الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
مَعْنَاهُ وَهُوَ الِافْتِعَالُ، مِنْ خَزَلَهُ قَطَعَ وَسَطَهُ، ثُمَّ نُقِلَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِلَى حَذْفِ كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَهِيَ إِمَّا اسْمٌ، أَوْ فِعْلٌ، أَوْ حَرْفٌ. الْأَوَّلُ: الِاسْمُ فَمِنْهُ: حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} وَ (خَمْسَةٌ) وَ (سَبْعَةٌ) (الْكَهْفِ: 22)، أَيْ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ خَمْسَةٌ، وَهُمْ سَبْعَةٌ. وَقَوْلِهِ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 13) أَيْ: إِحْدَاهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 13). وَقَوْلِهِ: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ} (الْأَحْقَافِ: 35) أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ. وَقَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 26) أَيْ: هُمْ عِبَادٌ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} (الْحَجِّ: 72) أَيْ: هِيَ النَّارُ. وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ} (غَافِرٍ: 45- 46) أَيْ: هُوَ النَّارُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " النَّارُ " فِي الْآيَتَيْنِ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَيُمْكِنُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غَافِرٍ: 24) أَيْ: هَذَا سَاحِرٌ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذَّارِيَاتِ: 52)، {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الْفُرْقَانِ: 5). {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْكَهْفِ: 29) أَيْ: هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ؛ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، أَيْ: قُلِ الْقَوْلَ الْحَقَّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَنَصَبَ " الْحَقَّ " وَالْمُرَادُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ (رَبِّكُمْ) وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا قَوْلَ حَقٍّ مُطْلَقٍ؛ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الْأَنْعَامِ: 152) وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الْأَعْرَافِ: 169). وَقَوْلِهِ: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (النُّورِ: 1) أَيْ: هَذِهِ سُورَةٌ. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فُصِّلَتْ: 46) أَيْ: فَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ، وَإِسَاءَتُهُ عَلَيْهَا، وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (فُصِّلَتْ: 49) أَيْ: فَهُوَ يَئُوسٌ، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 196- 197) أَيْ: تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ، أَوْ ذَاكَ مَتَاعٌ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} (الْهُمَزَةِ: 5- 6) أَيْ: وَالْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ. {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (الْمُرْسَلَاتِ: 32) أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَالْقَصْرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (النور: 4) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْمُحْوِجُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ، وَالْقَصْرُ هُوَ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ كَانَ يُضْرَبُ عَلَى الْمَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {جُمَالَةٌ صُفْرٌ} (الْمُرْسَلَاتِ: 33) أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ شَبَّهَهُ بِالْجَمَاعَةِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ لِجَمَاعَاتِهِ، فَجَمَاعَاتُهُ إِذَنْ مِثْلُ الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ، شَرَرَةٌ مِنْهُ كَالْقَصْرِ، قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} (النِّسَاءِ: 171) فَقِيلَ: إِنَّ " ثَلَاثَةٌ " خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ " آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ ". وَاعْتُرِضَ بِاسْتِلْزَامِهِ إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوِ الْخَبَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرِ لَا إِلَى مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ، وَحِينَئِذٍ يَقْتَضِي نَفْيَ عِدَّةِ الْآلِهَةِ لَا نَفْيَ وَجُودِهِمْ. قِيلَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِ آلِهَتِهِمْ ثَلَاثَةً يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْآلِهَةِ الثَّلَاثَةِ وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّالِبَةِ الْمُحَصِّلَةِ فَمَعْنَاهُ لَيْسَ آلِهَتُكُمْ ثَلَاثَةً، وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ آلِهَةٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ إِيذَانًا بِالنَّهْيِ عَنْ مُطْلَقِ الْعَدَدِ الْمُفْهِمِ لِلْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ مَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ صَرَّحَ بِالشَّرِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (الْمَائِدَةِ: 73) وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الْمَائِدَةِ: 73) فَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْإِلَهُ يَكُونُ غَيْرُهُ مَعَهُ خَطَأً لِإِفْهَامِهِ مُسَاوَاةً مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الْأَنْعَامِ: 1) وَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الثَّلَاثَةِ لِامْتِنَاعِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ عَقْلًا وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النِّسَاءِ: 171) نَفْيُ الشَّرِكَةِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ النَّهْيِ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ الْفِعْلِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي اللَّهِ وَعِيسَى وَأُمِّهِ ثَلَاثَةً. وَنَحْوُهُ فِي الْخُرُوجِ عَلَى السَّبَبِ {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آلِ عِمْرَانَ: 130). وَقَالَ صَاحِبُ " إِسْفَارِ الصَّبَاحِ ": " الْوَجْهُ تَقْدِيرُ كَوْنِ ثَلَاثَةٍ، أَوْ فِي الْوُجُودِ " ثُمَّ حُذِفَ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ " لَنَا " أَوْ " فِي الْوُجُودِ " الْحَذْفُ الْمُطَّرِدُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَوْحِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ كَالْعَدَدِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا. كَقَوْلِكَ: عِنْدِي ثَلَاثَةٌ. أَيْ: دَرَاهِمُ وَقَدْ عُلِمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النِّسَاءِ: 171). وَقَدْ عُورِضَ هَذَا بِأَنَّ نَفْيَ وُجُودِ ثَلَاثَةٍ لَا يَنْفِي وُجُودَ إِلَهَيْنِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ " آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ " يُوجِبُ ثُبُوتَ الْآلِهَةِ، وَتَقْدِيرُ " لَنَا آلِهَةٌ " لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ. فَعُورِضَ بِأَنَّهُ كَمَا لَا يُوجِبُهُ فَلَا يَنْفِيهِ. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْفِهِ فَقَدْ نَفَاهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النِّسَاءِ: 171). فَعُورِضَ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِنْ نَفَى ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ فَكَيْفَ ثُبُوتُ آلِهَةٍ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ، وَلَكِنْ يُنَاقِضُهُ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ " آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ " يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ، لِانْصِرَافِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ، بِخِلَافِ تَقْدِيرِ " لَنَا آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ " فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ؛ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ إِلَى أَصْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْآلِهَةِ. وَفِي أَجْوِبَةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ نَظَرٌ. قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ جِنِّي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ؛ أَيْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (الْمَائِدَةِ: 73).
حَذْفُ الْخَبَرِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} (الرَّعْدِ: 35) أَيْ: وَظِلُّهَا دَائِمٌ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ مَنِ اقْتَصَّ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ: {هَذَا ذِكْرٌ} (ص: 49) ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا} (ص: 55- 56- 57) قَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَآلِ أَمْرِ الطَّاغِينَ، وَمِنْهُ يُفْهَمُ الْخَبَرُ. وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (الزُّمَرِ: 22) أَيْ: أَهَذَا خَيْرٌ أَمَّنْ جَعَلَ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، وَقَسَا قَلْبُهُ، فَحُذِفَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزُّمَرِ: 22). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَا ضَيْرَ} (الشُّعَرَاءِ: 50). {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} (سَبَأٍ: 51). وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (الْمَائِدَةِ: 38) قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فِيمَا أَتْلُوهُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وَجَاءَ {فَاقْطَعُوا} جُمْلَةٌ أُخْرَى. وَكَذَا قَوْلُهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (النُّورِ: 2) فِيمَا نَقُصُّ لَكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّارِقُ مُبْتَدَأٌ، " فَاقْطَعُوا " خَبَرُهُ؛ وَجَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ سَارِقًا مَخْصُوصًا؛ فَصَارَ كَأَسْمَاءِ الشَّرْطِ؛ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا لِعُمُومِهَا، وَإِنَّمَا قَدَّرَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ لِجَعْلِ الْخَبَرِ أَمْرًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِضْمَارُ فَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ فِي مَوْضِعِهَا تَرْبُطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ؛ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الِاخْتِيَارِيَّ فِيهِ النَّصْبُ، قَالَ: وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ بِالنَّصْبِ؛ ارْتِكَانًا لِلْوَجْهِ الْقَوِيِّ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ، وَكَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرَّعْدِ: 35) مَثَلُ، هُنَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِيمَا نَقُصُّ عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، وَكَذَا قَالَ أَيْضًا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (النِّسَاءِ: 16) إِنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ. وَقَدْ رُدَّ بِأَنَّهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هُنَا؟ فَإِنَّهُ إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ فِي السَّارِقِ وَنَحْوِهِ لِتَقْدِيرِهِ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، فَاحْتِيجَ لِلْإِضْمَارِ حَتَّى تَكُونَ الْفَاءُ عَلَى بَابِهَا فِي الرَّبْطِ؛ وَأَمَّا هَذَا فَقَدَ وُصِلَ بِفِعْلٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ: الَّذِي يَأْتِيكَ فَلَهُ دِرْهَمٌ. وَأَجَابَ الصَّفَّارُ بِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ مَعَ الضَّرُورَةِ كَيْفَ كَانَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَضْمَرَ فَقَدْ تَكَلَّفَ كَمَا قُلْتُ، وَإِنْ لَمْ يُضْمِرْ كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا وَبَعْدَهُ الْأَمْرُ، فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنَّظَرِ إِلَى " لِلَّذَينِ يَأْتِيَانِهَا " فَكَيْفَمَا عَمِلَ لَمْ يَخْلُ مِنْ قُبْحٍ. وَإِنْ قُدِّرَ مَنْصُوبًا، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: " الزَّيْدَانِ " فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقَعَ أَيْضًا فِي مَحْذُورٍ آخَرَ؛ فَلِهَذَا قَدَّرَهُ هَذَا التَّقْدِيرَ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مَعَ الرَّفْعِ يَتَكَافَآنِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} (فُصِّلَتْ: 41)، الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: يُعَذِّبُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فُصِّلَتْ: 44). وَقَوْلُهُ: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سَبَأٍ: 31) فَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: حَاضِرُونَ، وَهُوَ لَازِمُ الْحَذْفِ هُنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 5) أَيْ: حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 30) أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّنْوِينِ فَلَا حَذْفَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً، وَ " ابْنُ اللَّهِ " خَبَرٌ؛ حِكَايَةً عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يُنَوِّنْ؛ فَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إِلَهُنَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِلَهُنَا عُزَيْرٌ، وَابْنُ صِفَةٌ. وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 30). وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ التَّكْذِيبُ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْبُنُوَّةِ، فَكُذِّبَ لِأَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ رَاجِعٌ إِلَى نِسْبَةِ الْخَبَرِ لَا إِلَى الصِّفَةِ، فَلَوْ قِيلَ: زَيْدٌ الْقَائِمُ فَقِيهٌ، فَكُذِّبَ انْصَرَفَ التَّكْذِيبُ لِإِسْنَادِ فِقْهِهِ؛ لَا لِوَصْفِهِ بِالْقَائِمِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ إِنْشَاءً فَهِيَ خَبَرٌ، إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ تَامَّةِ الْإِفَادَةِ، فَيَصِحُّ تَكْذِيبُهَا، وَالْأَوْلَى تَقْوِيَتُهُ، وَأَنْ يُقَالَ: الصِّفَةُ وَالْإِضَافَةُ وَنَحْوُهُمَا فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَوَاحِقٌ بِصُورَةِ الْإِفْرَادِ؛ أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يُصَوِّرَهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ، وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَذِبِهَا، مَعَ أَنَّهَا تُصُوِّرَتْ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَذِبَ الصِّفَةِ بِإِسْنَادِ مُسْنَدِهَا إِلَى مَعْدُومِ الثُّبُوتِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفِقْهِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلَا مَاءَ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ) (التَّوْبَةِ: 30) خَبَرُ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَكَى فِيهِ لَفْظَهُمْ، أَيْ: قَالُوا: هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْقَبِيحَةَ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَدَّرُ خَبَرٌ وَلَا مُبْتَدَأٌ. وَقِيلَ: " ابْنُ اللَّهِ " خَبَرٌ، وَحُذِفَ التَّنْوِينُ مِنْ " عُزَيْرُ " لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقِيلَ: حُذِفَ تَنْوِينُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَقِرَاءَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} (الْإِخْلَاصِ: 1- 2) عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ، بَلْ هُنَا أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقِيلَ: " ابْنُ اللَّهِ " نَعْتٌ وَلَا مَحْذُوفَ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّ فِيهِ بُعْدًا؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنْ قُلْتَ: وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ لِتَحْكِيَ بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا لَا قَوْلًا، وَأَيْضًا إِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 30) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْقَوْلَانِ مَنْقُولَانِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَلَغُوا فِي رُسُوخِ الِاعْتِقَادِ فِي هَذَا الشَّيْءِ إِلَى أَنْ يَذْكُرُونَ هَذَا النُّكْرَ، كَمَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ تَغَالُوا فِي تَعْظِيمِ صَاحِبِهِمْ: أَرَاهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَمْرًا عَظِيمًا ثَابِتًا، يَقُولُونَ: زَيْدٌ الْأَمِيرُ. مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يُوسُفَ: 18) يَحْتَمِلُ حَذْفَ الْخَبَرِ، أَيْ: أَجْمَلُ، أَوْ حَذْفَ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ- هِيَ قِيَامُ الصَّبْرِ بِهِ- دَالَّةٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَعَدَمُ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الصَّبْرِ لَهُ وَاتِّصَافِهِ بِهِ، وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ يُحَصِّلُ ذَلِكَ دُونَ حَذْفِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ أَجْمَلُ مِمَّنْ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ الصَّبْرَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ؛ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ؛ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ خَبَرًا وَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} (النُّورِ: 53) أَيْ: أَمْثَلُ، أَوْ أَوْلَى لَكُمْ مِنْ هَذَا، أَوْ أَمْرُكُمُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْكُمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (النُّورِ: 1) إِمَّا أَنْ يُقِدِّرَ: فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ، أَوْ هَذِهِ سُورَةٌ. وَقَدْ يُحْذَفَانِ جُمْلَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} (الطَّلَاقِ: 4) الْآيَةَ.
حَذْفُ الْفَاعِلِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ الْمَشْهُورُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَيْ حَذْفُ الْفَاعِلِ أَحَدُهَا: إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ. ثَانِيهَا: فِي الْمَصْدَرِ، إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْفَاعِلُ، مُظْهَرًا يَكُونُ مَحْذُوفًا، وَلَا يَكُونُ مُضْمَرًا نَحْوَ: {أَوْ إِطْعَامٌ} (الْبَلَدِ: 14). ثَالِثُهَا: إِذَا لَاقَى الْفَاعِلُ سَاكِنًا مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى، كَقَوْلِكَ لِلْجَمَاعَةِ: اضْرِبُ الْقَوْمَ، وَلِلْمُخَاطَبَةِ: اضْرِبِ الْقَوْمَ. وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ حَذْفَهُ مُطْلَقًا إِذَا مَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} (الْقِيَامَةِ: 26) أَيْ: بَلَغَتِ الرُّوحُ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) أَيْ: الشَّمْسُ. {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} (الصَّافَّاتِ: 177) يَعْنِي الْعَذَابَ؛ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} (الصَّافَّاتِ: 176). {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} (النَّمْلِ: 36) تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُضْمَرٌ لَا مَحْذُوفٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. أَمَّا حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَلَهُ أَسْبَابٌ: مِنْهَا: الْعِلْمُ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الْأَنْبِيَاءِ: 37) {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النِّسَاءِ: 28) وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ إِنَّمَا هُوَ الْإِعْلَامُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَلَا غَرَضَ فِي إِبَانَةِ الْفَاعِلِ مَنْ هُوَ. وَمِنْهَا تَعْظِيمُهُ، كَقَوْلِهِ: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (يُوسُفَ: 41) إِذْ كَانَ الَّذِي قَضَاهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَقَوْلِهِ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هُودٍ: 44). وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (الْبَقَرَةِ: 4) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ ": هَذَا أَدَلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمُنَزَّلِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ " أَنْزَلَ " مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَمَا تَقُولُ: الْمَلِكُ أَمَرَ بِكَذَا، وَرَسَمَ بِكَذَا؛ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هُودٍ: 44) قَالَ: كَأَنَّ طَيَّ ذِكْرِ الْفَاعِلِ كَالْوَاجِبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ الْفَاعِلُ وَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ، كَانَ ذِكْرُهُ فَضْلًا وَلَغْوًا. وَالثَّانِي: الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ مِنْهُ، غَيْرُ مُشَارِكٍ وَلَا مُدَافِعٍ عَنِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ وَالتَّفَرُّدِ بِإِيجَادِهِ. وَأَيْضًا فَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصِيرِ أَنَّ اسْمَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُصَانَ وَيُرْتَفَعُ بِهِ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَوْلَا أَنِّي مَأْذُونٌ لِي فِي ذِكْرِ اسْمِهِ لَرَبَأْتُ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَمِنْهَا مُنَاسَبَةُ الْفَوَاصِلِ، نَحْوَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (اللَّيْلِ: 19) وَلَمْ يَقُلْ: " يَجْزِيهَا ". وَمِنْهَا مُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَهُ؛ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (التَّوْبَةِ: 87)؛ لِأَنَّ قَبْلَهَا: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (التَّوْبَةِ: 86) عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ؛ فَجَاءَ قَوْلُهُ: {وَطُبِعَ} (التَّوْبَةِ: 87) لِيُنَاسِبَ بِالْخِتَامِ الْمَطْلَعَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (التَّوْبَةِ: 93) فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي الْبِنَاءَ؛ فَجَاءَتْ عَلَى الْأَصْلِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ كَثِيرٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ زُهَاءَ أَلْفِ مَوْضِعٍ، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَلَا يَقِيسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَجَازٌ. انْتَهَى. وَشَرَطَ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ " مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ " لِجَوَازِهِ وُجُودَ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ، نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أَيْ: أَهْلَهَا، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ نَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ يَكُونُ لَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " الْكَشَّافِ الْقَدِيمِ ": لَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَلَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ وَفِي غَيْرِ مُلْبِسٍ، كَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يُوسُفَ: 82) {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الْفَجْرِ: 22) وَضُعِّفَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النِّسَاءِ: 142) أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. فَإِنْ قُلْتَ: كَمَا لَا يَجُوزُ مَجِيئُهُ لَا يَجُوزُ خِدَاعُهُ؛ فَحِينَ جَرَّكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ امْتِنَاعُ مَجِيئِهِ، فَهَلَّا جَرَّكَ إِلَى مِثْلِهِ امْتِنَاعُ خِدَاعِهِ. قُلْتُ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ تَصَوُّرُ خِدَاعِهِ؛ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مُلْبِسًا، فَلَا يُقَدَّرُ. انْتَهَى. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الْأَحْزَابِ: 21) أَيْ: رَحْمَةَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} (النَّحْلِ: 50) أَيْ: عَذَابُ رَبِّهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُضَافَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الْإِسْرَاءِ: 57). {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 96) أَيْ: سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيْ: شَعْرُ الرَّأْسِ. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (الْإِسْرَاءِ: 110) أَيْ: بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكَ، وَلَا تُخَافِتْ بِقِرَاءَتِهَا. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 177) أَيْ: بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} (طه: 11) أَيْ: نَاحِيَتَهَا، وَالْجِهَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا. {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 72) أَيْ: هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ؛ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} (فَاطِرٍ: 14). {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} (يُونُسَ: 83) أَيْ: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (الْإِسْرَاءِ: 75) أَيْ: ضَعَّفَ عَذَابَهُمَا {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} (الْبَقَرَةِ: 171) أَيْ: وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَنَاعِقِ الْأَنْعَامِ. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الْأَحْزَابِ: 6) أَيْ: مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 82) أَيْ: شُكْرَ رِزْقِكُمْ، وَقِيلَ: تَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} (آلِ عِمْرَانَ: 194) أَيْ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 27)، أَيْ: ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ، كَالْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُوَكَّلِ وَالشَّرِيكِ، وَمَنْ يَدُكَ فِي مَالِهِ أَمَانَةً لَا يَدَ ضَمَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا حَذْفَ فِيهِ؛ لِأَنَّ خُنْتَ مِنْ بَابِ أَعْطَيْتَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيُقْتَصَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (هُودٍ: 84) أَيْ: أَهْلُ مَدْيَنَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} (الْقَصَصِ: 45). {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} (يُوسُفَ: 82)، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَأَهْلَ الْعِيرِ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُ الْأَبْنِيَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ نَبِيٌّ صَاحِبُ مُعْجِزَةٍ. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (الْبَقَرَةِ: 197) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ. {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} (الْفَجْرِ: 22) أَيْ: أَمْرُ رَبِّكَ. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 93) أَيْ: حُبَّ الْعِجْلِ، قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ فِي ذِكْرِ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ صَارَ صُورَةُ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا تَمَّحِي. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ} (الْفَجْرِ: 6- 7) فَإِرَمُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، إِلَّا أَنَّهُ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، أَمَّا لِلْعَلَمِيَّةِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِقَوْلِهِ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} (الْفَجْرِ: 7). وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 102) أَيْ: بِسُؤَالِهَا؛ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَقُدِّرَتْ بِالْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَمْ يَكْفُرُوا بِالسُّؤَالِ، إِنَّمَا كَفَرُوا بِرَبِّهِمُ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ نُسِبَ الْكُفْرُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ لِقُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ كِنَايَةٌ عَمَّا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى وَقَوْمُ عِيسَى مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ كَفَرُوا، فَمَعْنَى السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الِاسْتِفْهَامُ، وَمَعْنَى الثَّالِثِ طَلَبُ الشَّيْءِ. وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (الْمَائِدَةِ: 3) أَيْ: تَنَاوُلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَجْرَامِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ تَنَاوُلِهَا فَلَا حَذْفَ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ حَذْفٌ لَمْ يُؤَنِّثِ الْفِعْلَ، وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ دَلَالَةٌ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْإِفْرَادِيَّةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ التَّنَاوُلُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ مَحَالِّ الْحَذْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 9) فَهَاهُنَا إِضْمَارٌ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا جَعَلْتُهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ " لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ. وَقَوْلُهُ: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} (الْأَنْعَامِ: 91) أَيْ: ذَا قَرَاطِيسَ، أَوْ مَكْتُوبًا فِي قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا أَيْ: تُبْدُونَ مَكْتُوبَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (الْأَنْعَامِ: 91) لَيْسَ الْمَعْنَى تُخْفُونَهَا إِخْفَاءً كَثِيرًا، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ تُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْ إِنْكَارِ ذِي الْقَرَاطِيسِ، أَيْ: يَكْتُمُونَهُ فَلَا يُظْهِرُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} (الْبَقَرَةِ: 159). وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} (الْمَائِدَةِ: 15). وَقَوْلُهُ: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرَّعْدِ: 17) أَيْ: بِقَدْرِ مِيَاهِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يُوسُفَ: 24) أَيْ: هَمَّ بِدَفْعِهَا، أَيْ: عَنْ نَفْسِهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بِتَنْزِيهِ يُوسُفَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} (يُوسُفَ: 24).
تنبيه: اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَافَ إِذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ؛ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ؛ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعَ اطِّرَاحِهِ يَصِيرُ الْحُكْمُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ لِلْقَائِمِ مَقَامَهُ. فَمِثَالُ اسْتِهْلَاكِ حُكْمِهِ وَتَنَاسِي أَمْرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يُوسُفَ: 82) إِذْ لَوْ رَاعَى الْمَحْذُوفَ لَجَرَّ الْقَرْيَةَ وَجَوَّزُوا أَيْضًا مُرَاعَاةَ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} (النُّورِ: 40) فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي {يَغْشَاهُ} عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِتَقْدِيرِ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ. وَقَوْلِهِ: {أَوْ كَصَيِّبٍ} (الْبَقَرَةِ: 19) أَيْ: كَمِثْلِ ذَوِي صَيِّبٍ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مَجْمُوعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 19) وَلَوْ لَمْ يُرَاعَ لَأَفْرَدَهُ أَيْضًا. وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} (الشُّعَرَاءِ: 105)، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحُذِفَتِ التَّاءُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُذَكَّرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ بِالْيَاءِ، أَيْ: مَاءٌ بَرَدَى، وَلَوْ رَاعَى الْمَذْكُورَ لَأَتَى بِالتَّاءِ. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُرَاعَاةُ التَّأْنِيثِ وَالْمَحْذُوفِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الْأَعْرَافِ: 4) أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي {أَهْلَكْنَاهَا} وَ{فَجَاءَهَا}؛ لِإِعَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْيَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ حَمْلًا عَلَى " أَهْلِهَا " الْمَحْذُوفِ. وَفِي تَأْوِيلِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ صَارَتِ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الثَّانِي حَذْفُ الْمُضَافِ، كَمَا قُدِّرَ فِي الْأَوَّلِ، فَإِذَا قُلْتَ: سَأَلْتُ الْقَرْيَةَ وَضَرَبْتُهَا، فَمَعْنَاهُ: وَضَرَبْتُ أَهْلَهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ؛ إِذْ وَجْهُ الْجَوَازِ قَائِمٌ. وَقِيلَ: هُنَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا وَبَيَاتًا حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: مُبَيِّتِينَ وَ{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (الْأَعْرَافِ: 4) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ. وَأَنْكَرَ الشَّلُوبِينُ مُرَاعَاةَ الْمَحْذُوفِ، وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَنَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمَاعَةٌ وَلِهَذَا يُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْجَمْعِ، نَحْوَ: هِيَ الرِّجَالُ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عِنْدَهُمْ مُؤَنَّثٌ، وَأَسْمَاءُ الْجُمُوعِ تَجْرِي مَجْرَاهَا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ التَّأْنِيثُ، لَا عَلَى الْحَذْفِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَيْتِ. وَفِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةِ) (الْأَنْفَالِ: 67) قَدَّرُوهُ " عَرَضَ الْآخِرَةِ " وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ: " ثَوَابَ الْآخِرَةِ "؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الثَّوَابِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا؛ كَقَوْلِهِ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 33). وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (الْبَقَرَةِ: 253). وَكَذَا كُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ، مِمَّا وَجَبَتْ إِضَافَتُهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الرُّومِ: 4) أَيْ: مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ يُضَافُ الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ؛ فَيُحْذَفُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَيَبْقَى الثَّالِثُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} (الْوَاقِعَةِ: 82) أَيْ: بَدَلَ شُكْرِ رِزْقِكُمْ. وَقَوْلِهِ: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الْأَحْزَابِ: 19) أَيْ: كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَتِ الثَّانِيَةُ " كَالَّذِي " حَالًا مِنَ الْهَاءِ، وَالْمِيمِ فِي أَعْيُنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ بَعْضٌ فَلَا تَقْدِيرَ. وَقَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (الْبَقَرَةِ: 175) وَقَدَّرَهُ أَبُو الْفَتْحِ فِي " الْمُحْتَسَبِ " عَلَى أَفْعَالِ أَهْلِ النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنَ الْمَوْتِ} (الْأَحْزَابِ: 19) فَالتَّقْدِيرُ: مِنْ مُدَانَاةِ الْمَوْتِ أَوْ مُقَارَبَتِهِ، وَلَا يُنْكِرُ عُسْرَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَوْفِهِ وَلَكِنْ إِذَا دُفِعَ إِلَى أَمْرٍ يُقَارِبُهُ أَوْ يُشَارِفُهُ. وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (مُحَمَّدٍ: 20). وَقَوْلُهُ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (طه: 96) أَيْ: مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ. وَقَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (الْحَشْرِ: 7) أَيْ: مِنْ أَمْوَالِ كُفَّارِ أَهْلِ الْقُرَى. وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الْحَجِّ: 32) أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ...} (الْبَقَرَةِ: 19) الْآيَةَ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ، أَمَّا حَذْفُ الْمُضَافِ فَلِقَرِينَةِ عَطْفِهِ عَلَى {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17) وَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَلِدَلَالَةِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عَلَيْهِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا، وَإِنَّمَا صُيِّرَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَصِفَةِ ذَوِي الصَّيِّبِ لَا بَيْنَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَذَوِي الصَّيِّبِ.
حَذْفُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} (التَّوْبَةِ: 102) أَيْ: بِسَيِّئٍ {وَآخَرَ سَيِّئًا} (التَّوْبَةِ: 102) أَيْ: بِصَالِحٍ. وَكَذَا بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (الْعَنْكَبُوتِ: 45)، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه: 7) أَيْ: مِنَ السِّرِّ، وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي " الْمُفَصَّلِ " يَقْتَضِي أَنَّهُ مِمَّا قُطِعَ فِيهِ عَنْ مُتَعَلِّقَهِ قَصْدًا لِنَفْيِ الزِّيَادَةِ، نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي لِيَكُونَ كَالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي. إِذَا جُعِلَ قَاصِرًا لِلْمُبَالَغَةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مِنَ الْحَذْفِ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ وَهُمْ فِيهَا شُرَكَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ مُطْلَقًا لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهَا إِطْلَاقًا، ثُمَّ يُضَافُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ؛ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ كَمَا يُضَافُ مَا لَا تَفْضِيلَ فِيهِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: عَادِلًا. انْتَهَى.
حَذْفُ الْمَوْصُوفِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الصِّفَةِ خَاصَّةً بِالْمَوْصُوفِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ؛ فَمَتَى كَانْتِ الصِّفَةُ عَامَّةً امْتَنَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي آخِرِ بَابِ تَرْجَمَةِ " هَذَا بَابُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ " وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَرِسْطَاطَالِيسُ فِي كِتَابِهِ " الْخَطَابَةُ ". الثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ السِّيَاقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 115) {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (الْبَقَرَةِ: 95) فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي سِيَاقِ الْقَوْلِ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ الْقَوْلِ مِنَ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ بِهَا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} (الصَّافَّاتِ: 48) أَيْ: حُورٌ قَاصِرَاتٌ. وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} (الْإِنْسَانِ: 14) أَيْ: وَجَنَّةٌ دَانِيَةٌ. وَقَوْلِهِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سَبَأٍ: 13)، أَيْ: الْعَبْدُ الشَّكُورُ. وَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (الْبَقَرَةِ: 2) أَيْ: الْقَوْمِ الْمُتَّقِينَ. وَقَوْلِهِ: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (الْقَمَرِ: 13)، أَيْ: سَفِينَةٌ ذَاتُ أَلْوَاحٍ. وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (الْبَيِّنَةِ: 5)، أَيِ: الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ. وَقَوْلِهِ: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} (سَبَأٍ: 11) أَيْ: دُرُوعًا سَابِغَاتٍ. وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} (الزُّخْرُفِ: 49)، أَيْ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ السَّاحِرُ. وَقَوْلِهِ: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النُّورِ: 31)، أَيِ: الْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَوْلِهِ: {وَعَمِلَ صَالِحًا} (الْقَصَصِ: 67) أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا.
حَذْفُ الصِّفَةِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ فِي النَّكِرَاتِ، وَكَأَنَّ التَّنْكِيرَ حِينَئِذٍ عَلَمٌ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (الْكَهْفِ: 105)، أَيْ: وَزْنًا نَافِعًا. وَقَوْلِهِ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قُرَيْشٍ: 4) أَيْ: مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ، وَخَوْفٍ عَظِيمٍ. وَقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} (الْمَائِدَةِ: 68) أَيْ: شَيْءٍ نَافِعٍ. وَقَوْلِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} (الذَّارِيَاتِ: 42)، أَيْ: سُلِّطَتْ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (النِّسَاءِ: 79) أَيْ: جَامِعًا لِأُكَمِّلَ كُلَّ صِفَاتِ الرُّسُلِ. وَقَوْلِهِ: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الْكَهْفِ: 79) أَيْ: صَالِحَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ بَحْثٌ؛ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْإِضْمَارَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَوْلِهِ: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (ص: 51) أَيْ: كَثِيرٍ؛ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ. وَيَجِيءُ فِي الْعُرْفِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} (الْبَقَرَةِ: 71) أَيِ: الْمُبِينِ. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 173) أَيِ: النَّاسُ الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (هُودٍ: 46) أَيِ: النَّاجِينَ. وَقَوْلِهِ: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} (الْأَنْعَامِ: 66)، أَيْ: قَوْمُكَ الْمُعَانِدُونَ. وَمِنْهُ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أَيْ: مِنْ أُولِي الضَّرَرِ، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ. قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ إِشْكَالُ التَّكْرَارِ مِنَ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} (يُونُسَ: 16)، أَيْ: لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ شَيْئًا، فَحُذِفَتِ الصِّفَةُ أَوِ الْحَالُ، قِيلَ: وَالْعُمْرُ هُنَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
حَذْفُ الْمَعْطُوفِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} (الْأَعْرَافِ: 185)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} (يُوسُفَ: 109)، {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} (يُونُسَ: 51)، التَّقْدِيرُ: أَعَمُوا! أَمَكَثُوا! أَكَفَرْتُمْ. وَقَوْلُهُ: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} (النَّمْلِ: 49)، أَيْ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} (النَّمْلِ: 49)، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} كَذِبٌ فِي الْإِخْبَارِ، وَأَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ سِرًّا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ أَحَدٌ، وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَهُمْ كَاذِبُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ أَيْ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَهُ وَمَهْلِكَ أَهْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَصْلُهُ: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِكَ بِالْخِطَابِ؛ ثُمَّ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ فَلَا حَذْفَ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَعْطُوفُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (الْحَدِيدِ: 10). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الْإِسْرَاءِ: 16) أَيْ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا، فَخَالَفُوا الْأَمْرَ، فَفَسَقُوا. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْفِسْقُ مَأْمُورًا بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} (الْإِسْرَاءِ: 16) صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ لَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا} التَّقْدِيرُ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنَّ نُهْلِكَ قَرْيَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّا أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا؛ وَيَكُونُ " إِذَا " عَلَى هَذَا لَمْ يَأْتِ لَهَا جَوَابٌ ظَاهِرٌ اسْتِغْنَاءً بِالسِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزُّمَرِ: 73).
حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 91) أَيْ: لَوْ مَلَكَهُ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ. وَيَجُوزُ حَذْفُهُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (الْبَقَرَةِ: 184) أَيْ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ. وَقَوْلِهِ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} (الشُّعَرَاءِ: 63)، التَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ، فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ " ضَرَبَ " وَحَرْفُ الْعَطْفِ وَهُوَ الْفَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِـ " انْفَلَقَ " فَصَارَ: {فَانْفَلَقَ} فَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى " انْفَلَقَ " هِيَ الْفَاءُ الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِـ{ضَرَبَ} وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ بِـ " انْفَلَقَ " فَمَحْذُوفَةٌ. كَذَا زَعْمُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَالْأَبَّذِيِّ، قَالُوا: وَالَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ إِنَّمَا نُوِيَ بِهِ مُشَارَكَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي، فَإِذَا حُذِفَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ الْمَعْطُوفِ أَوِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَلَّا يُؤْتَى بِهِ لِيَزُولَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَذْفِ بَلْ مِنْ إِقَامَةِ الْمَعْطُوفِ مَقَامَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَيُقَامُ السَّبَبُ كَثِيرًا مَقَامَ مُسَبِّبِهِ، وَلَيْسَ مَا بَعْدَهَا مَعْطُوفًا عَلَى الْجَوَابِ؛ بَلْ صَارَ هُوَ الْجَوَابُ بِدَلِيلِ: {فَانْبَجَسَتْ} هُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ.
حَذْفُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (النَّحْلِ: 116).
حَذْفُ الْمَوْصُولِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (الْعَنْكَبُوتِ: 46)، أَيْ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ " الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا " لَيْسَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ أُعِيدَتْ " مَا " بَعْدَ " مَا " فِي قَوْلِهِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} (الْبَقَرَةِ: 136) وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النِّسَاءِ: 136). وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرَّعْدِ: 10). وَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (الصَّافَّاتِ: 164)، أَيْ: مَنْ لَهُ. وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ لِجَوَابِ الْحَذْفِ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْصُولٍ آخَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: وَلَا يُحْذَفُ مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ إِلَّا " أَنْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} (الرُّومِ: 24).
حَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي بَابِ نِعْمَ إِذَا عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الْعَبْدُ أَيُّوبُ، أَوْ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي ذِكْرِ أَيُّوبَ، فَإِنْ قَدَّرْتَ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ، لَمْ يَكُنْ هُوَ عَائِدًا عَلَى الْعَبْدِ بَلْ عَلَى أَيُّوبَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} (ص: 30) فَسُلَيْمَانُ هُوَ الْمَخْصُوصُ الْمَمْدُوحُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكَرَّرْ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَنْصُوبًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 23) أَيْ: نَحْنُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (النَّحْلِ: 30) أَيِ: الْجَنَّةُ أَوْ دَارُهُمْ. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرَّعْدِ: 24)، أَيْ: عُقْبَاهُمْ. {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 135)، أَيْ: أَجْرُهُمْ. وَقَالَ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الْحَجِّ: 13)، أَيْ: مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 93) أَيْ: إِيمَانُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَكُفْرُكُمْ بِمَا وَرَاءَهُ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ وَالْمَخْصُوصُ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبِهَا وَنِعْمَتْ أَيْ: نِعْمَتِ الرُّخْصَةُ.
حَذْفُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: أَحَدُهَا: الصِّلَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}. الثَّانِي: الصِّفَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (الْبَقَرَةِ: 48)، أَيْ: فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 281)، وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْأُولَى؛ لِأَنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُهَا، فَالتَّقْدِيرُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 48) فِيهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُذِفَتْ عَلَى التَّدْرِيجِ؛ أَيْ: حُذِفَ الْعَطْفُ، فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فَحُذِفَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَا مَعًا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَقِيلَ: عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ. وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} أَيْ: مِنْهُ، وَقَوْلَهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غَافِرٍ: 18)، أَيْ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ {يُغْنِي} جُمْلَةٌ قَدْ أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الزَّمَانِ، وَلَيْسَتْ صِفَةً. وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ ضَمِيرٍ إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِنْ قُلْتَ: أَعْجَبَنِي يَوْمٌ قُمْتُ فِيهِ امْتَنَعَتِ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ، وَلَا يُضَافُ مَوْصُوفٌ إِلَى صِفَتِهِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} (غَافِرٍ: 18) صِفَةٌ لِيَوْمٍ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الْأَزْمِنَةُ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَقَعُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْهُ، ثُمَّ حُذِفَ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِـ " فِي " كَمَا يُحْذَفُ مِنَ الصِّفَةِ.
تنبيه: قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: أَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْحَذْفِ الصِّلَةُ، لِطُولِ الْكَلَامِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ؛ نَحْوَ: جَاءَ الَّذِي ضَرَبْتُ؛ وَهُوَ: الْمَوْصُولُ، وَالْفِعْلُ، وَالْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ، ثُمَّ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالصِّفَةِ لِلتَّوْضِيحِ، ثُمَّ الْخَبَرِ؛ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ التَّفَاوُتِ أَنَّ الصِّفَةَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصِلَتَهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا؛ وَالصِّفَةُ دُونَهَا فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَكْثُرُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَالْخَبَرُ دُونَ ذَلِكَ، فَكَانَ الْحَذْفُ آكَدَ فِي الصِّلَةِ مِنَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى الْحَذْفِ: الصِّفَةُ تَسْتَدْعِي مَوْصُوفًا، وَالْعَامِلُ يَسْتَدْعِيهِ أَيْضًا. وَيَسْتَحْسِنُ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْحَالِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ.
حَذْفُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَنْوَاعِ حَذْفِ الِاسْمِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مَعَ الْحَذْفِ، فَيُنْوَى لِدَلِيلٍ، وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (الْبُرُوجِ: 16)، أَيْ: يُرِيدُهُ. {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} (النَّجْمِ: 54) أَيْ: غَشَّاهَا إِيَّاهُ. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (الرَّعْدِ: 26). {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (هُودٍ: 43). {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (النَّمْلِ: 59). {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الْقَصَصِ: 62). وَكُلُّ هَذَا عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُرَادٌ، حُذِفَ تَخْفِيفًا لِطُولِ الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ لَخَلَتِ الصِّلَةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ لَهُ وَاقْتِضَاءُ الصِّلَةِ إِذَا كَانَ الْعَائِدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ) (يس: 35) فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِغَيْرِ هَا، أَيْ: مَا عَمِلَتْهُ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، فَـ " مَا " فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِلْعَطْفِ عَلَى {ثَمَرِهِ}. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " نَافِيَةً، وَالْمَعْنَى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ؛ فَيَكُونُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 63- 64) وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْهَاءُ مُرَادَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُولَةٍ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 33) وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرِبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَالْغَرَضُ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ أُمُورٌ: مِنْهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ؛ وَالْقَرَائِنُ إِمَّا حَالِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (الْأَعْرَافِ: 143) لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَرِنِي ذَاتَكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَابَ الْمُوَاجَهَةَ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَرَاهُ الشَّوْقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ لِيَأْتِيَ بِهِ مَعَ الْأَصْرَحِ؛ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ هَذَا الْمَطْلُوبُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ إِجْلَالًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} (الْقَصَصِ: 27) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ حُذِفَ مَفْعُولُهُ؛ أَيْ: تَأْجُرُنِي نَفْسَكَ. وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (الْقَصَصِ: 23) فَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ {يُصْدِرَ} فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 198) أَيْ: أَنْفُسُكُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (السَّجْدَةِ: 14)، أَيْ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} (إِبْرَاهِيمَ: 37) أَيْ: نَاسًا أَوْ فَرِيقًا. وَقَوْلُهُ: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} (الْبَقَرَةِ: 61) أَيْ: شَيْئًا. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} (إِبْرَاهِيمَ: 48) أَيْ: غَيْرَ السَّمَاوَاتِ، وَقَوْلُهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (الْإِسْرَاءِ: 110) عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ؛ أَيْ: سَمُّوهُ اللَّهَ، أَوْ سَمُّوهُ الرَّحْمَنَ، أَيًّا مَا تُسَمُّوهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ لَزِمَ الشِّرْكُ إِنْ كَانَ مُسَمَّى اللَّهِ غَيْرَ مُسَمَّى الرَّحْمَنِ، وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ كَانَ عَيْنُهُ. وَمِنْهَا قَصْدُ الِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (الْمُجَادَلَةِ: 21) أَيِ: الْكُفَّارَ وَمِنْهَا قَصْدُ التَّعْمِيمِ؛ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يُونُسَ: 101) وَكَذَا {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (الْأَعْرَافِ: 72) وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِي الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ؛ نَحْوَ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 102). وَ{لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 58). {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} (الْقَصَصِ: 71). {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الْقَصَصِ: 72). {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (الْبَقَرَةِ: 77). {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (الْبَقَرَةِ: 14). {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 22). وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِفَاعِلٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِغَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يُونُسَ: 25) أَيْ: كُلُّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَامَّةٌ وَالْهِدَايَةَ خَاصَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 3) فَكَالَ وَوَزَنَ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِاللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَالُوا وَوَزَنُوا لَهُمْ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ " هُمْ " مَنْصُوبًا فِي الْمَوْضِعِ بَعْدَ اللَّامِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي " أَمَالِيهِ " قَالَ: وَأَخْطَأَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ " هُمْ " ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ أُكِّدَتْ بِهِ الْوَاوُ كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِكَ: " خَرَجُوا هُمْ " فَـ " هُمْ " عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَفِّفِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: عَدَمُ ثُبُوتِ الْأَلِفِ بَعْدِ الْوَاوِ فِي " كَالُوهُمْ " وَ " وَزَنُوهُمْ " وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَأَثْبَتُوهَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا أَثْبَتُوهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 243) {قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} (الْبَقَرَةِ: 246) وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ " النَّاسِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ؛ فَالْمَعْنَى {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 2) وَإِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ يُخْسِرُونَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (الْبَقَرَةِ: 185) أَيْ: فِي الْمِصْرِ، وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الشَّهْرَ ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ. وَمِنْهَا تَقَدُّمُ مِثْلِهِ فِي اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرَّعْدِ: 39) أَيْ: وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. فَلَمَّا كَانَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِلَفْظِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الصِّلَةِ جَازَ حَذْفُهُ؛ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ} (الْمُؤْمِنُونَ: 96). وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} (إِبْرَاهِيمَ: 48) أَيْ: غَيْرَ السَّمَاوَاتِ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (الْحَدِيدِ: 10) أَيْ: وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ؛ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 179) أَيْ: أَبْصِرْهُمْ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَبْصِرْهُمْ} (الصَّافَّاتِ: 175) وَسَبَقَ عَنِ ابْنِ ظَفَرٍ السِّرُّ فِي ذِكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَوَّلِ، وَحَذْفُهُ فِي الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّ الْأُولَى اقْتَضَتْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ قِيلَ: {أَبْصِرْهُمْ}. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَاقْتَرَنَ بِهَا مَعَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ تَأْمِينُهُمْ وَالدُّعَاءُ إِلَى إِيمَانِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلتَّشَفِّي بَلْ لِلْبُرُوزِ؛ فَقِيلَ لَهُ: (أَبْصِرْ) وَالْمَعْنَى فَسَيُبْصِرُونَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} (الْأَعْرَافِ: 44) أَيْ: وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ؛ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} (الْأَعْرَافِ: 44) قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: أَطْلَقَ ذَلِكَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ أَجْمَعَ، وَلِأَنَّ الْمَوْعُودَ كُلَّهُ مِمَّا سَاءَهُمْ، وَمَا نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا عَذَابٌ لَهُمْ، فَأَطْلَقَ لِذَلِكَ لِيَكُونَ مِنَ الضَّرْبِ الْآتِي. وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ} (الزُّمَرِ: 22). وَمِنْهَا رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ نَحْوَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 1- 3) أَيْ: مَا قَلَاكَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ؛ لِأَنَّ فَوَاصِلَ الْآيِ عَلَى الْأَلِفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ؛ أَيْ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ كَمَنْ أَقْسَى قَلْبَهُ؟! فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ} (الزُّمَرِ: 22). وَمِنْهَا الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 20). {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الْأَنْعَامِ: 3- 5). {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النَّحْلِ: 9). {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشُّورَى: 24). {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} (الْأَنْعَامِ: 39). {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السَّجْدَةِ: 13). التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَفَعَلَ. وَشَرَطَ ابْنُ النَّحْوِيَّةِ فِي حَذْفِهِ دُخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ؛ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشُّورَى: 24). وَ{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الْأَنْفَالِ: 31). {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الْأَنْعَامِ: 39). وَالْحِكْمَةُ فِي كَثْرَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَثِيلَةَ الْجَوَابِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ كَالْمَشِيئَةِ فِي جَوَازِ اطِّرَادِ حَذْفِ مَفْعُولِهَا؛ صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَالتَّنُوخِيُّ فِي " الْأَقْصَى " كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصَّفِّ: 8) وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ افْتَرَوُا الْكَذِبٍ؛ وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ إِطْفَاءُ نُورِ اللَّهِ، فَلَوْ ذُكِرَ أَيْضًا لَكَانَ كَالْمُتَكَرِّرِ؛ فَحُذِفَ وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصَّفِّ: 8) وَكَانَ فِي الْحَذْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْغَرِيبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَهَّلَ فِي تَقْدِيرِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السَّجْدَةِ: 13) فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: وَلَوْ شِئْنَا أَنْ نُؤْتِيَ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا لَآتَيْنَاهَا، لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ هَذَا الْمَفْعُولَ أَدَّى- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ؛ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ " لَوْ " أَنْ يَكُونَ الْإِثْبَاتُ بَعْدَهَا نَفْيًا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ؛ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجِيءٌ وَلَا إِعْطَاءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 176) فَقَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ: فَلَمْ نَشَأْ فَلَمْ نَرْفَعْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ " فَلَمْ نَرْفَعْهُ فَلَمْ نَشَأْ " لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يُوجِبُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ، فَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الرَّفْعِ، وَمَنْ نَفَى الرَّفْعَ نَفَى الْمَشِيئَةَ، وَأَمَّا نَفْيُ الْمَلْزُومِ فَلَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ، وَلَا وُجُودُ اللَّازِمِ وُجُودَ الْمَلْزُومِ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22) فَإِنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاءُ وُجُودِ الْآلِهَةِ؛ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْفَسَادُ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوَّلَ شَرْطًا لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا " لَوْ " مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ، وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُسَاوِيًا لِلْمَشْرُوطِ؛ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ تَعْلِيلُ عَدَمِ الرَّفْعِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ لَا الْعَكْسُ. وَأَوْضَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الْأَعْرَافِ: 96) جَعَلَ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ؛ لِأَنَّ " كَذَّبُوا " مَلْزُومُ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَأَخَذَهُمْ بِذَلِكَ مَلْزُومُ عَدَمِ فَتْحِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهِمْ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ} لِلسَّبَبِيَّةِ، وَجَعَلَ التَّكْذِيبَ سَبَبًا لِأَخْذِهِمْ بِكُفْرِهِمْ؛ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَادِّ، وَوُقُوعِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً مَعَ أَنَّهَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ نَاطِقٌ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْقَاعِدَةِ.
تَنْبِيهَانِ: التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ: أَحَدُهَا: مَا إِذَا كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا فَإِنَّهُ لَا يُحْذَفُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ...} الْآيَةَ، أَرَادَ رَدَّ قَوْلِ الْكُفَّارِ: " اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " بِمَا يُطَابِقُهُ فِي اللَّفْظِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ فَقَالَ: " لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاصْطَفَى " لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ؛ لَأَنَّ الِاصْطِفَاءَ قَدْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى التَّبَنِّي، وَلَوْ قَالَ: " لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاتَّخَذَ وَلَدًا " لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا فِي إِظْهَارِهِ مِنْ تَعْظِيمِ جُرْمِ قَائِلِهِ. وَمَثَّلَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَلَبِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الْقَوْلِ الْوَجِيزِ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الْأَنْفَالِ: 31)، وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشُّورَى: 24) وَ{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الْأَنْعَامِ: 39) وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ. قُلْتُ: يَجِيءُ الذِّكْرُ فِي مَفْعُولِ الْإِرَادَةِ أَيْضًا؛ إِذَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} (الْأَنْبِيَاءِ: 17). الثَّانِي: إِذَا احْتِيجَ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ كَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} فَإِنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَبْقَ لِلضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى مَعْمُولِ مَعْمُولِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْكِرًا لِذَلِكَ أَوْ كَالْمُنْكِرِ، فَيَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ أَرَادَ وَشَاءَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانِ فِي بَابِ عَوَامِلِ الْجَزْمِ مِنْ شَرْحِ " التَّسْهِيلِ " هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَقَالَ: غَلِطَ الْبَيَانِيُّونَ فِي دَعْوَاهُمْ لُزُومَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ؛ إِلَّا فِيمَا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَبًا، وَفِي الْقُرْآنِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التَّكْوِيرِ: 28)، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 37)، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَفْعُولَ هَاهُنَا عَظِيمٌ؛ فَلِهَذَا صُرِّحَ بِهِ فَلَا غَلَطَ عَلَى الْقَوْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} (الْبَقَرَةِ: 26) فَإِذَا جَعَلْتَ " مَاذَا " بِمَعْنَى " الَّذِي " فَمَفْعُولُ " أَرَادَ " مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَعَلْتَ " ذَا " وَحْدَهُ بِمَعْنَى " الَّذِي " فَيَكُونُ مَفْعُولُ " أَرَادَ " مَحْذُوفًا؛ وَهُوَ ضَمِيرُ " ذَا "، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " مَثَلًا " مَفْعُولَ " أَرَادَ "؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَعْمُولَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ. فَصْلٌ: وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ أَشْيَاءَ غَيْرُ مَا سَبَقَ؛ مِنْهَا الصَّبْرُ، نَحْوَ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} (الطُّورِ: 16)، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 200). وَقَدْ يُذْكَرُ نَحْوَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (الْكَهْفِ: 38) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: قَوْلُهُمْ: " صَبَرَ عَنْ كَذَا " مَحْذُوفٌ مِنْهُ الْمَفْعُولُ؛ وَهُوَ النَّفْسُ. وَمِنْهَا مَفْعُولُ " رَأَى "، كَقَوْلِهِ: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} (النَّجْمِ: 35). قَالَ الْفَارِسِيُّ: الْوَجْهُ أَنَّ " يَرَى " هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولَيْنِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْغَائِبِ لَا تَكُونُ إِلَّا عِلْمًا، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ} (الْجِنِّ: 26)، وَذِكْرُهُ الْعِلْمَ قَالَ: وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَهُوَ يَرَى الْغَائِبَ حَاضِرًا " أَوْ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 22) أَيْ: تَزْعُمُونَهُمْ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: هُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى دَالٌّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ؛ أَيْ: فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَعْتَقِدُهُ حَقًّا وَصَوَابًا، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْآيَةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ. وَمِنْهَا " وَعَدَ " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (طه: 80) فَـ " جَانِبَ " مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاعَدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 9). {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 7) فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي؛ وَ " أَنَّهَا لَكُمْ " بَدَلٌ مِنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ ثَبَاتَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ مِلْكَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (النُّورِ: 55) فَلَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ فِيهَا إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ، {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النِّسَاءِ: 11) فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَبْيِينٌ لِلْوَصِيَّةِ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} (طه: 86)، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (إِبْرَاهِيمَ: 22)، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: انْتِصَابَ الْوَعْدِ بِالْمَصْدَرِ، وَبِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَعْدًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الْبَقَرَةِ: 51) فَمِمَّا تَعَدَّى فِيهِ " وَعَدَ " إِلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْوَعْدُ فِي جَمِيعِهِ، يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْدُودٌ؛ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَظْرُوفِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلَيْسَ الْوَعْدُ وَاقِعًا فِي " الْأَرْبَعِينَ " بَلْ وَلَا فِي بَعْضِهَا. ثُمَّ قَدَّرَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحْذُوفًا مُضَافًا إِلَى " الْأَرْبَعِينَ " وَجَعَلُوهُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، فَقَالُوا: التَّقْدِيرُ: " وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، أَوْ تَمَامَ أَرْبَعِينَ " ثُمَّ حُذِفَ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ عُدُولِهِمْ عَنْ كَوْنِ " أَرْبَعِينَ " هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ؛ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: نَفْسُ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا تُوعَدُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِ الْوَعْدِ بِابْتِدَائِهَا وَتَمَامِهَا؛ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الِانْتِهَاءِ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَيْسَ أَرْبَعِينَ ظَرْفًا؛ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَعَدَهُ فِي أَرْبَعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْوَعْدُ فِي كُلٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ. وَمِنْهَا " اتَّخَذَ " تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ أَوْ لِاثْنَيْنِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الْأَنْبِيَاءِ: 17)، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الْفُرْقَانِ: 3)، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزُّخْرُفِ: 16)، {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الْفُرْقَانِ: 27). وَمِنَ الثَّانِي: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (الْمُنَافِقُونَ: 2)، {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 1)، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} (الْمُؤْمِنُونَ: 110)، وَالثَّانِي مِنَ الْمَفْعُولَيْنِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (الْبَقَرَةِ: 51)، وَقَوْلُهُ: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (الْبَقَرَةِ: 54)، {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} (الْأَعْرَافِ: 148)، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} (الْأَعْرَافِ: 152)، فَالتَّقْدِيرُ فِي هَذَا كُلِّهِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مَنْ صَاغَ عِجْلًا أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ عَمَلَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَعْمَالِ اسْتَحَقَّ الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ؛ لِقَوْلِهِ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (الْأَعْرَافِ: 152). وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ أُولَئِكَ عَبَدُوهُ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا فِي الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ: أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ " اتَّخَذَ " فِيهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ: وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهُ: " وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا " وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي أَلَّا يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَقْصُودًا أَصْلًا؛ وَيُنَزَّلُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ؛ وَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ وُقُوعِ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَطْ؛ وَجَعْلُ الْمَحْذُوفِ نَسْيًا مَنْسِيًّا كَمَا يُنْسَى الْفَاعِلُ عِنْدَ بِنَاءِ الْفِعْلِ، فَلَا يُذْكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُقَدَّرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمُ الثُّبُوتِ عَقْلًا لِمَوْضُوعِ كُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُدْرَى تَعْيِينُهُ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ مَوْضُوعِ الْكَلَامِ مُقَدَّرًا فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 24). وَقَوْلِهِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَةِ: 60)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَكْلَ مِنْ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُقُوعَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ. وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزُّمَرِ: 9)، وَيُسَمَّى الْمَفْعُولُ حِينَئِذٍ مَمَاتًا. وَلَمَّا كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ، فَإِنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنْ تَبِعْنَاهُمْ فِي الْعِبَارَةِ؛ نَحْوَ: فُلَانٌ يُعْطِي؛ قَاصِدًا أَنَّهُ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ. وَتُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِيهَامًا لِلْمُبَالَغَةِ، بِخِلَافِ مَا يُقْصَدُ فِيهِ تَعْمِيمُ الْفِعْلِ؛ نَحْوَ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، فَإِنَّهُ أَعَمُّ تَنَاوُلًا مِنْ قَوْلِكَ: يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَيَمْنَعُهُ؛ وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 17)، وَالْآخَرُ فِي الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرُّومِ: 24). وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} (الْبَقَرَةِ: 258). وَقَوْلُهُ: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} (مَرْيَمَ: 42). وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} (الْقَصَصِ: 23) إِلَخْ... الْآيَةَ، حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُولُ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَسْقُونَ}، وَقَوْلُهُ: {تَذُودَانِ}، وَقَوْلُهُ: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ} (الْقَصَصِ: 23)، فِيمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَقَوْلُهُ: {فَسَقَى لَهُمَا} وَالتَّقْدِيرُ: " يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ وَتَذُودَانِ عَنْهُمَا وَلَا نَسْقِي عَنْهَا حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ مَوَاشِيَهُمْ فَسَقَى لَهُمَا غَنَمَهُمَا. وَقَوْلُهُ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} (الْأَعْرَافِ: 88)، قِيلَ: لَوْ ذُكِرَ الْمَفْعُولُ فِيهَا نَقَصَ الْمَعْنَى وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ؛ وَأَنَّ إِلَهَهُمْ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَدَ قَوْمًا يُعَانُونَ السَّقْيَ، وَامْرَأَتَيْنِ تُعَانِيَانِ الذَّوْدَ، وَأَخْبَرَتَاهُ أَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ السَّقْيَ؛ فَوَجَدَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا السَّقْيَ، وَوَجَدَ مِنْ أَبِيهِمَا مُكَافَأَةً عَلَى السَّقْيِ، وَهَذَا مِمَّا حُذِفَ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ سَقْيٌ وَمِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ذَوْدٌ، وَأَنَّهُمَا قَالَتَا: لَا يَكُونُ مِنَّا سَقْيٌ حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ، وَأَنَّ مُوسَى سَقَى بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا أَنَّ الْمَسْقِيَّ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ غَيْرُهُ فَخَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَذُودَانِ غَنَمَهُمَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ لَمْ يَتَوَجَّهْ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الذَّوْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدُ غَنَمٍ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَوْدُ إِبِلٍ لَمْ يُنْكِرْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا جَعَلْنَا هَذَا مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِلزَّمَخْشَرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْفِعْلُ لَا الْمَفْعُولُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَحِمَهُمَا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى الذِّيَادِ وَهُمْ عَلَى السَّقْيِ، وَلَمْ يَرْحَمْهُمَا؛ لِأَنَّ مِذْوَدَهُمَا غَنَمٌ وَمُسْقِيَهُمْ إِبِلٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمَا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} (الْقَصَصِ: 23) الْمَقْصُودُ مِنْهُ السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ. وَجَعَلَهُ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ؛ أَعْنِي مِمَّا حُذِفَ فِيهِ لِلِاخْتِصَارِ مَعَ الْإِرَادَةِ. وَالْأَقْرَبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَرَجَّحَ الْحَرِيرِيُّ قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ لَيْسَتْ سَاقِطَةً عَنِ الِاعْتِبَارِ بِالْأَصَالَةِ؛ فَإِنَّ فِيهَا ضَعْفًا عَنِ الْمُزَاحَمَةِ، وَالْمَرْأَتَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ضَعْفِ الْمَسْقِيِّ ضَعْفُ السَّاقِي كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلرَّحْمَةِ وَالْإِعَانَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (اللَّيْلِ: 5). وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النَّجْمِ: 48). وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النَّجْمِ: 43- 44). وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (النَّجْمِ: 45)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْلُقُ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ أُنْثَى، وَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا أَبْلَغَ؛ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ ثُبُوتِ الْخَلْقِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ. وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الْأَحْقَافِ: 15)؛ لِوُجُودِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ لَفْظًا، أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فِي ذُرِّيَّتِي} (الْأَحْقَافِ: 15)، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ بِهِ قَصْرُ الْإِصْلَاحِ لَهُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ؛ إِشْعَارًا بِعِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 3- 4)، أَيْ: عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْقَوْلِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشْيَاءُ: مِنْهَا الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا سَبَقَ؛ نَحْوَ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ؛ أَيْ: بِالْقِيَامِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الْإِسْرَاءِ: 16)، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِمْ وَإِقْدَارِهِمْ. وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ بِتَرْكِ التَّقْيِيدِ نَحْوَ: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (يُونُسَ: 56)، وَقَوْلِهِ: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس: 9)، وَنَفْيُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ مُتَعَلَّقًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْأَوَّلِ نَفْسُ الْفِعْلِ، وَفِي الثَّانِي مُتَعَلَّقُهُ.
تنبيه: قَدْ يُلْحَظُ الْأَمْرَانِ فَيَجُوزُ الِاعْتِبَارَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْحُجُرَاتِ: 1)، أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ مِنْهُ الْوَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} (الْحَجِّ: 78).
|