الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (21): {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}.تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ أَيْضًا هَذَا السِّيَاقُ نَفْسُهُ، بَعْدَ ذِكْرِ ثَمُودَ، وَعَادٍ، وَفِرْعَوْنَ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً إِلَى قَوْلِهِ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [69/ 13- 17]. مِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى: {صَفًّا صَفًّا}، أَيْ: عَلَى أَرْجَائِهَا صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- الْإِحَالَةُ عَلَى مَا يُفَسِّرُهَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [55/ 33]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [89/ 22]، {وَجَاءَ رَبُّكَ}: مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ.مَوَاضِعُ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- مِرَارًا فِي الْأَضْوَاءِ فِي عِدَّةِ مَحَلَّاتٍ؛ وَلْيُعْلَمْ أَنَّهَا وَالِاسْتِوَاءُ وَحَدِيثُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [2/ 210].وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- مَبْحَثَ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَامِلَةً فِي مُحَاضَرَةٍ أَسْمَاهَا: آيَاتُ الصِّفَاتِ، وَطُبِعَتْ مُسْتَقِلَّةً.كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [7/ 54]، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَةِ الْمَجِيءِ بِذَاتِهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، أَيْ: أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَبْدَأِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [42/ 11]، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ، فَثَبَتَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ.وَكَذَلِكَ هُنَا كَمَا ثَبَتَ اسْتِوَاءٌ ثَبَتَ مَجِيءٌ، وَكَمَا ثَبَتَ مَجِيءٌ ثَبَتَ نُزُولٌ.وَالْكُلُّ مِنْ بَابِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أَيْ: عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: نَحْنُ كُلِّفْنَا بِالْإِيمَانِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُكَيِّفَ، إِذِ الْكَيْفُ مَمْنُوعٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ..تفسير الآية رقم (23): {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَوْضُوعَ تَذَكُّرِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [89/ 24].وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [25/ 27] الْآيَاتِ..سُورَةُ الْبَلَدِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..تفسير الآية رقم (2): {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ، وَهَلْ هِيَ لِنَفْيِ الْقَسَمِ أَوْ لِتَأْكِيدِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [75/ 1]، إِلَّا أَنَّهَا هُنَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [95/ 1- 3]؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مُرَادٌ بِهِ مَكَّةُ إِجْمَاعًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَأَنْتَ أَيِ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلٌّ، أَيْ: {حَالٌّ أَوْ حَلَالٌ بِهَذَا الْبَلَدِ} [90/ 2]، أَيْ مَكَّةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ نَظَائِرُهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ، مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [7/ 12]، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:أَيْ: وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ يَتَقَطَّعُ.وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَحْثًا مُطَوَّلًا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}: {حِلٌّ}: بِمَعْنَى حَالٌّ، وَالْفِعْلُ الْمُضَعَّفُ يَأْتِي مُضَارِعُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَضَرَبَ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مِنْ بَابِ نَصَرَ.تَقُولُ: حَلَّ الْعُقْدَةَ يَحُلُّهَا- بِالضَّمِّ-، وَتَقُولُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ- بِالْكَسْرِ-: إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَالْإِحْلَالُ دُونَ الْإِحْرَامِ.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِحِلٌّ: هَلْ هُوَ مِنَ الْإِحْلَالِ بِالْمَكَانِ؟ أَوْ هُوَ مِنَ التَّحَلُّلِ ضِدَّ الْإِحْرَامِ؟فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ مِنَ الْإِحْلَالِ ضِدَّ الْإِحْرَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْلَالِ هَذَا.فَقِيلَ: هُوَ إِحْلَالُ مَكَّةَ لَهُ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.وَقِيلَ: {حِلٌّ}: أَيْ: حَلَالٌ لَهُ مَا يَفْعَلُ بِمَكَّةَ غَيْرُ آثِمٍ، بَيْنَمَا هُمْ آثِمُونَ بِفِعْلِهِمْ.وَقِيلَ: {حِلٌّ}: أَيْ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُعَظِّمُونَ هَذَا الْبَلَدَ وَحُرْمَتَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُسْتَحِلُّونَ إِيذَاءَكَ وَإِخْرَاجَكَ.وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ: أَنَّهُ مِنَ الْحُلُولِ وَالْبَقَاءِ وَالسَّكَنِ، أَيْ: وَأَنْتَ حَالٌّ بِهَا. اهـ.وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَوَعْدًا بِالْفَتْحِ، وَأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَامًا، فَيُقَاتِلُ أَهْلَهَا وَيَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَنَّهُ تَسْلِيَةٌ لَهُ وَأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ بِهِ، وَسَيَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ.وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ تَأْكِيدًا لِشَرَفِ مَكَّةَ؛ إِذْ هِيَ أَوَّلَا فِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَهُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالٌّ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِهَا.وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَائِلًا؛ وَذَلِكَ لِقَرَائِنَ مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.مِنْهَا: أَنَّ حُلُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْبَلَدِ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِعْلًا، وَأَهَمَّهُ أَنَّ اللَّهَ رَافِعٌ عَنْهُمُ الْعَذَابَ؛ لِوُجُودِهِ فِيهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [8/ 33]، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَهَذَا الْبَلَدُ الْأَمِينُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَؤُلَاءِ الْآمِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ بِفَضْلِ وُجُودِكَ فِيهِمْ.وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلُولِهِ فِيهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، يُلَاقِي مِنَ الْمَشَاقِّ، وَيَصْبِرُ عَلَيْهَا.وَفِيهِ أَرْوَعُ الْمَثَلِ لِلصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ فِي الدَّعْوَةِ، فَقَدْ آذَوْهُ كُلَّ الْإِيذَاءِ، حَتَّى وَضَعُوا سَلَا الْجَزُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَصْبِرُ عَلَيْهِمْ، وَآذَوْهُ فِي عَوْدَتِهِ مِنَ الطَّائِفِ، وَجَاءَهُ مَلِكُ الْجِبَالِ نُصْرَةً لَهُ، فَأَبَى وَصَبَرَ وَدَعَا لَهُمْ، وَمَنَعُوهُ الدُّخُولَ إِلَى بَلَدِهِ مَسْقَطَ رَأْسِهِ فَصَبَرَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ، وَرَضِيَ الدُّخُولَ فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [90/ 4]، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِهِ.فَإِذَا كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُكَابِدُ فِي حَيَاتِهِ، أَيًّا كَانَ هُوَ، وَلِأَيِّ غَرَضٍ كَانَ، فَمُكَابَدَتُكَ تِلْكَ جَدِيرَةٌ بِالتَّقْدِيرِ وَالْإِعْظَامِ، حَتَّى يُقْسَمَ بِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قِيلَ: الْوَالِدُ: هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ، قِيلَ: مَا نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ.فَعَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ: أَيْ: وَكُلُّ عَظِيمٍ لَمْ يُولَدْ لَهُ.وَعَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ: أَيْ: بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ مِنْ تَخْلِيصِ نَفْسٍ مِنْ نَفْسٍ، وَمَا يَسْبِقُ ذَلِكَ مِنْ تَلْقِيحٍ وَحَمْلٍ، وَنُمُوِّ الْجَنِينِ، وَتَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَتَسْهِيلِ وِلَادَتِهِ.وَقِيلَ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}: كُلُّ وَالِدٍ مَوْلُودٌ مِنْ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ.وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَالِدَ هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ ذُرِّيَّتَهُ، بِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مَعَ هَذَا الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، وَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ، فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِأُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ وَفُرُوعِهَا.قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} تَقَدَّمُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [84/ 6]. .تفسير الآيات (6-7): {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} لَمْ يُبَيِّنْ أَيَرَاهُ أَحَدٌ؟ وَمَنِ الَّذِي يَرَاهُ؟وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرَاهُ، وَلَكِنْ جَاءَ الْجَوَابُ مَقْرُونًا بِالدَّلِيلِ وَالْإِحْصَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [90/ 8- 10]؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَيَعْلَمُ مِنْهُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَلِسَانًا يَنْطِقُ بِهِ وَيُحْصِي عَلَيْهِ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [50/ 18]، وَهَدَاهُ الطَّرِيقَ، طَرِيقَ الْبَذْلِ وَطَرِيقَ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلَنْ يُنْفِقَ دِرْهَمًا إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهُ وَيَرَاهُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} النَّجْدُ: الطَّرِيقُ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [76/ 2- 3]، أَيِ: الطَّرِيقَ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِدَلِيلِ: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [76/ 3].وَتَقَدَّمَ الْمَعْنَى هُنَاكَ، وَيَأْتِي فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [91/ 8]. زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لَهُ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى..تفسير الآية رقم (11): {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وَقَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْعَقَبَةِ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [90/ 12]، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا.وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِصِيغَةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ}، فَقَدْ جَاءَ تَفْصِيلُهُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [101/ 1- 4]، وَمَا بَعْدَهَا.وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [69/ 1- 2].وَفِي تَفْسِيرِ الْعَقَبَةِ بِالْمَذْكُورَاتِ، فَكُّ الرَّقَبَةِ، وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، تَوْجِيهٌ إِلَى ضَرُورَةِ الْإِنْفَاقِ حَقًّا لَا مَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ بِدُونِ حَقِيقَةٍ فِي قَوْلِهِ: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [90/ 6].أَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ: فَإِنَّهُ الْإِسْهَامُ فِي عِتْقِ الرَّقِيقِ، وَالِاسْتِقْلَالُ فِي عِتْقِهَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِفَكِّ النَّسَمَةِ.وَهَذَا الْعُنْصُرُ مِنَ الْعَمَلِ بَالِغُ الْأَهَمِّيَّةِ، حَيْثُ قُدِّمَ فِي سُلَّمِ الِاقْتِحَامِ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ.وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعَمَلِ حَتَّى أَصْبَحَ عِتْقُ الرَّقِيقِ أَوْ فَكُّ النَّسَمَةِ، يُعَادَلُ بِهِ عِتْقُ الْمُعْتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ، وَفِيهِ نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِحَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّقِّ، وَمَدَى حِرْصِهِ وَتَطَلُّعِهِ إِلَى تَحْرِيرِ الرِّقَابِ.فَهَا هُوَ هُنَا يَجْعَلُ عَتَقَ الرَّقَبَةِ، سُلَّمَ اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، وَجَعَلَهُ عِتْقًا لِلْمُعَتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَسْعَى لِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ يَمِينٍ وَلِلظِّهَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، كُلُّ ذَلِكَ نَوَافِذُ إِطْلَاقِ الْأُسَارَى، وَفَكُّ الرِّقَابِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لِلِاسْتِرْقَاقِ إِلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، هُوَ الْأَسْرُ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَا غَيْرَ، وَهُمَا مِمَّا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ رَدًّا عَلَى الْمُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ؛ فِي ادِّعَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ مُتَعَطِّشٌ لِاسْتِرْقَاقِ الْأَحْرَارِ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9] فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [90/ 14]. أَيْ: شِدَّةٍ وَجُوعٍ. وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ؛ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:أَيْ: لَوْ كُنْتَ جَارًا بِحَقٍّ تَعْنِي بِحَقِّ الْجَارِ، لَمَا حَدَثَ لِجَارِكَ هَذَا.وَهَذَا الْقَيْدُ لِحَالِ الْإِطْعَامِ؛ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ، وَتَقْدِيمِ مَا عِنْدَ اللَّهِ؛ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [76/ 8]، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ أَنَّهُ لِلطَّعَامِ، وَهَذَا غَالِبٌ فِي حَالَاتِ الشِّدَّةِ وَالْمَسْغَبَةِ.وَقَوْلُهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [59/ 9]، فَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْفَضِيلَةِ فِي الْإِطْعَامِ. .تفسير الآية رقم (15): {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} فَالْيَتِيمُ مَنْ حُرِمَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَقَدْ خَصُّوا فِي اللُّغَةِ يَتِيمَ الْحَيَوَانِ، مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَفِي الطُّيُورِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْإِنْسَانِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَ.وَ: {ذَا مَقْرَبَةٍ}: أَيْ: قَرَابَةٍ، وَخُصَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ فَقَطْ».وَالْأَحَادِيثُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ مُتَضَافِرَةٌ، وَيَكْفِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَذَيْنِ» أَيِ: السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا.قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} قِيلَ: الْمِسْكِينُ مِنَ السُّكُونِ وَقِلَّةِ الْحَرَكَةِ، وَالْمَتْرَبَةُ: اللُّصُوقُ بِالتُّرَابِ.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ: أَيُّهُمَا أَشَدُّ احْتِيَاجًا وَمَا حَدُّ كُلٍّ مِنْهُمَا؟ فَاتَّفَقُوا أَوَّلًا: عَلَى أَنَّهُ إِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَإِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَيَشْمَلُ الثَّانِيَ مَعَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ جَامِعًا لَهُمَا كَمَا هُوَ هُنَا، فَالْإِطْعَامُ يَشْمَلُ الِاثْنَيْنِ مَعًا، وَإِذَا اجْتَمَعَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالتَّعْرِيفِ.فَالْمِسْكِينُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَقِيرُ، قَالُوا: مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَقْرَةِ وَهِيَ: الْحُفْرَةُ تُحْفَرُ لِلنَّخْلَةِ وَنَحْوِهَا لِلْغَرْسِ، فَكَأَنَّهُ نَزَلَ إِلَى حُفْرَةٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا.وَقِيلَ: مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَإِذَا أُخِذَتْ فَقَارٌ مِنْهَا عَجَزَ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً، وَيُرَجِّحُهُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [18/ 79]، فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ وُجُودِ سَفِينَةٍ لَهُمْ يَتَسَبَّبُونَ عَلَيْهَا لِلْمَعِيشَةِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ. مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ»، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ.وَقَدْ قَالُوا فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا: الْمِسْكِينُ مَنْ يَجِدُ أَقَلَّ مَا يَكْفِيهِ، وَالْفَقِيرُ: مَنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..تفسير الآية رقم (17): {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} هَذَا قَيْدٌ فِي اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ عِتْقٍ، أَوْ إِطْعَامٍ؛ لِأَنَّ عَمَلَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يَجْعَلُهُ يَقْتَحِمُ الْعَقَبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ وَلِاسْتِيفَائِهِ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، وَثُمَّ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ لَا الزَّمَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَشْرُوطٌ وُجُودُهُ عِنْدَ الْعَمَلِ.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ شُرُوطِ قَبُولِ الْعَمَلِ وَصِحَّتِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [20/ 112]، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [17/ 19]، وَقَوْلِهِ:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [16/ 97]؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ الْأَسَاسِيُّ فِي حَمْلِ الْعَبْدِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ يَبْتَغِي بِهِ الثَّوَابَ، وَخَاصَّةً الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ بَذْلٌ بِدُونِ عِوَضٍ عَاجِلٍ.وَقَدْ بَحَثَ الْعُلَمَاءُ مَوْضُوعَ عَمَلِ الْكَافِرِ الَّذِي عَمِلَهُ حَالَةَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا؟وَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَنَّثُ بِأَعْمَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنَ الْخَيْرِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُعْتِقُ الرِّقَابَ، وَيَحْمِلُ عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ- فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا، أَيْ: لَوْ أَسْلَمَ فَقَالَهَا كَانَ يَنْفَعُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} تَتِمَّةٌ لِصِفَاتِهِمْ، وَالصَّبْرُ عَامٌّ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمَرْحَمَةُ زِيَادَةٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَالْحَدِيثُ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ.وَذِكْرُ الْمَرْحَمَةِ هُنَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَطْفِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..سُورَةُ الشَّمْسِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..تفسير الآية رقم (1): {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَشْرِ: يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى سَبْعَ مَرَّاتٍ بِسَبْعِ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ، هِيَ: الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَاللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالسَّمَاءُ، وَالْأَرْضُ، وَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، مَعَ حَالَةٍ لِكُلِّ مُقْسَمٍ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ فَلَاحُ مَنْ زَكَّى تِلْكَ النَّفْسَ وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا، وَمَعَ كُلِّ آيَةٍ جَاءَ الْقَسَمُ بِهَا تَوْجِيهًا إِلَى أَثَرِهَا الْعَظِيمِ الْمُشَاهَدِ الْمَلْمُوسِ، الدَّالِّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ.وَذَلِكَ كَالْآتِي أَوَّلًا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، فَالشَّمْسُ وَحْدَهَا آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ طَاقَةٍ حَرَارِيَّةٍ فِي ذَاتِهَا تَفُوقُ كُلَّ تَقْدِيرٍ، وَهِيَ عَلَى الزَّمَانِ بِدُونِ انْتِقَاصٍ، فَهِيَ فِي ذَاتِهَا آيَةٌ.ثُمَّ جَاءَ وَصْفُ أَثَرِهَا وَهُوَ: {ضُحَاهَا}، وَهُوَ انْتِشَارُ ضَوْئِهَا ضَحْوَةَ النَّهَارِ، وَهَذَا وَحْدَهُ آيَةٌ، لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحَرَكَتِهَا، وَحَرَكَتُهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [36/ 37- 38]، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي حَاجَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نُمْرُوذَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [2/ 258].فَفِي هَذَا السَّيْرِ قُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ وَدِقَّةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، {وَضُحَاهَا}: نَتِيجَةٌ لِهَذَا السَّيْرِ، ثُمَّ: {ضُحَاهَا} نِعَمٌ جَزِيلَةٌ عَلَى الْكَوْنِ كُلِّهِ، مِنِ انْتِشَارٍ فِي الْأَرْضِ، وَانْتِفَاعٍ بِضَوْئِهَا وَأَشِعَّتِهَا.وَقَدْ قَالُوا: لَوِ اقْتَرَبَتْ دَرَجَةً أَوِ ارْتَفَعَتْ دَرَجَةً، لَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا تُحْرِقُ بِاقْتِرَابِهَا، وَيَتَجَمَّدُ الْعَالَمُ مِنْ بُعْدِهَا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.فَالضُّحَى وَحْدَهُ آيَةٌ وَهُوَ حَرُّهَا كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [20/ 119]، أَيْ: بِحَرِّ الشَّمْسِ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالضُّحَى وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [93/ 1- 2].وَقَوْلُهُ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} فَهُوَ كَذَلِكَ الْقَمَرُ وَحْدَهُ آيَةٌ، وَكَذَلِكَ تُلُوُّهُ لِلشَّمْسِ وَنِظَامُ مَسِيرِهِ بِهَذِهِ الدِّقَّةِ، وَهَذَا النِّظَامُ فَلَا يَسْبِقُهَا وَلَا تَفُوتُهُ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [36/ 40].وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا تَلَاهَا} أَيْ: تَلَا الشَّمْسَ، دَلَالَةٌ عَلَى سَيْرِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهَا سَابِقَتُهُ وَهُوَ تَالِيهَا.فَقِيلَ: تَالِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ الشَّهْرِ تَغْرُبُ، وَيَظْهَرُ مِنْ مَكَانِ غُرُوبِهَا.وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْهَيْئَةِ: تَالِيهَا فِي مَنْزِلَةِ الْحَجْمِ، أَيْ: كُبْرَى وَهُوَ كَبِيرٌ بَعْدَهَا فِي الْحَجْمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْقَمَرِ مِنْ فَوَائِدَ لِلْخَلِيقَةِ، مِنْ تَخْفِيفِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْخَصَائِصِ عَلَى الزَّرْعِ، وَأَهَمُّ خَصَائِصِهِ بَيَانُ الشُّهُورِ بِتَقْسِيمِ السَّنَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَوْمٍ، وَحَجٍّ، وَزَكَاةٍ، وَعِدَّةِ النِّسَاءِ، وَكَفَّارَاتٍ بِصَوْمٍ، وَحُلُولِ الدُّيُونِ، وَشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ، وَكُلِّ مَا لَهُ صِلَةٌ بِالْحِسَابِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ.وَقَدْ جَاءَ الْقَسَمُ بِالْقَمَرِ فِي الْمُدَّثِّرِ فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [74/ 32- 33]، وَقَوْلِهِ: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [84/ 18]، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ آيَتِهِ وَدِقَّةِ دَلَالَتِهِ.وَقَوْلُهُ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} {وَالنَّهَارِ} هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ ضَوْءِ الشَّمْسِ.وَ: {جَلَّاهَا} قِيلَ: الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ لِلشَّمْسِ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنِ اخْتَارَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِلْأَرْضِ، أَيْ: كَشَفَهَا وَأَوْضَحَ كُلَّ مَا فِيهَا؛ لِيَتَيَسَّرَ طَلَبُ الْمَعَاشِ وَالسَّعْيِ، كَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [10/ 67]، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [25/ 47].وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى: أَيْ: ظَهَرَ وَوَضَحَ بِدُونِ ضَمِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [92/ 1- 2]، أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ غِشَاوَةِ اللَّيْلِ يَكُونُ بِتَجَلِّي النَّهَارِ.وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عِظَمَ آيَةِ النَّهَارِ، وَعِظَمَ آيَةِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِمَا إِلَّا اللَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [28/ 71- 72].وَقَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قَالُوا: يَغْشَى الشَّمْسَ فَيُحْجَبُ ضِيَاؤُهَا، وَالْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ، كَالْكَلَامِ عَلَى النَّهَارِ، مِنْ حَيْثُ الْآيَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى.وَتَقَدَّمَتِ النُّصُوصُ الْكَافِيَةُ، وَسَيَأْتِي الْإِقْسَامُ بِاللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [92/ 1]، أَيْ: يَغْشَى الْكَوْنَ كُلَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [84/ 17]، أَيْ: جَمَعَ وَاشْتَمَلَ بِظَلَامِهِ.وَالضَّمِيرُ فِي يَغْشَاهَا: رَاجِعٌ إِلَى الشَّمْسِ، وَعَلَيْهِ قِيلَ: إِنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ رَاجِعٌ كُلُّهُ إِلَى الشَّمْسِ فِي حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فِي ضُحَاهَا ثُمَّ تَجَلِّيهَا، ثُمَّ تُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا، ثُمَّ بِغَشَيَانِ اللَّيْلِ إِيَّاهَا، وَهُنَا سُؤَالٌ: كَيْفَ يَغْشَى اللَّيْلُ الشَّمْسَ مَعَ أَنَّ اللَّيْلَ وَهُوَ الظُّلْمَةُ نَتِيجَةٌ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا اللَّيْلُ؟فَقِيلَ: إِنَّ اللَّيْلَ يُغَطِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ، فَتَتَكَوَّنُ الظُّلْمَةُ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنَّ الشَّمْسَ ظَاهِرَةٌ وَضَوْءُهَا مُنْتَشِرٌ، وَلَكِنْ فِي قِسْمِ الْأَرْضِ الْمُقَابِلِ لِلظُّلْمَةِ الْمَوْجُودَةِ، كَمَا أَنَّ الظُّلْمَةَ تَكُونُ فِي الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ لِلنَّهَارِ، وَهَكَذَا.وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشَاهَا وَ: {جَلَّاهَا} رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُغَايِرَةً فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} قِيلَ: مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَجِيءَ بِهَا بَدَلًا عَنْ مَنْ الَّتِي لِأُولِي الْعِلْمِ؛ لِإِشْعَارِهَا مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، أَيْ: {وَالسَّمَاءِ} وَالْقَادِرِ الَّذِي: {بَنَاهَا}، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ، وَالْحَكِيمِ الْعَلِيمِ: {الَّذِي سِوَّاهَا}، وَمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [109/ 3]، وَمِثْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [4/ 3].وَتَقَدَّمَ مِرَارًا أَحْوَالُ السَّمَاءِ فِي بِنَائِهَا وَرَفْعِهَا، وَجَعْلِهَا سَبْعًا طِبَاقًا، وَقَدْ بَيَّنَ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَنَاهَا بِقُوَّةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [51/ 47]، أَيْ: بِقُوَّةٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [91/ 6]، مِثْلُ: {دَحَاهَا} [79/ 30].وَقَالُوا: إِبْدَالُ الدَّالِّ طَاءً مَشْهُورٌ، وَطَحَا تَأْتِي بِمَعْنَى خَلَقَ، وَبِمَعْنَى ذَهَبَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَمِنَ الْأَوَّلِ:وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ عَلْقَمَةَ: وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا وَمَدَّهَا، وَذَهَبَ بِأَطْرَافِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ، أَيْ: فِي مَدِّهَا.تَنْبِيهٌ.قَالُوا: ذِكْرُ السَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِهَا، وَبِالتَّالِي عَلَى حُدُوثِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَنَّ تَدْبِيرَهُمَا لِلَّهِ.وَقَوْلُهُ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [91/ 7- 8]، قَالُوا: النَّفْسُ تَحْمِلُ كَامِلَ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ وَقُوَاهُ الْإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ تَفْكِيرٍ وَسُلُوكٍ، إِلَخْ.وَقِيلَ: النَّفْسُ هُنَا بِمَعْنَى الْقُوَى الْمُفَكِّرَةِ، الْمُدْرِكَةِ مَنَاطَ الرَّغْبَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَعَلَيْهِ؛ فَذِكْرُ النَّفْسِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، تَكُونُ تَسْوِيَتُهَا فِي اسْتِوَاءٍ خِلْقَتِهَا وَتَرْكِيبِ أَعْضَائِهَا، وَهِيَ غَايَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْكَمَالِ وَالْعِلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [95/ 4]، وَقَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [51/ 21]، أَيْ: مِنْ أَعْضَاءٍ وَأَجْزَاءٍ وَتَرَاكِيبَ، وَعِدَّةِ أَجْهِزَةٍ تُبْهِرُ الْعُقُولَ فِي السَّمْعِ، وَفِي الْبَصَرِ، وَفِي الشَّمِّ، وَفِي الذَّوْقِ، وَفِي الْحِسِّ، وَمِنْ دَاخِلِ الْجِسْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ، فَحَقَّ أَنْ يُقْسِمَ بِهَا.{وَمَا سَوَّاهَا}: أَيْ: بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْعِلْمِ الشَّامِلِ. وَذِكْرُهَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَإِنَّهُ فِي نَظَرِي أَعْظَمُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُفَكِّرَةَ وَالْمُقَدِّرَةَ لِلْأُمُورِ الَّتِي لَهَا الِاخْتِيَارُ، وَمِنْهَا الْقَبُولُ وَالرَّفْضُ وَالرِّضَى وَالسُّخْطُ وَالْأَخْذُ وَالْمَنْعُ، فَإِنَّهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ.وَإِنَّهَا كَمَا قُلْنَا أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْجَانِبَ الْخِلْقِيَّ قَالَ تَعَالَى فِيهِ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [40/ 57]، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْجَانِبِ، قَالَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [33/ 72].وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ حَمَلَهَا بِصِدْقٍ وَأَدَّاهَا بِوَفَاءٍ، وَنَالَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.فَهَذِهِ النَّفْسُ فِي تَسْوِيَتِهَا لِتَلَقِّي مَعَانِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَاسْتِقْبَالِ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لِلْفُجُورِ، وَالتَّقْوَى أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تُبْدِي وَلَا تُعِيدُ، وَالَّتِي لَا تَمْلِكُ سَلْبًا وَلَا إِيجَابًا.وَهُنَا مِثَالٌ بَسِيطٌ فِيمَا اسْتُحْدِثَ مِنْ آلَاتِ حِفْظٍ وَحِسَابٍ، كَالْآلَةِ الْحَاسِبَةِ وَالْعَقْلِ الْأَلِكْتِرُونِيِّ، فَإِنَّهَا لَا تُخْطِئُ كَمَا يَقُولُونَ، وَقَدْ بَهَرَتِ الْعُقُولَ فِي صِفَتِهَا، وَلَكِنْ بِنَظْرَةٍ بَسِيطَةٍ نَجِدُهَا أَمَامَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ.فَنَقُولُ: إِنَّهَا أَوَّلًا مِنْ صُنْعِ هَذِهِ النَّفْسِ ذَاتِ الْإِدْرَاكِ النَّامِي وَالِاسْتِنْتَاجِ الْبَاهِرِ.ثَانِيًا: هِيَ لَا تَخْطِئُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَدِّرُ أَنْ تَخْطِئَ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ نَاشِئٌ عَنِ اجْتِهَادٍ فِكْرِيٍّ، وَهِيَ لَا اجْتِهَادَ لَهَا، إِنَّمَا تُشِيرُ وُفْقَ مَا رُسِمَ لَهَا: كَالْمَادَّةِ الْمُسَجَّلَةِ فِي شَرِيطٍ، فَإِنَّ الْمُسَجِّلَ مَعَ دِقَّةِ حِفْظِهِ لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ حَرْفًا وَاحِدًا.أَمَّا الْإِنْسَانُ: فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ، وَعِنْدَمَا يُبَدِّلُ كَلِمَةً مَكَانَ كَلِمَةٍ، فَلِقُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِ الْكَلِمَةِ الْأُخْرَى، أَوْ لِاخْتِيَارِهِ تَرْكَ الْكَلِمَةِ الْأُولَى.وَهَكَذَا هُنَا، فَاللَّهُ تَعَالَى هُنَا خَلَقَ تِلْكَ النَّفْسِ أَوَّلًا، ثُمَّ سِوَّاهَا عَلَى حَالَةٍ تَقْبَلُ تَلَقِّي الْإِلْهَامِ بِقَسِيمِهِ: الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ تَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّ مَجِيءَ الْقَسَمِ بِهَا بَعْدَ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ذَاتِهَا وَقُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، وَمَا سِوَاهَا مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لِتَلَقِّي إِلْهَامِ اللَّهِ إِيَّاهَا.تَنْبِيهٌ.وَفِي مَجِيئِهَا بَعْدَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ؛ مِنْ شَمْسٍ، وَقَمَرٍ، وَلَيْلٍ، وَنَهَارٍ، وَسَمَاءٍ، وَأَرْضٍ، لَفْتٌ إِلَى وُجُوبِ التَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، يَسْتَلْهِمُ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى تَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ، وَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ، وَإِحْدَاثِ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ؛ أَنَّهُ لَابُدَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مِنْ صَانِعٍ، وَلَا بُدَّ لِلْمُحْدَثِ الْمُتَجَدِّدِ مِنْ فِنَاءٍ وَعَدَمٍ.كَمَا عَرَضَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى النُّمْرُوذِ نَمَاذِجَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الْقَمَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.وَقَوْلُهُ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إِنْ كَانَ: {أَلْهَمَهَا} بِمَعْنَى هَدَاهَا وَبَيَّنَ لَهَا، فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [90/ 10]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [76/ 3]، وَهَذَا عَلَى الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ.وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ وَالْإِلْزَامِ، فَفِيهِ إِشْكَالُ الْقَدَرِ فِي الْخَيْرِ الِاخْتِيَارِ.وَقَدْ بَحَثَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ بَحْثًا وَافِيًا.قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} هَذَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَالْوَاوُ قَدْ حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ؛ لِطُولِ مَا بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.وَقَدْ نَوَّهَ عَنْهُ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [38/ 64]، مِنْ سُورَةِ ص، وَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.وَالْأَصْلُ: لَقَدْ أَفْلَحَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْفَصْلِ، وَ: {زَكَّاهَا} بِمَعْنَى طَهَّرَهَا، وَأَوَّلُ مَا يُطَهِّرُهَا مِنْهُ دَنَسُ الشِّرْكِ وَرِجْسُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [9/ 28]، وَتَطْهِيرُهَا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ مِنَ الْمَعَاصِي بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [53/ 32]، ثُمَّ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [87/ 14- 15].وَاخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي زَكَّاهَا وَ: {دَسَّاهَا}، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فَهَلْ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، أَمْ يَعُودُ عَلَى الْعَبْدِ.وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِكُلِّ قَوْلٍ بِبَعْضِ النُّصُوصِ. فَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [4/ 49]، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [24/ 21]، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا؛ أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، وَأَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا».وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَكَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [87/ 14- 15]، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [35/ 18]، وَقَوْلِهِ: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [79/ 18- 19]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [80/ 3]، وَكُلُّهَا كَمَا تَرَى مُحْتَمَلَةٌ، وَالْإِشْكَالُ فِيهَا كَالْإِشْكَالِ فِيمَا قَبْلَهَا.وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ تِلْكَ النُّصُوصِ كَالْجَمْعِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْعَبْدُ مِنْ إِيمَانٍ وَعَمَلٍ فِي طَاعَةٍ وَتَرْكٍ لِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّهُ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [24/ 21].وَكُلُّ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عَوْدُ الضَّمِيرِ، أَوْ إِسْنَادُ التَّزْكِيَةِ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَالتَّوْفِيقِ لِلْإِيمَانِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، كَمَا فِي قَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [53/ 32]، وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [4/ 49]، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [49/ 14]، بَلْ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [4/ 49]، الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ، وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بِعَدْلِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
|