الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}. وَهَذَا تَقَدُّمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ الَّذِينَ سَعَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ بَنِي أُبَيْرِقٍ أَنْ يَقُومَ بِالْعُذْرِ لَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ، وَذَبِّهِمْ عَنْهُمْ، وَتَحْسِينِهِمْ أَمْرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ فَاقَةٍ وَفَقْرٍ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} "، يَقُولُ: لِيَكُنْ مِنْ أَخْلَاقِكُمْ وَصِفَاتِكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَعْنِي: بِالْعَدْلِ"شُهَدَاءَ لِلَّهِ". وَ "الشُّهَدَاءُ" جَمْعُ"شَهِيدٍ". وَنُصِبَتِ "الشُّهَدَاءُ" عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا فِي قَوْلِهِ: "قَوَّامِينَ" مِنْ ذِكْرِ "الذِينَ آمَنُوا"، وَمَعْنَاهُ: قُومُوا بِالْقِسْطِ لِلَّهِ عِنْدَ شَهَادَتِكُمْ أَوْ حِينَ شَهَادَتِكُمْ. " {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} "، يَقُولُ: وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَوْ عَلَى وَالِدَيْنِ لَكُمْ أَوْ أَقْرَبِيكُمْ، فَقُومُوا فِيهَا بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، وَأَقِيمُوهَا عَلَى صِحَّتِهَا بِأَنْ تَقُولُوا فِيهَا الْحَقَّ، وَلَا تَمِيلُوا فِيهَا لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا لِفَقِيرٍ لِفَقْرِهِ عَلَى غَنِيٍّ، فَتَجُورُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا أَلْزَمَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَدْلِ"أَوْلَى بِهِمَا"، وَأَحَقُّ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ مَالِكُهُمَا وَأَوْلَى بِهِمَا دُونَكُمْ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْكُمْ، فَلِذَلِكَ أَمَرَكُمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا" {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} "، يَقُولُ: فَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِكُمْ فِي الْمَيْلِ فِي شَهَادَتِكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِهَا-لِغَنِيٍّ عَلَى فَقِيرٍ، أَوْ لِفَقِيرٍ عَلَى غَنِيٍّ- إِلَّا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ، فَتَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ، وَلَكِنْ قُومُوا فِيهِ بِالْقِسْطِ، وَأَدُّوا الشَّهَادَةَ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَدَائِهَا، بِالْعَدْلِ لِمَنْ شَهِدْتُمْ لَهُ وَعَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَقُومُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّاهِدُ بِالْقِسْطِ؟ وَهَلْ يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ: =نَعِمَ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ =فَيُقِرُّ لَهُ بِهِ، فَذَلِكَ قِيَامٌ مِنْهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدِي تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ عَذَرُوا بَنِي أُبَيْرِقٍ فِي سَرِقَتِهِمْ مَا سَرَقُوا، وَخِيَانَتِهِمْ مَا خَانُوا مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَبْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَهَادَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَهُ بِالصَّلَاحِ. فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا قُمْتُمْ بِالشَّهَادَةِ لِإِنْسَانٍ أَوْ عَلَيْهِ، فَقُولُوا فِيهَا بِالْعَدْلِ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَآبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ، وَلَا يَحْمِلْنَكُمْ غِنَى مَنْ شَهِدْتُمْ لَهُ أَوْ فَقْرُهُ أَوْ قَرَابَتُهُ وَرَحِمُهُ مِنْكُمْ، عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُ بِالزُّورِ، وَلَا عَلَى تَرْكِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ وَكِتْمَانِهَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ تَأْدِيبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، وَكَانَ ضِلَعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ، يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَقَالَ: " {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} "، الْآيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: فِي ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِنَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ، أَمْرًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَوُّوا-فِي قِيَامِهِمْ بِشَهَادَاتِهِمْ- لِمَنْ قَامُوا بِهَا، بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} "، قَالَ: أَمْرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ آبَائِهِمْ أَوْ أَبْنَائِهِمْ، وَلَا يُحَابُوا غَنِيًّا لِغِنَاهُ، وَلَا يَرْحَمُوا مِسْكِينًا لِمَسْكَنَتِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} "، فَتَذْرُوَا الْحَقّ، فَتَجُورُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَذِي الْقَرَابَةِ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ فِي سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} " الْآيَةَ، فَلَمْ يَكُنْ يُتَّهَمُ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحُ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَلَا الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ، ثُمَّ دُخِلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتِ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مَنْ يَتَّهِمُ، إِذَا كَانَتْ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ. وَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، لَمْ يُتَّهَمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} " إِلَى آخَرَ الْآيَةِ، قَالَ: لَا يَحْمِلْكَ فَقْرُ هَذَا عَلَى أَنْ تَرْحَمَهُ فَلَا تُقِيمُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ. قَالَ: يَقُولُ هَذَا لِلشَّاهِدِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} " الْآيَةَ، هَذَا فِي الشَّهَادَةِ. فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ، يَا ابْنَ آدَمَ، وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، أَوِ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ، أَوْ شَرَفِ قَوْمِكَ. فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ اللَّهَ رَضِيَ الْعَدْلَ لِنَفْسِهِ، وَالْإِقْسَاطُ وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، بِهِ يَرُدُّ اللَّهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ، وَمِنَ الْكَاذِبِ عَلَى الصَّادِقِ، وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ. وَبِالْعَدْلِ يُصَدِّقُ الصَّادِقُ، وَيُكَذِّبُ الْكَاذِبُ، وَيَرُدُّ الْمُعْتَدِي وَيُرَنِّخُهُ، تَعَالَى رَبّنَا وَتَبَارَكَ. وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ، يَا ابْنَ آدَمَ" {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} "، يَقُولُ: أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ. قَالَ: وَذِكْرُ لَنَا أَنَّ نَبِيَ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "يَا رَبِّ، أَيَّ شَيْءٍ وَضَعَتَ فِي الْأَرْضِ أَقَلُّ؟ "، قَالَ: "الْعَدْلُ أُقِلُّ مَا وَضَعَتُ فِي الْأَرْضِ". فَلَا يَمْنَعْكَ غِنَى غَنِيٍّ وَلَا فَقْرُ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ". وَقَدْ قِيلَ: " {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} " الْآيَةَ، أُرِيدَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِغِنَى الْغَنِيِّ وَفَقْرِ الْفَقِيرِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: "بِهِمَا"، وَلَمْ يَقُلْ"بِهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: "بِهِمَا"، لِأَنَّهُ قَالَ: " {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} "، فَلَمْ يَقْصِدْ فَقِيرًا بِعَيْنِهِ وَلَا غَنِيًّا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا جَازَ الرَّدُّ مِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ. وَذَكَرَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: (فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ). وَقَالَ آخَرُونَ: "أَوْ" بِمَعْنَى "الوَاوِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ آخَرُونَ: جَازَ تَثْنِيَةُ قَوْلِهِ: "بِهِمَا"، لِأَنَّهُمَا قَدْ ذُكِرَا، كَمَا قِيلَ. {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 12]. وَقِيلَ: جَازَ، لِأَنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ"مَنْ"، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَكُنْ مَنْ خَاصَمَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا بِمَعْنَى: غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ" {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ". وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} " أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، فَتُجَوِّزُوا بِتَرْكِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ. وَلَوْ وُجِّهَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِكُمْ هَرَبًا مِنْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ، لَكَانَ وَجْهًا. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا كَمَا يُقَالُ: "لَا تَتَّبِعْ هَوَاكَ لِتُرْضِيَ رَبَّكَ"، بِمَعْنَى: أَنْهَاكَ عَنْهُ، كَمَا تُرْضِي رَبَّكَ بِتَرْكِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى: "وَإِنْ تَلْوُوا" أَيُّهَا الْحُكَّامُ فِي الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ" {أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ". وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحُكَّامِ، عَلَى نَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، قَالَ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنْ تَلْوُوا، أَيُّهَا الشُّهَدَاءُ، فِي شَهَادَاتِكُمْ فَتُحَرِّفُوهَا وَلَا تُقِيمُوهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَتَتْرُكُوهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، يَقُولُ: إِنْ تَلَوُوا بِأَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، يَقُولُ: تَلْوِي لِسَانَكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ، فَلَا تُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا. وَ "الإِعْرَاضُ"، التُّرْكُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا} "، أَيْ تُبَدِّلُوا الشَّهَادَةَ" {أَوْ تُعْرِضُوا} "، قَالَ: تَكْتُمُوهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ تَلْوُوا}، قَالَ: بِتَبْدِيلِ الشَّهَادَةِ، وَ "الإِعْرَاضُ" كِتْمَانُهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، قَالَ: إِنْ تُحَرِّفُوا أَوْ تَتْرُكُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، قَالَ: تَلَجْلَجُوا، أَوْ تَكْتُمُوا. وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، أَمَّا "تَلْوُوا"، فَتَلْوِي لِلشَّهَادَةِ فَتُحَرِّفُهَا حَتَّى لَا تُقِيمَهَا وَأَمَّا "تُعْرِضُوا" فَتُعْرِضُ عَنْهَا فَتَكْتُمُهَا، وَتَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ! حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " {وَإِنْ تَلْوُوا} "، فَتَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، يَلْوِي بِبَعْضٍ مِنْهَا أَوْ يُعْرَضُ عَنْهَا فَيَكْتُمُهَا، فَيَأْبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، يَقُولُ: أَكْتُمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ أَرْحَمُهُ! فَيَقُولُ: لَا أُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ. وَيَقُولُ: هَذَا غَنِيٌّ أُبَقِّيهِ وَأَرْجُو مَا قِبَلَهُ، فَلَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} ". حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ تَلْوُوا}، تُحَرِّفُوا" {أَوْ تُعْرِضُوا} "، تَتْرُكُوا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا} "، قَالَ: إِنْ تَلَجْلَجُوا فِي الشَّهَادَةِ فَتُفْسِدُوهَا" {أَوْ تُعْرِضُوا} "، قَالَ: تَتْرُكُوهَا. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِِ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، قَالَ: إِنْ تَلْوُوا فِي الشَّهَادَةِ، أَنْ لَا تُقِيمَهَا عَلَى وَجْهِهَا " {أَوْ تُعْرِضُوا}، قَالَ: تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، يَعْنِي: تَلَجْلَجُوا"أَوْ تُعْرِضُوا"، قَالَ: تَدَعُهَا فَلَا تَشْهَدُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} "، أَمَّا"تَلْوُوا"، فَهُوَ أَنْ يَلْوِيَ الرِّجْلَ لِسَانَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يَعْنِي: فِي الشَّهَادَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ، أَنَّهُ لَيُّ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَحْرِيفُهُ إِيَّاهَا بِلِسَانِهِ، وَتَرْكُهُ إِقَامَتِهَا، لِيُبْطِلَ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ، وَعَمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِعْرَاضُهُ عَنْهَا، فَإِنَّهُ تَرْكُهُ أَدَاءَهَا وَالْقِيَامَ بِهَا، فَلَا يَشْهَدُ بِهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: " {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ اللَّهِ} "، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ شُهَدَاءَ. وَأَظْهَرَ مَعَانِي "الشُّهَدَاءِ"، مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِهِمْ بِالشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَإِنْ تَلْوُوا". فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ سِوَى الْكُوفَةِ: (وَإِنْ تَلْوُوا) بِوَاوَيْنِ، مِنْ: "لِوَانِي الرَّجُلُ حَقِّي، وَالْقَوْمُ يَلْوُونَنِي دَيْنِي" وَذَلِكَ إِذَا مَطَلُوهُ"لَيًّا". وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (وَإِنْ تَلُوا) بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ. وَلِقِرَاءَةٍ مِنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا أَرَادَ هَمْزَ "الْوَاوِ" لِانْضِمَامِهَا، ثُمَّ أَسْقَطَ الْهَمْزَ، فَصَارَ إِعْرَابُ الْهَمْزِ فِي اللَّامِ إِذْ أَسْقَطَهُ، وَبَقِيَتْ وَاوٌ وَاحِدَةٌ. كَأَنَّهُ أَرَادَ: "تَلْؤُوا" ثُمَّ حَذَفَ الْهَمْزَ. وَإِذَا عَنَى هَذَا الْوَجْهَ، كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ: "وَإِنْ تَلْوُوا"، بِوَاوَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنْ "الوَاوَ" الثَّانِيَةَ مِنْ قَوْلِهِ: "تَلْوُوا" وَاوُ جَمْعٍ، وَهِيَ عَلَمٌ لِمَعْنَىً، فَلَا يَصِحُّ هَمْزُهَا، ثُمَّ حَذْفُهَا بَعْدَ هَمْزِهَا، فَيَبْطُلُ عَلَمُ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ أُدْخِلَتِ "الْوَاوُ" الْمَحْذُوفَةُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا كَذَلِكَ، أَرَادَ: أَنْ"تَلُوا" مِنْ "الوِلَايَةِ"، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَأَنْ تَلُوا أُمُورَ النَّاسِ وَتَتْرُكُوا. وَهَذَا مَعْنَى إِذَا وَجَّهَ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، إِلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ مَعَانِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَمَا وَجَّهَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ، تَأْوِيلَ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِذْ كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ وَاضِحًا مَنْ كِلَا وَجْهَيْهِ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهِ عِنْدَنَا: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، بِمَعْنَى: "اللََّيِّ" الَّذِي هُوَ مَطْلٌ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَإِنْ تَدْفَعُوا الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا لِمَنْ لَزِمَكُمُ الْقِيَامُ لَهُ بِهَا، فَتُغَيِّرُوهَا وَتُبَدِّلُوا، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَتَتْرُكُوا الْقِيَامَ لَهُ بِهَا، كَمَا يَلْوِي الرَّجُلُ دَيْنَ الرَّجُلِ فَيُدَافِعُهُ بِأَدَائِهِ إِلَيْهِ عَلَى مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ لَهُ مَطْلًا مِنْهُ لَهُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: يَلْوِينَنِي دَيْنِي النَّهَارَ، وَأَقْتَضِي *** دَيْنِي إِذَا وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} "، فَإِنَّهُ أَرَادَ: " {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} "، مِنْ إِقَامَتِكُمُ الشَّهَادَةَ وَتَحْرِيفِكُمْ إِيَّاهَا، وَإِعْرَاضِكُمْ عَنْهَا بِكِتْمَانِكُمُوهَا"خَبِيرًا"، يَعْنِي ذَا خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِهِ، يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ جَزَاءَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. يَقُولُ: فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ فِي ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} "، بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَصَدَّقُوا بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"، يَقُولُ: صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِهِ، أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ، مُرْسَلٌ إِلَيْكُمْ وَإِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ" {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} "، يَقُولُ: وَصَدِّقُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْقُرْآنُ" {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} "، يَقُولُ: وَآمَنُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ دُعَاءِ هَؤُلَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُتُبِهِ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ "مُؤْمِنِينَ"؟ قِيلَ: إِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ "مُؤْمِنِينَ"، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ "آمَنُوا"، وَذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ بِخُصُوصٍ مَنَ التَّصْدِيقِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا صِنْفَيْنِ: أَهَّلُ تَوْرَاةٍِ مُصَدِّقِينَ بِهَا وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَصِنْفٌ أَهْلُ إِنْجِيلٍ، وَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِهِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ، مُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَرْقَانِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، يَعْنِي: بِمَا هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ "آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ"، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، تَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِكُمْ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَكُونُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ كِتَابَكُمْ يَأْمُرُكُمْ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، فَآمَنُوا بِكِتَابِكُمْ فِي اتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا، وَإِلَّا فَأَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فَهَذَا وَجْهُ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ، بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجْحَدُ نُبُوَّتَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "، وَمَعْنَاهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ جُحُودَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَعْنَى جُحُودِ جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْكُفْرُ بِشَيْءٍ مِنْهُ كُفْرٌ بِجَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: " {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "، بِعَقِبِ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَهْدِيدًا مِنْهُ لَهُمْ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْفُرْقَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَجَارَ عَنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ، إِلَى الْمَهَالِكِ ذِهَابًا وَجَوْرًا بَعِيدًا. لِأَنَّ كُفْرَ مِنْ كَفَرَ بِذَلِكَ، خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ. وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ اللَّهِ، الْهَلَاكُ الَّذِي فِيهِ الْبَوَارُ، وَالضَّلَالُ عَنِ الْهُدَى هُوَ الضَّلَالُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ، ثُمَّ آمَنُوا يَعْنِي: النَّصَارَى بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ "لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} "، وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. آمَنَتْ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرَتْ، وَآمَنَتْ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرَتْ. وَكُفْرُهُمْ بِهِ: تَرْكُهُمْ إِيَّاهُ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالْفُرْقَانِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ اللَّهُ: "لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا"، يَقُولُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقَ هُدًى، وَقَدْ كَفَرُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} "، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ ذَكَرَ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: "ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كَفْرًا"، يَقُولُ: آمَنُوا بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ النِّفَاقِ، أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُوْا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُوْا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} "، قَالَ: كُنَّا نَحْسَبُهُمُ الْمُنَافِقِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ كَانَ مِثْلَهُمْ"ثُمَّ ازْدَادُوا كَفْرًا"، قَالَ: تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "ثُمَّ ازْدَادُوا كَفْرًا"، قَالَ: مَاتُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "ثُمَّ ازْدَادُوا كَفْرًا"، قَالَ: حَتَّى مَاتُوا. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} " الْآيَةَ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، آمَنُوا مَرَّتَيْنِ، وَكَفَرُوا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَتَوْا ذُنُوبًا فِي كُفْرِهِمْ فَتَابُوا، فَلَمْ تَقْبَلْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ فِيهَا، مَعَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} "، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَذْنَبُوا فِي شِرْكِهِمْ ثُمَّ تَابُوا، فَلَمْ تَقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ. وَلَوْ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، ثُمَّ كَذَّبُوا بِخِلَافِهِمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ كَذَّبَ بِهِ بِخِلَافِهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَرْقَانِ فَازْدَادَ بِتَكْذِيبِهِ بِهِ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهَا فِي قِصَصِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} " وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا"، مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلُهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِمَا قَبْلِهِ أُولَى، حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَسْتُرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، بِعَفْوِهِ عَنِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَفْضَحُهُمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ"وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا" يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ لِيُسَدِّدَهُمْ لِإِصَابَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ فَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا، وَلَكِنَّهُ يُخَذِّلُهُمْ عَنْهَا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى عَظِيمِ جُرْمِهِمْ، وَجَرْأَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّالْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، انْتِزَاعًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَالَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ آخَرُونَ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلَيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَمُسْتَتِيبَ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَرَأَ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} "،. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ كُلَّمَا ارْتَدَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَمَّنْ سَمْعَ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ كُلَّمَا ارْتَدَّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ الْمَرَّةَ الْأُولَى، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ كُلِ مَرَّةٍ ارْتَدَّ فِيهَا عَنِ الْإِسْلَامِ حُكْمُ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فِي أَنَّ تَوْبَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ إِسْلَامَهُ حَقَنَ لَهُ دَمَهُ. لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي حَقَنَتْ دَمَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إِسْلَامُهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا كَانَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي الْحَالَةِ الْأَوْلَى، ثُمَّ يَكُونُ دَمُهُ مُبَاحًا مَعَ وُجُودِهَا، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حَكَمِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَسَائِرِ الْمَرَّاتِ غَيْرَهَا، مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ مِنْ أَصْلِ مُحَكِّمٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ حِكَمِ الْقِيَاسِ حِينَئِذٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ"، أَخْبِرِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "التَّبْشِيرِ" فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. "بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا"، يَعْنِي: بِأَنْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى نِفَاقِهِمْ"عَذَابًا أَلِيمًا"، وَهُوَ الْمُوجِعُ، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} "، فَمِنْصِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: يَا مُحَمَّدُ، بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِي وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِي"أَوْلِيَاءَ" يَعْنِي: أَنْصَارًا وَأَخِلَّاءً "مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ"، يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ "أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ"، يَقُولُ: أَيُطْلِبُونَ عِنْدَهُمُ الْمَنَعَةَ وَالْقُوَّةَ، بِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي؟ "فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا"، يَقُولُ: فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءُ ابْتِغَاءَ الْعِزَّةِ عِنْدَهُمْ، هُمُ الْأَذِلَّاءُ الْأَقِلَّاءُ، فَهَلَّا اتَّخَذُوا الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلْتَمِسُوا الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةَ وَالنُّصْرَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ الْعِزَّةُ وَالْمَنَعَةُ، الَّذِي يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، فَيُعِزُّهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ؟ وَأَصْلُ "العِزَّةِ"، الشِّدَّةُ. وَمِنْهُ قِيلٌ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ، "عَزَازٌ". وَقِيلَ: "قَدِ اسْتُعِزَّ عَلَى الْمَرِيضِ"، إِذَا اشْتَدَّ مَرَّضَهُ وَكَادَ يُشْفَى. وَيُقَالُ: "تَعَزَّزَ اللَّحْمُ"، إِذَا اشْتَدَّ. وَمِنْهُ قِيلَ: "عَزَّ عَلِيَّ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا"، بِمَعْنَى: اشْتَدَّ عَلَيَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلََ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ"، يَقُولُ: أَخْبِرْ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْكُفَّارَ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْدَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، "أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ"، يَعْنِي: بَعْدَ مَا عَلِمُوا نَهْيَ اللَّهِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا"حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ"، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "يَخُوضُوا"، يَتَحَدَّثُوا حَدِيثًا غَيْرَهُ"بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا". وَقَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ"، يَعْنِي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ إِنْ جَالَسْتُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ يَعْنِي: فَأَنْتُمْ إِنْ لَمْ تَقُومُوا عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، مِثْلُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ، لِأَنَّكُمْ قَدْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ بِجُلُوسِكُمْ مَعَهُمْ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، كَمَا عَصَوْهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. فَقَدْ أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَحْوَ الَّذِي أَتَوْهُ مِنْهَا، فَأَنْتُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ فِي رُكُوبِكُمْ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، وَإِتْيَانِكُمْ مَا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَىالنَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ وَالْفَسَقَةِ، عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ يَقُولُونَ، تَأَوُّلًا مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا النَّهْيَ عَنْ مُشَاهَدَةِ كُلِّ بَاطِلٍ عِنْدَ خَوْضِ أَهْلِهِ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الْمَجْلِسِ مِنَ الْكَذِبِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، فَيَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ، فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو وَائِلٍ، أَوْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: " {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} "؟ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمًا عَلَى شَرَابٍ فَضَرَبَهُمْ، وَفِيهِمْ صَائِمٌ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا صَائِمٌ! فَتَلَا" {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} "، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، [سُورَةُُ الْأَنْعَامِ: 153]، وَقَوْلُهُ: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سُورَةُُ الشُّورَى: 13]، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: " {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} "، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، فَمُوَفِّقٌ بَيْنَهُمْ فِي عِقَابِهِ فِي جَهَنَّمَ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، كَمَا اتَّفَقُوا فِي الدُّنْيَا فَاجْتَمَعُوا عَلَى عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُوَازِرُوا عَلَى التَّخْذِيلِ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَنِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَأَمَرَ بِهِ وَأَهْلِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ". فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ الْقَرَأَةِ بِضَمِّ "النُّونِ" وَتَثْقِيلِ "الزَّايِ" وَتَشْدِيدِهَا، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ "النُّونِ" وَتَشْدِيدِ "الزَّايِ"، عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: (وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ) بِفَتْحِ "النُّونِ"، وَتَخْفِيفِ "الزَّايِ"، بِمَعْنَى: وَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ وَجْهٌ يَبْعُدُ مَعْنَاهُ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِي أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِهِ، قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: (وَقَدْ نُزِّلَ) بِضَمِّ "النُّونِ" وَتَشْدِيدِ "الزَّايِ"، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِيهِ التَّقْدِيمَ عَلَى مَا وَصَفَتُ قَبْلُ، عَلَى مَعْنَى: " {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} "" {وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يَكْفُرُ بِهَا} " إِلَى قَوْلِهِ: "حَدِيثٍ غَيْرِهِ" "أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ". فَقَوْلُهُ: " {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} "، يَعْنِي التَّأْخِيرَ، فَلِذَلِكَ كَانَ ضَمُّ "النُّونِ" مِنْ قَوْلِهِ: "نُزِّلَ" أَصْوَبَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ " {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ". فَقَرَأَهُ بِفَتْحِ (نَزَلَ) وَ(أََنْزَلَ) أَكْثَرُ الْقَرَأَةِ، بِمَعْنَى: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْبَصْرَةِ بِضَمِّهِ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا، بِمَعْنَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَهُمَا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى. غَيْرَ أَنَّ الْفَتْحَ فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ"، الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِكُمْ"فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ"، يَعْنِي: فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتْحًا مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَأَفَاءَ عَلَيْكُمْ فَيْئًا مِنَ الْمَغَانِمِ"قَالُوا" لَكُمْ"أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ"، نُجَاهِدُ عَدُوَّكُمْ وَنَغْزُوهُمْ مَعَكُمْ، فَأَعْطُونَا نَصِيبًا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّا قَدْ شَهِدْنَا الْقِتَالَ مَعَكُمْ"وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ"، يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ لِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ حَظٌّ مِنْكُمْ، بِإِصَابَتِهِمْ مِنْكُمْ "قَالُوا"، يَعْنِي: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ"أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ"، أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ حَتَّى قَهَرْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ"وَنَمْنَعْكُمْ" مِنْهُمْ، بِتَخْذِيلِنَا إِيَّاهُمْ، حَتَّى امْتَنَعُوا مِنْكُمْ فَانْصَرَفُوا"فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، يَعْنِي: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِالْقَضَاءِ الْفَاصِلِ، بِإِدْخَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ جَنَّتَهُ، وَأَهْلِ النِّفَاقِ مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ نَارَهُ" {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، يَعْنِي: حُجَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْمُنَافِقِينَ مُدْخَلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا الْمُؤْمِنِينَ مُدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونَ بِذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةً بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ، إِنَّ أُدْخِلُوا مُدْخَلَهُمْ: هَا أَنْتُمْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْدَاءَنَا، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ أَوْلِيَاءَنَا، وَقَدِ اجْتَمَعْتُمْ فِي النَّارِ، فَجَمَعَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِنَا! فَأَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَنَا مِنْ أَجْلِهِ فِي الدُّنْيَا؟ فَذَلِكَ هُوَ "السَّبِيلُ" الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا عَلَيْهِمْ لِلْكَافِرِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: " {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} ". قَالَ: الْمُنَافِقُونَ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ"فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ"، قَالَ: إِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ عَدُوِّهُمْ غَنِيمَةً قَالَ الْمُنَافِقُونَ: "أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ"، قَدْ كُنَّا مَعَكُمْ فَأَعْطُونَا غَنِيمَةً مِثْلَ مَا تَأْخُذُونَ"وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ"، يُصِيبُونَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: "أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، قَدْ كُنَّا نُثَبِّطُهُمْ عَنْكُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: "أَلَمْ {نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} "، قَالَ: نَغْلِبُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} "، أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى: "أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ"، إِنَّمَا أَرَادَ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ-: أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ بِمَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْبَيَانِ لَكُمْ أَنَا مَعَكُمْ. وَأَصْلُ "الِاسْتِحْوَاذِ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فِيمَا بَلَغَنَا، الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، [سُورَةُُ الْمُجَادِلَةِ: 19]، بِمَعْنَى: غَلَبَ عَلَيْهِمْ. يُقَالُ مِنْهُ: "حَاذَ عَلَيْهِ وَاسْتَحَاذَ، يُحِيذُ وَيَسْتَحِيذُ، وَأَحَاذَ يُحِيذُ". وَمِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ: "حَاذَ"، قَوْلُ الْعَجَاجِ فِي صِفَةِ ثَوْرٍ وَكَلْبٍ: يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيٌّ وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِيٌّ وَهَمًّا مُتَقَارِبًا الْمَعْنَى. وَمِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ"أَحَاذَ"، قَوْلُ لَبِيَدٍ فِي صِفَةِ عِيْرٍ وَأُتُنٍ: إِذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا *** وَأَوْرَدَهَا عَلَى عُوجٍ طِوَالِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا"، غَلَبَهَا وَقَهَرَهَا حَتَّى حَاذَ كِلَا جَانِبَيْهَا، فَلَمْ يَشِذَّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أَنْ يَأْتِيَ: "اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمْ"، لِأَنَّ "الوَاوَ" إِذَا كَانَتْ عَيْنَ الْفِعْلِ وَكَانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِالْفَتْحِ وَمَا قَبْلَهَا سَاكِنٌ، جَعَلَتِ الْعَرَبُ حَرَكَتَهَا فِي"فَاءِ" الْفِعْلِ قَبْلَهَا، وَحَوَّلُوهَا"أَلِفًا"، مُتَّبِعَةً حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِمْ: "اسْتَحَالَ هَذَا الشَّيْءُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ"، مِنْ"حَالَ يُحُولُ" وَ"اسْتَنَارَ فُلَانٌ بِنُورِ اللَّهِ"، مِنْ "النُّورِ" وَ"اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ" مَنْ"عَاذَ يَعُوذُ". وَرُبَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ: "وَأَحْوَذَ"، وَلَمْ يُقِلْ"وَأَحَاذَ"، وَبِهَذِهِ اللُّغَةِ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، فَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا فَيَظْهَرُونَ وَيَقْتُلُونَ؟ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: ادْنُهْ، ادْنُهْ! ثُمَّ قَالَ: " {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْكَنَدِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: ادْنُهْ، " {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ} "، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، " {لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ". حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلَيٍّ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدُرٌ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، قَالَ: ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا "السَّبِيلُ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَالْحُجَّةُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} "، قَالَ: حُجَّةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى"خِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ"، وَوَجْهُ "خِدَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ"، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ، بِإِحْرَازِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَاللَّهَ خَادِعُهُمْ بِمَا حَكَمَ فِيهِمْ مِنْ مَنْعِ دِمَائِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، مَعَ عِلْمِهِ بِبَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمُ الْكُفْرَ، اسْتِدْرَاجًا مِنْهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَلْقَوْهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيُورِدُهُمْ بِمَا اسْتَبْطَنُوا مِنَ الْكُفْرِ نَارَ جَهَنَّمَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} "، قَالَ: يُعْطِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَسْلُبُهُمْ ذَلِكَ النُّورَ فَيُطْفِئُهُ، فَيَقُومُونَ فِي ظُلْمَتِهِمْ، وَيُضْرِبُ بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيٍّ، وَأَبِي عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ"يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ"، قَالَ: مِثْلَ قَوْلِهِ فِي "البَقَرَةِ": {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 9]. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَهُوَ خَادِعُهُمْ"، فَيَقُولُ: فِي النُّورِ الَّذِي يُعْطَى الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُعْطَوْنَ النُّورَ، فَإِذَا بَلَغُوا السُّورَ سُلِبَ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 13]. قَالَ قَوْلَهُ: "وَهُوَ خَادِعُهُمْ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانِ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} "، قَالَ: يُلْقَى عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ نُورٌ يَمْشُونَ بِهِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، وَمَضَى الْمُؤْمِنُونَ بِنُورِهِمْ، فَيُنَادُونَهُمْ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [سُورَةُُ الْحَدِيدِ: 13]. قَالَ الْحَسَنُ: فَذَلِكَ خَدِيعَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحِذَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُسْلَبُوا أَمْوَالَهُمْ. فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ، قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا، رِيَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَقِدِي فَرْضِهَا وَوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ، فَهُمْ فِي قِيَامِهِمْ إِلَيْهَا كُسَالَى، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} "، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا النَّاسُ مَا صَلَّى الْمُنَافِقُ، وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً. حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهَبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} "، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَوْلَا الرِّيَاءُ مَا صَلُّوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} "، فَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: وَهَلْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ؟. قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا ذِكْرَ رِيَاءٍ، لِيَدْفَعُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءَ وَسَلْبَ الْأَمْوَالِ، لَا ذِكْرَ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُخْلِصٍ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ. فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ "قَلِيلًا"، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهَ، وَلَا مُبْتَغًى بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ، وَلَا مُرَادٌ بِهِ ثَوَابُ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ. فَهُوَ، وَإِنْ كَثُرَ، مِنْ وَجْهِ نَصَبِ عَامِلِهِ وَذَاكِرِهِ، فِي مَعْنَى السَّرَابِ الَّذِي لَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةِ مَاءٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ: " {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} "، قَالَ: إِنَّمَا قَلَّ لِأَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} "، قَالَ: إِنَّمَا قَلَّ ذِكْرُ الْمُنَافِقِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْهُ. وَكُلُّ مَا رَدَّ اللَّهُ قَلِيلٌ، وَكُلُّ مَا قَبِلَ اللَّهُ كَثِيرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "مُذَبْذَبِينَ"، مُرَدِّدِينَ. وَأَصْلُ "التَّذَبْذُبِ"، التَّحَرُّكُ وَالِاضْطِرَابُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُتَحَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ، لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ عَلَى صِحَّةٍ، فَهُمْ لَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جَهَالَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ حَيَارَى بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَثَلُهُمُ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً، لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا تَتْبَعُ! وَحَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى مَرَّةً أُخْرَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، فَوَقَفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ مَرَّتَيْنِ كَذَلِكَ. حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بِكَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رُوحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} "، يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ فَيَظْهَرُوا الشِّرْكَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} "، يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ. قَالَ: «وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ، كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ، فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ، ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ نَادَاهُ الْكَافِرُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ! وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ، فَإِنَّ عِنْدِي وَعِنْدِي! يُحْصِي لَهُ مَا عِنْدَهُ. فَمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ آذِيٌّ فَغَرَّقَهُ. وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ.» قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: مِثْلَ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ، رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشْزٍ فَأَتَتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ، ثُمَّ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشْزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتَهَا فَلَمْ تَعْرِفْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {مُذَبْذَبِينَ} "، قَالَ: الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} "، يَقُولُ: لَا إِلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: " {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} "، قَالَ: لَمْ يُخْلِصُوا الْإِيمَانَ فَيَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسُوا مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ. حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} "، بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ "لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: مَنْ يَخْذُلُهُ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي دَعَا اللَّهَ إِلَيْهِ عِبَادَهَ. يَقُولُ: مَنْ يَخْذُلُهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لَهُ "فَلَنْ تَجِدَ لَهُ"، يَا مُحَمَّدُ "سَبِيلًا"، يَعْنِي: طَرِيقًا يَسْلُكُهُ إِلَى الْحَقِّ غَيْرَهُ. وَأَيُّ سَبِيلٍ يَكُونُ لَهُ إِلَى الْحَقِّ غَيْرَ الْإِسْلَامِ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ غَوَى فَلَا هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي رُكُوبٍ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا تُوَالُوا الْكُفَّارَ فَتُؤَازِرُوهُمْ مَنْ دُونِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُوا كَمَنْ أَوْجَبْتُ لَهُ النَّارَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مُتَوَعِّدًا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ هُوَ لَمْ يَرْتَدِعْ عَنْ مُوَالَاتِهِ، وَيَنْزَجِرْ عَنْ مُخَالَّتِهِ أَنْ يُلْحِقَهُ بِأَهْلِ وِلَايَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا: "أَتُرِيدُونَ"، أَيُّهَا الْمُتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ قَدْ آمَنُ بِي وَبِرَسُولِي" {أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} "، يَقُولُ: حُجَّةً، بِاتِّخَاذِكُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ مَا اسْتَوْجَبَهُ أَهْلُ النِّفَاقِ الَّذِينَ وَصَفَ لَكُمْ صِفَتَهُمْ، وَأَخْبَرَكُمْ بِمَحَلِّهِمْ عِنْدَهُ"مُبِينًا"، يَعْنِي: يُبَيِّنُ عَنْ صِحَّتِهَا وَحَقِيقَتِهَا. يَقُولُ: لَا تَعَرَّضُوا لِغَضَبِ اللَّهِ، بِإِيجَابِكُمُ الْحُجَّةَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَقَدُّمِكُمْ عَلَى مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} "، قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ السُّلْطَانَ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: عُذْرًا مُبِينًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ"سُلْطَانٍ"، فَهُوَ حُجَّةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {سُلْطَانًا مُبِينًا} "، قَالَ: حُجَّةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثْلَهَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الطَّبَقِ الْأَسْفَلِ مِنْ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ. وَكُلُّ طَبَقٍ مِنْ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ: "دَرْكٌ". وَفِيهِ لُغَتَانِ، "دَرَكٌ"، بِفَتْحِ "الرَّاءِ" وَ"دَرْكٌ" بِتَسْكِينِهَا. فَمَنْ فَتَحَ "الرَّاءَ"، جَمَعَهُ فِي الْقِلَّةِ"أَدْرَاكٌ"، وَإِنْ شَاءَ جَمَعَهُ فِي الْكَثْرَةِ "الدُرُوكُ". وَمَنْ سَكَّنَ "الرَّاءَ" قَالَ: "ثَلَاثَةُ أَدْرُكٍ"، وَلِلْكَثِيرِ" الُّدُرُوكُ ". وَقَدِ اخْتَلَفَتِ القَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ: فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (فِي الدَّرَكِ) بِفَتْحِ "الرَّاءِ". وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ بِتَسْكِيِنِ "الرَّاءِ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِاتِّفَاقِ مَعْنَى ذَلِكَ، وَاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي قَرَأَةِ الْإِسْلَامِ. غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ فَتْحَ "الرَّاءِ" مِنْهُ فِي الْعَرَبِ، أَشْهَرُ مِنْ تَسْكِينِهَا. وَحَكَوْا سَمَاعًا مِنْهُمْ: "أَعْطِنِي دَرَكًا أَصِلُ بِهِ حَبْلِي"، وَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ مَا يَصِلُ بِهِ حَبْلَهُ الَّذِي قَدْ عَجَزَ عَنْ بُلُوغِ الرَّكِيَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} "، قَالَ: فِي تَوَابِيتِ مِنْ حَدِيدٍ مُبْهَمَةً عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُقْفَلَةٍ عَلَيْهِمْ فِي النَّارِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} "، قَالَ: فِي تَوَابِيتَ تُرْتَجُ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} "، يَعْنِي: فِي أَسْفَلِ النَّارِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ قَوْلُهُ: " {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} "، قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّ جَهَنَّمَ أَدْرَاكٌ: مَنَازِلٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: " {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} "، قَالَ: تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَنْ تَجِدَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنَ اللَّهِ إِذَا جَعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ، فَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ أَلِيمَ عِقَابِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ مِنْ نِفَاقِهِمْ إِذَا أَصْلَحُوا، وَأَخْلَصُوا الدِّينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَتَبَرَّءُوا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ، أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ حَتَّى تُوَافِيَهُمْ مَنَايَاهُمْ- فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا مَدَاخِلَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ. بَلْ وَعَدَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُحِلَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَحَلَّ الْكَرَامَةِ، وَيُسْكِنَهُمْ مَعَهُمْ مَسَاكِنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَوَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَوْبَتِهِمُ الْجَزِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ فَقَالَ: "وَسَوْفَ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا"، أَيْ: رَاجَعُوا الْحَقَّ، وَأَبَوْا إِلَّا الْإِقْرَارَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ نِفَاقِهِمْ "وَأَصْلَحُوا"، يَعْنِي: وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ، فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَانْزَجَرُوا عَنْ مَعَاصِيهِ "وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ"، يَقُولُ: وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ "الاعْتِصَامَ" التَّمَسُّكُ وَالتَّعَلُّقُ. فَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي عَهِدَ فِي كِتَابِهِ إِلَى خَلْقِهِ، مِنْ طَاعَتِهِ وَتَرَكَ مَعْصِيَتِهِ. " {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} "، يَقُولُ: وَأَخْلَصُوا طَاعَتَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِلَّهِ، فَأَرَادُوهُ بِهَا، وَلَمْ يَعْمَلُوهَا رِئَاءَ النَّاسِ، وَلَا عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَامْتِرَاءً مِنْهُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ مُحْصٍ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا، فَمُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُمْ فِي ثَوَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَجَزَاءِ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ، أَوْ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ رَبُّهُ فَيَعْفُو مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ، مُرِيدِينَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى: "إِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ دِينَهُمْ". ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} "، يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ دِينَهُمْ أَيْ: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ، الَّذِينَ أَوْعَدَهُمُ الدَرَكَ الْأَسْفَلَ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ قَالَ: " {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} "، يَقُولُ: وَسَوْفَ يُعْطِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صَفَّتْهُمْ، عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ دِينَهُمْ لَهُ، وَعَلَى إِيمَانِهِمْ، ثَوَابًا عَظِيمًا وَذَلِكَ: دَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا أَعْطَىَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى النِّفَاقِ مَنَازِلَ فِي النَّارِ، وَهِيَ السُّفْلَى مِنْهَا. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ ذَلِكَ، كَمَا أُوعِدُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، الَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: لَيَدْخُلَّنَ الْجَنَّةَ قَوْمٌ كَانُوا مُنَافِقِينَ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ قَامَ فَتَنَحَّى. فَلَمَّا تَفَرَّقُوا، مَرَّ بِهِ عَلْقَمَةُ فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكَ يَعْلَمُ الَّذِي قُلْتُ! ثُمَّ قَرَأَ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} "، مَا يَصْنَعُ اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، بِعَذَابِكُمْ، إِنْ أَنْتُمْ تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَجَعْتُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ، فَشَكَرْتُمُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، بِالْإِنَابَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَإِخْلَاصِكُمْ أَعْمَالَكُمْ لِوَجْهِهِ، وَتَرَكَ رِيَاءَ النَّاسِ بِهَا، وَآمَنْتُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّقْتُمُوهُ، وَأَقْرَرْتُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ فَعَمِلْتُمْ بِهِ؟ يَقُولُ: لَا حَاجَةَ بِاللَّهِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، إِنْ أَنْتُمْ أَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَرَاجَعْتُمُ الْعَمَلَ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ. لِأَنَّهُ لَا يَجْتَلِبُ بِعَذَابِكُمْ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، وَإِنَّمَا عُقُوبَتُهُ مَنْ عَاقَبَ مَنْ خَلْقِهِ، جَزَاءً مِنْهُ لَهُ عَلَى جَرْأَتِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى خِلَافِهِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكُفْرَانِهِ شُكْرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَنْتُمْ شَكَرْتُمْ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَأَطَعْتُمُوهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَعْذِيبِكُمْ، بَلْ يَشْكُرُ لَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ طَاعَةٍ لَهُ وَشُكْرٍ، بِمُجَازَاتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقْصُرُ عَنْهُ أَمَانِيكُمْ، وَلَمْ تَبْلُغُهُ آمَالُكُمْ "وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا" لَكُمْ وَلِعِبَادِهِ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، بِإِجْزَالِهِ لَهُمُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا، وَإِعْظَامِهِ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْهَا"عَلِيمًا" بِمَا تَعْمَلُونَ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، وَغَيْرَكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَصَالِحٍ وَطَالِحٍ، مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ جَزَاءَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} "، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُعَذِّبُ شَاكِرًا وَلَا مُؤْمِنًا.
|