الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
وقرأ ابن مسعود: {تنبئ أخبارها}. وسعيد بن جبير: تنبئ، بالتخفيف. يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف {أَشْتَاتاً} بيض الوجوه آمنين؛ وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار، ليروا جزاء أعمالهم.وفي قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم: {ليروا} بالفتح.وقرأ ابن عباس وزيد بن علي: {يره} بالضم. ويحكى أنّ أعرابياً أخر {خَيْراً يَرَهُ} فقيل له: قدّمت وأخّرت؛ فقال: والذرّة: النملة الصغيرة، وقيل: (الذرّ) ما يرى في شعاع الشمس من الهباء.فإن قلت: حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوّة باجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشرّ؟ قلت: المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً: من فريق السعداء. ومن يعمل مثقال ذرّة شراً: من فريق الأشقياء؛ لأنه جاء بعد قوله: {يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً}.عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا زلزلت أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله».
وانتصاب ضبحا على: يضبحن ضبحا، أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات؛ لأن الضبح يكون مع العدو. أو على الحال، أي: ضابحات {فالموريات} توري نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها {قَدْحاً} قادحات صاكات بحوافرها الحجارة. والقدح: الصك. والإيراء: إخراج النار. تقول: قدح فأورى، وقدح فأصلد، وانتصب قدحاً بما انتصب به ضبحا {فالمغيرات} تغير على العدوّ {صُبْحاً} في وقت الصبح {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)} فهيجن بذلك الوقت غباراً {فَوَسَطْنَ بِهِ} بذلك الوقت، أو بالنقع، أي: وسطن النقع الجمع. أو فوسطن ملتبسات به {جَمْعاً} من جموع الأعداء. ووسطه بمعنى توسطه. وقيل: الضمير لمكان الغارة. وقيل: للعدوّ الذي دلّ عليه {والعاديات} ويجوز أن يراد بالنقع: الصياح، من قوله عليه الصلاة والسلام: «ما لم يكن نقع ولا لقلقة» وقول لبيد: أي: فهيجن في المغاز عليهم صياحاً وجلبة.وقرأ أبو حيوة: {فأثرن} بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غباراً؛ لأنّ التأثير فيه معنى الإظهار. أو قلب ثورّن إلى وثرن، وقلب الواو همزة، وقرئ: {فوسطن} بالتشديد للتعدية. والباء مزيدة للتوكيد، كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ} [البقرة: 25] وهي مبالغة في وسطن.وعن ابن عباس: كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن {والعاديات ضَبْحاً (1)} ففسرتها بالخيل، فذهب إلى عليّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت: فقال: ادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلاّ فرسان: فرس الزبير وفرس للمقداد {العاديات ضَبْحاً (1)} الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى؛ فإن صحّت الرواية فقد استعير الضبح للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والثغر للثورة وما أشبه ذلك. وقيل: الضبح لا يكون إلاّ للفرس والكلب والثعلب. وقيل: الضبح بمعنى الضبع، يقال: ضبحت الإبل وضبعت: إذا مدّت أضباعها في السير، وليس بثبت. وجمع: هو المزدلفة.فإن قلت: علام عطف (فأثرن)؟ قلت: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه؛ لأنّ المعنى: واللاتي عدون فأورين، فأغرن فأثرن. الكنود: الكفور. وكند النعمة كنوداً. ومنه سمي: كندة، لأنه كند أباه ففارقه.وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور، يعني: أنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران؛ لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه، ثم إن عُظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة {وإنه} وإن الإنسان {على ذلك} على كنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره.وقيل: وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد {الخير} المال من قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] والشديد: البخيل الممسك. يقال: فلان شديد ومتشدّد. قال طرفة: يعني: وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه: لبخيل ممسك. أو أراد بالشديد: القوي، وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. تقول: هو تشديد لهذا الأمر، وقويٌّ له: إذا كان مطيقاً له ضابطاً. أو أراد: أنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض {بُعْثِرَ} بعث. وقرئ: {بحثر} وبحث، وبحثر. وحصل: على بنائهما للفاعل. وحصل: بالتخفيف. ومعنى (حصلّ) جمع في الصحف، أي: أظهر محصلاً مجموعاً. وقيل: ميز بين خيره وشره. ومنه قيل للمنخل: المحصل. ومعنى علمه بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم؛ لأنّ ذلك أثر خبره بهم.وقرأ أبو السمال: {إن ربهم بهم يومئذ خبير}.عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً»
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة وأذل وأجهل. وسمى فراشا: لتفرّشه وانتشاره. وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألواناً؛ لأنها ألوان، وبالمنفوش منه؛ لتفرّق أجزائها.وقرأ ابن مسعود: {كالصوف}. الموازين: جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله. أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها. ومنه حديث أبي بكر لعمر رضي الله عنهما في وصيته له: «وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلاّ الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلاّ السيئات أن يخف» {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه؛ لأنه إذا هوى أي: سقط وهلك، فقد هوت أمّه ثكلاً وحزناً قال: فكأنه قيل: وأما من خفت موازينه فقد هلك. وقيل: {هَاوِيَةٌ} من أسماء النار، وكأنها النار العميقة لهوي أهل النار فيها مهوى بعيداً، كما روي: «يهوي فيها سبعين خريفاً» أي: فمأواه النار. وقيل: للمأوى: أمّ، على التشبيه؛ لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه.وعن قتادة: فأمّه هاوية، أي: فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم، لأنه يطرح فيها منكوساً (هيه) ضمير الداهية التي دلّ عليها قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} في التفسير الأوّل. أو ضمير هاوية والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها. وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج، لأنّها ثابتة في المصحف. وقد اجيز إثباتها مع الوصل.عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة».
وقال: وقرأ ابن عباس: {أألهاكم}؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير {كَلاَّ} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إنذار ليخافوا فيتنبهوا من غفلتهم. والتكرير: تأكيد للردع والأنذار عليهم. و(ثم) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضاً وقال: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} محذوف الجواب، يعني: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعملها هممكم: لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه؛ ولكنكم ضلال جهلة؛ ثم قال: {لَتَرَوُنَّ الجحيم (6)} فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به؛ وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه، وهو جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدوا به ما لا مدخل فيه للريب؛ وكرره معطوفاً بثم تغليظاً في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ: {لترؤن} بالهمز وهي مستكرهة.فإن قلت: لم استكرهت والواو المضمومة قَلَبَهَا همزة قياس مطرد؟ قلت: ذاك في الواو التي ضمتها لازمة، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ: {لترون} ولترونها: على البناء للمفعول {عَيْنَ اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته.ويجوز أن يراد بالرؤية: العلم والإبصار {عَنِ النعيم} عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه.فإن قلت: ما النعيم الذي يسئل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلاّ وله نعيم؟ قلت: هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلاّ ليأكل الطيب ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمّل نفسه مشاقهما؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلاّ لعباده، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضاً بالشكر: فهو من ذاك بمعزل؛ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي: أنه أكل هو وأصحابه تمر وشربوا عليه ماء فقال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين»عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية».
|