الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء ـ دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر بادر إلى الصلاة. وقال تعالى:
ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث نعيم بن همار رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها. قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، أي يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع. وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها. وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد، الذي هو حظ النفي منها. وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى:
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء (امرأة من الأنصار) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أُمُّ العلاء: رحمة الله عليك أبا السَّائب? فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله قد أكرمه"؟ فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: "أَما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأَرجو له الخير.." الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينًا. ولقد أجاد التهامي في قوله:
والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري
وقال صاحب الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن "سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أوحي إلي أن أكون تاجرًا ولا أجمع المال متكاثرًا، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".
تنبيهان الأول ـ هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيًا وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائمًا فليصل قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب. وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:
التنبيه الثاني ـ اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف ـ من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين ـ أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف. لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلًا، بل يسمى لعبًا كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفًا منه وطمعًا في رحمته. وقد قال جل وعلا:
تم بحمد الله تفسير سورة الحجر ولله الحمد.
|