فصل: الفصل السادس في كيفية الإبصار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل السادس في كيفية الإبصار:

قد تبين فيما تقدم أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان فإن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء إلى كل جهة تقابله. فإذا قابل البصر مبصراً من المبصرات، وكان المبصر مضيئاً بأي ضوء كان، فإن الضوء الذي في المبصر يرد منه ضوء إلى سطح البصر. وقد تبين أيضاً أن من خاصة الضوء أن يؤثر في البصر وأن من طبيعة البصر أن ينفعل بالضوء. فاخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المبصر إنما هو من الضوء الذي يرد منه إلى البصر.
وقد تبين أيضاً أن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة اللون الذي في ذلك الجسم تصحب أبداً الضوء الذي يصدر عنه إلى كل جهة تقابل ذلك الجسم، ويكون الضوء وصورة اللون أبداً معاً. فالضوء الذي يرد إلى البصر من الضوء الذي في الجسم المبصر يكون أبداً معه صورة اللون الذي في الجسم المبصر. وإذا كان الضوء واللون يردان معاً إلى سطح البصر، وكان البصر يحس بالضوء الذي في المبصر من الضوء الذي يرد إليه من المبصر، فأخلق بأن يكون إحساس البصر باللون الذي في المبصر أيضاً إنما هو من صورة اللون التي ترد عليه مع الضوء.
وأيضاً فإن صورة اللون تكون أبداً ممتزجة بصورة الضوء وغيره متميزة عنها، فليس يحس البصر بالضوء إلا ملتبساً باللون. فاخلق بأن يكون إحساس البصر بلون المبصر والضوء الذي فيه إنما هو من الصورة الممتزجة من الضوء واللون الذي يرد إليه من سطح البصر.
وأيضاً فإن طبقات البصر المسامتة لوسط مقدم البصر مشفة متماسة، والأولى منها وهي القرنية مماسة للهواء الذي فيه ترد الصورة، ومن خاصة الضوء أن ينفذ في كل جسم مشف، وكذلك خاصة اللون أن تنفذ صورته التي تصحب الضوء في الجسم المشف ولذلك تمتد في الهواء المشف كامتداد الضوء، ومن طبيعة الجسام المشفة أن تقبل صورة الأضواء والألوان وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، فالصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر تنفذ في شفيف طبقات البصر من الثقب الذي في مقدم العنبية، فهي تصل إلى الرطوبة الجليدية وتنفذ أيضاً منها بحسب شفيفها. فأخلق بأن تكون طبقات البصر إنما كانت مشفة لتنفذ فيها صور الأضواء والألوان التي ترد إليها.
فلنحرر الآن ما تألف من جميع ذلك.
فنقول: إن البصر يحس بالضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي ترد إليه من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر. وهذا المعنى هو الذي استقر عليه رأي أصحاب الطبيعة في كيفية الإبصار.
فنقول الآن عن كيفية الإبصار لا تصح أن تكون بهذه الصفة فقط، لأن هذه الصفة تنتقد وتبطل إن لم ينضاف إليها غيرها. وذلك أن كل جسم متلون مضيء فإن ضوئه ولونه تمتد صورتهما في الهواء المشف المتصل به إلى جميع الجهات المقابلة له. وقد يقابل البصر في الوقت الواحد مبصرات كثيرة مختلفة الألوان كل واحد منها بينه وبين البصر سموت مستقيمة في الهواء المتصل المتوسط بينه وبينها. وإذا كان المبصر المقابل للبصر ترد صورة الضوء واللون اللذين فيه إلى سطح البصر فكل واحد من المبصرات التي تقابل البصر في وقت واحد ترد صورة ضوئه ولونه في ذلك الوقت إلى سطح البصر. وإذا كانت الصورة تمتد من المبصر إلى كل جهة تقابله، وكانت إنما تصل إلى البصر من أجل مقابلته، فإن الصورة التي تصل من المبصر إلى البصر تصل إلى جميع سطح البصر. وإذا كان ذلك كذلك فإن البصر إذا قابل مبصراً من المبصرات، ووصلت صورة لونه وضوءه إلى سطح البصر، وحضر في الوقت مبصرات أخر مختلفة الألوان مقابلة للبصر، فإن كل واحد من تلك المبصرات قد وردت صورة ضوءه ولونه إلى سطح البصر وتكون صورة كل واحد من جميع تلك المبصرات قد حصلت في جميع سطح البصر. فتحصل في جميع سطح البصر في وقت واحد ألوان كثيرة مختلفة وأضواء كثيرة مختلفة كل واحد منها قد ملا سطح البصر، فتحصل في سطح البصر صورة ممتزجة من ألوان مختلفة وأضواء مختلفة.
فإن أحس البصر بتلك الصورة الممتزجة فهو يحس بلون مخالف للون كل واحد من تلك المبصرات. وإن أحس بواحدة من تلك الصور ولم يحس بالباقية أدرك واحداً من المبصرات ولم يدرك الباقية. وهو يدرك جميع تلك المبصرات في وقت واحد ويدركها متميزة.
وإن لم يحس بواحدة من تلك الصور فليس يحس بشيء من المبصرات المقابلة. ولكنه يحس بجميعها.
وأيضاً فإن المبصر الواحد قد تكون فيه ألوان مختلفة وتخطيط وترتيب، وكل جزء من أجزائه يصدر منه الضوء واللون اللذين فيه في جميع السموت المستقيمة التي يصح أن تمتد في الهواء المتصل به. فإذا كانت أجزاء المبصر الواحد مختلفة الألوان ورد إلى جميع سطح البصر من كل واحد منها صورة اللون والضوء اللذين فيه، فتمتزج ألوان تلك الأجزاء في سطح البصر، فيدركها البصر ممتزجة أولا يدرك منها شيئاً. فإن أدركها ممتزجة لم تتميز ألوان ولم تترتب الأجزاء، وإن لم يدرك من تلك الصور شيئاً لم يدرك شيئاً من الأجزاء وإذا لم يدرك شيئاً من الأجزاء لم يدرك المبصر. لكن البصر يدرك المبصر المضيء المقابل له ويدرك أجزاءه المختلفة الألوان ويدركها متميزة مترتبة.
وإذا كان ذلك كذلك فكيفية الإبصار إما أن تكون بغير هذه الصفة جملة وإما أن تكون هذه الصفة هي بعض صفتها. فلننظر الآن هل يمكن أن ينضاف إلى هذه الصفة شروط تتميز بها ألوان المبصرات عند البصر وتكون موافقة للوجود.
فنقول: إن البصر إذا قابل مبصراً من المبصرات فإن كل نقطة من سطح المبصر ترد منها صورة اللون والضوء اللذين فيها إلى جميع سطح البصر، وكل نقطة من كل واحد من المبصرات المقابلة للبصر في تلك الحال أيضاً ترد منها صورة اللون والضوء اللذين فيها إلى جميع سطح البصر. فإن أحس البصر من جميع سطحه بصورة اللون والضوء التي ترد من نقطة واحدة من النقط التي في سطح المبصر فهو يحس من جميع سطحه بصورة كل نقطة من سطح ذلك المبصر وصورة كل نقطة من سطوح جميع المبصرات المقابلة له في تلك الحال، فلا تترتب له أجزاء المبصر الواحد ولا تتميز له المبصرات.
وإن أحس البصر بالصورة التي ترد من نقطة واحدة من سطح المبصر إلى جميع سطح البصر من نقطة واحدة فقط من سطح البصر ولم يحس بصورة تلك النقطة من جميع سطحه ترتبت له أجزاء المبصر وتميزت له جميع المبصرات المقابلة له. وذلك أنه إذا أدرك لون النقطة الواحدة من نقطة واحدة فقط من سطحه أدرك لون الجزء الواحد من المبصر من جزء من سطحه وأدرك لون الجزء الآخر من جزء آخر من سطحه غير ذلك الجزء وأدرك كل واحد من المبصرات من موضع من سطحه غير الموضع الذي يدرك منه مبصراً آخر، فتترتب له المبصرات وتتميز وتترتب أجزاء كل واحد من المبصرات.
فلننظر الآن هل هذا المعنى ممكن ويصح أن يوافق الوجود. فنقول أولاً إن الإبصار إنما يكون بالجليدية كان الإبصار بصورة ترد من المبصر إلى البصر أو غير ذلك، وليس يكون الإبصار بواحدة من الطبقات المتقدمة لها وإنما الطبقات المتقدمة آلات لها. وذلك إن لحق الرطوبة الجليدية آفة مع سلامة بقية الطبقات بطل الإبصار، وإن لحق بقية الطبقات آفة مع بقاء الشفيف الذي فيها أو بعضه ومع سلامة الجليدية لم يبطل الإبصار. وأيضاً فإنه إن حصل في ثقب العنبية سدة وبطل شفيف الرطوبة التي فيها بطل الإبصار مع سلامة القرنية، وإذا زالت السدة عاد الإبصار. وكذلك إن حصل في داخل الرطوبة البيضية جزء غليظ غير مشف، وكان في وجه الرطوبة الجليدية ومتوسطاً بينها وبين ثقب العنبية، بطل الإبصار، وإذا زال ذلك الغلظ انحط الجزء الغليظ عن السمت المستقيم الذي بين الجليدية وبين ثقب العنبية أو مال عنه إلى بعض الجهات عاد الإبصار يشهد بجميع ذلك صناعة الطب.
فبطلان الإحساس عند فساد الجليدية مع سلامة بقية الطبقات المتقدمة لها دليل على أن الإحساس إنما يكون بهذه الرطوبة لا بالطبقات المتقدمة لها، وبطلان الإحساس عند انقطاع الشفيف بين الجليدية وبين سطح البصر بالجسم الكثيف يدل أيضاً على أن الإحساس إنما هو عند الجليدية لا عند سطح البصر، ويدل أيضاً على أن شفيف هذه الطبقات إنما هو ليتصل شفيف طبقات البصر بشفيف الهواء فتصير الأجسام التي بين الجليدية وبين البصر مشفة متصلة الشفيف. وبطلان الإحساس عند انقطاع السمت المستقيم الذي بين الجليدية وبين سطح البصر يدل على أن إحساس الجليدية ليس يكون إلا من السموت المستقيمة التي بينها وبين سطح البصر.
فنقول الآن إن كان إحساس البصر بلون المبصر والضوء الذي فيه من الصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر، والإحساس إنما يكون بالجليدية لا بسطح البصر، فليس يحس بهذه الصورة إلا بعد أن يتجاوز سطح البصر ويصل إلى الجليدية. والصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر هي تنفذ في شفيف طبقات البصر لأن من خاصة الشفيف أن تنفذ فيه صور الأضواء والألوان وتمتد فيه على استقامة، وقد بينا ذلك في الهواء. وإذا اعتبرت جميع الأجسام المشفة وجد الضوء ليس يمتد فيها إلا على السموت المستقيمة، ونحن نبين من بعد عند كلامنا في الانعطاف كيف يعتبر ذلك وكيف تنتهي هذه الحال. وإن كان إحساس البصر باللون والضوء اللذين في المبصر من الصورة التي ترد إليه من المبصر فعند وصول هذه الصورة إلى الجليدية يقع الإحساس. وقد تبين انه ليس يصح أن يدرك البصر المبصر على ما هو عليه إلا إذا أدرك صورة النقطة الواحدة من المبصر من نقطة واحدة فقط من سطحه. فالجليدية إذن ليس يصح أن تدرك المبصر على ما هو عليه إلا إذا أدركت لون النقطة الواحدة من المبصر وضوءها من الصورة التي تصل إليها من نقطة واحدة فقط من سطح البصر. والصورة ترد من كل نقطة من سطح المبصر إلى جميع سطح البصر وتنفذ من جميع سطح البصر إلى داخل تجويف البصر. فإن كان ما يرد من النقطة الواحدة من المبصر إلى جميع سطح البصر وينفذ في طبقات البصر وينتهي إلى الجليدية تدرك الجليدية منه ما ينفذ إليها من نقطة واحدة فقط من سطح البصر، وتحس بلون تلك النقطة من المبصر وضوئها من الصورة التي تنفذ من تلك النقطة فقط من سطح البصر وتصل إلى نقطة واحدة فقط من سطحها ولا تدرك تلك النقطة من المبصر من بقية الصورة التي تصل إلى سطحها من بقية سطح البصر، تم الإبصار وترتبت أجزاء المبصرات وتميزت المبصرات عند البصر.
وليس يتم الإبصار إن كان من الصورة التي ترد إلى البصر إلا على هذه الصفة. وليس يصح أن يكون ذلك كذلك إلا إذا كانت واحدة من النقط التي في سطح البصر التي تنفذ فيها صورة النقطة الواحدة من سطح المبصر تتميز عن بقية النقط التي في سطح البصر، وكان الخط الذي عليه ترد الصورة إلى تلك النقطة من سطح البصر يتميز عن بقية الخطوط التي ترد عليها الصورة بخاصة من أجلها يصح أن تدرك الجليدية الصورة التي ترد على ذلك الخط ومن النقطة من سطح البصر التي على ذلك الخط ولا تدركها من غيرها.
وإذا استقرئت الأضواء واعتبرت كيفية نفوذها وامتدادها في الأجسام المشفة وجد الضوء يمتد في الجسم المشف على سموت مستقيمة ما دام الجسم المشف متشابه الشفيف، فإذا لقي جسماً آخر مخالف الشفيف للجسم الأول الذي امتد فيه فليس ينفذ على استقامة السموت التي كان يرتد عليها إلا إذا كانت تلك السموت قائمة على سطح الجسم الثاني المشف على زوايا قائمة. وإذا كان تتلك السموت مائلة على سطح الجسم الثاني وغير قائمة عليه على زوايا قائمة انعطف الضوء عند سطح الجسم الثاني ولم يمتد على استقامة. فإذا انعطف امتد في الجسم الثاني على سموت الخطوط المستقيمة التي ينعطف عليها، وتكون الخطوط التي ينعطف عليها الضوء في الجسم الثاني أيضاً مائلة على سطح الجسم الثاني ولا تكون أعمدة عليه. وإن كان بعض الخطوط التي يرد عليها الضوء في الجسم الأول قائماً على سطح الجسم الثاني وبعضها مائلاً امتد ما كان من الضوء على الخطوط القائمة في الجسم الثاني على استقامة، وما كان منه على الخطوط المائلة انعطف عند سطح الجسم الثاني على خطوط مائلة ممتدة فيه على استقامة تلك الخطوط المائلة التي انعطف عليها. وقد ذكرنا هذا المعنى من قبل وضمنا تبيينه، ونحن نبينه من بعد في الموضع الذي يليق به، وهو عند كلامنا في الانعطاف، ونرشد إلى الطريق الذي به تعتبر هذه الحال ويظهر هذا المعنى للحس ويقع معه اليقين.
وإذا كان ذلك كذلك فصورة الضوء واللون التي ترد من كل نقطة من المبصر إلى سطح البصر إذا وصلت إلى سطح البصر فليس ينفذ منها شيء في شفيفات طبقات البصر على استقامة إلا ما كان على الخط المستقيم القائم على سطح البصر على زوايا قائمة، وما كان على غيره من الخطوط فإنه ينعطف ولا ينفذ على استقامة، لأن شفيف طبقات البصر ليس كشفيف الهواء المماس لسطح البصر. والذي ينعطف من هذه الصور ينعطف أيضاً على خطوط مستقيمة مائلة لا على الأعمدة التي تمتد من مواضع الانعطاف. وكل نقطة من سطح البصر فليس يخرج إليها مستقيم يكون عموداً على سطح البصر إلا خط واحد فقط، ويخرج إليها خطوط بلا نهاية تكون مائلة على سطح البصر. والصورة التي ترد على استقامة العمود تنفذ في طبقات البصر على استقامة العمود، وجميع الصور التي ترد على الخطوط المائلة إلى تلك النقطة تنعطف عند تلك النقطة وتنفذ في طبقات البصر على خطوط مائلة أيضاً، ولا ينفذ شيء منها على استقامة الخطوط التي وردت عليها ولا على استقامة العمود القائم على تلك النقطة.
وكل نقطة من سطح البصر ترد إليها في الوقت الواحد صور جميع النقط التي في سطوح جميع المبصرات المضيئة المقابلة لها في ذلك الوقت، لأن بينها وبين كل نقطة مقابلة لها خطاً مستقيماً، ولأن كل نقطة من النقط التي في سطوح المبصرات المضيئة فإن صورتها تمتد على كل خط مستقيم يمتد من تلك النقطة. ونقطة واحدة فقط من جميع النقط المقابلة للبصر التي وردت صورها إلى سطح البصر على خطوط مائلة. فكل نقطة من سطح البصر ينفذ فيها في الوقت الواحد صور جميع النقط التي في سطوح جميع المبصرات المقابلة لها في ذلك الوقت. وصورة نقطة واحدة فقط من جميعها تنفذ على استقامة في شفيف طبقات البصر وهي النقطة التي عند طرف العمود الذي يخرج إلى تلك النقطة من سطح البصر. وصور جميع النقط الباقية تنعطف عند تلك النقطة من سطح البصر. وصور جميع النقط الباقية تنعطف عند تلك النقطة من سطح البصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر على خطوط مائلة على سطح البصر.
وأيضاً فإن كل نقطة من سطح الجليدية يخرج منها خط واحد فقط يكون عموداً على سطح البصر، وتخرج منها خطوط بلا نهاية إلى سطح البصر وتكون مائلة عليه. فالنقطة من سطح الجليدية التي يخرج منها عمود على سطح البصر ويكون نافذاً في ثقب العنبية تخرج منها خطوط بلا نهاية تنفذ في ثقب العنبية وتنتهي إلى سطح البصر وتكون مائلة على سطح البصر ما سوى ذلك العمود فقط.
وجميع الخطوط التي تخرج من نقطة من سطح الجليدية وتنفذ في ثقب العنبية وتنتهي إلى سطح البصر وتكون مائلة عليه إذا توهمت منعطفة على الصفة التي يوجبها اختلاف الشفيف الذي بين شفيف جسم القرنية وبين شفيف الهواء فإن أطرافها تنتهي إلى مواضع مختلفة وإلى نقط مختلفة وإلى نقط مختلفة من النقط التي في سطوح المبصرات التي تقابل البصر في وقت واحد، وليس يلقي واحد من هذه الخطوط النقطة التي عند طرف العمود. والنقط التي عند أطراف جميع هذه الخطوط من سطوح المبصرات تمتد صورها على استقامة هذه الخطوط وتنتهي إلى سطح البصر وينعطف جميعها إلى النقطة الواحدة بعينها من سطح الجليدية، ما سوى النقطة التي عند طرف العمود فإن صورتها تمتد على استقامة العمود وتنفذ على استقامة إلى تلك النقطة من الجليدية تحس من النقطة الواحدة منها بجميع الصور التي ترد إليها من جميع السموت فهي تحس من كل نقطة منها بصورة ممتزجة من صور كثيرة وألوان ممتزجة من ألوان كثيرة من المبصرات المقابلة للبصر في ذلك الوقت، فلا يتميز لها شيء من النقط التي في سطوح المبصرات ولا تترتب لها النقط التي ترد صورها إلى تلك النقطة. وإن كانت الجليدية تحس من النقطة الواحدة منها يرد إليها من سمت واحد فقط تميزت لها النقط التي في سطوح المبصرات وترتبت لها النقطة التي في سطح كل واحد من المبصرات.
وليس واحدة من النقط التي تصل صورها إلى الجليدية على الخطوط المنعطفة أولى من غيرها من الصور المنعطفة، ولا واحد من السموت المنعطفة أولى من غيره. والصور المنعطفة إلى النقطة الواحدة من الجليدية في الوقت الواحد كثيرة غير محصورة. والنقطة التي ترد صورتها على استقامة العمود إلى النقطة الواحدة من الجليدية هي نقطة واحدة فقط، وليس يرد معها على استقامة العمود صورة غيرها، لأن جميع الصور المنعطفة ليس تنعطف إلا على خطوط مائلة. وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح البصر ومركز سطح الجليدية واحداً فإن العمود الذي يقوم على سطح البصر هو عمود على سطح الجليدية.
فالصورة التي ترد على العمود تتميز عن سائر الصور بحالتين: إحديهما أنها تمتد من سطح المبصر إلى النقطة من الجليدية على خط مستقيم، والباقية ترد على خطوط منعطفة. والثانية أن هذا العمود القائم أن هذا العمود القائم على سطح البصر هو عمود على سطح الجليدية أيضاً. والخطوط الباقية التي ترد عليها الصور المنعطفة هي مائلة على سطح الجليدية لأنها مائلة على سطح البصر.
وتأثير الأضواء التي ترد على الأعمدة يكون أقوى من تأثير ما يرد على الخطوط المائلة. فأخلق بأن تكون الجليدية إنما تحس من كل نقطة منها بالصورة التي ترد إليها على استقامة العمود فقط ولا تحس من تلك النقطة بما يرد إلى تلك النقطة من السموت المنعطفة.
وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح الجليدية نقطة واحدة فإن جميع الأعمدة التي تقوم على سطح الجليدية وعلى سطح الجليدية وعلى سطح البصر يلتقي جميعها عند المركز المشترك وتكون أقطاراً لسطوح طبقات البصر، ويكون كل واحد من الأعمدة يلقى سطح القرنية على نقطة واحدة، ويلقى سطح الجليدية على نقطة واحدة، ولا يخرج إلى تلك النقطة من القرنية عمود إلا عمود واحد فقط، ولا يخرج إلى تلك النقطة الجليدية إلا ذلك العمود بعينه فقط. فتكون الصورة التي تخرج من كل نقطة من سطح المبصر على العمود الذي يمتد منها إلى سطح البصر يلقى سطح البصر على نقطة واحدة لا يلقاه عليها غيرها من الصور التي ترد على الأعمدة، ويلقى سطح الجليدية أيضاً على نقطة واحدة لا يلقاه عليها غيرها من الصور التي ترد على الأعمدة. وأيضاً فإنه قد تبين أن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن كل نقطة يخرج منها صورة الضوء واللون على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة.
وكل نقطة تقابل سطحاً من السطوح فإن بين تلك النقطة وبين كل نقطة من ذلك السطح خطاً مستقيماً متوهماً، وبين تلك النقطة وبين جميع ذلك السطح مخروط متوهم رأسه تلك النقطة وقاعدته ذلك السطح يشتمل على جميع الخطوط المستقيمة المتوهمة التي بين تلك النقطة وبين جميع النقط التي في ذلك السطح. فإذا كانت صورة الضوء واللون تخرج من كل نقطة من سطح الجسم المتلون المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة، فإن كل نقطة مقابلة للجسم المضيء المتلون فإن صورة الضوء واللون اللذين في سطح ذلك الجسم تمتد من كل نقطة من سطح ذلك الجسم إلى تلك النقطة المقابلة له على الخط المستقيم الممتد بينها وبين تلك النقطة، ويكون المخروط الذي يتشكل بين تلك النقطة وبين ذلك السطح يحيط بجميع الخطوط التي تمتد عليها الصور من جميع ذلك السطح إلى تلك النقطة. فكل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة الضوء واللون اللذين فيه تمتد من سطحه إلى كل نقطة تقابل ذلك السطح على سمت المخروط الذي يتشكل بين تلك النقطة وبين ذلك السطح، وتكون الصورة مرتبة في ذلك المخروط بالخطوط التي تلتقي عند تلك النقطة التي هي رأس المخروط كترتيب أجزاء اللون الذي في سطح ذلك الجسم.
فإذا قابل المبصر مبصراً من المبصرات فإنه يتشكل بين النقطة التي هي مركز البصر وبين سطح ذلك المبصر المقابل للبصر مخروط متوهم رأسه مركز البصر وقاعدته سطح ذلك المبصر. وإذا كان الهواء المتوسط بين ذلك المبصر وبين البصر متصلاً، ولم يتوسط بين البصر والمبصر جسم كثيف، وكان ذلك المبصر مضيئاً بأي ضوء كان، وكانت صورة الضوء واللون اللذين في سطح ذلك المبصر ممتدة إلى البصر على سمت ذلك المخروط، وكانت صورة كل نقطة من سطح ذلك المبصر ممتدة على استقامة الخط الذي بين تلك النقطة وبين راس المخروط الذي هو مركز البصر.
وإذا كان مركز البصر هو مركز سطح الجليدية كانت جميع هذه الخطوط أعمدة على سطح ظاهر البصر وعلى سطح الجليدية وعلى جميع سطوح طبقات البصر المتوازية، ويكون المخروط مشتملاً على جميع هذه الأعمدة ومشتملاً على الجزء من الهواء الذي فيه تمتد الصورة من جميع سطح ذلك المبصر المقابل للبصر على سموت الأعمدة، ويكون سطح الجليدية قاطعاً لهذا المخروط. فتحصل صورة الضوء واللون اللذين في ذلك المبصر في الجزء من سطح الجليدية الذي يحوزه المخروط، وتكون كل نقطة من هذا الجزء من سطح الجليدية قد وردت إليها صورة النقطة المقابلة لها من سطح المبصر على استقامة العمود يخرج من تلك النقطة من سطح المبصر على سطوح طبقات البصر وعلى سطح الجليدية ونفذت في شفيف طبقات البصر على استقامة ذلك العمود ولم تنفذ1 معها على استقامة ذلك العمود صورة غيرها. وتكون هذه الصورة التي تحصل في الجزء من سطح الجليدية مرتبة فيه بالخطوط التي وردت عليها إليه هي أعمدة عليه وتلتقي عند مركز البصر كترتيب أجزاء سطح المبصر المقابل للبصر. وتكون كل نقطة من هذا الجزء من سطح الجليدية مع جميع ذلك قد وردت إليها في تلك الحال صور كثيرة من نقط كثيرة من النقط التي في سطوح المبصرات المقابلة للبصر في ذلك الوقت. فتحصل في هذا الجزء من سطح الجليدية الذي انفصل بالمخروط صور كثيرة من ألوان كثيرة مختلفة.
فإن أحست الجليدية من الجزء الذي انفصل بالمخروط بالصورة التي وردت إلى ذلك الجزء من سمت ذلك المخروط فقط ولم تحس من ذلك الجزء من سطحها بصورة غير الصورة التي وردت على ذلك السمت أحست بصورة ذلك المبصر على ما هي عليه ومرتبة كترتيبها، وأمكن أن تحس أيضاً في تلك الحال بصور مبصرات أخر غير ذلك المبصر من المخروطات التي تفصل من سطحها أجزاء أخر غير ذلك الجزء، وأمكن أن تحس بصورة كل واحد من تلك المبصرات على ما هو عليه وان تحس بأوضاع بعضها من بعض على ما هي عليه.
وإن أحست الجليدية بالصور التي ترد إليها من السموت المنعطفة أحست من ذلك الجزء بعينه الذي انفصل من سطحها بذلك المخروط بصورة ممتزجة من صور أجزاء سطح أجزاء سطح ذلك المبصر ومن صور مبصرات كثيرة مختلفة وتكون ممتزجة من ألوان كثيرة مختلفة، وأحست من كل جزء من كل جزء من سطحها غير ذلك الجزء بصورة ممتزجة من صور مبصرات كثيرة مختلفة، فلا تحس بالصورة التي وردت على سمت ذلك المخروط على ما هي عليه ولا بشيء من الصور التي وردت على الأعمدة على ما هي عليه ولا بشيء من الصور التي وردت من السموت المنعطفة على ما هي عليه، فلا تحس بصورة المبصر الواحد على ما هي عليه ولا تتميز لها المبصرات التي تقابلها في وقت واحد بعضها من بعض.
والبصر إنما يدرك المبصرات متميزة ويدرك أجزاء المبصر الواحد مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر، ويدرك عدة من المبصرات معاً في وقت واحد. فإن كان الإبصار من الصور التي ترد من المبصرات إلى البصر فليس تحس الجليدية بشيء من صور المبصرات من السموت المنعطفة.
وأيضاً فإنه ليس شيء من الصور التي تصل إلى سطح الجليدية من صور المبصرات يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه، ولا شيء من صور أجزاء المبصر الواحد إلا التي تصل إليها على استقامة الأعمدة التي تقوم على سطح البصر فقط. فأما الصور المنعطفة عند سطح البصر فإن أوضاعها تحصل في سطح الجليدية منعكسة، وتحصل صورة النقطة الواحدة مع ذلك في قطعة من سطح الجليدية، لا في نقطة واحدة. وذلك أن النقطة المتيامنة عن البصر إذا امتدت صورتها إلى نقطة من سطح البصر، وكان الخط الذي امتدت عليه الصورة مائلاً على سطح البصر، فإن صورتها تنعطف إلى الجهة المتياسرة عن العمود الذي يمتد من مركز البصر إلى تلك النقطة من سطحه. وتنتهي الصورة التي تنعطف من طرف العمود على هذه الصفة إلى نقطة متياسرة عن النقطة من سطح الجليدية التي يقطعه عليها ذلك العمود. وتكون صورة النقطة المتياسرة عن البصر التي تمتد إلى تلك النقطة بعينها من سطح البصر، وتكون مائلة عليه، تنعطف إلى نقطة متيامنة عن العمود وعن النقطة من سطح الجليدية التي على ذلك العمود الذي يخرج من موضع الانعطاف ولا تبلغ إلى العمود ولا تتجاوزه، لأن هذه هي خاصة الصور المنعطفة.
وكذلك صورتا النقطتين اللتين في جهة واحدة عن البصر اللتان تخرجان إلى نقطة واحدة من سطح البصر، وتكونان مائلتين عليه في جهة واحدة. تحصلان في سطح الجليدية منعكستين، لأن الخطين اللذين عليهما تمتد صورتا النقطتين يتقاطعان عند النقطة من سطح البصر التي عليها تلتقي الصورتان ويلقيان العمود الذي يخرج إلى تلك النقطة من سطح البصر على تلك النقطة. فإن كان هذان الخطان على سطح البصر في جهة واحدة جميعاً عن العمود الذي يخرج من مركز البصر إلى تلك النقطة انعطفت صورتا النقطتين إلى الجهة المقابلة لتلك الجهة. وأيضاً فلأن الخطين اللذين تمتد عليهما الصورتان إلى النقطة الواحدة من سطح البصر يتقاطعان على تلك النقطة فإنهما إذا امتدا على استقامتهما بعد التقاطع فإن وضعهما ينعكس بالقياس إلى البصر وإلى العمود، فيصير الخط الذي كان متيامناً قبل وصوله إلى سطح البصر من ذينك الخطين متياسراً بعد تجاوزه لسطح البصر، والمتياسر منهما متيامناً.
وكذلك يكون وضع الخطين اللذين عليهما تنعطف الصورتان من النقطة الواحدة من سطح البصر. فإن الصورتين اللتين تنعطفان من نقطة واحدة تقربان جميعاً من العمود، وتمتد الصورة التي كانت على خط أبعد من العمود بعد التقاطع على خط أبعد من العمود أيضاً، ولكن ببعد أقل من بعد الخط الذي كانت عليه. وتمتد الصورة التي كانت على خط أقرب إلى العمود بعد التقاطع على خط أقرب إلى العمود أيضاً، ولكن أشد قرباً من الخط الذي كانت عليه كذلك جميع الصور التي تنعطف من نقطة واحدة.
وإذا اعتبر هذا المعنى اعتباراً محرراً وجد على ما ذكرناه، ونحن نرشد إلى الطريق الذي به يعتبر هذا المعنى اعتباراً محققاً عند كلامنا في الانعطاف، وعند ذلك تنكشف جميع المعاني التي تتعلق بالانعطاف. ولسنا نستعمل هناك في تبيين المعاني التي استعملناها في هذه المقالة شيئاً مما بيناه بهذه المعاني في هذه المقالة.
فالنقطتان المائلتان إلى جهة واحدة عن البصر إذا امتدت صورتاهما إلى نقطة واحدة من سطح البصر فإنهما منعطفان على خطين يكون وضعهما عند البصر بالعكس من وضع الخطين الأولين اللذين عليهما امتدت الصورتان إلى سطح البصر، فيكون وضع النقطتين من سطح الجليدية اللتين تنتهي إليهما الصورتان بالعكس من وضع النقطتين اللتين منهما وردت الصورتان. فجميع الصور التي تنعطف من نقطة واحدة من سطح البصر تحصل في سطح الجليدية منعكسة.
وأيضاً فإن كل نقطة مقابلة للبصر فإن صورتها ترد إلى جميع سطح البصر، فهي تنعطف من جميع سطح البصر. والصورة التي تنعطف من جميع سطح البصر تنعطف إلى جزء له قدر من سطح الجليدية، لا إلى نقطة واحدة، لأن الصور المنعطفة لو التقت بعد الانعطاف على نقطة واحدة لكانت تقطع الأعمدة التي انعطفت عند أطرافها وتتجاوزها أو تخرج الصورة عن السطح الذي انعطفت فيه. وليس شيء من الصور المنعطفة يلقى العمود الذي انعطفت عند طرفه بعد الانعطاف ولا تتجاوزه ولا يخرج عن السطح الذي انعطفت فيه. وجميع هذه المعاني تتبين عند الاعتبار. فليس تكون صورة النقطة الواحدة من المبصر التي تحصل في سطح الجليدية بالانعطاف في نقطة واحدة بل في جزء مقتدر من سطح الجليدية، ولا يكون وضع صور النقط المختلفة من سطح المبصر التي تحصل صورها في سطح الجليدية بالانعطاف بعضها عند بعض كأوضاعها التي هي عليها في سطوح المبصرات بل منعكسة. فليس شيء من صور المبصرات التي تصل إلى سطح الجليدية على السموت المنعطفة يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه في سطوح المبصرات. وقد تبين أن الصور التي ترد على الأعمدة تترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه، لأنها تمتد على استقامة من سطوح المبصرات إلى سطح الجليدية. فليس شيء من صور المصرات التي ترد إلى سطح الجليدية يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه في سطوح المبصرات إلا الصور التي تمتد على سموت الأعمدة فقط.
فإن كان إحساس البصر بالمبصرات من الصور التي ترد إليه من سطوح المبصرات فإن البصر ليس يدرك شيئاً من صور المبصرات التي تصل إليه إلا من سموت الخطوط المستقيمة تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط، لأن البصر ليس يدرك شيئاً من صور المبصرات إلا مرتبة على ما هي عليه في سطوح المبصرات.
وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح البصر ليس هو مركز سطح الجليدية فإن الخطوط المستقيمة التي تخرج من سطح البصر وتمتد في ثقب العنبية وتنتهي إلى المبصرات ليس تكون أعمدة على سطح الجليدية بل مائلة عليها، ولا تكون أوضاعها على سطح الجليدية أوضاعاً متشابهة، إلا خط واحد منها فقط وهو الذي يمر بالمركزين. والصور التي ترد من سطوح المبصرات إلى سطح الجليدية ليس يصح أن تحس بها الجليدية إلا من سموت هذه الخطوط فقط، اعني التي هي أعمدة على سطح البصر الذي هو سطح القرنية، لأن الصور التي ترد على هذه الأعمدة فقط هي التي تترتب في سطح الجليدية كترتيبها في سطوح المبصرات.
فإن كانت الجليدية تدرك المبصرات من الصور التي ترد إليها، وكانت إنما تدرك الصور من سموت هذه الخطوط، وكانت هذه الخطوط ليست أعمدة على سطحها، فهي تدرك الصور إذاً من أوضاعها من سطحها أوضاع مختلفة ومائلة على سطحها. وإذا كانت تدرك الصور من سموت مختلفة الأوضاع عند سطحها. ولو كانت تدرك الصور المنعطفة من السموت المختلفة الأوضاع لم يتميز لها شيء من المبصرات كما تبين فيما تقدم. وإذا كان ليس يصح أن تدرك الصور المنعطفة من السموت المختلفة الأوضاع فليس يصح أن تدرك صور المبصرات من سموت الخطوط التي هي أعمدة على سطح البصر إلا إذا كانت هذه الخطوط أعمدة على سطحها وكانت أوضاعها من سطحها متشابهة. وليس تكون هذه الخطوط أعمدة على سطحها إلا إذا كان مركز سطحها ومركز سطح البصر نقطة واحدة مشتركة. وليس يدرك البصر شيئاً من صور المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند هذا المركز فقط.
وليس يمتنع أن يكون المركزان واحداً، لأنه قد تبين أن المركزين جميعاً من وراء مركز العنبية وعلى الخط المستقيم الذي يمر بجميع المراكز. فإذا كان ليس يمتنع أن يكون المركزان واحداً، وان تكون الخطوط المستقيمة التي تخرج من المراكز أعمدة على السطحين جميعاً، أعني سطح الجليدية وسطح البصر، فليس يمتنع أن يكون إدراك البصر للمبصرات من الصور التي ترد إليه من صور الألوان والأضواء التي في سطوح المبصرات إذا كان إدراكه لهذه الصور من سموت الأعمدة فقط. وذلك بأن تكون طبيعة البصر قابلة لما يرد إليها من ضوء المبصرات، وأن تكون طبيعة البصر مع ذلك متخصصة بأن لا تقبل ما يرد عليها من الصور إلا من سموت مخصوصة، لا من جميع السموت، وهي سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط، لتخصص هذه الخطوط بكونها أقطاراً له وبكونها أعمدة على سطح الجسم الحاس، فيكون الإحساس من الصورة الواردة من المبصرات، وتكون هذه الخطوط كالآلة للبصر بها تتميز له المبصرات وبها تترتب أجزاء كل واحد من المبصرات.
ولتخصص البصر ببعض السموت دون غيرها نظائر في الأمور الطبيعية. فإن الأضواء تشرق من الأجسام المضيئة وتمتد على السموت المستقيمة فقط وليس تمتد على الخطوط المقوسة ولا المنحنية. والأجسام الثقال تتحرك إلى السفل بالحركة الطبيعية على خطوط مستقيمة وليس تتحرك على خطوط منحنية ولا مقوسة ولا متعرجة، وليس تتحرك أيضاً على جميع الخطوط المستقيمة التي بينها وبين سطح الأرض بل على خطوط مستقيمة مخصوصة وهي التي تكون أعمدة على سطح الأرض وأقطاراً لها. والأجرام السماوية تتحرك على خطوط مستديرة وليس تتحرك على خطوط مستقيمة ولا على خطوط مختلفة الترتيب. وإذا تؤملت الحركات الطبيعية وجد لكل واحد منها تخصص ببعض السموت دون غيرها. فغير ممتنع أن يكون البصر متخصصاً في قبوله لتأثيرات الأضواء والألوان بالسموت المستقيمة التي تلتقي عند مركزه فقط التي هي أعمدة على سطحه. وإدراك البصر للمبصرات من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر هو الذي اجتمع عليه جميع أصحاب التعاليم ولم يقع بينهم فيه اختلاف، وهذه الخطوط هي التي يسميها أصحاب التعاليم خطوط الشعاع.
وإذا كان هذا المعنى ممكناً وغير ممتنع، وكانت صور الأضواء والألوان ترد إلى البصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر لأن خاصة هذه الصور أن تنفذ في الأجسام المشفة ومن خاصة الأجسام المشفة أن تقبل هذه الصور وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، وكان الإبصار لا يتم من قبول هذه الصور إلا إذا كان قبول البصر لها من سموت الأعمدة فقط، فالبصر إذن إنما يدرك الأضواء والألوان التي في سطوح المبصرات من الصور التي ترد إليه من سطوح المبصرات، وليس يدرك هذه الصور إلا سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط.
فلنحرر الآن ما استقر من جميع ما ذكرناه.
فنقول: عن البصر يحس بالضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر في الجسم المشف المتوسط بين البصر والمبصر، وليس يدرك البصر شيئاً من المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المبصر ومركز البصر فقط. وإذ قد تحرر ذلك، وتبين مع هذه الحال أن هذا المعنى ممكن وغير ممتنع، فإننا نحرر الآن الدعوى.
فنقول: إن الإبصار لا يصح أن يكون إلا على هذه الصفة.
وذلك أن البصر إذا أحس بالمبصر بعد أن كان لا يحس به فقد حدث فيه شيء ما بعد أن لم يكنن وليس يحدث شيء بعد أن لم يكن إلا لعلة. ونجد المبصر إذا قابل البصر أحس به البصر، وإذا زال عن مقابلة البصر لم يحس به البصر، وإذا عاد المبصر إلى مقابلة البصر عاد إليه الإحساس. وكذلك نجد البصر إذا أحس بالمبصر ثم أطبق أجفانه بطل ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه والمبصر في مقابلته عاد ذلك الإحساس. والعلة هي التي إذا بطلت بطل المعلول وإذا عادت عاد المعلول. فالعلة إذن التي تحدث ذلك الشيء في البصر هو المبصر، وتحدثه عند مقابلته للبصر، لأنه متى حضر المبصر وكان في مقابلة البصر وقع الإحساس ومتى غاب المبصر وزال عن مقابلة البصر بطل الإحساس، فالبصر إذن إنما يحس بالمبصر من شيء ما يحدثه المبصر في البصر عند مقابلته للبصر.
وأيضاً فإن البصر ليس يدرك المبصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بينهما مشفاً. وليس إدراك البصر للمبصر من وراء الهواء المتوسط بينهما من أجل رطوبة الهواء وسخافته بل من أجل شفيفه، لأنه إذا توسط بين البصر والمبصر حجر من الأحجار المشفة أيضاً أو جسم من الأجسام المشفة، أي جسم كان، أدرك البصر المبصر الذي وراءه ويكون إدراك البصر للمبصر بحسب شفيف الجسم المتوسط، وكل ما كان الجسم المتوسط أشد شفيفاً كان إحساس البصر بذلك المبصر أصح وأبين. وكذلك إن توسط بين البصر والمبصر ماء صاف مشف أدرك البصر المبصر الذي من وراء الماء. وإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات في ماء صاف مشف، ثم صبغ ذلك الماء بصبغ من الأصباغ القوية حتى يبطل شفيفه ورطوبته باقية، فإن البصر حينئذ لا يدرك ذلك المبصر الذي في الماء.
فيتبين من هذه الأحوال أن الإبصار إنما يتم بشفيف الجسم المتوسط لا برطوبته وسخافته. فالشيء الذي يفعله المبصر في البصر عند مقابلته له الذي منه يقع الإحساس ليس يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر وليس يتم إذا توسط بين البصر والمبصر جسم كثيف. فالضوء واللون اللذان في المبصر إذن ليس يدركهما البصر إلا من شيء ما يحدثه ذلك الضوء واللون في البصر، وليس يحدث ذلك الشيء من الضوء واللون في البصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر مشفاً، وليس يحدث إذا كان الجسم المتوسط كثيفاً.
وليس يختص الشفيف بشيء مما يتعلق بالضوء واللون يخالف به الكثافة إلا أن صورة الضوء واللون تنفذ في الشفيف ولا تنفذ في الكثافة، وإن الجسم المشف يقبل صورة الضوء واللون ويؤديها إلى الجهات المقابلة لذلك الضوء واللون. وليس للجسم الكثيف هذه الصفة. وإذا كان البصر ليس يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر إلا من حدوث شيء ما يحدثه الضوء واللون في البصر، وكان ذلك الشيء ليس يحدث في البصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر مشفاً، وليس يحدث إذا توسط بينهما جسم كثيف، وكان الجسم المشف ليس يختص بشيء يتميز به عن الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا قبوله لصور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة، وكان قد تبين أن البصر إذا قابل المبصر فإن صورة الضوء واللون اللذين في المبصر تتأدى إلى البصر وتحصل في سطح العضو الحاس، فالبصر إذن إنما يحس بالضوء واللون الذين في المبصر من الصورة التي تمتد في الجسم المشف من المبصر إلى البصر، والشيء الذي يحدثه المبصر في البصر عند مقابلته له وتوسط الجسم المشف بينهما الذي منه يحس البصر بالضوء واللون اللذين في المبصر هو هذه الصورة.
وقد يحتمل أن يقال إن الجسم المشف يقبل من البصر شيئاً ما ويؤديه إلى المبصر وباتصال هذا الشيء بين البصر والمبصر يقع الإحساس، وهذا هو رأي أصحاب الشعاع.
فلنفرض أن الأمر كذلك وأن الشعاع يخرج من البصر وينفذ في شفيف الجسم المشف وينتهي إلى البصر وان الشعاع يكون الإحساس. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإحساس إنما يكون بهذا الشعاع، فالإحساس الذي يكون بهذا الشعاع إما أن يتأدى إلى البصر وإما أن لا يتأدى إلى البصر. فإن كان الإحساس يكون بالشعاع ولا يتأدى إلى البصر فليس يحس البصر بشيء. لكن البصر يحس بالمبصر. وإذا كان البصر يحس بالمبصر، وليس يحس به إلا بتوسط الشعاع بينهما، وكان قد تبين أن البصر ليس يحس بالمبصر إلا من شيء يحدثه المبصر بالبصر، فهذا الشعاع إذن الذي يحس بالمبصر يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يحس البصر بالمبصر. وإذا كان الشعاع يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يكون إحساس البصر بالمبصر فالبصر إذن إنما يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر من شيء يرد من الضوء واللون اللذين في المبصر إلى البصر، والشعاع هو الذي يؤدي ذلك الشيء. فعلى تصاريف الأحوال ليس يكون الإبصار إلا من ورود شيء ما من المبصر إلى البصر خرج من البصر شعاع أم لم يخرج.
وقد تبين أن الإبصار لا يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر وليس يتم إذا توسط بينهما جسم كثيف. وهو بين أن الجسم المشف ليس يختص بشيء يخالف به الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا بقبوله صور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة لها. وقد تبين أن هذه الصور تمتد أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وتؤديها إلى جميع الجهات المقابلة لتلك الأضواء والألوان وتؤديها إلى البصر إذا كان مقابلاً لها. وإذا كان الإبصار ليس يكون إلا من ورود شيء ما من المبصر إلى البصر، وكان الإبصار ليس يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر، وليس يتم إذا توسط بينهما جسم كثيف، وكان الجسم المشف ليس يختص بشيء يخالف به الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا بقبوله صور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة، وكان قد تبين أن صورة الضوء واللون اللذين في المبصر تصل إلى البصر إذا كان مقابلاً للمبصر، فالشيء إذن الذي يرد من المبصر إلى البصر الذي منه يدرك البصر الضوء واللون اللذين في المبصر على تصاريف الأحوال ليس هو إلا هذه الصورة خرج من البصر شعاع أم لم يخرج.
وقد تبين أن صور الأضواء والألوان تشرق أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة وتمتد فيها إلى الجهات المقابلة لها حضر البصر أم لم يحضر. وإذا كان البصر ليس يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر إلا من هذه الصورة، وكانت هذه الصورة تمتد أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة إلى الجهات المقابلة لها حضر البصر أم لم يحضر، فخروج الشعاع إذن عبث وفضل. فالبصر إنما يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر من الصورة التي ترد إليه من الضوء واللون اللذين في المبصر، التي تشرق أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة، وتمتد إلى الجهات المقابلة لها.
وأيضاً فإنه قد تبين أن صورة كل نقطة من المبصر المقابل للبصر تصل إلى البصر على سموت كثيرة مختلفة، وانه ليس يصح أن يدرك البصر صورة المبصر مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر إذا كان إدراك البصر للمبصر من الصورة التي ترد إليه من المبصر إلا إذا كان قبول البصر للصور من سموت الخطوط المستقيمة التي تكون أعمدة على سطح البصر وتكون مع ذلك أعمدة على سطح العضو الحاس، وأن الخطوط المستقيمة ليس تكون أعمدة على هذين السطحين إلا إذا كان مركز هذين السطحين نقطة واحدة مشتركة فإن ذلك ممكن غير ممتنع. وإذا كان قد تبين الآن أن الإبصار ليس يصح أن يكون إلا من الصور التي ترد من المبصر إلى البصر، وكان يصح أن يدرك البصر المبصرات من الصور التي ترد إليه المبصرات إلا إذا كان قبوله لها من سموت الخطوط التي تكون أعمدة على سطح البصر وأعمدة على سطح العضو الحاس، وكانت الخطوط المستقيمة ليس يصح أن تكون أعمدة على هذين السطحين معاً إلا إذا كان مركز هذين السطحين نقطة واحدة مشتركة، فليس يصح إذن أن يكون مركز سطح الجليدية ومركز سطح البصر إلا نقطة واحدة مشتركة، وليس يصح أن يدرك البصر شيئاً من صور المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند هذا المركز فقط. وهذا المعنى هو الذي كنا ضمنا من قبل عند كلامنا في هيئة البصر تبينه في هذا الفصل، وقد بيناه الآن أعني أن مركز الجليدية ومركز سطح البصر هو نقطة واحدة مشتركة.
وإذ قد تبين ذلك فقد بقي أن نكشف رأي أصحاب الشعاع ونبين فساد الفاسد منه وصحة الصحيح، فنقول إنه إن كان الإبصار إنما هو بشيء يخرج من البصر إلى المبصر فإن ذلك الشيء إما أن يكون جسماً أو غير جسم فإن كان جسماً فإننا إذا نظرنا إلى السماء ورأيناها ورأينا ما فيها من الكواكب وميزناها وتأملناها فإنه في ذلك الوقت قد خرج من أبصارنا جسم ملأ ما بين السماء والأرض ولم ينقص من البصر شيء، وهذا محال في غاية الاستحالة وفي غاية الشناعة، فليس الإبصار بجسم يخرج من البصر. وإذا كان الشيء الذي يخرج من البصر غير جسم فإن ذلك الشيء ليس يحس بالمبصر، لأن الإحساس ليس هو إلا للأجسام ذات الحياة، فليس يخرج من البصر المبصر شيء يحس بالمبصر.
وهو بين لأن الإبصار يكون بالبصر، فإذا كان الإبصار إنما هو بالبصر، وكان البصر ليس يدرك المبصر إلا بأن يخرج منه شيء إلى المبصر، وكان ذلك الشيء الذي يخرج من البصر ليس يحس بالمبصر، فالشيء الذي يخرج من البصر ليس يحس بالمبصر، والشيء الذي يخرج من البصر إلى المبصر إنما يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يدرك البصر المبصر. وليس هذا الذي يقال إنه يخرج من البصر شيئاً محسوساً وإنما هو مظنون. وليس يجوز أن يظن شيء من الأشياء إلا إذا كان هناك علة تدعو إلى الظن به. والعلة التي دعت أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع هي أنهم وجدوا البصر يدرك المبصر وبينه وبينه بعد، والمتعارف من الإحساس أنه لا يكون إلا بالملامسة، وكذلك ظنوا أن الإبصار ليس يكون إلا بشيء يخرج من البصر إلى المبصر ليكون ذلك الشيء إما أن يحس بالمبصر في موضعه وإما أن يأخذ من المبصر شيئاً ويؤديه إلى البصر فيحس به البصر عند وصوله إليه.
وإذا كان ليس يصح أن يخرج من البصر جسم يحس بالمبصر وليس يصح أن يحس بالمبصر شيء غير الجسم الحي، ولم يبق إلا أن يظن أن ذلك الشيء الذي يخرج من البصر إلى المبصر يقبل شيئاً ويؤديه إلى البصر. وإذا كان قد تبين أن الهواء والأجسام المشفة تقبل صورة المبصر وتؤديها إلى البصر وإلى كل جسم يقابل المبصر فذلك الشيء الذي يظن أنه يؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر إنما هو الهواء والأجسام المشفة المتوسطة بين البصر والمبصر. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة تؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر في كل وقت وعلى تصاريف الأحوال إذا كان البصر مقابلاً للمبصر من غير حاجة إلى خروج شيء من المبصر فقد بطلت العلة التي دعت أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع. لأن هذا الذي دعاهم إلى القول بالشعاع هو اعتقادهم أن الإبصار لا يتم إلا بشيء يمتد بين البصر والمبصر ليؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة المتوسطة بين البصر والمبصر تؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر من غير حاجة إلى شيء يخرج من البصر، وهي مع ذلك ممتدة بين البصر والمبصر، فقد سقطت الحاجة إلى إثبات شيء آخر يؤدي إلى البصر شيئاً، ولم تبق علة تدعوهم إلى أن شيئاً مظنوناً يؤدي من المبصر شيئاً إلى البصر. وإذا لم تبق علة تدعو أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع فقد بطل القول بالشعاع.
وأيضاً فإن جميع أصحاب التعاليم القائلين بالشعاع إنما يستعملون في مقاييسهم وبراهينهم خطوطاً متوهمة فقط ويسمونها الشعاع. وهذه الخطوط هي التي بينا أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموتها فقط. فرأي من رأى أن خطوط الشعاع هي خطوط متوهمة هو رأي صحيح، وقد بينا انه ليس يتم الإبصار إلا بها. ورأي من رأى أنه يخرج من البصر شيء غير الخطوط المتوهمة هو رأي مستحيل، وقد بينا استحالته بأنه ليس يشهد به وجود ولا تدعو إليه علة ولا تقوم عليه حجة.
وقد تبين من جميع ما بيناه أن البصر إنما يحس بالضوء واللون اللذين في سطح البصر من صورة الضوء واللون اللذين في سطح المبصر التي تمتد من المبصر إلى البصر في الجسم المشف المتوسط بين البصر والمبصر، وأن البصر ليس يدرك شيئاً من الصور التي ترد إليه إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المبصر وبين مركز البصر فقط التي هي أعمدة على جميع سطوح طبقات البصر، وذلك ما أردنا أن نبين.
وهذا هو كيفية الإبصار بالجملة. لأن البصر ليس يدرك من المبصر بمجرد الحس إلا الضوء واللون اللذين في المبصر فقط، فأما باقي المعاني التي يدركها البصر من المبصر كالشكل والوضع والعظم والحركة وما أشبه ذلك فليس يدركها البصر بمجرد الحس وإنما يدركها بقياس وأمارات، ونحن نبين هذا المعنى من بعد بياناً مستقصى في المقالة الثانية عند كلامنا في تفصيل المعاني التي يدركها البصر. وهذا المعنى الذي بيناه، أعني كيفية الإبصار، موافق لرأي المحصلين من أصحاب العلم الطبيعي وموافق للمتفق عليه من رأي أصحاب التعاليم. وقد تبين منه أن القبيلين محقان وأن المذهبين صحيحان ومتفقان وغير متناقضين، إلا أنه ليس يتم أحدهما إلا بالآخر ولا يصح أن يتم الإحساس بأحدهما دون الآخر، ولا يصح أن يكون الإبصار إلا بمجموع المعنيين.
والخطوط التي وصفناها هي التي يسميها أصحاب التعاليم خطوط الشعاع، وهي خطوط متوهمة فقط من سموتها فقد بهذه الصور يدرك البصر صور المبصرات. فالإحساس إنما هو من الصورة وهو تأثير الصورة في البصر ومن انفعال البصر بتأثيرها. والبصر متهيئ للانفعال بهذه الصور، ومتهيئ للانفعال على وضع غير محسوس وهو وضع سموت الأعمدة التي تقوم على سطحه فليس يحس بصور المبصرات إلا من سموت الأعمدة فقط، وإنما طبيعة البصر متخصصة بهذه الخاصة لأنه ليس تتميز المبصرات وتترتب أجزاء كل واحد من صور المبصرات عند البصر إلا إذا كان إحساسه بها من السموت فقط. فخطوط الشعاع هي خطوط متوهمة تتشكل بها كيفية الوضع الذي عليه ينفعل البصر بالصورة.
وقد تبين أن البصر إذا قابل المبصر فإنه يتشكل بين المبصر وبين مركز البصر مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر، فيكون بين كل نقطة من سطح المبصر وبين مركز البصر خط مستقيم متوهم هو عمود على سطوح طبقات البصر، ويكون المخروط مشتملاً على جميع هذه الخطوط، ويكون سطح الجليدية قاطعاً لهذا المخروط لأن مركز البصر الذي هو رأس المخروط من وراء سطح الجليدية. وإذا كان الهواء الذي بين البصر وذلك المبصر متصلاً فإن الصورة تكون ممتدة من ذلك المبصر على سمت هذا المخروط في الهواء الذي يحوزه هذا المخروط في طبقات البصر المشفة إلى الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل بهذا المخروط، ويكون المخروط مشتملاً على جميع السموت التي بين البصر والمبصر التي يدرك منها البصر صورة ذلك المبصر، وكون الصورة مرتبة في هذا المخروط كترتيبها في سطح المبصر، ويكون الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل بهذا المخروط يشتمل على جميع صورة المبصر الذي عند قاعدة هذا المخروط، وتكون الصورة مرتبة في هذا الجزء من سطح الجليدية بالخطوط المستقيمة الممتدة بين المبصر ومركز البصر التي من سموتها يدرك البصر تلك الصور كترتيب أجزاء سطح المبصر، لأن هذه الخطوط تقطع هذا الجزء من سطح الجليدية ويقطعه كل واحد منها على نقطة واحدة فقط.
وقد تبين أن الإحساس إنما يكون بالجلية. فإحساس البصر بالضوء واللون اللذين في سطح البصر إنما يكون من الجزء من الجليدية الذي يقدره المخروط المتشكل بين ذلك المبصر وبين مركز البصر وقد تقدم أن هذه الرطوبة فيها بعض الشفيف وفيها بعض الغلظ، ولذلك تشبه بالجليد. فلأن فيها بعض الشفيف فهي تقبل الصور فتنفذ الصور فيها بما فيها من الشفيف، ولأن فيها بعض الغلظ فهي تدافع الصور وتمنعها من النفوذ بما فيها من الغلظ، وتثبت الصور في سطحها وفي جسمها للغلظ الذي فيها. كذلك جسم مشف فيه بعض الغلظ إذا أشرق عليه الضوء نفذ الضوء فيه بحسب ما فيه من الشفيف وتثبت الصور في سطحه بحسب ما فيه من الغلظ كما تثبت في سطوح الأجسام الكثيفة، ويثبت الضوء أيضاً في جميع الجسم إذا نفذ فيه للغلظ الذي فيه فيظهر الضوء في سطحه وفي جميع الجسم بحسب ثبوته فيه.
وأيضاً فإن الجليدية متهيئة لقبول هذه الصور وللإحساس بها. فالصور تنفذ فيها للقوة القابلة الحساسة أيضاً التي هي فيها التي هي متهيئة للإحساس بها، وهي متهيئة لقبول هذه الصور من سموت خطوط الشعاع، فالصور تنفذ في جسمها على استقامة خطوط الشعاع.
فإذا حصلت الصورة في سطح الجليدية فهي تفعل فيها والجليدية تنفعل فيها، لأن من خاصة الضوء أن يفعل بالبصر ومن خاصة البصر أن ينفعل بالضوء. وهذا الذي يفعله الضوء بالجليدية ينفذ في جسم الجليدية على استقامة خطوط الشعاع فقط. وإذا نفذ الضوء في جسم الجليدية فاللون ينفذ معه لأن اللون ممتزج بالضوء. والجليدية تقبل هذا الفعل وهذا النفوذ من صور الأضواء والألوان لأنها متهيئة للانفعال بهذه الصور. ومن هذا الفعل وهذا الانفعال يكون إحساس الجليدية بتأثير صور المبصرات، ومن الصورة التي تحصل في سطحها وتنفذ في جميع جسمها يكون إحساسها بالمؤثر، ومن ترتب أجزاء الصورة فيسطحها وفي جميع جسمها يكون إحساسها بترتيب أجزاء المؤثر.
وهذا التأثير الذي يؤثره الضوء بالجليدية هو من جنس الألم. إلا ان من الآلام ما ينزعج له العضو المتألم وتقلق له النفس ومن الآلام ما يكون محتملاً فلا ينزعج له العضو المتألم ولا تقلق له النفس لسهولته. وما كان على هذه الصفة من الألم فليس يظهر للحس ولا يحكم المتألم به انه ألم لسهولته عليه. والذي يدل على أن تأثير الأضواء في البصر هو من جنس الألم هو أن الأضواء القوية تزعج البصر وتؤلمه. ويظهر للحس تألم البصر بالضوء القوي كضوء الشمس إذا حدق الناظر إلى نفس جرم الشمس، وكضوء الشمس المنعكس عن الأجسام الصقيلة إلى البصر، فإن هذه الأضواء تؤلم البصر وتزعجه إزعاجاً شديداً ويظهر تألم البصر بها. وتأثيرات جميع الأضواء في البصر من جنس واحد، وإنما تختلف بالأشد والأضعف. وإذا كانت كلها من جنس واحد، وكان تأثير القوي من الأضواء من جنس الألم، فجميع تأثيرات الأضواء في البصر من جنس الألم وإنما تختلف بالأشد والأضعف، ولسهولة تأثير الأضواء الضعيفة والمعتدلة في البصر يخفى عن الحس أنها آلام، فإحساس الجليدية بتأثيرات الأضواء هو إحساس من جنس الإحساس بالآلام. والجليدية متهيئة للانفعال بالأضواء والألوان والإحساس بها تهيؤاً في الغاية، فلذلك تحس بجميع الأضواء وجميع الألوان وتحس بالضعيف الخفي من الأضواء الذي يبعد في التخيل انه يؤلم البصر ويؤثر فيه تأثيراُ من جنس الألم للطف حسها وشدة تهيئها.
ثم عن هذا الإحساس الذي يقع عند الجليدية يمتد في العصبة الجوفاء، ويتأدى إلى مقدم الدماغ، وهناك يكون آخر الإحساس. والحاس الأخير الذي هو القوة النفسانية الحساسة تكون في مقدم الدماغ، وهذه القوة هي التي تدرك المحسوسات، والبصر إنما هو آلة من آلات هذه القوة، وغاية البصر ان يقبل صور المبصرات التي تحصل فيه ويؤديها إلى الحاس الأخير، والحاس الأخير هو الذي يدرك تلك الصور ويدرك منها المعاني المبصرة التي تكون في المبصرات. والصورة التي تحصل في سطح الجليدية تمتد في سطح الجليدية، ثم في الجسم اللطيف الذي في تجويف العصبة إلى أن تنتهي إلى العصبة المشتركة، وعند حصول الصورة في العصبة المشتركة يتم الإبصار، ومن الصورة التي تحصل في العصبة المشتركة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر.
والناظر إنما يدرك المبصرات ببصرين. وإذا كان الإبصار من الصورة التي تحصل في البصر، وكان الناظر يدرك المبصرات ببصرين، حصلت صور المبصرات في كل واحد من البصرين، فيحصل للمبصر الواحد في البصرين صورتان. ومع ذلك فإن الناظر يدرك المبصر الواحد في أكثر الأحوال واحداً، وإنما كان ذلك كذلك لأن الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً إذا انتهتا إلى العصبة المشتركة التقت الصورتان وانطبقت إحديهما على الأخرى وصار منهما صورة واحدة، ومن الصورة التي تتحد من الصورتين يدرك الحاس الأخير صورة ذلك المبصر.
والذي يدل على أن الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تجتمعان وتصيران صورة واحدة من قبل أن يدركها الحاس الأخير، وان الحاس الأخير إنما يدرك صورة المبصر في حال إدراكه واحداً من بعد اجتماع الصورتين، وهو أن الناظر إذا اعتمد بيده على إحدى عينيه فغمزها من جهة من الجهات غمزاً رفيقاً بلطف وتأييد حتى يتغير وضعها الذي هي عليه فتميل إلى أسفل وإلى فوق وإلى إحدى الجهات وتكون العين الأخرى ساكنة على حالها، ونظر في تلك الحال إلى مبصر من المبصرات التي في الجهة المقابلة للجهة التي كان فيها الغمز، ونظر بالبصرين، فإنه يرى المبصر الواحد اثنين، اعني أنه إن اعتمد على إحدى عينيه من أعلاها وغمزها إلى أسفل ونظر إلى الجهة السفلى فإنه يرى المبصر الواحد اثنين، وكذلك إن اعتمد على إحدى عينيه فغمزها من أسفلها إلى فوق فنظر إلى الجهة العليا فإنه يرى الواحد اثنين، وإذا أزال يده عن عينه ورجعت العين إلى وضعها الطبيعي، ثم نظر إلى ذلك المبصر، وقابله بالبصرين جميعاً فإنه يرى ذلك المبصر واحداً ويجد ذلك كذلك إذا كان ينظر بالعينين جميعاً فإن غمز إحدى عينيه وستر العين الأخرى لم ير المبصر الواحد إلا واحداً.
فلو كان الحاس يدرك المبصر الواحد من أجل أنه واحد لقد كان يدركه أبداً واحداً على اختلاف أحوال البصرين. ولو كان لا يرد إليه شيء من المبصر الواحد اثنين. وإذا كان الحاس الأخير إنما يدرك المبصرات من الصور التي ترد إليه، وكان يدرك المبصر الواحد في بعض الأحوال اثنين وفي بعض الأحوال واحداً، دل ذلك على أن الذي يرد إليه في حال إدراكه المبصر الواحد اثنين هو صورتان وأن الذي يرد إليه في حال إدراكه ذلك المبصر واحداً هو صورة واحدة. فإذا كان في كلا الحالين يحصل للمبصر الواحد في البصرين صورتان وكان الذي يتأدى إلى الحاس الأخير في بعض الأحوال هو صورتان وفي بعض الأحوال هو صورة واحدة، وكانت الصور التي تتأدى إلى الحاس الأخير إنما تتأدى إليه من المبصر، فإن الذي يتأدى إلى الحاس الأخير من الصورتين اللتان تحصلان في المبصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً هو صورة واحدة.
وليس تتأدى الصور إلى الحاس الأخير من أحد البصرين دون الأخر مع سلامة البصرين وإدراك ذلك المبصر بكل واحد من المبصرين. وإذا كان الذي يتأدى إلى الحاس من كل واحد من الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراك ذلك المبصر واحداً هو صورة واحدة، وكانت الصور تتأدى من البصرين جميعاً إلى الحاس الأخير، فالصورتان إذن اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد عند إدراكه واحداً تمتدان من البصرين وتلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما، ومن بعد التقائهما واتحادهما يدرك الحاس الأخير الصور المتحدة منهما. فالصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه اثنين تمتدان من البصرين ولا تلتقيان وتنتهيان إلى الحاس الأخير وهما صورتان. فالصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان قبل وصولهما إلى الحاس الأخير، ومن بعد التقائهما يدرك الحاس الأخير من الصورة المتحدة منهما صورة ذلك المبصر.
وأيضاً فإن إدراك المبصر الواحد في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين دليلاً على أن الإبصار ليس هو بالبصر فقط. لأنه لو كان الإبصار بالبصر فقط لكان البصران إدراك المبصر الواحد واحداً قد أدركا من الصورتين اللتين تحصلان فيهما للمبصر الواحد صورة واحدة ولكانا أبداً يدركان من الصورتين اللتين تحصلان فيهما للمبصر الواحد صورة واحدة.
وإذا كان المبصر الواحد يدرك في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين، وفي كلا الحالين له في البصرين صورتان، دل ذلك على أن هناك حاساً آخر غير البصر تحصل عنده للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً صورة واحدة مع حصول صورتي ذلك المبصر في البصرين، وتحصل عنده للمبصر الواحد عند إدراكه اثنين صورتان، فإن الإحساس إنما يتم بذلك الحاس لا بالبصر فقط. ففي إدراك المبصر الواحد في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين دليل على أن الصور التي تحصل في البصر تتأدى إلى الحاس الأخير، وإن بالحاس الأخير يكون تمام الإحساس لا بالبصر فقط، وفيه دليل على أن الصورتين اللتين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما.
وأيضاً فإن الإحساس إنما يمتد من الأعضاء إلى الحاس الأخير في الأعصاب المتصلة بين الأعضاء وبين الدماغ. وإذا كان قد تبين أن الصور تمتد من البصر إلى الحاس الأخير الذي في مقدم الدماغ فالصور إذن تمتد من البصر في العصبة الممتدة بين البصر وبين الدماغ إلى أن تصل إلى الحاس الأخير. وإذا كان قد تبين أن الصورتين اللتين تحصلان للمبصر الواحد في البصرين في حال إدراك المبصر واحداً تمتدان إلى الحاس الأخير وتلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما، وكان امتداد الصور إلى الحاس الأخير إنما هو في العصاب، فإن هاتين الصورتين إذن تمتدان من البصرين في العصبتين الممتدتين من البصر وتلتقيان في الموضع الذي تلتقي فيه العصبتان. وقد تقدم في هيئة البصر أن العصبتين اللتين تمتدان من الدماغ إلى البصرين تلتقيان عند مقام الدماغ وتصيران عصبة واحدة، ثم تفترقان وتنتهيان إلى البصرين. وإذا كانت الصورتان تمتدان من البصرين في العصبتين وتلتقيان عند التقاء العصبتين فالصورتان إذن اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تمتدان من البصرين وتنتهيان إلى العصبة المشتركة وتلتقيان في هذه العصبة وتصيران صورة واحدة. وإذا كانت هاتان الصورتان تنتهيان إلى العصبة المشتركة فجميع الصور التي تحصل في البصر من صور المبصرات تنتهي إلى العصبة المشتركة.
ومما يدل دليلاً واضحاً على أن صور المبصرات تمتد في تجويف العصبة وتنتهي إلى الحاس الأخير ومن بعد امتدادها في تجويف العصبة يتم الإبصار هو أن هذه العصبة إذا حصل فيها سدة بطل الإبصار، وإذا زالت السدة عاد الإبصار تشهد بذلك صناعة الطب.
فأما لم تلتقي الصورتان في حال إدراك المبصر الواحد واحداً وليس تلتقيان في حال إدراكه اثنين فلأن المبصر الواحد إذا أدرك بالبصرين، وكان وضع البصرين وضعهما الطبيعي، كان وضع البصرين من المبصر الواحد وضعاً متشابهاً، فتحصل صورة المبصر الواحد في موضعين متشابهي الوضع من البصرين. وإذا ميل وضع البصرين اختلف وضع البصرين من ذلك المبصر، فتحصل صورتا ذلك المبصر في موضعين من البصرين مختلفي الوضع من البصرين. وقد تقدم في هيئة البصر أن العصبة المشتركة وضعها من البصرين وضع متشابه. وإذا كان وضع العصبة المشتركة من البصرين وضعاً متشابهاً كان وضع الموضعين المتشابهي الوضع من البصرين من موضع واحد بعينه من العصبة المشتركة وضعاً متشابهاً. فإذا امتدت الصورتان من الموضعين المتشابهي الموضع انتهتا إلى ذلك الموضع الواحد بعينه من العصبة المشتركة الذي وضعه من ذينك الموضعين وضع متشابه، فتنطبق الصورتان إحديهما على الأخرى وتصيران صورة واحدة.
والموضعان المختلفا الوضع من البصرين ليس يكون وضعهما من موضع واحد بعينه من العصبة المشتركة وضعاً متشابهاً. فإذا امتدت الصورتان من الموضعين المختلفي الوضع وانتهتا إلى العصبة المشتركة فإنهما تنتهيان إلى موضعين من هذه العصبة لا إلى موضع واحد، فتحصلان في هذه العصبة صورتين، وكذلك يدرك المبصر الواحد الذي على هذه الصفة اثنين.
وإنما التقت العصبتان اللتان تنشأن من مقدم الدماغ اللتان هما مبدأ البصرين وفي الموضع الذي وضعه من البصرين وضع متشابه، وصار تجويفهما تجويفاً واحداً، لتجتمع الصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد عند هذه العصبة وتصيران صورة واحدة، فيدرك الحاس الأخير المبصر الواحد واحداً. فجميع الصور التي تحصل في البصرين من صور المبصرات تمتد من البصرين في العصبتين الجوفاوين وتنتهي إلى تجويف العصبة المشتركة، والصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان في تجويف هذه العصبة وتحصلان صورة واحدة، ومن الصور التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صور المبصرات.
وقد يمكن أن يقال إن الصور التي تحصل في البصر ليس تنتهي إلى العصبة المشتركة لكن الإحساس الذي عند البصر يمتد من البصر إلى العصبة المشتركة كما يمتد الإحساس بالآلام والإحساس بالملموسات، وعن وصول الإحساس إلى العصبة المشتركة يدرك الحاس الأخير ذلك المحسوس، وأن الإحساس الذي يكون للمبصر الواحد في البصرين في حال إدراكه واحداً ينتهي أى موضع واحد من العصبة المشتركة، فيصير الإحساسان في موضع واحد من العصبة المشتركة، فلذلك يحس الحاس الأخير بالمبصر الواحد واحداً، فيكون الذي يصل إلى العصبة المشتركة هو الإحساس لا بالصور.
فنقول إن الإحساس الذي يحصل في البصر ينتهي إلى العصبة المشتركة لا محالة، ولكن الإحساس الذي يحصل في البصر ليس هو إحساس ألمٍ فقط بل هو إحساس بتأثير هو من جنس الألم وإحساس بإضاءة وإحساس بلون وإحساس بترتيب أجزاء المبصر. والإحساس باختلاف الألوان وبترتيب أجزاء المبصر ليس هو من جنس الألم وسنبين من بعد كيف يكون إحساس البصر بكل واحد من هذه المعاني والإحساس بصورة المبصر على ما هي عليه ليس يكون إلا من الإحساس بجميع المعاني التي في الصورة. وإذا كان الإحساس الذي يقع عند البصر ينتهي إلى العصبة المشتركة، ومن الإحساس الذي يحصل عند العصبة المشتركة تدرك القوة الحساسة صور المبصر فالإحساس إذن الذي يحصل في العصبة المشتركة هو إحساس بالضوء واللون والترتيب. فالشيء الذي يتأدى من البصر إلى العصبة المشتركة على تصاريف الأحوال الذي منه يدرك الحاس الأخير صورة المبصر هو شيء يدرك منه الحاس الأخير الضوء الذي في المبصر واللون الذي فيه وترتيب أجزائه. والشيء الذي يدرك منه الحاس الأخير الضوء واللون والترتيب هو صورة ما. فصورة المبصر التي تحصل في البصر يتأدى منها إلى العصبة المشتركة على تصاريف الأحوال صورة ما مترتبة، ومن الصورة المترتبة التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر على ما هي عليه. فالإحساس بالتأثير الذي يحصل في سطح الجليدية يصل إلى العصبة المشتركة، وصورة الضوء واللون التي تحصل في سطح الجليدية تصل أيضاً إلى العصبة المشتركة وتصل مرتبة كترتيبها في سطح الجليدية.
فقد تبين من جميع ما ذكرناه أن الإبصار إنما يكون من الصور التي ترد من المبصرات إلى البصر، وأن هذه الصور تحصل في سطح الرطوبة الجليدية، وتنفذ في جسم الجليدية وتحس بها الجليدية عند نفوذها فيها، وأن الجليدية إنما تحس بهذه الصورة من سموت خطوط الشعاع فقط، وأن الصورة التي تحس بها الجليدية تمتد في الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة وتنتهي إلى تجويف العصبة المشتركة، وأن جميع صور المبصرات التي يدركها البصر تنتهي إلى العصبة المشتركة، وأن الإبصار إنما يتم بإدراك الحاس الأخير لصور المبصرات، وأن الحاس الأخير إنما يدرك صور المبصرات من الصورة التي تحصل في العصبة المشتركة، وأن الصورتين اللتين تحصلان في البصر للمبصر الواحد في موضعين متشابهين تلتقيان في العصبة المشتركة وتصيران صورة واحدة، ومن الصورة الواحدة التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر. وهذا هو مشروح كيفية الإبصار وترتيبه.
وقد بقي أن يقال إذا كانت صور الألوان والأضواء تمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة وتصل إلى البصر، وكان الهواء والأجسام المشفة تقبل جميع الألوان والأضواء، وكانت جميع الألوان التي تحضر في وقت واحد تمتد صور جميعها في الوقت الواحد في هواء واحد وتصل إلى بصر واحد وينفذ أيضاً جميعها في شفيف طبقات البصر، فيلزم من ذلك أن تمتزج هذه الألوان والأضواء في الهواء وفي الأجسام المشفة وتصل إلى البصر ممتزجة وتؤثر في جسم البصر وهي ممتزجة، فلا تتميز للبصر ألوان المبصرات ولا تتميز له المبصرات. وإذا كان ذلك كذلك فليس إحساس البصر بالمبصرات من هذه الصور.
فنقول إن الهواء والأجسام المشفة ليس تنصبغ بالألوان والأضواء ولا تتغير بها تغيراً ثابتاً، وإنما خاصة الأضواء والألوان أن تمتد صورها على سموت مستقيمة. ومن خاصة الجسم المشف أن لا يمنع نفوذ صور الأضواء والألوان في شفيفه، فهو إنما يقبل هذه الصور قبول تأدية لا قبول استحالة. وقد تبين أن صور الأضواء والألوان ليس تمتد في الهواء والأجسام المشفة إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط. وإذا كانت صور الأضواء والألوان ليس تمتد إلا على السموت المستقيمة فكل جسم من الأجسام المتلونة المضيئة التي تحضر معاً في هواء واحد تمتد صورة الضوء واللون اللذين فيه على سموت الخطوط المستقيمة التي تمتد منه في ذلك الهواء، وتكون السموت التي تمتد عليها الصور المختلفة متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع، كل سمت منها متميز بالجسم الذي منه امتدت الصورة على ذلك السمت. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة ليس تنصبغ بالألوان ولا بالأضواء ولا تتأثر بها تأثراً ثابتاً وإما تنفذ الصور فيها فقط فالصور التي تمتد من الأجسام المختلفة في هواء واحد تمتد كل صورة منها على سموتها وتنفذ إلى الجهات المقابلة لها من غير أن تمتزج بغيرها.
والذي يدل على أن الأضواء والألوان ليس تمتزج في الهواء ولا في الأجسام المشفة هو أنه إذا كانت في موضع واحد عدة سرج في أمكنة متفرقة، وكانت جميعها مقابلة لثقب واحد، وكان ذلك الثقب ينفذ إلى مكان مظلم، وكان مقابل ذلك الثقب في المكان المظلم جدار أو قوبل الثقب في المكان المظلم بجسم كثيف، فإن أضواء تلك السرج تظهر على ذلك الجسم أو ذلك الجدار متفرقة وبعدد تلك السرج وكل واحد منها مقابلاً لواحد من السرج على السمت المستقيم الذي يمر بالثقب. وإذا ستر واحد من السرج بطل من الأضواء التي في الموضع المظلم الضوء الذي كان يقابل ذلك السراج فقط، وإن رفع الساتر عن السراج عاد ذلك الضوء إلى مكانه. وأي سراج من تلك السرج ستر بطل من الموضع الضوء الذي كان يقابل ذلك السراج الذي ستر فقط، وإذا رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه.
وهذا المعنى يمكن أن يعتبر في كل وقت وبسهولة. وذلك بأن يعتمد المعتبر بيتاً من البيوت في ليل مظلم ويكون على البيت باب من مصراعين، ويحضر عدة من السرج ويجعلها مقابلة للباب ومتفرقة. ويدخل المعتبر إلى داخل البيت ويرد الباب ويفرج بين المصراعين ويفتح منهما مقداراً يسيراًن ثم يتأمل حائط البيت المقابل للباب: فإنه يجد عليه أضواءً متفرقة بعدد تلك السرج قد دخلت من فرجة الباب كل واحد منها مقابل لسراج من تلك السرج. ثم إن تقدم المعتبر بأن يستر واحداً من تلك السرج بطل الضوء المقابل لذلك السراج، وإذا رفع الساتر عاد الضوء. وإن ستر المعتبر الفرجة التي انفرجت من الباب وبقي منها ثقب صغير فقط، وكان الثقب مقابلاً للسرج، فإنه يجد على حائط البيت أضواءً متفرقة أيضاً بعدد تلك السرج وكل واحد منها بحسب مقدار الثقب.
وجميع الأضواء التي تظهر في المكان المظلم إنما وصلت إليه من الثقب فقط، فقد اجتمعت أضواء جميع تلك السرج في الثقب ثم افترقت بعد نفوذها من الثقب. فلو كانت الأضواء تمتزج في الهواء لكانت أضواء السرج التي تجتمع في الثقب تمتزج في الهواء الذي في الثقب وفي الهواء المتقدم للثقب قبل وصولها إلى الثقب، وكانت إذا نفذت من الثقب تنفذ ممتزجة فلا تتميز بعد نفوذها. وليس نجد الأمر كذلك، وإنما يوجد نفوذها متميزة، فكل واحد منها مقابل للسراج الذي منه ذلك الضوء. وإذا كان ذلك كذلك فالأضواء إذن ليس تمتزج في الهواء، بل كل واحد منها يمتد على سموت مستقيمة، ويتميز بالسموت التي يمتد عليها، وتكون السموت التي تمتد عليها الأضواء المتفرقة متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع كل واحد من الأضواء تمتد صورته على جميع السموت التي يصح أن تمتد منه في ذلك الهواء، ومع ذلك فلا تمتزج في الهواء ولا ينصبغ الهواء بها وإنما تنفذ في شفيفه فقط والهواء مع ذلك حافظ لصورته.
وقد تبين أن صور الألوان تصحب ويوجدان أبداً معا. فصور الألوان أيضاً تمتد في الهواء على السموت المستقيمة التي تمتد عليها الأضواء، والألوان المتفرقة تمتد صورها على سموت متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع كما تمتد صور الأضواء المتفرقة، وتكون مصاحبة للأضواء، ولا تمتزج صور الألوان ولا ينصبغ الهواء بها بل تكون كل صورة من صور الألوان المختلفة المتفرقة متميزة بسموتها.
وكذلك الحال في جميع الأجسام المشفة تمتد صور الأضواء والألوان فيها ولا تمتزج، ولا تنصبغ الأجسام المشفة بها، وكذلك طبقات البصر المشفة تنفذ فيها صور جميع الألوان والأضواء التي تقابل البصر في وقت واحد، ولا تمتزج الصور فيها ولا تنصبغ هي بها.
فأما العضو الحاس الذي هو الرطوبة الجليدية فليس قبوله لصور الألوان والأضواء كقبول الهواء والأجسام المشفة الغير حساسة بل على صفة مخالفة للصفة التي عليها تقبل الأجسام المشفة هذه الصور. وذلك أن هذا العضو متهيؤ للإحساس بهذه الصور، فهو يقبلها بما هو حساس مع قبوله لها بما هو مشف. وقد تبين أن انفعاله بهذه الصور هو من جنس الألم، وكيفية قبوله لهذه الصور مخافة لكيفية قبول الأجسام المشفة الغير حساسة، إلا أن هذا العضو مع قبوله لهذه الصور بما هو حساس ومع تأثيرها فيه وتألمه بها ليس ينصبغ بهذه الصور انصباغاً ثابتاً ولا تبقى صور الألوان والأضواء فيه بعد انصرافه عن مقابلتها وانصرافها عن مقابلته.
وقد يمكن أن يعارض هذا القول أيضاً، أعني أن البصر ليس ينصبغ بالألوان والأضواء، فيقال: قد تقدم أن الأضواء القوية والألوان المشرقة التي تشرق عليها أضواء قوية تؤثر في البصر وتبقى آثارها في البصر بعد انصرافه عن مقابلتها، وتبقى صور الألوان في البصر زماناً محسوساً. ونجد البصر كلما يدركه من المبصرات في عقيب هذا التأثير ملتبساً بالألوان التي أثرت فيه.
وهذا المعنى ظاهر لا يقع فيه لبس. وإذا كان ذلك كذلك فالبصر إذن ينصبغ بالألوان والأضواء. ويلزم أيضاً من ذلك أن تكون الأجسام المشفة الرطبة تنصبغ بالألوان والأضواء.
فنقول إن هذا المعنى بعينه هو الذي يدل على أن البصر ليس ينصبغ بالألوان والأضواء ولا تبقى آثار الأضواء والألوان فيه. وذلك أن هذه الآثار التي ذكرناها إنما تكون بالإفراط ومن الأضواء المفرطة والألوان التي تشرق عليها أضواء في غاية القوة. وهو ظاهر أن هذه الآثار ليس تبقى بعد انصرافه عن مقابلة مؤثراتها إلا زماناً يسيراً ثم تزول. وهو ظاهر أيضاً أن الأضواء المعتدلة والضعيفة وآثار الألوان التي أضواؤها معتدلة وضعيفة ليس تبقى في البصر بعد انصرافه عن مقابلتها ولا يسيراً من الزمان. فالعضو الحاس إذن الذي هو الجليدية يتأثر بالأضواء والألوان بقدر ما يحس من الأثر بالمؤثر. ثم يزول منه ذلك الأثر بعد انصرافه عن مقابلة المؤثر. فتأثره بالألوان والأضواء هو انصباغ ما ولكنه انصباغ غير ثابت.
وأيضاً فإن البصر متهيئ للأثر والألوان والإحساس بها، فهو يتأثر بها، ومع ذلك ليس تبقى فيه الآثار. والهواء والأجسام المشفة الخارجة عن البصر والطبقات المشفة المتقدمة للجليدية من طبقات البصر ليست متهيئة للتأثر بالأضواء والألوان والإحساس بها، وإنما هي متهيئة لتأدية الأضواء والألوان فقط. فالهواء والأجسام المشفة تؤدي صور الأضواء والألوان ولا تنصبغ بها ولا تتأثر، بل تكون أبداً حافظة لصورتها، ومع ذلك تؤدي الصور التي تشرق عليها، وكذلك جميع الجسام المشفة وجميع طبقات البصر المشفة المتقدمة للجليدية.
فقد تبين مما ذكرناه أن البصر ليس ينصبغ بالألوان وصور الأضواء انصباغاً ثابتاً ولا تبقي آثارها فيه بل تؤثر فيه آثاراً غير باقية، والهواء والأجسام المشفة والطبقات المتقدمة للجليدية من طبقات البصر ليس تنصبغ بالألوان ولا بصور الأضواء ولا تتأثر بها، وإنما تؤدي هذه الصور فقط. وقد تبين أن صور الأضواء والألوان ليس تمتزج في الهواء والأجسام المشفة ولا تختلط بل تكون كل صورة منها متميزة بسموتها. فصور جميع الأضواء والألوان التي تحضر في وقت واحد تمتد في الهواء المتصل بها وفي جميع الأجسام المشفة المقابلة لها على جميع السموت المستقيمة التي يصح أن تتوهم ممتدة من تلك الأضواء والألوان في ذلك الهواء وفي تلك الأجسام المشفة، وكل واحدة منها متميزة بالسموت التي تمتد عليها وغير ممتزجة ولا مختلطة، وتكون هذه الصور أبداً في الهواء وفي جميع ما يتصل بها ويقابلها من الأجسام المشفة، ولكونها في جميع الهواء يدرك المبصر الواحد في الوقت الواحد جماعة من الأبصار من المواضع المختلفة من الهواء كل واحد من الأبصار يدركه من الجزء من الهواء الذي يحوزه المخروط المتشكل بين ذلك المبصر وبين مركز البصر، ولكون هذه الصورة أبداً في الهواء يدرك البصر كلما فتح أجفانه كلما قابله في الوقت الواحد من المبصرات، وكلما اجتاز في موضع من المواضع أدرك كلما في ذلك الموضع من المبصرات المقابلة له.
فأما لم ليس تظهر صور جميع الألوان على جميع الأقسام المقابلة لها ويظهر بعضها وليس يظهر البعض إلا إذا كان اللون قوياً، وكان الضوء الذي في اللون قوياً، وكان الضوء الذي في الجسم الذي تظهر عليه صورة اللون ضعيفاً، وكان لون ذلك الجسم مسفراً، مع امتداد جميع هذه الصور في الهواء وإشراقها أبداً على الجهات المقابلة لها، فإن ذلك لشيء يرجع إلى البصر لا أن هذه الصور ليس تشرق على الأجسام المقابلة لها، بل كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة ضوئه ولونه تشرقان أبداً على جميع الأجسام المقابلة له التي ليست أبعادها متفاوتة. أما الأضواء فأمرها ظاهر، لأنه إذا اعتبر كل جسم مضيء بأي ضوء كان بعد أن يكون الضوء الذي فيه ليس في غاية الضعف، واعتبر على الوجوه التي قدمناها بأن يقابل به مكان مظلم، ويحصل في المكان المظلم جسم أبيض، ويكون المنفذ الذي بين المكان المظلم وبين الجسم المضيء من ثقب أو من موضع ضيق، فإن الضوء يظهر على ذلك الجسم. وأما الألوان فإنه ليس يظهر منها إلا ما كان على صفة مخصوصة، وليس يظهر ما كان على خلاف الصفة. وذلك انه قد تبين بالاستقراء أن صور الألوان تكون أبداً أضعف من الألوان أنفسها، وكلما بعدت الصور عن مبدئها ازدادت ضعفاً. وكذلك صور الأضواء تكون أضعف من الأضواء أنفسها، وكلما بعدت ازدادت ضعفاً.
وقد تبين أيضاً بالاستقراء أن الألوان القوية إذا كانت في مواضع مظلمة، وكانت الأضواء التي عليها يسيرة جداً، فإن تلك الألوان تظهر مظلمة ولا تتميز للبصر. وإذا كانت في مواضع مضيئة وكانت الأضواء التي عليها قوية ظهرت الألوان وتميزت للبصر. وكذلك الأجسام المشفة المتلونة إذا أشرق عليها الضوء فإنه إذا كان الضوء قوياً ظهرت ألوانها من ورائها على الأجسام المقابلة لها، وإذا كان ذلك الضوء ضعيفاً ظهر من ورائها الظلال فقط، ولم تظهر الألوان، ولم تتميز كملا لم تتميز للبصر الألوان في المواضع المغدرة الضعيفة الضوء.
وقد تبين أيضاً بالاستقراء أن صور الألوان التي تظهر على الأجسام المقابلة لها إذا أشرق عليها ضوء قوي خفيت عن البصر، وإنما تظهر إذا كان الضوء الذي عليها ضعيفاً.
وقد تبين أيضاً أن الأضواء القوية إذا وصلت إلى البصر عاقته عن إدراك المبصرات الخفية التي تقابله في تلك الحال.
وقد تبين أن البصر إنما يدرك اللون من الصورة التي ترد إليه من ذلك اللون، وأن إدراكه يكون على سموت مخصوصة. فإذا نظر الناظر إلى الجسم من الأجسام الكثيفة التي قد أشرق عليها صورة لون من الألوان فإنه إنما يدرك تلك الصورة من صورة ثانية ترد إليه من تلك الصورة، وتكون هذه الصورة الثانية أضعف من الصورة الأولى التي على ذلك الجسم. والصورة الأولى أضعف من اللون نفسه. فالصورة الثانية التي ترد إلى البصر من الصورة الأولى تكون أضعف من اللون نفسه بكثير. وليس يدرك البصر الجسم الكثيف الذي تظهر عليه الصورة إلا إذا كان فيه ضوء ما أم الضوء الذي يرد مع صورة اللون المشرقة عليه أو ذلك الضوء وغيره من الأضواء. فالصورة الثانية التي ترد إلى البصر من صورة اللون الأولى ترد إليه مع صورة الضوء الذي في ذلك الجسم الكثيف. وذلك الجسم الكثيف الذي عليه الصورة هو مع ذلك مضيء يدرك البصر لونه أيضاً في تلك الحال. فصورة لونه أيضاً ترد إلى البصر مع الصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون الذي عليه. وصورة لون هذا الجسم التي ترد إلى البصر في تلك الحال هي صورة أولى، والبصر إنما يدرك ما يدركه من سمت مخصوص، والسمت المخصوص الذي بينه وبين الجسم الكثيف الذي منه يدرك صورة لون ذلك الجسم الكثيف منه بعينه يدرك الصورة الثانية التي ترد من صورة من صورة اللون المشرق على ذلك الجسم الكثيف لأن تلك الصورة هي في أسطح ذلك الجسم، فالبصر يدركها من السموت التي بينه وبين ذلك السطح. وهو يدرك لون ذلك الجسم من السموت التي بينه وبين ذلك السطح بعينها، وكذلك الضوء الذي في ذلك الجسم يدركه البصر من تلك السموت بعينها. فالصور الثلاثة التي ترد إلى البصر من ذلك الجسم يدركها البصر من سمت واحد بعينه.
وإذا كانت الصور الثلاثة يدركها البصر من سمت واحد بعينه فهو يدركها ممتزجة. والصورة الثانية التي ترد إلى البصر من صورة اللون التي على الجسم المقابل له يدركها البصر ممتزجة بصورة لون ذلك الجسم وصورة ضوئه. فهو يدرك من مجموع اللونين صورة غير صورة كل واحد منهما. فإن كان الجسم الكثيف الذي عليه الصورة ذا لون قوي كانت صورته التي ترد إلى البصر قوية، وهي صورة أولى، وهي صورة ممتزجة بالصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون المشرق على ذلك الجسم، وهذه الصورة ضعيفة، فليس تظهر هذه الصورة للبصر لأنه إذا مازج لون ضعيف للون قوي استظهر اللون القوي على الضعيف وخفي اللون الضعيف عن الحس كذلك توجد أبداً الألوان والأصباغ إذا امتزج بعضها ببعض. فالأجسام المتلونة القوية الألوان ليس تظهر صور الألوان المشرقة عليها لامتزاج هذه الصور بألوانها عند البصر واستظهار ألوانها على ألوان الصور المشرقة عليها. وإن كان الجسم الذي عليه الصورة أبيض أو مسفر اللون، وكان الضوء الذي عليه قوياً، فالصورة التي تشرق عليه تخفى لقوة الضوء الذي عليها كما تبين ذلك بالاستقراء مع كونها على ذلك الجسم. وإنما تخفى صورة اللون إذا كان الضوء الذي عليها قوياً، لأن صورتها الثانية ترد إلى البصر مع صورة الضوء القوي ومع بياض الجسم الذي هي عليه.
وقد تبين أن الضوء القوي إذا وصل إلى البصر فإنه يعوق البصر عن إدراك الصور الضعيفة. فإذا وصل إلى البصر ضوء قوي مع بياض الجسم الذي هو عليه فإنه يعوقه عن إدراك الصورة الثانية الضعيفة التي ترد إليه معها. وإذا كان الجسم الذي عليه صورة اللون أبيض، وكان الضوء الذي عليه ضعيفاً، وكانت صورة اللون التي عليه أيضاً ضعيفة وكانت الصورة في غاية الضعف، فإن صورة الضوء الذي في ذلك الجسم وإن كانت ضعيفة مع بياض ذلك الجسم ربما كانت مستظهرة على صورة اللون التي في غاية الضعف، فإذا وصلا إلى البصر لم تتميز تلك الصورة للبصر. وإن كان الجسم الذي عليه الصورة أبيض، وكان اللون الذي تشرق صورته عليه أسود أو مظلماً، فإنما تكسف تلك الصورة بياض ذلك الجسم فقط وتنقص منه وتكون كالظل، ويدرك البصر من ذلك الجسم بياضاً ليس في الغاية كما يدرك الجسم الأبيض في الظل، فلا تتميز له الصورة.
وجميع ذلك كذلك إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياً وكانت الصورة التي تشرق منه على الجسم المقابل له مسفرة. فأما إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً فإن الصورة التي تكون منه على الجسم المقابل له تكون مظلمة، فتكون عند البصر كالألوان التي يدركها في المواضع المظلمة التي الضوء فيها ضعيف جداً، وكألوان الأجسام المشفة التي تشرق عليها أضواء ضعيفة فتظهر أظلال تلك الأجسام من ورائعا ولا تظهر صور ألوان تلك الأجسام في تلك الأظلال. فصور الألوان التي في الأجسام المتلونة إذا كانت الأضواء التي عليها ضعيفة إذا أشرقت على الأجسام المقابلة إنما تكون أظلالاً فقط بالإضافة إلى إحساس البصر فلا تتميز ألوانها عند البصر. فإن كان الجسم المقابل للون الذي بهذه الصفة في مكان مظلم فليس يظهر عليه شيء لظلمته وظلمة الصورة التي ترد عليه. وإن كان الجسم المقابل لهذا اللون في مكان مضيء، وكان عليه ضوء من غير تلك الصورة، ويظهر للبصر لون هذا الجسم ولا تظهر الصورة بل تنقص الصورة من لونه فقط لأنها كالظل ولا يتميز للبصر هذا النقصان. وإن كان هذا الجسم الذي عليه الصورة أبيض، وكان مع ذلك مضيئاً بضوء غير ضوء الصورة، فإن الصورة تكسف بياض هذا الجسم وضوءه فقط لظلمتها، كما تفعل الأظلال في الأجسام البيض، ولا تتميز الصورة للبصر. في الأجسام البيض، ولا تتميز الصورة للبصر.
فإن كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياً، وكان الجسم الذي تشرق عليه الصورة ابيض، وكان الضوء الذي على هذا الجسم ضعيفاً، وكانت صورة اللون المشرقة عليه قوية بالإضافة إلى الضوء الذي عليه بياضه، وكانت الصورة من لون مشرق قوي، وكانت الصورة الثانية التي ترد إلى البصر من هذه الصورة قوية ومستظهرة على صورة الجسم الذي هي عليه وعلى الضوء الذي فيه، فإن البصر يدرك حينئذ هذه الصورة وتظهر له. والصور التي بهذه الصفة فقط هي التي يدركها البصر على الجسام المقابلة للألوان.
فالبصر إذن إنما يدرك صورة اللون على الجسم المقابل للون إذا كانت الصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون أقوى واظهر من الصورة الأولى التي ترد إليه معها من الضوء واللون اللذين في الجسم الذي عليه الصورة. وهذه الصفة قليلة، فلذلك يقل ما يظهر من هذه الصور، ولا يظهر منها إلا ما كان من الألوان القوية المشرقة، وإذا كانت الأضواء التي عليها قوية، وما كان من هذه الصور على الأجسام النقية البياض والمسفرة الألوان، وإذا كانت الأضواء التي على هذه الأجسام ضعيفة بالإضافة إلى تلك الصور. ولا يظهر ما كان بخلاف هذه الصفة. والأكثر من صور المبصرات بخلاف هذه الصفة.
وكذلك الأضواء الضعيفة التي ليس يظهر ضوؤها على الأجسام المقابلة لها إنما ليس يظهر لأن الجسم المقابل للضوء الضعيف إذا كان مضيئاً بضوء غير ذلك الضوء امتزج الضوءان فلم يتميز الضوء الضعيف للبصر. وإذا كان الجسم المقابل للضوء الضعيف مظلماً فليس تظهر صورة اللون الضعيف عليه لن صورة الضوء الضعيف تكون ضعيفة وأضعف من الضوء نفسه، والصورة الثانية التي ترد إلى البصر من هذه الصورة التي منها يجب أن يدرك البصر هذه الصورة على الجسم المقابل للضوء تكون أضعف من هذه الصورة. فإذا كان الضوء ضعيفاً، وكان الجسم المقابل له مظلماً، كانت الصورة التي على الجسم المقابل له ضعيفة جداً، وكانت الصورة الثانية التي ترد منها إلى البصر في غاية الضعف. والبصر ليس يدرك الأضواء التي في غاية الضعف، ولا في قوة الحس أن يدرك ما كان في غاية اللطافة والضعف. فلذلك يدرك البصر صور الأضواء الضعيفة على الأجسام المقابلة لها، ويدرك مع ذلك الأضواء الضعيفة أنفسها إذا لم تكن في غاية الضعف، انه يدرك الأضواء أنفسها من الصورة الأولى التي ترد إليه منها، وهي أقوى من الصورة الثانية التي ترد إليه من الصورة التي على الجسم المقابل له ومع ذلك غير ممتزجة بغيرها.
فصور جميع الألوان المضيئة وصور جميع الأضواء تشرق على الأجسام المقابلة لها وتكون أبداً مشرقة عليها، وليس يظهر أكثرها للبصر للعلل التي ذكرناها، ويظهر بعضها للبصر إذا كان على الصفات التي وصفناها. فقد تبينت العلة التي من أجلها ليس يدرك البصر صور جميع الألوان التي في الأجسام المتلونة على جميع الأجسام المقابلة لها ويدرك بعضها، وهو مع ذلك يدرك جميع الألوان التي في الأجسام المتلونة. وعلة ذلك هي أنه يدرك الألوان التي في الأجسام المتلونة من الصورة الأولى التي ترد إليه منها، وهي أقوى من الصورة الثانية التي ترد إليه من صور ألوانها التي على الأجسام المقابلة لها، ويدرك صور الألوان أيضاً منفردة غير ممتزجة بغيرها، ويدرك الصورة الثانية التي ترد من صور ألوانها ممتزجة بغيرها.
وهذا المعنى هو الذي ضمنا في آخر الفصل الثالث تبيينه في هذا الفصل. ويتبين من هذا المعنى أن الألوان التي يدركها البصر من المبصرات إنما يدركها ممتزجة بصور الأضواء التي هي فيها ممتزجة بجميع الصور المشرقة عليها من ألوان الأجسام المقابلة لها. وإن كان الجسم المشف المتوسط بينها وبين البصر فيه بعض الغلظ فإن لونه أيضاً يمتزج بألوانها، وليس يدرك البصر لوناً من الألوان مجرداً على انفراده من صورة تمازجه، إلا أن الصور التي تشرق على الأجسام المقابلة للأجسام المتلونة تكون في الأكثر في غاية الضعف والرقة، والصورة الثانية التي ترد من كل واحدة منها إلى البصر تكون في الأكثر في غاية الضعف.
فلذلك تكون ألوان الأجسام أنفسها في الأكثر مستظهرة على الصورة التي تشرق عليها ولا تتميز للبصر الصورة المشرقة عليها. وكذلك إن كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر فيه غلظ يسير لم يتميز للبصر لونه من لون المبصر الذي يرد معه، إذا كان لون المبصر الذي يرد معه أقوى من لونه ومستظهراً على لونه.
فأما الأضواء القوية لم تعوق البصر عن إدراك المبصرات وتخفي عن البصر بعض المعاني التي تكون في المبصرات فإن ذلك إنما هو لأن الصور التي ترد إلى البصر على سمت واحد إنما يدركها البصر ممتزجة. فإذا كان بعض الصور الممتزجة قوياً مسرف القوة وبعضها ضعيفاً استظهرت الصورة القوية على الصورة الضعيفة فلم تتميز الصورة الضعيفة للبصر ولم يدركها البصر. وإذا كانت الصور الممتزجة متقاربة في القوة أدرك البصر كل واحدة منها ويكون إدراكه لكل واحدة من الصور الممتزجة بحسب ما يمازجها من الصور الممازجة لها، لأن الصور الممتزجة ليس يدرك البصر كل واحدة منها منفردة وإنما يدركها ممتزجة.
والكواكب ليس إنما يدركها البصر في ضوء النهار لأن ضوء الشمس الذي يحصل في الهواء أقوى من ضوء الكواكب. فإذا نظر ناظر إلى السماء في ضوء النهار كان الهواء الذي بينه وبين السماء مضيئاً بضوء الشمس ومتصلاً بالبصر، وكانت الكواكب من وراء ذلك الضوء، فتكون صورة الكوكب وصورة الضوء الذي في الهواء المتوسط بين البصر وذلك الكوكب يردان إلى البصر على سمت واحد فيدركهما البصر ممتزجين. وصورة الضوء التي ترد من الهواء المتوسط بين البصر وبين الكوكب بالنهار الذي هو من الأضواء الثواني أقوى من صورة ضوء الكوكب بكثير. فتستظهر صورة ضوء الهواء على صورة ضوء الكوكب، فلا تتميز للبصر صورة الكوكب، ولا يكون بين صورة الضوء الذي يحصل في الجزء من البصر المسامت للكوكب وبين صورة الضوء الذي يحصل في الأجزاء الباقية من البصر المحيطة بذلك الجزء اختلاف يدركه الحس لاستظهار صورة ضوء النهار على صورة ضوء الكوكب وغمور صورة ضوء الكوكب عند إدراكها بصورة ضوء النهار، فلذلك لا يدرك البصر الكواكب بالنهار.
وكذلك الأضواء الضعيفة التي تكون في وسط الأضواء القوية، كالنار الضعيفة التي تكون في ضوء الشمس، وكالحيوان المسمى اليراع إذا أدركه البصر في ضوء النهار، وما جرى مجرى ذلك، فإن هذه المبصرات إذا كانت في ضوء الشمس أو في ضوء النهار فإن ضوء النهار يكون مشرقاً عليها وعلى الهواء المتوسط بينها وبين البصر، فصورها ترد إلى البصر ممتزجة بصورة الضوء القوي المشرق عليها وصورة الضوء القوي المشرق على الهواء المتوسط بينها وبين البصر، فيدرك البصر صورة ما هذه حاله من المبصرات ممتزجة بصورة ضوء قوي، وصورها ضعيفة، فستظهر صورة الضوء القوي على صورها الضعيفة، فلا تتميز صورها للبصر ولا يدركها البصر.
وقد تخفى الأضواء الضعيفة وصور المبصرات الضعيفة الضوء إذا حصل في البصر ضوء قوي وإن لم يكن ورود الصورتين إلى البصر من سمت واحد، وذلك إذا كان ورود الصورتين من سمتين متجاورين وحصلا في البصرين في جزء ين متجاورين. وهذا المعنى يظهر في الليل وفي ضوء النار. وذلك ان البصر إذا أدرك ضوء النار، وكانت النار قريبة من البصر وكان ضوؤها ضوءاً قوياً، وكان مقابلاً للبصر في تلك الحال مبصرات فيها أضواء ضعيفة عرضية، وكانت تلك المبصرات أبعد عن البصر من النار، وكانت على سموت مجاورة لسمت النار وقريبة من سمت النار، فإن البصر لا يدرك تلك المبصرات إدراكاً صحيحاً، وإن كان فيها معان لطيفة أو أجزاء لطيفة لم يدركها البصر في تلك الحال. فإن ستر النار عن بصره أو تباعد عن سمت النار حتى يصير السمت الذي يدرك منه تلك المبصرات بعيداً عن السمت الذي يدرك منه النار فإنه حينئذ يدرك تلك المبصرات إدراكاً أبين مما كان يدركها في الحالة الأولى.
والعلة في ذلك أن المبصرات التي فيها أضواء ضعيفة عرضية تكون صورها وظلمة، فإذا أدركها البصر ولم يدرك معها في الحال ضوءاً قوياً أحس بالضوء الضعيف الذي فيها لظلمة داخل البصر أو عدم الضوء القوي من الجزء منه الذي تحصل فيه صورة الضوء الضعيف ومما يحيط به من أجزاء البصر وللتباين الذي بين الظلمة والضوء المقترنين. وإذا أحس البصر بالضوء الذي في الصورة وتميزت له تلك الصورة وأدركها إدراكاً ما بحسب الضوء الذي فيها. وإذا أدرك البصر الصورة المظلمة وأدرك معها في الحال ضوءاً قوياً، وأدرك ذلك الضوء القوي في الجزء من المبصر المماس للجزء الذي أدرك فيه الصورة المظلمة، لم يدرك البصر الضوء الضعيف الذي في الصورة المظلمة لحالتين: إحداهما أن الضوء القوي إذا حصل في البصر أضاء جميع داخل البصر، وإذا كان داخل البصر مضيئاً لم يظهر فيه الضوء الضعيف الذي يدركه البصر مع ضعفه من أجل ظلمة البصر وتباين الظلمة والضوء، وخاصة إذا كان الضوء الضعيف ضعيف النسبة جداً إلى الضوء القوي الذي حصل في البصر. والحالة الثانية هي اقتران الضوء الضعيف بالضوء القوي في جزءين متجاورين من البصر. والضوء الضعيف بالقياس إلى الضوء القوي هو ظلمة ما، فإذا تجاوز الصورة المظلمة الضعيفة الضوء وصورة الضوء القوي في البصر فليس يدرك البصر الضوء الذي في الصورة المظلمة للحالتين اللتين ذكرناهما. وإذا لم يدرك البصر الضوء الذي في الصورة المظلمة فلم يدرك من الصورة المظلمة إلا ظلمة فقط، وإذا لم يدرك البصر الضوء الذي في الصورة، ولم يدرك منها إلا ظلمة فقط، لم تتميز له الصورة ولم يدرك الصورة إدراكاً صحيحاً. ولالتباس صور الأضواء الضعيفة من أجل مجاورتها للأضواء القوية نظائر في الألوان. وذلك أن الصبغ الأدكن إذا وشم به جسم أبيض نقي البياض ونقط عليه منه نقط صغار أو نقش به نقوش دقاق ظهر ذلك الصبغ أسود أو مظلماً شديد الظلمة، ولم يظهر الإسفار الذي فيه، ولم يدرك البصر حقيقة لونه. وإذا وشم بذلك الصبغ بعينه جسم أسود حالك السواد ظهر ذلك الصبغ أبيض أو مسفر اللون، ولم يظهر الإظلام الذي فيه، ولم يدرك البصر حقيقة لونه. وإذا كان ذلك الصبغ بين أجسام ليست في غاية البياض ولا في غاية السواد ظهر لونه على ما هو عليه وأدرك البصر حقيقة لونه بحسب ما يصح أن يدركه البصر.
وكذلك الصبغ الأخضر الزرعي إذا نقش به جسم كحلي ظهر ذلك الصبغ صعوياً وصافي اللون، وإذا نقش به جسم صافي الصفرة ظهر ذلك الصبغ مسنياً ومظلم اللون. وكذلك كل صبغ متوسط بين طرفين.
فالمبصرات المتجاورة إذا كانت ألوانها أو أضواؤها متباينة تبياناً مفرطاً في القوة والضعف فإن الضعيف منها تخفى حقيقته، فلا يدرك البصر حقيقته عند اقترانه بالقوي المباين. وذلك لأن كيفيات الأضواء والألوان إنما يدركها البصر من قياس بعضها ببعض، فالأضواء القوية إنما تعوق البصر عن إدراك المبصرات التي أضواؤها ضعيفة لامتزاج صور الأضواء الضعيفة بصورها واستظهار صور الأضواء القوية على صور الأضواء الضعيفة عند امتزاجها أو لمجاورة الأضواء الضعيفة لها، وإدراك البصر للصور المجاورة المتجانسة من قياس بعضها إلى بعض، وقصور الحس عن إدراك ما كان ضعيف النسبة جداً إلى القوي المحسوس.
فقد أتينا على تبيين جميع المعاني التي تتعلق بهذا الفصل.