الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: أما قوله: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها} ففيه مسائل:المسألة الأولى:قال بعضهم: المراد من قوله: {فَكَأَيِّن} فكم على وجه التكثير، وقيل أيضًا معناه، ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر، فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالًا وإن لم يذكر مفصلًا.المسألة الثانية:قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة {أهلَكِناها} بالنون، وقرأ أبو عمرو ويعقوب {أهلكتها} وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى {فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ}.المسألة الثالثة:قوله: {أهلَكِناها} أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية، فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب.أما قوله وهي: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} ففيه سؤالان:السؤال الأول: ما معنى هذه اللفظة؟ فقال صاحب الكشاف: كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله، فإن فسرنا الخاوي بالساقط، كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها، قال ويمكن أن يكون خبرًا بعد خبر، كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها، بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلًا للاعتبار.السؤال الثاني: ما محل هاتين الجملتين من الإعراب.أعني {وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} الجواب: الأولى: في محل النصب على الحال والثانية: لا محل لها لأنها معطوفة على أهلَكِناها وهذا الفعل ليس له محل.قال أبو مسلم: المعنى فكأين من قرية أهلَكِناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية.أما قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} ففيه مسائل:المسألة الأولى:قرأ الحسن {مُّعَطَّلَةٍ} من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان: أحدهما: أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني: أنه المرفوع المطول، والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف، وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهرًا خاليًّا بلا ساكن، وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر.وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137]، والله أعلم بالصواب.المسألة الثانية:روى أبو هريرة رضي الله عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بحضرموت، وإنما سميت بذلك لأن صالحًا حين حضرها مات، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورًا بناها قوم صالح، وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانًا ثم كفروا وعبدوا صنمًا، وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى، وعطل بئرهم وخرب قصورهم، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري، وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت.أما قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل، ولَكِن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع، فلهذا قال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولَكِن تعمى القلوب التى في الصدور} كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لَكِن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه.وهاهنا سؤالات:السؤال الأول: قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} هل يدل على الأمر بالسفر الجواب: يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولَكِن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا.السؤال الثاني: ما معنى الضمير في قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} والجواب: هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثًا ومذكرًا وفي قراءة ابن مسعود {فَإِنَّهُ} ويجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا يفسره الأبصار.السؤال الثالث: أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر؟ الجواب: أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة، فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول: ليس المضاء للسيف ولَكِنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت، لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهوًا، ولَكِني تعمدته على اليقين.وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.السؤال الرابع: هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب؟ الجواب: نعم لأن المقصود من قوله: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} العلم وقوله: {يَعْقِلُونَ بِهَا} كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل، فوجب جعل القلب محلًا للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيرًا بشبه الأعمى.{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}.اعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} [الحجر: 7] يدل على ذلك فقال تعالى: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ} يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته {كَأَلْفِ سَنَةٍ} لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه: الوجه الثاني: أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم، وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة.ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله والوجه الثالث: أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضًا إمهال ألف سنة.أما قوله: {وَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالمة} فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلى وهو تفسير قوله: {وإلي المصير} فإن قيل فلم قال فيما قبل {فَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] وقال ههنا: {وَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلنا: الأولى وقعت بدلًا عن قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ}. اهـ..قال الماوردي: قوله عز وجل: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}.فيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني خالية من أهلها لهلاكها.والثاني: غائرة الماء.والثالث: معطلة من دلالتها وأرشيتها.{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المشيد الحصين وهو قول الكلبي، ومنه قول امرئ القيس:والثاني: أن المشيد الرفيع، وهو قول قتادة، ومنه قول عدي بن زيد: والثالث: أن المشيد المجصص، والشيد الجص، وهو قول عكرمة ومجاهد ومنه قول الطرماح: وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: وقصر مشيد مثلها معطل، وقيل إن القصر والبئر بحضرموت من أرض اليمن معروفان، وقصرِ مشرف على قلة جبل ولا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئًا سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي، أي فأهلَكِنا هؤلاء وهؤلاء.قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} هذا يدل على أمرين: على أن العقل علم، ويدل على أن محله القلب.وفي قوله: {يَعْقِلُونَ بِهَا} وجهان:أحدهما: يعملون بها، لأن الأعين تبصر والقلوب تصير.{أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي يفقهون بها ما سمعوه من أخبار القرون السالفة.{فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدورِ} يحتمل عندي وجهين:أحدهما: أنها لا تعمى الأبصار عن الهدى ولَكِن تعمى القلوب عن الاهتداء.والثاني: فإنها لا تعمى الأبصار عن الاعتبار ولَكِن تعمى القلوب عن الادّكار.قال مجاهد: لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئًا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئًا.قال قتادة: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى وهو عبد الله بن زائدة.قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} يستبطئون نزوله بهم استهزاء منهم.{وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ولن يؤخر عذابه عن وقته.{وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفْ سَنَةٍ مِّمَا تَعُدُّونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يوما من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض كألف سنة، قاله مجاهد.الثاني: أن طول يوم من أيام الآخرة كطول ألف سنة من أيام الدنيا في المدة.الثالث: أن ألم العذاب في يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا في الشدة وكذلك يوم النعيم. اهـ.
|