فصل: صِفَةُ الْخُصَمَاءِ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.صِفَةُ الْخُصَمَاءِ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ:

اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ خَطَرِ الْمِيزَانِ إِلَّا مَنْ حَاسَبَ فِي الدُّنْيَا نَفْسَهُ، وَوَزَنَ فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ، وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، وَإِنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتُوبَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَيَرُدَّ الْمَظَالِمَ حَبَّةً بَعْدِ حَبَّةٍ، حَتَّى يَمُوتَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَظْلَمَةٌ وَلَا فَرِيضَةٌ- فَهَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ رَدِّ الْمَظَالِمِ أَحَاطَ بِهِ خُصَمَاؤُهُ فَهَذَا يَأْخُذُ بِيَدِهِ- وَهَذَا يَقْبِضُ عَلَى نَاصِيَتِهِ- وَهَذَا يَقُولُ ظَلَمْتَنِي- وَهَذَا يَقُولُ شَتَمْتَنِي- وَهَذَا يَقُولُ اسْتَهْزَأْتَ بِي- وَهَذَا يَقُولُ جَاوَرْتَنِي فَأَسَأْتَ جِوَارِي- وَهَذَا يَقُولُ عَامَلْتَنِي فَغَشَشْتَنِي- وَهَذَا يَقُولُ أَخْفَيْتَ عَيْبَ سِلْعَتِكَ عَنِّي- وَهَذَا يَقُولُ وَجَدْتَنِي مَظْلُومًا وَكُنْتَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنِّي فَمَا رَاعَيْتَنِي. فَبَيْنَمَا أَنْتَ كَذَلِكَ وَقَدْ أَنْشَبَتِ الْخُصَمَاءُ فِيكَ مَخَالِبَهُمْ وَأَنْتَ مَبْهُوتٌ مُتَحَيِّرٌ مِنْ كَثْرَتِهِمْ، إِذْ قَرَعَ سَمْعَكَ نِدَاءُ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غَافِرٍ: 17] فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَلِعُ قَلْبُكَ وَتَتَذَكَّرُ مَا أَنْذَرَكَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 42- 43] فَمَا أَشَدَّ تَرَحَكَ الْيَوْمَ بِتَمَضْمُضِكَ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ وَتَنَاوُلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَمَا أَشَدَّ حَسَرَاتِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذَا وُقِفَ بِكَ عَلَى بِسَاطِ الْعَدْلِ وَكُشِفَ عَنْ فَضَائِحِكَ وَمُسَاوِيكَ، فَاحْذَرْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ الْأَلِيمِ. وَاسْتَقِمْ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. فَمَنِ اسْتَقَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَفَّ عَلَى صِرَاطِ الْآخِرَةِ وَنَجَا، وَمَنْ عَدَلَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالْأَوْزَارِ وَعَصَى، تَعَثَّرَ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ مِنَ الصِّرَاطِ وَتَرَدَّى.

.الْقَوْلُ فِي أَهْوَالِ جَهَنَّمَ وَقَانَا اللَّهُ عَذَابَهَا:

يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ عَنْ نَفْسِهِ، الْمَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ شَوَاغِلِ هَذِهِ الدُّنْيَا الْمُشْرِفَةِ عَلَى الِانْقِضَاءِ وَالزَّوَالِ، دَعِ التَّفَكُّرَ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ. وَاصْرِفِ الْفِكْرَ إِلَى مَوْرِدِكَ، فَإِنَّكَ أُخْبِرْتَ بِأَنَّ النَّارَ مَوْرِدٌ لِلْجَمِيعِ إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مَرْيَمَ: 71- 72] فَأَنْتَ مِنَ الْوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ فِي شَكٍّ، فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْرِدِ فَعَسَاكَ تَسْتَعِدُّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ، وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الْخَلَائِقِ وَقَدْ قَاسَوْا مِنْ دَوَاهِي الْقِيَامَةِ مَا قَاسَوْا، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي كُرَبِهَا وَأَهْوَالِهَا وُقُوفًا يَنْتَظِرُونَ حَقِيقَةَ أَنْبَائِهَا وَتَشْفِيعَ شُفَعَائِهَا إِذْ أَحَاطَتْ بِالْمُجْرِمِينَ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ شُعَبٍ وَأَظَلَّتْ عَلَيْهِمْ نَارٌ ذَاتُ لَهَبٍ وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا يُفْصِحُ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيْقَنَ الْمُجْرِمُونَ بِالْعَطَبِ، وَجَثَتِ الْأُمَمُ عَلَى الرُّكَبِ. حَتَّى أَشْفَقَ الْبُرَآءُ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، فَهُنَاكَ تَسُوقُ الزَّبَانِيَةُ الْمُجْرِمَ إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَيُنَكِّسُونَهُ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ، وَيَقُولُونَ لَهُ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، فَأُسْكِنُوا دَارًا يَخْلُدُ فِيهَا الْأَسِيرُ، وَيُوقَدُ فِيهَا السَّعِيرُ: وَشَرَابُهُمْ فِيهَا الْحَمِيمُ، وَمُسْتَقَرُّهُمُ الْجَحِيمُ. شُدَّتْ أَقْدَامُهُمْ إِلَى النَّوَاصِي، وَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْمَعَاصِي، يُنَادُونَ مِنْ أَكْنَافِهَا وَيَصِيحُونَ فِي نَوَاحِيهَا وَأَطْرَافِهَا. يَا مَالِكُ قَدْ نَضِجَتْ مِنَّا الْجُلُودُ. يَا مَالِكُ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنَّا لَا نَعُودُ. فَتَقُولُ الزَّبَانِيَةُ: هَيْهَاتَ لَاتَ حِينَ أَمَانٍ، وَلَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْ دَارِ الْهَوَانِ، فَاخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، وَلَوْ أُخْرِجْتُمْ مِنْهَا لَكُنْتُمْ إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ تَعُودُونَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْنَطُونَ، وَعَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ يَتَأَسَّفُونَ. وَلَا يُنْجِيهِمُ النَّدَمُ وَلَا يُغْنِيهِمُ الْأَسَفُ، يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَتَغْلِي بِهِمُ النَّارُ كَغَلْيِ الْقُدُورِ، وَتُهَشَّمُ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ جِبَاهُهُمْ، فَيَنْفَجِرُ الصَّدِيدُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَلَا يَمُوتُونَ، فَكَيْفَ لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ الْحَمِيمِ، وَأُعْمِيَتْ أَبْصَارُهُمْ، وَأُبْكِمَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكُسِّرَتْ عِظَامُهُمْ، وَمُزِّقَتْ جُلُودُهُمْ، وَلَهِيبُ النَّارِ سَارَ فِي بَوَاطِنِ أَجْزَائِهِمْ، وَحَيَّاتُ الْهَاوِيَةِ وَعَقَارِبُهَا مُتَشَبِّثَةٌ بِظَوَاهِرِ أَعْضَائِهِمْ. هَذَا بَعْضُ جُمْلَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِ الدَّرَكَاتِ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا، فَكَمَا أَنَّ إِكْبَابَ النَّاسِ عَلَى الدُّنْيَا يَتَفَاوَتُ، فَمِنْهُمْ مُنْهَمِكٌ مُسْتَكْثِرٌ كَالْغَرِيقِ فِيهَا، وَمِنْ خَائِضٍ فِيهَا إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ، فَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ النَّارِ لَهُمْ مُتَفَاوِتٌ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَلَا تَتَرَادَفُ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي النَّارِ كَيْفَمَا كَانَ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ مَعْلُومٌ عَلَى قَدْرِ عِصْيَانِهِ وَذَنْبِهِ، إِلَّا أَنَّ أَقَلَّهُمْ عَذَابًا لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا لَافْتَدَى بِهَا مِنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ. فَيَا لَحَسْرَةِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ بُلُوا بِمَا بُلُوا بِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا.
فَانْظُرْ يَا مِسْكِينُ فِي هَذِهِ الْأَهْوَالِ، وَالْعَجَبُ مِنْكَ حَيْثُ تَضْحَكُ وَتَلْهُو وَتَشْتَغِلُ بِمُحَقَّرَاتِ الدُّنْيَا وَلَسْتَ تَدْرِي بِمَاذَا سَبَقَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّكَ.
(فَإِنْ قُلْتَ) فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا مَوْرِدِي، وَإِلَى مَاذَا مَآلِي وَمَرْجِعِي، وَمَا الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ فِي حَقِّي، فَلَكَ عَلَامَةٌ تَسْتَأْنِسُ بِهَا وَتُصَدِّقُ رَجَاءَكَ بِسَبَبِهَا، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى أَحْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يُسِرَّ لَكَ سَبِيلُ الْخَيْرَاتِ فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ مُبْعَدٌ عَنِ النَّارِ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَقْصِدُ خَيْرًا إِلَّا وَتُحِيطُ بِكَ الْعَوَائِقُ فَتَدْفَعُهُ وَلَا تَقْصِدُ شَرًا إِلَّا وَيَتَسَيَّرُ لَكَ أَسْبَابُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ مَقْضِيٌّ عَلَيْكَ، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذَا عَلَى الْعَاقِبَةِ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ عَلَى النَّبَاتِ وَدَلَالَةِ الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارِ: 13- 14] فَاعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى الْآيَتَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ مُسْتَقَرَّكَ مِنَ الدَّارَيْنِ.

.صِفَةُ الْجَنَّةِ وَأَصْنَافُ نَعِيمِهَا:

اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي عَرَفْتَ هُمُومَهَا وَغُمُومَهَا يُقَابِلُهَا دَارٌ أُخْرَى، فَتَأَمَّلْ فِي نَعِيمِهَا وَسُرُورِهَا، فَإِنَّ مَنْ بَعُدَ مِنْ إِحْدَاهُمَا اسْتَقَرَّ لَا مَحَالَةَ فِي الْأُخْرَى، فَسُقْ نَفْسَكَ بِسَوْطِ التَّقْوَى لِتَنَالَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَتَسْلَمَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَتَفَكَّرْ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، جَالِسِينَ عَلَى مَنَابِرِ الْيَاقُوتِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى أَرَائِكَ مَنْصُوبَةٍ عَلَى أَطْرَافِ أَنْهَارٍ مُطَّرِدَةٍ بِالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ، مَحْفُوفَةٍ بِالْغِلْمَانِ وَالْوِلْدَانِ، مُزَيَّنَةٍ بِالْحُورِ الْعِينِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى وَجْهِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ وَقَدْ أَشْرَقَتْ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لَا يَخَافُونَ فِيهَا وَلَا يَحْزَنُونَ، وَمِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ آمِنُونَ. فَيَا عَجَبًا لِمَنْ يُؤْمِنُ بِدَارٍ هَذِهِ صِفَتُهَا، وَيُوقِنُ بِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا وَلَا تَحِلُّ الْفَجَائِعُ بِمَنْ نَزَلَ بِفَنَائِهَا، كَيْفَ يَأْنَسُ وَيَتَهَنَّأُ بِعَيْشٍ دُونَهَا، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا سَلَامَةُ الْأَبْدَانِ، مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْمَوْتِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْحَدَثَانِ، لَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَهْجُرَ الدُّنْيَا بِسَبَبِهَا، وَأَنْ لَا يُؤْثِرَ عَلَيْهَا مَا التَّصَرُّمُ وَالتَّنَغُّصُ مِنْ ضَرُورَتِهِ، كَيْفَ وَأَهْلُهَا مُلُوكٌ آمِنُونَ، وَفِي أَنْوَاعِ السُّرُورِ مُمَتَّعُونَ، لَهُمْ فِيهَا كُلُّ مَا يَشْتَهُونَ، وَإِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ يَنْظُرُونَ، وَيَنَالُونَ بِالنَّظَرِ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَنْظُرُونَ مَعَهُ إِلَى سَائِرِ نَعِيمِ الْجِنَانِ، وَمَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ صِفَةَ الْجَنَّةِ فَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ وَرَاءَ بَيَانِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانٌ، وَاقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] إِلَى آخِرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَاقْرَأْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرَهَا مِنَ السُّوَرِ، فَفِيهَا مَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ، وَيَكْفِي مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى جُمْلَتِهَا مَا بَيَّنَّا، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْصِيلِ صِفَتِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْأَسْفَارِ الْكِبَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دَرَجَةَ الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا، وَكَمَا أَنَّ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ الْمَحْمُودَةِ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا، فَكَذَلِكَ فِيمَا يُجَازَوْنَ بِهِ تَفَاوُتٌ ظَاهِرٌ، فَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَاجْتَهَدْ أَنْ لَا يَسْبِقَكَ أَحَدٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَافَسَةِ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 22- 28].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ مَا زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ أَوْ طَغَى بِهِ الْقَلَمُ، يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟.