الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكًا أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم.الثاني: قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر.وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين.وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب الرعاية أنه قال: لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع.وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال: ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة.والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال.ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى.وهذا قد انتُقل إليه انتقالًا بديعًا من قوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله، وتنبيهًا على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما.وفي الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير» وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه.والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملًا لأبويه.وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] الآية.والكاف في قوله: {كما ربياني صغيرًا} للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف، ومثاله قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]، أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا و{صغيرًا} حال من ياء المتكلم.والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولدًا فصار قوله: {كما ربياني صغيرًا} قائمًا مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما.فالتربية تكملة للوجود، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها.والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة والأمر يقتضي الوجوب.وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله.وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين:أحدهما: نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه، وهو الشكر، تخلقًا بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة.وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها.والمقصد الثاني عمراني، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن.ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس.جاء في الحديث: «أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة فقال الله: أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» وفي الحديث: «إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم».وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضًا، وفي اتحاد بعضهم مع بعض، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} [الحجرات: 13]. وزاده الإسلام توثيقًا بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف، وقد بينا ذلك في بابه من كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية.{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به، وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه، ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال، ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة.ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل على ذلك الخلوص كاملًا لا تكلف فيه ولا تكاسل، فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا، فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافيًا كاملًا.وهو مما يشمله الصلاح في قوله: {إن تكونوا صالحين} أي ممتثلين لما أمرتم به.وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به.ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله، أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه، ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة.والتقدير إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسنًا وللأوابين غفورًا.وهذا يعم المخاطبين وغيرهم، وبهذا العموم كان تذييلًا.وهذا الأوْب يكون مطردًا، ويكون معرضًا للتقصير والتفريط، فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالرجوع إلى الحالة المرضية، وكل ذلك أوْب وصاحبه آيِب، فصيغ له مثال المبالغة أواب لصلوحية المبالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته.فالملازم للامتثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله، والمغلوب بالتفريط يؤوب كلما راجع نفسه وذكر ربه، فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه، وكل من الصالحين.وفي قوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم} ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة.وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه.وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيرًا بعد تعسير مشوبًا بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيبًا. اهـ.
.قال الشنقيطي: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}.قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.لأن معنى قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} الآية: أي إن يبلغ عندل والدك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف. ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل. فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنسانًا والمراد بالخطاب غيره. ومن الأمثلة السائرة في ذلك قوله الراجز، وهو سهل بن مالك الفزاري:وسبب هذا المثل: أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبًا. فأنزلته وأكرمته، وكانت جميلة. فأعجبه جمالها، فقال مخاطبًا لأخرى غيرها ليسمعها هي: ففهمت المرأة مراده، وأجابته بقولها: والظاهر أن قولها باستحارة أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما- أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي التي وقعت بيني وبينك، وهي كلامك وجوابي له، ولا تحصل مني على غير ذلك! والهاء في الاتحارة عوض من العين الساقطة بالإعلال. كما هو معروف في فن الصرف.وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإسراء: 22] ونحو ذلك من الآيات- متوجه إلى المكلف. ومن أساليب اللغة العربية: غفراد الخطاب مع قصد التعميم. كقول طرفة بن العبد في معلقته: وقال الفراء، والكسائي، والزمخشري: ومعنى قوله: {فتقعد} أي تصير. زجعل الفراء مه قول الراجز: أي يصير له لعاب.وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها. بمعنى صار. قاله أبو حيان في البحر.ثم قال أيضاَ: والقعود هنا عبارة عن المكث، أي فتمكث في الناس مذمومًا مخذولًا. كما تقول لمن سألعن حال شخص: هو قاعد في أسوأ حال. ومعناه ماكث ومقيم. سوء كان قائمًا أم جالسًا. وقد يراد القعود حقيقة. لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرًا متفكرًا، وعبر بغالب حالة وهو القعود. وقيل: معنى {فَتَقْعُدَ} [الإسراء: 22] فتعجز. والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم. اهـ محل الغرض من كلام أبي حيان.والمذموم هنا: هو ن يلحقه الذم من الله ومن القعلاء من الناس.حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر، ولا يقدر على شيء.والمخذول: هرة الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر. ومنه قوله: قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانًا}أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين.وجعله بر الوالدين مقرونًا بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر. كقوله في النساء: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وبالوالدين إِحْسَانًا} [النساء: 36] الآية، وقوله في البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَانًا} [البقرة: 83] الآية، وقوله في سورة لقمان: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14]، وبين في موضع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما. كقوله في لقمان: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وقوله في العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [العنكبوت: 8] الآية.وذكره جل وعلا في هذه الآيات: بر الوالدين مقرونًا بتوحيده جل وعلا في عبادته، يدل على شدة تأكد وجوب بر الواليدن. وجاءت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة.وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة: {وبالوالدين إِحْسَانًا} بينة بقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة الشعراء وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وقضى رَبُّكَ} معناه: أمر وألزم، وأوجب ووصى ألا تبعدوا إلا إياه.وقال الزمخشري: {وقضى رَبُّكَ} أي أمر أمرًا مقعطوعًا له. واختار أبو حيان في البحر المحيط أن إعراب قوله: {إِحْسَانا} أنه مصدر نائب عن فعله. فهو بمعنى الأمر، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف. كقوله: وقال الزمخشري في الكشف: {وبالوالدين إِحْسَانًا} أي وأحسنوا بالوالدين إحسانًا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا. اهـ.
|