الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} معنى بطرت طغت وسفهت، ومعيشتها: نصب على التفسير مثل: سفه نفسه، أو لعى إسقاط حرف الجرّ تقديره: بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت: كفرت {إِلاَّ قَلِيلًا} يعني: قليلًا من السكنى، أو قليلًا من الساكنين: أي لم يسكنها بعد إهلاكها إلا مارًّا على الطريق ساعة.{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولًا} أم القرى مكة لأنها أول ما خلق الله في الأرض، ولأن فيها بيت الله، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى؛ بأن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أم القرى، فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم، وإقامة الحجة عليهم.{وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} الآية: تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ} الآية: إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه للمؤمنين، وبمن متعناه الكافرين، وقيل: سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأبو جهل، وقيل حمزة وأبو جهل، والعموم أحسن لفظًا، ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب.{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} العامل في الظرف مضمر، وفاعل ينادي: الله تعالى، ويحتمل أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة، والمفعول به المشركون {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم، ولذلك قال: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} فحذف المفعول وتقديره: تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم شفعاء لكم.{قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ} معنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وجب عليهم العذاب، والمراد بذلك رؤساء المشركين وكبراؤهم، والإشارة بقولهم: {هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ} إلى أتباعهم من الضعفاء، فإن قيل: كيف الجمع بين قولهم {أَغْوَيْنَآ} وبين قولهم: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} فإنهم اعترفوا بإغوائهم، وتبرأوا مع ذلك منهم؟ فالجواب إن إغوائهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك، والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا، من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء، وتبرأوا من أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام، وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو تكلف بعيد {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} فيه أربعة أوجه: الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لم يعبدوا الأصنام، والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا والثالث لو أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا، فلو على هذه الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف، والرابع أن يكون للتمني: أي تمنوا لو كانوا مهتدين.{مَاذَآ أَجَبْتُمُ} أي هل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ} عميت عبارة عن حيرتهم، و{الأنباء} الأخبار أي أظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضًا عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب.{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قيل: سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء، ويختار لرسالته من يشاء من عباده، ولفظها أعم من ذلك، والأحسن حمله على عمومه: أي يختار ما يشاء من الأمور على الاطلاق، ويفعل ما يريد {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} ما نافية، والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار، والإرادة لله وحده. فالوقف على قوله ويختار، وقيل: إن ما مفعولة بيختار، ومعنى الخيرة على هذا الخير والمصلحة، وهذا يجري على قول المعتزلة، وذلك ضعيف؛ لرفع الخيرة على أنها اسم كان، ولو كانت ما مفعولة: لكان اسم كان مضمرًا يعود على ما؛ وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان، وقد اعتذر عن هذا من قال: إن ما مفعولة بأن يقال: تقدير الكلام: يختار ما كان لهم الخيرة فيه، ثم حذف الجار والمجرور وهذا ضعيف، وقال ابن عطية: يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة، ويوقف على قوله ما كان: أي يختار كل كائن، ويكون {لهم الخيرة} جملة مستأنفة، وهذا بعيد جدًا.{يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر، لأنه يحتوي عليه.{لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} قيل إن الحمد في الآخرة قولهم: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] أو قولهم: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] وفي ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة {سَرْمَدًا} أي دائمًا، والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك، فإن قيل: كيف قال: {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} وهلا قال: يأتيكم بنهار في مقابلة قوله: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ} فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي في النهار، ففي الآية لف ونشر.{وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي أخرجنا من كل أمة شهيدًا منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيهم، لأن كل نبي يشهد على أمته {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، وذلك إعذار لهم وتوبيخ وتعجيز. اهـ.
.قال الخازن: قوله: {ولقد وصلنا لهم القول}.قال ابن عباس: بينا وقيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضًا، وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم، وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا {لعلهم يتذكرون} أي يتعظون {الذين آتيناهم الكتاب من قبلة} أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من قبل القرآن {هم به يؤمنون} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهم أربعون رجلًا قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخاصة قالوا: يا رسول الله إن لنا أموالًا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين.فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} وقال ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب وأربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال: {وإذا يتلى عليهم} يعني القرآن {قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا} وذلك أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل {إنا كنا من قبله مسلمين} أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم إنه نبي حق.{أولئك يؤتون أجرهم مرتين} يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر {بما صبروا} أي على دينهم وعلى أذى المشركين، ق عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» {ويدرؤون بالحسنة السيئة} قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو {ومما رزقناهم ينفقون} أي في الطاعة {وإذ سمعوا اللغو} أي القول القبيح {أعرضوا عنه} وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة ويقولون تبًا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي لنا ديننا ولكم دينكم {سلام عليكم} ليس المراد منه التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم {لا نبتغي الجاهلين} يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه.وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال.قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} أي هدايته وقيل أحببته لقرابته {ولكن الله يهدي من يشاء} وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان {وهو أعلم بالمهتدين} أي بمن قدر له الهدى، م عن أبي هريرة قال: {إنك لا تهدي من أحببت} نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب عند الموت: «ياعم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك» ثم أنشد:ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى: {أو لم نمكن لهم حرما آمنًا} وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم.ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة {يجبى إليه} يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن {ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك.قوله: {وكم أهلكنا من قرية} يعني من أهل قرية {بطرت معيشتها} أي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام {فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا} قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون سكونًا قليلًا وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها خراب {وكنا نحن الوارثين} يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق {وما كان ربك مهلك القرى} يعني الكافرة أهلها {حتى يبعث في أمها رسولًا} ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يعبث في أمر القرى وهي مكة رسولًا يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء {يتلو عليهم آياتنا} أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} أي مشركون.قوله: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء {وما عند الله خير وأبقى} لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائمًا غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم {أفلا تعقلون} أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل.ولهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى: {أفمن وعدناه وعدًا حسنًا} يعني الجنة {فهو لاقيه} أي مصيبه وصائر إليه {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} أي وتزول عنه عن قريب {ثم هو يوم القيامة من المحضرين} أي في النار، قيل هذا من المؤمن والكافر وقيل نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة.قوله: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} أي في الدنيا أنهم من شركائي {قال الذين حق عليم القول} أي وجب عليهم العذاب وهم رءوس الضلالة {ربنا هؤلاء الذي أغوينا} أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع {أغويناهم كما غوينا} أي أضللناهم كما ضللنا {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء {وقيل} يعني الكفار {ادعوا شركاءكم} أي الأصنام لتخلصكم من العذاب {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} أي لم يجيبوهم {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة {ويوم يناديهم} أي يسأل الكفار {فيقول ما أجبتم المرسلين} أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين {فعميت عليهم} أي خفيت واشتبهت عليهم {الأنباء} يعني الأخبار والأعذار والحجج {يومئذ} فلم يكن لهم عذر ولا حجة {فهم لا يتساءلون} أي لا يجيبون ولا يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضًا {فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين} أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب.
|