهْتِرَ بِالدُّنْيَا الْمُسْتَغْرِقَ بِهَا كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَنْمُو فِيهَا الْبَذْرُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْحَصَادِ، وَلَا يَحْصُدُ إِلَّا مَا زَرَعَ، وَلَا يَنْمُو زَرْعٌ إِلَّا مِنْ بَذْرِ الْإِيمَانِ، وَقَلَّمَا يَنْفَعُ إِيمَانٌ مَعَ خُبْثِ الْقَلْبِ وَسُوءِ أَخْلَاقِهِ كَمَا لَا يَنْمُو بَذْرٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ رَجَاءُ الْعَبْدِ الْمَغْفِرَةَ بِرَجَاءِ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَرْضًا طَيِّبَةً وَأَلْقَى فِيهَا بَذْرًا جَيِّدًا غَيْرَ عَفِنٍ وَلَا مُسَوِّسٍ ثُمَّ أَمَدَّهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ سَوْقُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، ثُمَّ نَقَّى الشَّوْكَ عَنِ الْأَرْضِ وَالْحَشِيشَ وَكُلَّ مَا يَمْنَعُ نَبَاتَ الْبَذْرِ أَوْ يُفْسِدُهُ، ثُمَّ جَلَسَ مُنْتَظِرًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعَ الصَّوَاعِقِ وَالْآفَاتِ الْمُفْسِدَةِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الزَّرْعُ وَيَبْلُغَ غَايَتَهُ، سُمِّيَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً، وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ سَبِخَةٍ مُرْتَفِعَةٍ لَا يَنْصَبُّ إِلَيْهَا الْمَاءُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِتَعَهُّدِ الْبَذْرِ أَصْلًا ثُمَّ انْتَظَرَ الْحَصَادَ مِنْهُ، سُمِّيَ انْتِظَارُهُ حُمْقًا وَغُرُورًا، لَا رَجَاءً، وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ لَكِنْ لَا مَاءَ لَهَا وَأَخَذَ يَنْتَظِرُ مِيَاهَ الْأَمْطَارِ حَيْثُ لَا تَغْلِبُ الْأَمْطَارُ وَلَا تَمْتَنِعُ أَيْضًا، سُمِّيَ انْتِظَارُهُ تَمَنِّيًا لَا رَجَاءً.
فَإِذَنِ اسْمُ الرَّجَاءِ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى انْتِظَارِ مَحْبُوبٍ تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا لَيْسَ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِصَرْفِ الْقَوَاطِعِ وَالْمُفْسِدَاتِ. فَالْعَبْدُ إِذَا بَثَّ بَذْرَ الْإِيمَانِ وَسَقَاهُ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَطَهَّرَ الْقَلْبَ عَنْ شَوْكِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَانْتَظَرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى تَثْبِيتَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ، وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، كَانَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَى أَسْبَابِ الْإِيمَانِ فِي إِتْمَامِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَإِنْ قَطَعَ عَنْ بَذْرِ الْإِيمَانِ تَعَهُّدَهُ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ، أَوْ تَرَكَ الْقَلْبَ مَشْحُونًا بِرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَانْهَمَكَ فِي طَلَبِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مَرْيَمَ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الْأَعْرَافِ: 169] وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى صَاحِبَ الْبُسْتَانِ إِذْ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَقَالَ: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الْكَهْفِ: 35- 36] فَإِذَنِ الْعَبْدُ الْمُجْتَهِدُ فِي الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ يَنْتَظِرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ، وَمَا تَمَامُ النِّعْمَةِ إِلَّا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْعَاصِي فَإِذَا تَابَ وَتَدَارَكَ جَمِيعَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ قَبُولَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا الرَّجَاءُ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْأَسْبَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 218] مَعْنَاهُ: أُولَئِكَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَرْجُوا رَحْمَةَ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فَاطِرٍ: 29] فَأَمَّا مِنْ يَنْهَمِكُ فِيمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَذُمُّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْزِمُ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ فَرَجَاؤُهُ الْمَغْفِرَةَ حُمْقٌ كَرَجَاءِ مَنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَتَعَهَّدَهُ بِسَقْيٍ وَلَا تَنْقِيَةٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ عِنْدِي التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ عَلَى رَجَاءِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْرِ نَدَامَةٍ، وَتَوَقُّعُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ طَاعَةٍ، وَانْتِظَارُ زَرْعِ الْجَنَّةِ بِبَذْرِ النَّارِ، وَطَلَبُ دَارِ الْمُطِيعِينَ بِالْمَعَاصِي، وَانْتِظَارُ الْجَزَاءِ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَالتَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْإِفْرَاطِ.
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ** إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

فَإِذَنْ حَالُ الرَّجَاءِ يُورِثُ طُولَ الْمُجَاهَدَةِ بِالْأَعْمَالِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ كَيْفَمَا تَقَلَّبَتِ الْأَحْوَالُ.
وَمِنْ آثَارِهِ التَّلَذُّذُ بِدَوَامِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّنَعُّمُ بِمَنْجَاتِهِ وَالتَّلَطُّفُ فِي التَّمَلُّقِ لَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَابُدَّ وَأَنْ تَظْهَرَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَرْجُو مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ شَخْصًا مِنَ الْأَشْخَاصِ، فَكَيْفَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فَلْيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْحِرْمَانِ عَنْ مَقَامِ الرَّجَاءِ وَالنُّزُولِ فِي حَضِيضِ الْغُرُورِ وَالتَّمَنِّي.

.بَيَانُ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقِهِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْعِلْمِ بِأَسْبَابِ الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْبَاعِثُ الْمُثِيرُ لِإِحْرَاقِ الْقَلْبِ وَتَأَلُّمِهِ، وَذَلِكَ الْإِحْرَاقُ هُوَ الْخَوْفُ. فَالْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً يَكُونُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْعَالَمِينَ لَمْ يُبَالِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْعَبْدِ بِمُقَارَفَةِ الْمَعَاصِي، وَتَارَةً يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا. وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْنَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ تَكُونُ قُوَّةُ خَوْفِهِ.
فَأَخْوَفُ النَّاسِ لِرَبِّهِ أَعْرَفُهُمْ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَخْوَفُكُمُ لِلَّهِ» وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] ثُمَّ إِذَا كَمُلَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْرَثَتْ جَلَالَ الْخَوْفِ وَاحْتِرَاقَ الْقَلْبِ، ثُمَّ يَفِيضُ أَثَرُ الْحُرْقَةِ مِنَ الْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ وَعَلَى الْجَوَارِحِ وَعَلَى الصِّفَاتِ: أَمَّا فِي الْبَدَنِ فَبِالنُّحُولِ وَالْبُكَاءِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَارِحِ فَبِكَفِّهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَتَقْيِيدِهَا بِالطَّاعَاتِ تَلَافِيًا لِمَا فَرَطَ وَاسْتِعْدَادًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَبِأَنْ يَقْمَعَ الشَّهَوَاتِ وَيُكَدِّرَ اللَّذَّاتِ فَتَصِيرَ الْمَعَاصِي الْمَحْبُوبَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةً كَمَا يَصِيرُ الْعَسَلُ مَكْرُوهًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ فِيهِ سُمًّا، فَتَحْتَرِقُ الشَّهَوَاتُ بِالْخَوْفِ، وَتَتَأَدَّبُ الْجَوَارِحُ، وَيَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ الذُّبُولُ وَالْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَيُفَارِقُهُ الْكِبْرُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ وَالْمُحَاسَبَةُ وَالْمُجَاهَدَةُ وَالضِّنَّةُ بِالْأَنْفَاسِ وَاللَّحَظَاتِ، وَمُؤَاخَذَةُ النَّفْسِ بِالْخَطَرَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْكَلِمَاتِ.
وَمَا وَرَدَ فِي فَضِيلَةِ الْخَوْفِ خَارِجٌ عَنِ الْحَصْرِ، وَنَاهِيكَ دَلَالَةً عَلَى فَضِيلَتِهِ جَمْعُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَائِفِينَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ وَالرِّضْوَانَ وَهِيَ مَجَامِعُ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْجِنَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الْأَعْرَافِ: 154] وَقَالَ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [الْبَيِّنَةِ: 8] وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ.