فصل: الفصل السابع في منافع آلات البصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل السابع في منافع آلات البصر:

إن طبقات البصر التي ذكرناها ووصفناها في شرح هيئة البصر هي آلات للبصر بها يتم له الإبصار. وهيئة هذه الطبقات وأوضاع بعضها من بعض هو الذي به يتم وصول المبصرات إلى البصر.
أما الطبقة الأولى التي هي ظاهر البصر، وهي التي تسمى القرنية، فهي طبقة مشفة ومع ذلك متينة وهي منطبقة على الثقب الذي في مقدم العنبية. فأول منافعها أنها تغطي ثقب العنبية فتنضبط بذلك الرطوبة البيضية التي في داخل العنبية فتنحصر ولا تتشتت. فأما شفيفها فإنها إنما كانت مشفة لتنفذ فيها صور الأضواء والألوان إلى داخل البصر، لأن صور الأضواء والألوان ليس تنفذ إلا في الأجسام المشفة، ولا تقبلها وتؤديها إلا الأجسام المشفة. وأما متانتها فلئلا يسرع إليها الفساد لأنها منكشفة للهواء، فهي تحتمي بمتانتها من المؤذيات اللطيفة كالقذى والغبار والدخان وكالطرفة وما يجري مجرى ذلك. فهذه هي منافع هذه الطبقة.
فأما الرطوبة البيضية فهي مشفة ومع ذلك رطبة مائعة. أما شفيفها فلتنفذ فيها الصور وتصل إلى الرطوبة الجليدية التي بها يقع الإحساس. وأما رطوبتها فلترطب أبداً الرطوبة الجليدية وتحفظ عليها صورتها، لأن هذه الرطوبة اعني الجليدية، ترفة في الغاية، والغشاء الذي عليها رقيق في الغاية، واليسير من اليبس يفسدها ويغير صورتها. وكانت الرطوبة البيضية رطبة مائعة لترطب أبداً الجليدية وتحفظ عليها رطوبتها. فأما الطبقة السوداء المحيطة بالرطوبة البيضية، وهي التي تسمى العنبية، فهي سوداء وهي ضعيفة وفيها بعض المتانة. وهي كرية وفي مقدمها ثقب مستدير كما وصفنا ذلك في هيئة البصر. فأما سوادها فلتظلم به الرطوبة البيضية والرطوبة الجليدية، فتظهر فيها لظلمتها صور الألوان الضعيفة الخفية، فإن الأضواء الضعيفة جداً إذا كانت في مواضع مظلمة ظهرت للبصر، وإذا كانت في مواضع مضيئة لم تظهر للبصر. فسواد العنبية إنما هو ليظلم به داخل البصر فتحس الجليدية بما يصل إلى تجويف البصر من صور الأضواء وإن كانت ضعيفة يسيرة. وكانت هذه الطبقة صفيقة وفيها بعض المتانة لتضبط الرطوبة البيضية وتحفظها فلا يرشح منها شيء إلى خارج ولا تناقص، وليظلم بصفاقتها داخلها، لأنها لو كانت صفيقة اشتدت ظلمة داخلها. وكونها كرية لأن الكرة اعدل الأشكال المجسمة وأحماها مع ذلك من التغيير، فإن ذا الزوايا يسرع التغير إلى زواياه، وليس يكون ذلك في الكرة. فأما الثقب الذي في مقدمها فلتنفذ فيه الصور إلى داخل تجويف البصر. وكونه مستديراً لاعتدال الاستدارة، ولأن المستدير أوسع الأشكال التي إحاطتها متساوية.
فأما الرطوبة الجليدية فقد جمعت صفات بها يتم الإحساس. وذلك أنها رطبة ومع ذلك ترفة وفيها بعض الشقفيف وفيها بعض الغلظ، وعليها غشاء وغشاؤها في غاية الخفة. وشكل سطحها مركب من سطحين كريين مختلفين، والمقدم منهما أعظم كرية من كرية الباقي. فأما كونها رطبة فليسهل انفعالها بالأضواء لرطوبتها، فيسرع فيها تأثير الصور التي ترد إليها. وكونها ترفة فليلطف حسها فتحس باللطيف الضعيف من الصور، لأن الأجسام الترفة تكون لطيفة الحس. وكان فيها شفيف لتقبل الأضواء والألوان وتنفذ الأضواء والألوان فيها. كان فيها غلظ ولم تكن في غاية الشفيف لتدافع صور الأضواء والألوان التي ترد إليها وتمنعها من النفوذ فيها بما فيها من الغلظ. فيتم للصور بمدافعتها وثبوت الضوء تأثيرها فيها وتظهر للقوة الحساسة صورة الضوء واللون التي تثبت فيها. ولو كانت في غاية الشفيف لنفذت الصور فيها ولم تثبت فيها. ولو لم تثبت الصورة في هذه الرطوبة لم تحس هذه الرطوبة في سطحها ولا في جسمها بشيء من الصور، ولم تنفعل بالصور الانفعال الذي هو من جنس الألم، ولم تظهر الصورة لها ولم تدركها.
فأما الغشاء الذي على هذه الرطوبة فإنما هو ليضبطها فلا تتشتت لرطوبتها، وليشكلها أيضاً هذا الغشاء ويحفظ عليها شكلها، لأن الرطوبات إن لم يحصرها حاصر تشتت ولم تثبت مع ذلك على شكل واحد. وأيضاً فإن الرطوبات ليس تتشكل بشكل كري إلا إذا حصرها كري. فاشتمال الغشاء على هذه الرطوبة إنما هو ليضبطها وليشكلها بالشكل الكري. وكان هذا الغشاء خفيفاً وفي غاية الخفة لئلا يستر عنها الصور التي ترد إليها. فأما كريتها فلاعتدال شكل الكرة واحتمائه من التغير. وكون سطح مقدمها من كرة أعظم فليكون موازياً لسطح مقدم البصر ويكون مركزاهما نقطة واحدة.
فأما العصبة الجوفاء التي جملة العين مركبة عليها فإنما كانت جوفاء لتجري فيها الروح الباصرة من الدماغ وتصل إلى الجليدية فتغطيها القوة الحساسة على الاستمرار، ولينفذ أيضاً الضوء في تجويفها وفي الجسم اللطيف الجاري فيها إلى أن يصل إلى الحاس الأخير الذي في مقدم الدماغ.
وكان مبدأ العصبتين الجوفاوين اللتين تتركب عليهما العينان من جنبتي مقدم الدماغ ليكون وضع البصرين من مبدأيهما وضعاً متشابهاً معتدلاً. ولم يكن مبدؤهما من وسط مقدم الدماغ لأن هذا الموضع يختص بحاسة الشم. فلهاتين العلتين صار مبدأ العصبتين من جنبتي مقدم الدماغ.
فأما لم كان البصران اثنين ولم يكن البصر واحداً فإن ذلك رأفة من الصانع تعالى واستظهار من الطبيعة حتى متى حدث بأحدهما آفة بقي الآخر، ولتحسين صورة الجسم أيضاً بهما.
ثم إن العصبتين الجوفاوين تلتقيان عند وسط مقدم الدماغ وتصيران عصبة واحدة جوفاء ويصير واحداً. وإنما صار ذلك كذلك لما ذكرناه من قبل في كيفية الإبصار: وهو أن الشخص الواحد يبصر ببصرين، فإذا نظر الناظر إلى مبصر واحد بكل واحد من البصرين بصورة ذلك المبصر، فتحصل في البصر صورتان لذلك المبصر، فلو تأدت الصورتان إلى الحاس الأخير لكان يدرك المبصر الواحد اثنين، فالتقت العصبتان وصارت واحدة وصار تجويفهما تجويفاً واحداً لتنتهي الصورتان من البصرين إلى هذه العصبة وتنطبق إحديهما على الأخرى فتصيران صورة واحدة، فيدرك الحاس الأخير المبصر الواحد واحداً. فلهذه العلة التقت العصبتان وصارتا واحدة وصار التجويفان تجويفاً واحداً.
فأما سطوح طبقات البصر المشفة فهي سطوح كرية متوازية مركزها نقطة واحدة. وإنما كانت كرية لتكون الأعمدة التي تقوم على سطوحها تخرج من نقطة واحدة، وهي مركزها، ثم تسع ويبعد ما بين أطرافها كلما بعدت عن المركز، فيكون المخروط الذي يمتد من المركز إلى مبصر من المبصرات، الذي فيه تخرج جميع الأعمدة من ذلك المبصر على سطح البصر، يفصل من سطح البصر ومن سطح العضو الحاس جزءاً صغيراً، ويكون ذلك الجزء مع صغره يحيط بجميع الصورة التي ترد من ذلك المبصر إلى البصر. ولو كانت سطوح طبقات البصر مسطحة لكانت صورة المبصر لا تصل إلى البصر على الأعمدة إلا إذا كان البصر مساوياً للمبصر. وليس شكل من الأشكال فجميع الأعمدة التي تقوم على سطحه وتلتقي على نقطة واحدة وتحدث من الأعمدة التي تقوم عليه مخروطات تتسع أطرافها ويكون السطح الذي تقوم عليه متشابه الترتيب غير شكل الكرة.
وكانت سطوح طبقات البصر كرية لتكون الأعمدة التي تخرج من المبصر التي تأخذ من سطح العضو الحاس جزءاً يسيراً مع عظم المبصر ويحيط ذلك الجزء مع صغره بجميع صورة المبصر مع عظمه، وليمكن بهذه الحال أن يخرج من مركز البصر مخروطات كثيرة إلى مبصرات كثيرة في وقت واحد يفصل كل واحد من تلك المخروطات جزءاً يسيراً من سطح العضو الحاس يشتمل على صورة المبصر. وكانت كلها على مركز واحد لما قدمنا ذكره، وهو أن تكون الأعمدة التي تخرج من المبصر إلى واحد منها أعمدة على جميعها، ولتنفذ الصور في جميعها على سمت واحد بعينه.
فأما لم كان البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموت هذه الأعمدة فقط فلأن بهذه العمدة فقط تترتب أجزاء المبصر في سطح العضو الحاس ولها تتميز جميع المبصرات عند الحاس. وقد تبين من قبل انه ليس يصح أن تترب صورة المبصر في سطح العضو الحاس إلا إذا كان قبوله للصور من هذه السموت فقط، فلذلك صارت طبيعة مختصة بهذه الخاصة ومطبوعة على أن لا تقبل شيئاً من الصور إلا من أوضاع هذه الخطوط فقط. وتخصص البصر بهذه الخاصة هو أحد المعاني التي تظهر منها حكمة الصانع جّلت عظمته ولطف صنيعه ويظهر منه حسن تأتي الطبيعة وتلطفها في تهيئة آلات البصر الهيئة التي بها يتم الإحساس وبها تتميز له المبصرات.
فأما الملتحمة فإنها مشتملة على جملة هذه الطبقات، وفيها بعض الرطوبة وهي مع ذلك متماسكة فيها بعض المتانة. وإنما كانت مشتملة على هذه الطبقات لتجمعها وتحفظها وتحرسها. وكان فيها بعض الرطوبة لتتوطأ للطبقات التي في داخلها مواضعها منها ولا يسرع أيضاً إلى تلك الطبقات اليبس بالمماسة والمجاورة. وكونها متماسكة فيها بعض المتانة لتحفظ على الطبقات التي في داخلها أشكالها وأوضاعها فلا تتغير أشكالها ولا أوضاعها. وكانت بيضاء لتشرق بها صورة الوجه وتحسن هيئته.
وكانت جملة العين مستديرة لأن الاستدارة اعدل الأشكال وأسهلها مع ذلك حركة، والعين محتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة. وكانت العين متحركة ومحتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة لتقابل بالحركة كثيراً من المبصرات في وقت واحد ومن نصبة واحدة تكون لصاحبها الذي يحركها، ولتقابل بالحركة جميع أجزاء المبصر بوسط الناظر، فيدركه بذلك إدراكاً بيناً ومع ذلك متشابهاً، لأن الإحساس أبين من الإحساس ببقيته وسنبين هذا المعنى من بعد في الموضع الأليق به. فأما سرعة حركة البصر وحاجته إلى سرعة الحركة فليتأمل بسرعة الحركة جميع أجزاء المبصر وجميع المبصرات التي تقابله في أقل القليل من الزمن.
فأما الأجفان فإنها جعلت وقاية للعين تحرسها من الأذى وتكنها عند النوم وتوقيها من المؤذيات ولتريح العين عند انطباقها عليها من ألام الأضواء ومباشرة الهواء، لأن الأضواء تؤذيها وتقرعها، فلو استمر عليها قرع الأضواء دائماً ولم تسترح لفسدت. وقد يظهر ذلك عند إطالة النظر إلى الأضواء المضيئة. ويتبين من ذلك أن استمرار مباشرة البصر للأضواء يضر بالبصر. وقد يستضر البصر أيضاًَ بالهواء في بعض الأوقات إذا كان به غبار أو دخان أو برد شديد، فجعلت الأجفان لتستر العين عن الأضواء عند حاجتها إلى ذلك ولتوقيها من الهواء وتدفع عنها كثيراً من المؤذيات، ثم إذا احتاجت إلى الراحة انطبقت الأجفان عليها واستمر ذلك زماناً إلى أن يزول كلاهما وتتكامل راحتها وذلك يكون عند النوم. وجعلت الأجفان متحركة لتنفتح في وقت الحاجة إلى الإبصار وتنطبق عند الحاجة إلى الانطباق، وجعلت سريعة الحركة ليسرع الانطباق عند قرب المؤذيات من العين.
فأما الأهداب فإنما كانت لتذب عن البصر ما يمر به من القذى والمؤذيات الخفية، ولتكسر عن البصر أيضاً بعض الأضواء إذا استضر بشدة الضوء، ولذلك يجمع الناظر عينه ويصرها وينظر من ضيق إذا استضر بالضوء الشديد.
فهذه المعاني التي ذكرناها هي منافع آلات البصر، وهي لطائف تتبين منها حكمة الصانع تعالى ورأفته وبديع صنعته وحسن تأتي الطبيعة ولطيف آثارها.

.الفصل الثامن في علل المعاني التي لا يتم الإبصار إلا بها وباجتماعها:

قد تبين فيما تقدم أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت له عدة معان: وهي أن يكون بينه وبينه بعد ما، ويكون مقابلاً للبصر اعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدراً بالإضافة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بينه وبين سطح البصر مشفاً متصل الشفيف لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة، ويكون المبصر كثيفاً أو فيه بعض الكثافة، اعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفاً ويكون شفيفه أغلظ من شفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بعض الغلظ. وليس يدرك البصر المبصر إلا إذا اجتمعت للمبصر هذه المعاني الستة. وإن عدم المبصر واحداً من هذه المعاني أو أكثر من واحد منها فليس يدركه البصر.
وليس حاجة البصر إلى كل واحدة من هذه المعاني إلا لعلة ما من أجلها ليس يتم الإبصار إلا بذلك المعنى.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان بينهما بعد ما وليس يدركه إذا التصق به فإن ذلك لعلتين: إحداهما أن البصر ليس ييرك المبصر إلا إذا كان في المبصر ضوء ما. وإذا كان المبصر ملتصقاً بالبصر، وليس هو مضيئاً من ذاته، فليس يكون في سطحه الذي يلي البصر ضوء لأن جسم المبصر يستر عنه الأضواء. والأشياء المضيئة من ذواتها ليس يمكن أن تلتصق بالبصر، لأن الأشياء المضيئة من ذواتها إنما هي الكواكب والنار، وليس واحد من هذين يمكن أن يلتصق بالبصر. والعلة الثانية أن الإبصار إنما يكون من الجزء المقابل لثقب العنبية من وسط سطح البصر فقط، وليس يكون من بقية سطح البصر إحساس، وإذا التصق المبصر بالبصر فإنما ينطبق على هذا الجزء من البصر جزء مساو له فقط من المبصر. فلو كان البصر يدرك المبصر عند التصاقه به لكان يدرك منه الجزء الملتصق بالجزء المقابل للثقب فقط ولا يدرك بقية المبصر. فإن حرك المبصر على سطحه أو تحرك هو حتى يماس جميع سطح المبصر بالجزء المتوسط منه لكان يدرك من البصر جزءاً بعد جزء، وكان إذا أدرك الجزء الثاني لم يدرك الجزء الأول، وكان لا يدرك جميع المبصر معاً. وإذا لم يدرك جميع المبصر معاً لم تتشكل فيه صورة المبصر كما أنه لو كان مبصر من المبصرات من وراء جسم كثيف، وكان ذلك الجسم الكثيف ثقب وكان المبصر ملتصقاً بالثقب، وكان المبصر مع ذلك يزيد على مقدار الثقب، لكان البصر لا يدرك منه إلا الجزء المطابق للثقب فقط، ثم إن تحرك المبصر على الثقب حتى يدرك البصر منه جزءاً بعد جزء لما تشكلت له جملة صورته ولا تحقق شكله.
فلو كان الإبصار يكون بالمماسة لكان البصر يدرك جملة المبصر ولا يتحقق شكله وصورته إلا إذا كان البصر مساوياً للمبصر أو كان البصر مساوياً للجزء المتوسط من سطح البصر الذي منه يكون الإبصار، وكان مع ذلك لا يمكن أن يدرك البصر مبصرات كثيرة في وقت واحد ويكون إدراكه لها معاً. وإذا كان البصر على ما هو عليه، وكان بينه وبين المبصر بعد ما، فإنه يمكن أن يدرك جميع المبصر معاً في الوقت الواحد من الجزء اليسير الذي في وسطه الذي منه يكون الإحساس وإن عظم المبصر، ويمكن أن يدرك مبصرات كثيرة معاً في وقت واحد. وإذا كان بالبعد من البصر أمكن أيضاً أن يشرق الضوء على سطحه المواجه للبصر. فلهاتين العلتين صار البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان بينهما بعد ما.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر الذي هو معه في هواء واحد وفي الجهة المقابلة له إلا إذا كان بين كل نقطة منه وبين نقطة ما من سطح الجزء الذي منه يكون الإبصار إنما يكون من الصورة التي ترد من المبصر إلى البصر وان ليس تصدر عن المبصرات إلا على خطوط مستقيمة. فلهذه العلة ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كانت بينهما خطوط مستقيمة، ومتى قطع جميع الخطوط المستقيمة التي بينهما جسم كثيف خفي المبصر عن البصر، ومتى قطع الجسم الكثيف بعض الخطوط المستقيمة التي بين المبصر وبين سطح البصر خفي من المبصر الجزء الذي عند أطراف الخطوط التي انقطعت بالجسم الكثيف. فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان فيه ضوء ما فإن ذلك لأحد أمرين: غما أن تكون صور الألوان التي في المبصرات ليس تمتد في الهواء إلا إذا صار مع اللون ضوء ما وإذا لم يكن في المبصر ضوء لم تمتد صورة لونه في الهواء المتصل ليس فيه ضوء لأن لونه ليس تصل إلى البصر، وإما أن تكون صورة اللون تمتد في الهواء وإن لم يحضر الضوء، إلا أنها لا تؤثر في البصر تأثيراً محسوساً، وإذا كانت مع الضوء أثراً في البصر بمجموعها. وهو ظاهر أن صورة الضوء أقوى من صورة اللون وأن الضوء يقرع البصر ويؤثر فيه تأثيراً بيناً. وصورة اللون ضعيفة، فليس في قوتها أن تؤثر في البصر كتأثير الضوء. وصورة اللون الذي في الجسم المضيء تكون أبداً ممتزجة بصورة الضوء، فإذا وصلت صورة الضوء من المبصر إلى البصر فهي تؤثر فيه لقوتها ولتهيؤ البصر للانفعال بها، فالبصر يحس بها من تأثيرها ولأنها ممتزجة بصورة اللون وغير متميزة منها، فليس يحس البصر بصورة الضوء إلا ممتزجة، فهو يحس باللون من لون هذه الصورة، فيكون البصر إنما يحس بلون المبصر من اللون الممازج لصورة الضوء التي ترد إليه من المبصر. ولذلك يدرك البصر لون المبصر بحسب الضوء الذي يكون في المبصر، ولذلك تتغير ألوان كثير من المبصرات عند البصر بتغير الأضواء التي تشرق عليها. فلأن صورة اللون ليس تؤثر في البصر إلا إذا كانت ممتزجة بالضوء، وليس يكون من اللون صورة إلا إذا كان فيه ضوء، صار البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان فيه ضوء ما.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان حجمه مقتدراً فلأنه قد تبين أن صورة المبصر إنما تصل إلى البصر من المخروط الذي رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر، وأن هذا المخروط يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً صغيراً فيه تترتب صورة المبصر ومنه يحس الحاس بالمبصر. فإذا كان المبصر في غاية الصغر كان المخروط الذي بينه وبين مركز البصر في غاية الدقة، فيكون الجزء الذي يفصله من سطح الحاس في غاية الصغر، فيكون بمنزلة النقطة التي لا قدر لها. والحاس إنما يحس بالصورة في سطحه إذا كان الجزء من سطحه الذي تحصل فيه الصورة له قدر محسوس عند جملته. وقوى الحواس متناهية، فإذا كان الجزء من العضو الحاس الذي تحصل فيه الصورة ليس له قدر محسوس عند جملة العضو الحاس لم يحس الحاس بالأثر الذي يحصل في ذلك الجزء لصغره. وإذا لم يحس بالأثر لم يدرك الصورة. فالمبصر الذي يصح أن يدركه البصر هو الذي يكون المخروط الذي يتشكل بينه وبين مركز البصر يفصل من سطح الجليدية جزءاً له قدر محسوس بالإضافة إلى جملة سطح الجليدية وهذا الإحساس يكون إلى الحد الذي تنتهي إليه قوة الحس، لا إلى ما لا نهاية. ويختلف أيضاً هذا الإحساس في الإبصار بحسب اختلاف قوى الإبصار، لأن بعض الإبصار يكون أقوى من بعض. وإذا كان المخروط الذي يتشكل بين المبصر وبين مركز البصر يفصل من سطح الجليدية جزءاً ليس له قدر محسوس بالإضافة إلى جملة سطح الجليدية فليس يصح أن يدرك البصر ذلك المبصر. فلذلك ليس يدرك البصر المبصر الذي هو في غاية الصغر ولا يدرك إلا ما كان حجمه مقتدراً.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بينه وبين البصر مشفاً فلأن الإبصار إنما يكون من الصورة التي ترد من المبصر إلى البصر، وليس تمتد الصورة إلا في الأجسام المشفة ولا تقبلها وتؤديها إلا الأجسام المشفة، وليس يتم الإبصار إلا إذا كان المبصر مع البصر في هواء واحد وكان إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا كان الهواء متصلاً بين البصر والمبصر ولم يقطع السموت المستقيمة التي بينهما جسم كثيف، لأن الصورة ليس تمتد في الهواء المشف المتشابه الشفيف إلا على خطوط مستقيمة. فلذلك صار البصر لا يدرك المبصر الذي هو معه في هواء واحد وفي الجهة المقابلة للبصر إلا إذا كان الهواء الذي بينهما مشفاً متشابه الشفيف متصلاً، ولم يقطع السموت المستقيمة التي بينه وبين البصر جسم كثيف.
وأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة فإن ذلك لعلتين: إحداهما أن الكثيف متلون واللون تكون منه الصورة التي ترد إلى البصر التي يدرك البصر منها لون المبصر، والمشف الذي في غاية الشفيف ليس له لون، فليس تكون منه صورة تنتهي إلى البصر، فلذلك لا يدركه البصر. والعلة الثانية أن البصر ليس يدرك المبصر إلا إذا كان مضيئاً وورد من الضوء الذي فيه صورة ثانية إلى البصر مع صورة اللون. والضوء الذي يشرق على جسم من الأجسام ليس تكون منه صورة ثانية إلا إذا ثبت الضوء في ذلك الجسم ومانعه الجسم من النفوذ فيه كان منه صورة ثانية. والجسم المشف إذا أشرق عليه الضوء وكان في غاية الشفيف فليس يثبت الضوء فيه ولا في موضع منه وإنما يمتد في شفيفه فقط. فإذا كان الجسم المشف مقابلاً للبصر، وأشرق عليه الضوء من الجهة التي فيها البصر، فهو يمتد فيه ولا يثبت في سطحه ولا في شيء منه، فلا يكون في السطح المواجه للبصر من ذلك الجسم ضوء تكون منه صورة ترجع إلى البصر. وكذلك إن أشرق الضوء على الجسم المشف الذي في غاية الشفيف من أي جهة أشرق عليه نفذ فيه، فلا يكون في سطحه ولا في موضع منه ضوء ثابت تكون منه صورة ثانية ترد إلى البصر. وإن كان المضيء الذي يشرق ضوؤه على الجسم المشف مقابلاً للبصر نفذ ضوؤه في الجسم المشف وانتهى إلى البصر ولم يجمل معه شيئاً من لون الجسم المشف، ولا يدرك الجسم المشف. فإذا كان الجسم المشف في غاية الشفيف لم تثبت الصورة عليه ولم تكن منه صورة تمتد في الهواء وتصل إلى البصر لا صورة ضوء ولا صورة لون. فلذلك ليس يدرك البصر المبصر الذي يكون في غاية الشفيف. وإن كان شفيف الجسم المشف شبيهاً بشفيف الهواء فإن حاله تكون كحال الهواء فلا يدركه البصر كما ليس يدرك الهواء. فالأجسام المشفة التي شفيفها ليس بأغلظ من شفيف الهواء ليس يدركها البصر لأنه ليس يرد منها إلى البصر صورة تؤثر في البصر. وكذلك إن توسط ين البصر والمبصر المشف جسم مشف غير الهواء وكان شفيف المبصر ليس بأغلظ من شفيف الجسم المتوسط.
وإذا كان المبصر كثيفاً كان متلوناً، وإذا أشرق عليه ضوء أي ضوء كان ثبت في سطحه، وكان من لونه ومن الضوء الذي يشرق عليه صورة تمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة، ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، وإذا انتهت هذه الصورة إلى البصر أثرت في البصر وأحس البصر منها بالمبصر. وإذا كان المبصر مشفاً وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء فإنه يكون له لون ما بحسب غلظه، وإذا أشرق عليه الضوء ثبت الضوء في سطحه ثبوتاً ما بحسب ما فيه من الغلظ مع نفوذه فيه بحسب شفيفه، وكان منه صورة في الهواء بحسب لونه وبحسب الضوء الذي يثبت في سطحه. وإذا وصلت تلك الصورة إلى ابص وأثرت في البصر وأحس البصر بذلك المبصر. فلهذه العلة صار البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة.
فقد تبينت العلل التي من أجلها البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا اجتمعت فيه المعاني المذكورة. فهذه الفصول وما بيناه فيها هو الذي قصدنا لتبيينه في هذه المقالة.
تمت المقالة الأولى من كتاب الحسن بن الحسن في المناظر وكتب أحمد بن محمد بن جعفر يوم الأحد منتصف جمادى الأولى سنة ست وسبعين وأربعمائة وفيه انتهى النسخ والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله وسلامه.