الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، مَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، إِلَّا لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةٍ “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، يَقُولُ: مَا اللَّهُ بِرَاجِعٍ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُ وَالصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُ، إِلَّا لِلَّذِينِ يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ جَهَالَةً مِنْهُمْ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ يُرَاجِعُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَيَتُوبُونَ مِنْهُ إِلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّدَمِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتَرَكِ الْعُودَ إِلَى مِثْلِهِ مِنْ قَبْلِ نِـزِولِ الْمَوْتِ بِهِمْ. وَذَلِكَ هُوَ “ الْقَرِيبُ “ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَقَالَ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “ بِجَهَالَةٍ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهُ السُّوءَ، هُوَ “ الْجَهَالَةَ “ الَّتِي عَنَاهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ عَبْدٌ فَهُوَ بِجَهَالَةٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُصِيَ بِهِ فَهُوَ “ جَهَالَةٌ “، عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: كُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْـزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَذَاكَ مِنْهُ بِجَهْلٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، مَا دَامَ يَعْصِي اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَهُوَ جَاهِلٌ، مِنْ جَهَالَتِهِ عَمِلَ السُّوءَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْـزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ عَامِلٍ بِمَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ حِينَ عَمِلَ بِهَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَالَ: “ الْجَهَالَةُ “، كُلُّ امْرِئٍ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ أَبَدًا حَتَّى يَنْـزِعَ عَنْهَا، وَقَرَأَ: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) [سُورَةُ يُوسُفَ: 89]، وَقَرَأَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سُورَةُ يُوسُفَ: 33]. قَالَ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْـزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: “ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، يَعْمَلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَمْدٍ مِنْهُمْ لَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: الْجَهَالَةُ: الْعَمْدُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: الْجَهَالَةُ: الْعَمْدُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ، وَعَمَلُهُمُ السُّوءَ هُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي جَهِلُوهَا، عَامِدِينَ كَانُوا لِلْإِثْمِ، أَوْ جَاهِلِينَ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الْعَامِدِ لِلشَّيْءِ: “ الْجَاهِلَ بِهِ “، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُ جَاهِلٌ بِقَدْرِ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتِهِ، فَيُقَالُ: “ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ “، عَلَى مَعْنَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى نَفْعِهِ وَضُرِّهِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِقَدْرِ مَبْلَغِ نَفْعِهِ وَضُرِّهِ، قَاصِدًا إِلَيْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْ أَجْلِ قَصْدِهِ إِلَيْهِ أَنْ يُقَالَ “ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ “، لِأَنَّ “ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ “، هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعَرِفُهُ عِنْدَ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ أَوْ [الَّذِي] يَعْلَمُهُ، فَيُشَبَّهُ فَاعِلُهُ، إِذْ كَانَ خَطَأً مَا فَعَلَهُ، بِالْجَاهِلِ الَّذِي يَأْتِي الْأَمْرَ وَهُوَ بِهِ جَاهِلٌ، فَيُخْطِئُ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ مِنْهُ، فَيُقَالُ: “ إِنَّهُ لَجَاهِلٌ بِهِ “، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَالِمًا، لِإِتْيَانِهِ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يَأْتِي مِثْلَهُ إِلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: “ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “، قِيلَ فِيهِمْ: “ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “ وَإِنْ أَتَوْهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِمَبْلَغِ عِقَابِ اللَّهِ أَهْلَهُ، عَامِدِينَ إِتْيَانَهُ، مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَأْتِي مِثْلَهُ إِلَّا مَنْ جَهِلَ عَظِيمَ عِقَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَهْلَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لِمَنْ أَتَاهُ وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ: “ أَتَاهُ بِجَهَالَةٍ “، بِمَعْنَى أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْجُهَّالِ بِهِ، لَا أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ جَهِلُوا كُنْهَ مَا فِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَمْ يَعْلَمُوهُ كَعِلْمِ الْعَالِمِ، وَإِنْ عَلِمُوهُ ذَنْبًا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: “ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَةٌ لِمَنْ عَلِمَ كُنْهَ مَا فِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَالِمِ الَّذِي عَمِلَ سُوءًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِكُنْهِ مَا فِيهِ، ثُمَّ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ تَوْبَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ تَائِبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: “ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مَا لَمْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا “ وَخِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 70].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى: “ الْقَرِيبِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فِي صِحَّتِهِمْ قَبْلَ مَرَضِهِمْ وَقَبْلَ مَوْتِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، وَالْقَرِيبُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَا دَامَ فِي صِحَّتِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَالَ: فِي الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَبْلِ مُعَايَنَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، وَالْقَرِيبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ قَالَ، قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ فِي تَوْبَةٍ حَتَّى يُعَايِنَ الْمَلَائِكَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: الْقَرِيبُ، مَا لَمْ تَنْـزِلْ بِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْـزِلْ بِهِ الْمَوْتُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، وَلَهُ التَّوْبَةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعَايِنَ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَإِذَا تَابَ حِينَ يَنْظُرُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَبْلِ الْمَوْتِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا قَرِيبٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَبْلَ الْمَوْتِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا لُعِنَ وَأُنْظِرَ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي لَا أَمْنَعُهُ التَّوْبَةَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَثَمَّ أَبُو قِلَابَةَ، فَحَدَّثَ أَبُو قِلَابَةَ قَالَ: إِنِ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا لَعَنَ إِبْلِيسَ سَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ! فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي لَا أَمْنَعُهُ التَّوْبَةَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: إِنِ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا لَعَنَ إِبْلِيسَ سَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَأَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ! قَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا رَأَى آدَمَ أَجْوَفَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ! فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي لَا أَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ “. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ قَبْلَ مَمَاتِهِمْ، فِي الْحَالِ الَّتِي يَفْهَمُونَ فِيهَا أَمْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَنَهْيَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يُغْلَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَقَبْلَ حَالِ اشْتِغَالِهِمْ بِكَرْبِ الْحَشْرَجَةِ وَغَمِّ الْغَرْغَرَةِ، فَلَا يَعْرِفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا يَعْقِلُوا التَّوْبَةَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ تَوْبَةً إِلَّا مِنْ نَدَمٍ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ، وَعَزْمٍ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ، وَهُوَ يَعْقِلُ النَّدَمَ، وَيَخْتَارُ تَرْكَ الْمُعَاوَدَةِ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِكَرْبِ الْمَوْتِ مَشْغُولًا وَبِغَمِّ الْحَشْرَجَةِ مَغْمُورًا، فَلَا إِخَالُهُ إِلَّا عَنِ النَّدَمِ عَلَى ذُنُوبِهِ مَغْلُوبًا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ: “ إِنَّ التَّوِبَةَ مَقْبُولَةٌ، مَا لَمْ يُغَرْغِرِ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ “، فَإِنْ كَانَ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْحَالِ يَعْقِلُ عَقْلَ الصَّحِيحِ، وَيَفْهَمُ فَهْمَ الْعَاقِلِ الْأَرِيبِ، فَأَحْدَثَ إِنَابَةً مِنْ ذُنُوبِهِ، وَرَجْعَةً مِنْ شُرُودِهِ عَنْ رَبِّهِ إِلَى طَاعَتِهِ، كَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ التَّائِبِينَ إِلَيْهِ مِنْ إِجْرَامِهِمْ مِنْ قَرِيبٍ بِقَوْلِهِ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “ فَأُولَئِكَ “، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ “، دُونَ مَنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، وَغَمَرَتْهُ حَشْرَجَةُ مِيتَتِهِ، فَقَالَ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ: “ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “، خِدَاعًا لِرَبِّهِ، وَنِفَاقًا فِي دِينِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ “، يَرْزُقُهُمْ إِنَابَةً إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُمْ أَوَبَتَهُمْ إِلَيْهِ وَتَوْبَتَهُمُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا “، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ “ عَلِيمًا “ بِالنَّاسِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، بَعْدَ إِدْبَارِهِمْ عَنْهُ، الْمُقْبِلِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ “ حَكِيمًا “، فِي تَوْبَتِهِ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَا يَدْخُلُ أَفْعَالَهُ خَلَلٌ، وَلَا يُخَالِطُهُ خَطَأٌ وَلَا زَلَلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مِنْ أَهْلِ الْإِصْرَارِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ “ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ “، يَقُولُ: إِذَا حَشْرَجَ أَحَدُهُمْ بِنَفْسِهِ، وَعَايَنَ مَلَائِكَةَ رَبِّهِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ، قَالَ وَقَدْ غُلِبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَهْمِهِ، بِشُغْلِهِ بِكَرْبِ حَشْرَجَتِهِ وَغَرْغَرَتِهِ “ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “، يَقُولُ: فَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَوْبَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ فِي غَيْرِ حَالِ تَوْبَةٍ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَعْلَى بْنِ نُعْمَانَ قَالَ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ مَا لَمْ يُسَقْ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “، ثُمَّ قَالَ: وَهَلِ الْحُضُورُ إِلَّا السَّوْقُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “ قَالَ: إِذَا تَبَيَّنَ الْمَوْتُ فِيهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “، فَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ تَوْبَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنَّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ، حَتَّى ذَكَرَ شَهْرًا، حَتَّى ذَكَرَ سَاعَةً، حَتَّى ذَكَرَ فَوَاقًا. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ مَا لَمْ يُؤْخَذْ بكَظَمِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ النِّفَاقِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: “ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ “، قَالَ: نَـزَلَتِ الْأُولَى فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَنَـزَلَتِ الْوُسْطَى فِي الْمُنَافِقِينَ يَعْنِي: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ “، وَالْأُخْرَى فِي الْكُفَّارِ يَعْنِي: “ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: بَلَغَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ “ قَالَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: “ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “؟ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ نَـزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا نُسِخَتْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “ فأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سُورَةُ النِّسَاءِ: 48، ]، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ، وَأَرْجَأَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ إِلَى مَشِيئَتِهِ، فَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنَ الْمَغْفِرَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، مَا ذَكَرَهُ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ، فَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَهْلُ النِّفَاقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: “ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “ مَعْنًى مَفْهُومٌ، إِذْ كَانُوا وَالَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ: مِنْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كُفَّارٌ. وَلَا وَجْهَ لِتَفْرِيقِ أَحْكَامِهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ [لَهُمْ] تَوْبَةٌ، وَاحِدٌ. وَفِي تَفْرِقَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيْنَ أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، بِأَنْ سَمَّى أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ كَافِرًا، وَوَصَفَ الصِّنْفَ الْآخَرَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ سَيِّئَاتٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِمْ كُفَّارًا مَا دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ مَعَانِيهِمْ. وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صِحَّةُ مَا قُلْنَا وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَمَوْضِعُ “ الَّذِينَ “ خُفِضَ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: “ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ “. وَقَوْلُهُ: “ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا “، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا “، لِأَنَّهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ أَبْعَدُ، لِمَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ “، أُولَئِكَ أَبْعَدُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى: “ أَعَتَدْنَا لَهُمْ “. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَعْنَى “ أَعَتَدْنَا “، “ أَفْعَلْنَا “مِنَ “ الْعَتَادِ “. قَالَ: وَمَعْنَاهَا: أَعْدَدْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: “ أَعْدَدْنَا “ وَ“ أَعَتَدْنَا “، مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: “ أَعَتَدْنَا لَهُمْ “، أَعْدَدْنَا لَهُمْ “ عَذَابًا أَلِيمًا “، يَقُولُ: مُؤْلِمًا مُوجِعًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَبَارَكَ وَتَعَالَى [بِقَوْلِهِ]: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا “، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا نِكَاحَ نِسَاءِ أَقَارِبِكُمْ وَآبَائِكُمْ كَرْهًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ كَانُوا يَرِثُونَهُنَّ؟ وَمَا وَجْهُ تَحْرِيمِ وِرَاثَتِهِنَّ؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النِّسَاءَ مُوَرَّثَاتٌ كَمَا الرِّجَالِ مُوَرَّثُونَ! قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى وِرَاثَتِهِنَّ إِذَا هُنَّ مِتْنَ فَتَرَكْنَ مَالًا وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَنَّهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ إِحْدَاهُنَّ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا، كَانَ ابْنُهُ أَوْ قَرِيبُهُ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا بِنَفْسِهَا، إِنْ شَاءَ نَكَحَهَا، وَإِنْ شَاءَ عَضَلَهَا فَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى تَمُوتَ. فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ، وَحَظَرَ عَلَيْهِمْ نِكَاحَ حَلَائِلِ آبَائِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عَضْلِهِنَّ عَنِ النِّكَاحِ. وَبِنَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي: الشَّيْبَانِيَّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ، كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّ شَاؤُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنَّ شَاؤُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنَـزَلَ اللَّهُ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا، فَأَحْكَمَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ تَفْعَلُ ذَلِكَ. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ حَمِيمُهُ، وَرِثَ حَمِيمُهُ امْرَأَتَهُ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِهَا مِنْ وَلِيِّ نَفْسِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ أَوْ حَمِيمُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، أَوْ يَحْبِسُهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِصَدَاقِهَا، أَوْ تَمُوتَ فَيَذْهَبُ بِمَالِهَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا هَلَكَ الرَّجُلُ فَتَرَكَ امْرَأَةً حَبَسَهَا أَهْلُهُ عَلَى الصَّبِيِّ يَكُونُ فِيهِمْ، فَنَزَلَتْ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “ الْآيَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَانَ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، يَنْكِحُهَا إِنْ شَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنِ ابْنَهَا، أَوْ يُنْكِحُهَا إِنْ شَاءَ أَخَاهُ أَوِ ابْنَ أَخِيهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ نَـزَلَتْ فِي كُبَيْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ، مِنْ الْأَوْسِ، تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأَنْكِحُ! فنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، قَالَ: كَانَ إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ، كَانَ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ هُوَ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ، يَنْكِحُهَا إِذَا شَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنِ ابْنَهَا، أَوْ يُنْكِحُهَا مَنْ شَاءَ، أَخَاهُ أَوِ ابْنَ أَخِيهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ قَالَ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا قَوْلُهُ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَمُوتُ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوِ ابْنُهُ، فَإِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ سَبْقَ وَارِثُ الْمَيِّتِ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا بِمَهْرِ صَاحِبِهِ، أَوْ يَنْكِحَهَا فَيَأْخُذُ مَهْرَهَا. وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، كَانُوا بِالْمَدِينَةِ إِذَا مَاتَ حَمِيمُ الرَّجُلِ وَتَرَكَ امْرَأَةً، أَلْقَى الرَّجُلُ عَلَيْهَا ثَوْبَهُ، فَوَرِثَ نِكَاحَهَا، وَكَانَ أَحَقَّ بِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نِكَاحًا. فَإِنَّ شَاءَ أَمْسَكَهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ. وَكَانَ هَذَا فِي الشِّرْكِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، قَالَ: كَانَتِ الْوِرَاثَةُ فِي أَهْلِ يَثْرِبَ بِالْمَدِينَةِ هَاهُنَا. فَكَانَ الرَّجُلُ يَمُوتُ فَيَرِثُ ابْنُهُ امْرَأَةَ أَبِيهِ كَمَا يَرِثُ أُمَّهُ، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَمْتَنِعَ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَّخِذَهَا اتَّخَذَهَا كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَتَّخِذُهَا، وَإِنَّ كَرِهَ فَارَقَهَا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا حُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَكْبُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَصَابَهَا، وَإِنْ شَاءَ فَارَقَهَا. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، وَذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا مَاتَ حَمِيمُ أَحَدِهِمْ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَوَرِثَ نِكَاحَهَا، فَلَمْ يَنْكِحْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَحَبَسَهَا عِنْدَهُ حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ بِفِدْيَةٍ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبَهُ، كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا. قَالَ: فنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا آبَاءَكُمْ وَأَقَارِبَكُمْ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ كَرْهًا فَتَرَكَ ذِكْرَ “ الْآبَاءِ “ وَ“ الْأَقَارِبِ “ وَ“ النِّكَاحِ “، وَوَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى النَّهْيِ عَنْ وِرَاثَةِ النِّسَاءِ، اكْتِفَاءً بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ تَرِكَاتِهِنَّ كَرْهًا. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْضُلُونَ أيَامَاهُنَّ، وَهُنَّ كَارِهَاتٌ لِلْعَضْلِ، حَتَّى يَمُتْنَ، فَيَرِثُوهُنَّ أَمْوَالَهُنَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ جَارِيَةً، أَلْقَى عَلَيْهَا حَمِيمُهُ ثَوْبَهُ فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ. فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تُزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ، فَأَمْلَكُ النَّاسِ بِامْرَأَتِهِ وَلَيُّهُ، فَيُمْسِكُهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فنَـزَلَتْ فِيهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَمَّنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا نِسَاءَ أُقَارِبِكُمْ “، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ بَيَّنَ مَوَارِيثَ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ، فَذَلِكَ لِأَهْلِهِ، كَرِهَ وِرَاثَتَهُمْ إِيَّاهُ الْمَوْرُوثَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، أَوْ رَضِيَ. فَقَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْظُرْ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَرْثُوا النِّسَاءَ فِيمَا جَعَلَهُ لَهُمْ مِيرَاثًا عَنْهُنَّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا حَظَرَ أَنْ يُكْرَهْنَ مَوْرُوثَاتٍ، بِمَعْنَى حَظَرَ وِرَاثَةَ نِكَاحِهِنَّ، إِذَا كَانَ مَيِّتُهُمُ الَّذِي وَرِثُوهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا عَلَيْهِنَّ أَمْرَهُنَّ فِي النِّكَاحِ مِلْكَ الرَّجُلِ مَنْفَعَةَ مَا اسْتَأْجَرَ مِنَ الدَّوْرِ وَالْأَرْضِينَ وَسَائِرِ مَا لَهُ مَنَافِعٌ. فَأَبَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ: أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مِنْ بِضْعِ زَوْجِهِ، مَعْنَاهُ غَيْرُ مَعْنَى مَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ مِنْ مَنَافِعِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ الَّتِي تَجُوزُ إِجَارَتُهَا. فَإِنَّ الْمَالِكَ بِضْعَ زَوْجَتِهِ إِذَا هُوَ مَاتَ، لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ لَهُ مَلِكًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِالنِّكَاحِ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، كَمَا لَهُمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ يَمْلِكُهَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِمِيرَاثِهِمْ ذَلِكَ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “: أَيْ وَلَا تَحْبِسُوا، يَا مَعْشَرَ وَرَثَةِ مَنْ مَاتَ مِنَ الرِّجَالِ، أَزْوَاجَهُمْ عَنْ نِكَاحِ مَنْ أَرَدْنَ نِكَاحَهُ مِنَ الرِّجَالِ، كَيْمَا يَمُتْنَ “ فَـ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، أَيْ: فَتَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ إِذَا مِتْنَ، مَا كَانَ مَوْتَاكُمُ الَّذِينَ وَرِثْتُمُوهُمْ سَاقُوا إِلَيْهِنَّ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُمْ، مِنْهُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا تَعْضُلُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، نِسَاءَكُمْ فَتَحْبِسُوهُنَّ ضِرَارًا، وَلَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَيْهِنَّ، فَتَضُرُّوا بِهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ بِمَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، يَقُولُ: لَا تَقْهَرُوهُنَّ “ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، يَعْنِي، الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ كَارِهٌ لِصُحْبَتِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَيُضِرُّ بِهَا لِتَفْتَدِيَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْبِسَ امْرَأَتَكَ ضِرَارًا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْكَ قَالَ وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ، وَأَخْبَرَنِي سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ: نَـزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأُخْرَى فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، قَالَ: نَـزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأُخْرَى فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا تَعْضُلُوهُنِ فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، قَالَ: لَا تَحْبِسُوهُنَّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، أَمَّا “ تَعْضُلُوهُنَّ “، فَيَقُولُ: تُضَارُوهُنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، قَالَ: “ الْعَضْلُ “، أَنْ يُكْرِهَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَيَضُرُّ بِهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [سُورَةُ النِّسَاءِ: 21]. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ عَضْلِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَوْلِيَاؤُهُنَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ “، كَالْعَضْلِ فِي “ سُورَةِ الْبَقَرَةِ “. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَنْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ: زَوْجُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ فِرَاقِهِ إِيَّاهَا. وَقَالُوا: ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنُهُوا عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْعَضْلُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، يَنْكِحُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا أَنْ لَا تُوَافِقَهُ، فَيُفَارِقُهَا عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَيُشْهِدُ، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ، فَإِنْ أَعْطَتْهُ وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا، قَالَ: فَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “ الْآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى “ الْعَضْلِ “ وَمَا أَصْلُهُ، بِشَوَاهِدِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَّرْنَاهَا بِالصِّحَّةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “، قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَهَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ عَنِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهَا وَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَهُوَ لِصُحْبَتِهَا كَارِهٌ وَلِفِرَاقِهَا مُحِبٌّ، لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا مِنَ الصَّدَاقِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى عَضْلِ امْرَأَةٍ، إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إِمَّا لِزَوْجِهَا بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا وَحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا كَارِهٌ، مُضَارَّةً مِنْهُ لَهَا بِذَلِكَ، لِيَأْخُذَ مِنْهَا مَا آتَاهَا بِافْتِدَائِهَا مِنْهُ نَفْسَهَا بِذَلِكَ أَوْ لِوَلِيِّهَا الَّذِي إِلَيْهِ إِنْكَاحُهَا. وَإِذَا كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى عَضْلِهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أَتَاهَا شَيْئًا فَيُقَالُ إِنْ عَضَلَهَا عَنِ النِّكَاحِ: “ عَضَلَهَا لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا “، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي عَنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِنَهْيهِ عَنْ عَضْلِهَا، هُوَ زَوْجُهَا الَّذِي لَهُ السَّبِيلُ إِلَى عَضْلِهَا ضِرَارًا لِتَفْتَدِي مِنْهُ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ السَّبِيلَ عَلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ إِيَّاهَا وَبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ، فَيَكُونُ لَهُ إِلَى عَضْلِهَا سَبِيلٌ لِتَفْتَدِي مِنْهُ مِنْ عَضْلِهِ إِيَّاهَا، أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ أَمْ لَمْ تَأْتِ بِهَا، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ عَضْلَهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ حَتَّى يَفْتَدِينَ مِنْهُ كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ خَطَأُ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَتَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: “ عَنَى بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلِيَاءَ الْأَيَامَى “، وَصِحَّةُ مَا قُلْنَا فِيهِ. [قَوْلُهُ]: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ “، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: “ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا “. وَمَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، وَلَا أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِيمَا ذُكِرَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَوْ قِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ، لَمْ يَكُنْ خَطَأً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تعضُلُوا نِسَاءَكُمْ ضِرَارًا مِنْكُمْ لَهُنَّ، وَأَنْتُمْ لِصُحْبَتِهِنَّ كَارِهُونَ، وَهُنَّ لَكُمْ طَائِعَاتٌ، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، فَيَحِلَّ لَكُمْ حِينَئِذٍ الضِّرَارُ بِهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ الْفَاحِشَةِ “ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا الزِّنَا، وَقَالَ: إِذَا زَنَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ حَلَ لَهُ عَضْلُهَا وَالضِّرَارُ بِهَا، لِتَفْتَدِي مِنْهُ بِمَا آتَاهَا مِنْ صِدَاقِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ- فِي الْبِكْرِ تَفْجُرُ قَالَ: تُضْرَبُ مِائَةً، وَتُنْفَى سِنَةً، وَتَرُدُّ إِلَى زَوْجِهَا مَا أَخَذَتْ مِنْهُ. وَتَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ- فِي الرِّجْلِ إِذَا أَصَابَتِ امْرَأَتُهُ فَاحِشَةً، أَخَذَ مَا سَاقَ إِلَيْهَا وَأَخْرَجَهَا، فَنَسَخَ ذَلِكَ الْحُدُودُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: إِذَا رَأَى الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ فَاحِشَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَارَّهَا وَيَشُقَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَخْتَلِعَ مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ، أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ- فِي الرَّجُلِ يَطَّلِعُ مِنَ امْرَأَتِهِ عَلَى فَاحِشَةٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، وَهُوَ الزِّنَا، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَخُذُوا مُهُورَهُنَّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ: أَنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ “، قَالَ: الزِّنَا. قَالَ: وَسَمِعْتُ الْحَسَنَ وَأَبَا الشَّعْثَاءِ يَقُولَانِ: فَإِنْ فَعَلَتْ، حَلَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَكُونَ هُوَ يَسْأَلُهَا الْخُلْعَ، تَفْتَدِي نَفْسَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ “، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، النُّشُوزُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، وَهُوَ الْبُغْضُ وَالنُّشُوزُ، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنْهَا الْفِدْيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ) فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: إِذَا عَصَتْكَ وَآذَتْكَ، فَقَدْ حَلَّ لَكَ أَخْذُ مَا أَخَذَتْ مِنْكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، قَالَ: الْفَاحِشَةُ هَاهُنَا النُّشُوزُ. فَإِذَا نَشَزَتْ، حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ خُلْعَهَا مِنْهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، قَالَ: هُوَ النُّشُوزُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، فَإِنْ فَعَلْنَ: إِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمُوهُنَّ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَرْسَلْتُمُوهُنَّ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، قَالَ: عَدَلَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقَضَاءِ، فَرَجَعَ إِلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، وَ“ الْفَاحِشَةُ “: الْعِصْيَانُ وَالنُّشُوزُ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا، وَأَمَرَهُ بِالْهَجْرِ. فَإِنْ لَمْ تَدْعِ الْعِصْيَانَ وَالنُّشُوزَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ كُلُّ “ فَاحِشَةٍ “: مِنْ بَذَاءٍ بِاللِّسَانِ عَلَى زَوْجِهَا، وَأَذًى لَهُ، وَزِنًا بِفَرْجِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، كُلَّ فَاحِشَةٍ مُتَبَيِّنَةٍ ظَاهِرَةٍ. فَكُلُّ زَوْجِ امْرَأَةٍ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي هِيَ زِنًا أَوْ نُشُوزٌ، فَلَهُ عَضْلُهَا عَلَى مَا بَيَّنَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ، بِأَيِ مَعَانِي الْفَوَاحِشِ أَتَتْ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً مُبَيِّنَةً بِظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَالَّذِي: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النِّسَاءَ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ. وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ، وَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ، فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تُوَطِّئَ فِرَاشَهُ أَحَدًا، وَأَنْ لَا تَعْصِيهِ فِي مَعْرُوفٍ، وَأَنَّ الَّذِي يَجِبُ لَهَا مِنَ الرِّزْقِ وَالْكُسْوَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّتْ هِيَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ، بِتَرْكِهَا إِيطَاءِ فِرَاشِهِ غَيْرَهُ، وَتَرْكِهَا مَعْصِيَتَهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ مِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا “ إِنَّمَا هُوَ أَنْ لَا يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَحَدًا سِوَاكُمْ. وَإِذَا كَانَ مَا رُوِّينَا فِي ذَلِكَ صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ إِذَا أَوَطَّأَتِ امْرَأَتُهُ نَفْسَهَا غَيْرَهُ وَأَمْكَنَتْ مِنْ جِمَاعِهَا سِوَاهُ، أَنَّ لَهُ مِنْ مَنَعَهَا الْكُسْوَةَ وَالرِّزْقَ بِالْمَعْرُوفِ، مِثْلَ الَّذِي لَهُ مِنْ مَنْعِهَا ذَلِكَ إِذَا هِيَ عَصَتْهُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لَهَا- بِمَنْعِهِ إِيَّاهَا مَالَهُ مَنَعَهَا- حَقًّا لَهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّهَا إِذَا افْتَدَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَخْذَ مِنْهَا زَوْجُهَا مَا أَعْطَتْهُ، أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ عَنْ عَضْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، بَلْ هُوَ أَخَذَ مَا أَخَذَ مِنْهَا عَنْ عَضْلٍ لَهُ مُبَاحٍ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي اسْتِثْنَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْعَاضِلِينَ بِقَوْلِهِ: “ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “. وَإِذْ صَحَّ ذَلِكَ، فَبَيِّنٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: “ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ “، مَنْسُوخٌ بِالْحُدُودِ، لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى مَنْ أَتَى بِالْفَاحِشَةِ الَّتِي هِيَ زِنًا. وَأَمَّا الْعَضْلُ لِتَفْتَدِيَ الْمَرْأَةُ مِنَ الزَّوْجِ بِمَا آتَاهَا أَوْ بِبَعْضِهِ، فَحَقٌّ لِزَوْجِهَا كَمَا عَضْلُهُ إِيَّاهَا وَتَضْيِيقُهُ عَلَيْهَا إِذَا هِيَ نَشَزَتْ عَلَيْهِ لِتَفْتَدِي مِنْهُ، حَقٌّ لَهُ. وَلَيْسَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، أَنْ تَعَضَّلُوا نِسَاءَكُمْ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَتَمْنَعُوهُنَّ رِزْقَهُنَّ وَكَسَوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدُقَاتِكُمْ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ بَذَاءٍ عَلَيْكُمْ، وَخِلَافٍ لَكُمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ لَكُمْ- مُبَيِّنَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَيَحِلُّ لَكُمْ حِينَئِذٍ عَضْلُهُنَ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدَاقٍ إِنْ هُنَّ افْتَدَيْنَ مِنْكُمْ بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: “ مُبِيِّنَةٍ “. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: “ مُبَيَّنَةٍ “ بِفَتْحِ “ الْيَاءِ “، بِمَعْنَى أَنَّهَا قَدْ بُيِّنَتْ لَكُمْ وَأُعْلِنَتْ وَأُظْهِرَتْ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: “ مُبَيِّنَةٍ “ بِكَسْرِ “ الْيَاءِ “، بِمَعْنَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِلنَّاسِ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ. وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِي قِرَاءَتِهِ الصَّوَابَ، لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ إِذَا أَظْهَرَهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ. وَإِذَا ظَهَرَتْ، فَبِإِظْهَارِ صَاحِبِهَا إِيَّاهَا ظَهَرَتْ. فَلَا تَكُونُ ظَاهِرَةً بَيِّنَةً إِلَّا وَهِيَ مُبَيَّنَةٌ، وَلَا مُبَيَّنَةً إِلَّا وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ. فَلِذَلِكَ رَأَيْتُ الْقِرَاءَةَ بِأَيِّهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ صَوَابًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ “، وَخَالِقُوا، أَيُّهَا الرِّجَالُ، نِسَاءَكُمْ وَصَاحِبُوهُنَّ “ بِالْمَعْرُوفِ “، يَعْنِي بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ، وَذَلِكَ: إِمْسَاكُهُنَّ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِنَّ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ تَسْرِيحٌ مِنْكُمْ لَهُنَّ بِإِحْسَانٍ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ “، يَقُولُ: وَخَالَطُوهُنَّ. كَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ “ خَالِقُوهُنَّ “، مِنَ “ الْعِشْرَةِ “ وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَعَضُلُوا نِسَاءَكُمْ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ وَلَا نُشُوزٍ كَانَ مِنْهُنَّ، وَلَكِنْ عَاشَرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَرَّهْتُمُوهُنَّ، فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكْرَهُوهُنَّ فَتُمْسِكُوهُنَّ، فَيَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فِي إِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُنَّ عَلَى كُرْهٍ مِنْكُمْ لَهُنَّ خَيْرًا كَثِيرًا، مِنْ وَلَدٍ يَرْزُقُكُمْ مِنْهُنَّ، أَوْ عَطْفِكُمْ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ كَرَاهَتِكُمْ إِيَّاهُنَّ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا “، يَقُولُ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْكَرَاهَةِ خَيْرًا كَثِيرًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: “ وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا “، قَالَ: الْوَلَدُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا “، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ: أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا، فَيُرْزَقَ الرَّجُلُ وَلَدَهَا، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِي وَلَدِهَا خَيْرًا كَثِيرًا. وَ “ الْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ: “ وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا “، عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كِنَايَةً عَنْ مَصْدَرِ “ تَكْرَهُوا “، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: فَإِنْ كَرَّهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِي كُرْهِهِ خَيْرًا كَثِيرًا. وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، كَانَ جَائِزًا صَحِيحًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ “، وَإِنْ أَرَدْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، نِكَاحَ امْرَأَةٍ مَكَانَ امْرَأَةٍ لَكُمْ تُطَلِّقُونَهَا “ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ “، يَقُولُ: وَقَدْ أَعْطَيْتُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ طَلَاقَهَا مِنَ الْمَهْرِ “ قِنْطَارًا “. وَ “ الْقِنْطَارُ “ الْمَالُ الْكَثِيرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَبْلَغِهِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا. “ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا “، يَقُولُ: فَلَا تَضُرُّوا بِهِنَّ إِذَا أَرَدْتُمْ طَلَاقَهُنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ بِمَا آتَيْتُمُوهُنَّ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ “، طَلَاقَ امْرَأَةٍ مَكَانَ أُخْرَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْمُطَلَّقَةِ شَيْءٌ وَإِنْ كَثُرَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ أَتَأْخُذُونَهُ “، أَتَأْخَذُونَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ مُهُورِهِنَّ “ بُهْتَانًا “، يَقُولُ: ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ “ وَإِثْمًا مُبِينًا “، يَعْنِي: وَإِثْمًا قَدْ أَبَانَ أَمْرَ آخِذِهِ أَنَّهُ بِأَخْذِهِ إِيَّاهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ ظَالِمٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ “، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَأْخُذُونَ مِنْ نِسَائِكُمْ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ، إِذَا أَرَدْتُمْ طَلَاقَهُنَّ وَاسْتِبْدَالَ غَيْرِهِنَّ بِهِنَّ أَزْوَاجًا “ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ “، فَتَبَاشَرْتُمْ وَتَلَامَسْتُمْ. وَهَذَا كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّكِيرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ: “ كَيْفَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَا غَيْرُ رَاضٍ بِهِ؟ “، عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَأَمَّا “ الْإِفْضَاءُ “ إِلَى الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [بَلِينَ] بِـلًى أَفْضَـى إلَـى [كُلِّ] كُتْبَـةٍ *** بَـدَا سَـيْرُهَا مِـنْ بَـاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ الْفَسَادَ وَالْبِلَى وَصَلَ إِلَى الْخُرَزِ. وَالَّذِي عُنِيَ بِهِ “ الْإِفْضَاءُ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْجِمَاعُ فِي الْفَرَجِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْجِمَاعِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْقَنَّادُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِفْضَاءُ الْمُبَاشَرَةُ، وَلَكُنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي عَمَّا يَشَاءُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِفْضَاءُ الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِفْضَاءُ هُوَ الْجِمَاعُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ “، قَالَ: مُجَامَعَةُ النِّسَاءِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ “، يَعْنِي الْمُجَامَعَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَيْ: مَا وَثَّقْتُمْ بِهِ لَهُنَّ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مِنْ عَهْدٍ وَإِقْرَارٍ مِنْكُمْ بِمَا أَقْرَرْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مِنْ إِمْسَاكِهِنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ. وَكَانَ فِي عَقْدِ الْمُسْلِمِينَ النِّكَاحَ قَدِيمًا فِيمَا بَلَغَنَا- أَنْ يُقَالَ لِنَاكِحٍ: “ آللَّهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحْنَّ بِإِحْسَانٍ “! حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “. وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَهُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَقَدْ كَانَ فِي عَقْدِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ إِنْكَاحِهِمْ: “ آللَّهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحْنَّ بِإِحْسَانٍ “. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الْمِيثَاقِ “ الَّذِي عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: هُوَ مَا أَخَذَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، فَهُوَ أَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ فَيَقُولُ وَلَيُّهَا: أَنْكَحْنَاكَهَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ، عَلَى أَنْ تُمْسِكَهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ تُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: “ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ “ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَكَانَ فِي عُقْدَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ: “ أَيْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ، لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ “. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي اسْتَحَلَّ بِهَا الْفَرْجَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي اسْتَحَلَّ بِهَا فُرُوجَهُنَّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: قَوْلُهُ: “ نَكَحْتُ “. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: “ قَدْ مَلَكْتَ النِّكَاحَ “. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: كَلِمَةُ النِّكَاحِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: الْمِيثَاقُ النِّكَاحُ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ الْأَفْطَسُ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: كَلِمَةُ النِّكَاحِ، قَوْلُهُ: “ نَكَحْتُ “. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ “.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ وَعِكْرِمَةَ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ: أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمِيثَاقُ الَّذِي عُنِيَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا أُخِذَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ مِنْ عَهْدٍ عَلَى إِمْسَاكِهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحِهَا بِإِحْسَانٍ، فَأَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ أَوْصَى الرِّجَالَ فِي نِسَائِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ الْمِيثَاقِ “ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَمُحْكَمٌ أَمْ مَنْسُوخٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُحْكَمٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلرَّجُلِ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا، إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرِيدَةَ الطَّلَاقَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخَذُ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا مِنْهَا بِحَالٍ، كَانَتْ هِيَ الْمُرِيدَةُ لِلطَّلَاقِ أَوْ هُوَ. وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ، بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ. حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَقَبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ. قَالَ: سَأَلْتُ بَكْرًا عَنِ الْمُخْتَلِعَةِ، أَيَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: لَا “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “. قَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَهَا قَوْلُهُ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 229].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ “ إِلَى قَوْلِهِ: “ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا “، قَالَ: ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدُ فَقَالَ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 229]. قَالَ: فَنَسَخَتْ هَذِهِ تِلْكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: “ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ “، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلرَّجُلِ أَخَذُ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا، إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا مِنْ غَيْرِ نُشُوزٍ كَانَ مِنْهَا، وَلَا رِيبَةٍ أَتَتْ بِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسِخَ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَا نَفَى خِلَافَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَا فِي سَائِرِ كُتُبِنَا. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: “ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ “، نَفْيُ حُكْمِ قَوْلِهِ: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 229]. لِأَنَّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: “ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا “، أَخْذَ مَا آتَاهَا مِنْهَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُرِيدُ طَلَاقَهَا. وَأَمَّا الَّذِي أَبَاحَ لَهُ أَخْذَهُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، فَهُوَ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُرِيدَةَ طَلَاقَهُ وَهُوَ لَهُ كَارِهٌ، بِبَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَيْسَ فِي حُكْمِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَفْيُ حُكْمِ الْأُخْرَى. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لِإِحْدَاهُمَا بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَلِلْأُخْرَى بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِزَوْجِ الْمُخْتَلِعَةِ أَخْذُ مَا أَعْطَتْهُ عَلَى فِرَاقِهِ إِيَّاهَا، إِذَا كَانَتْ هِيَ الطَّالِبَةُ الْفِرْقَةَ، وَهُوَ الْكَارِهُ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ بِأَخْذِ مَا كَانَ سَاقَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَفِرَاقِهَا إِذْ طَلَبَتْ فِرَاقَهُ، وَكَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ ذَُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَخْلُفُونَ عَلَى حَلَائِلِ آبَائِهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمُقَامَ عَلَيْهِنَّ، وَعَفَا لَهُمْ عَمَّا كَانَ سَلَفَ مِنْهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَشِرْكِهِمْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ، لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ، إِنْ هُمُ اتَّقَوُا اللَّهَ فِي إِسْلَامِهِمْ وَأَطَاعُوهُ فِيهِ.
ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ وَعَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرَّمُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. قَالَ: فأنَـزَلَ اللَّهُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “ (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَخْلُفُ عَلَى حَلِيلَةِ أَبِيهِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ اللَّهُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، خَلَفَ عَلَى أُمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ صَخْرٍ، كَانَتْ تَحْتَ الْأَسْلَتِ أَبِيهِ وُفِي الْأُسُودِ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ خَلَفَ عَلَى بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبَدِ الدَّارِ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِيهِ خَلَفٍ وَفِي فَاخِتَةَ بِنْتِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَخَلْفَ عَلَيْهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَفِي مَنْظُورِ بْنِ زَبَّانٍ، وَكَانَ خَلَفَ عَلَى مُلَيْكَةَ ابْنَةَ خَارِجَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِيهِ زَبَّانِ بْنِ سَيَّارٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ لَا يَرَاهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا، أَتَحِلُّ لِابْنِهِ؟ قَالَ: هِيَ مُرْسَلَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “. قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا قَوْلُهُ: “ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “؟ قَالَ: كَانَ الْأَبْنَاءُ يَنْكِحُونَ نِسَاءَ آبَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “ الْآيَةَ، يَقُولُ: كُلُّ امْرَأَةٍ تُزَوَّجَهَا أَبُوكَ وَابْنُكَ، دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ فَدَعُوهُ. وَقَالُوا: هُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ بِمَعْنَى: وَلَا تَنْكِحُوا كَنِكَاحِهِمْ، كَمَا نَكَحُوا عَلَى الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهَا فِي الْإِسْلَامِ “ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا “، يَعْنِي: أَنَّ نِكَاحَ آبَائِكُمُ الَّذِي كَانُوا يَنْكِحُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا- إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنْ نِكَاحٍ، لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ لَكُمْ عَنْهُ. وَقَالُوا: قَوْلُهُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلرَّجُلِ: “ لَا تَفْعَلْ مَا فَعَلْتُ “، وَ“ لَا تَأْكُلْ مَا أَكَلْتُ “، بِمَعْنَى: وَلَا تَأْكُلْ كَمَا أَكَلْتُ، وَلَا تَفْعَلْ كَمَا فَعَلْتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ بِالنِّكَاحِ الْجَائِزِ كَانَ عَقْدُهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهِ الزِّنَا عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ نِكَاحَهُنَّ لَكُمْ حَلَّالٌ، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ لَهُمْ حَلَائِلُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَا كَانَ مِنْ آبَائِكُمْ وَمِنْهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “ الْآيَةَ، قَالَ: الزِّنَا “ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا “ فَزَادَ هَاهُنَا “ الْمَقْتَ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: “مِنَ النِّسَاءِ “ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ: “ وَلَا تَنْكِحُوا “، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: “ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ “ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: “ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ فِي مَوْضِعِهِ: “ لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ فَمَضَى “ “ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا “. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا قَالُوا: أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، إِذْ كَانَتْ “ مَا “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ، لَقِيلَ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ “ مَنْ “ لِبَنِي آدَمَ، وَ“ مَا “ لِغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُقَلْ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “. [وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “]، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي “ مَا “، مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَكُلَّ نِكَاحٍ سِوَاهُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ [عَنْ] ابْتِدَاءِ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “، إِلَّا مَا قَدْ مَضَى “ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً “، يَقُولُ: إِنَّ نِكَاحَكُمُ الَّذِي سَلَفَ مِنْكُمْ كَنِكَاحِ آبَائِكُمُ الْمُحَرَّمِ عَلَيْكُمُ ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَحْرِيمِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ “ فَاحِشَةً “، يَقُولُ: مَعْصِيَةٌ “ وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا “، أَيْ: بِئْسَ طَرِيقًا وَمَنْهَجًا، مَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنَ الْمَنَاكِحِ الَّتِي كُنْتُمْ تَنَاكَحُونَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ فَتَرَكَ ذِكْرَ “ النِّكَاحِ “، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ. ثُمَّ قَرَأَ: “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ “ حَتَّى بَلَغَ: “ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “، قَالَ: وَالسَّابِعَةُ: “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ فِي النِّكَاحِ. ثُمَّ قَرَأَ: “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتِكُمْ “ إِلَى قَوْلِهِ: “ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ “. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ مَرَّةً أُخْرَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ سَبْعٌ نَسَبًا، وَسَبْعٌ صِهْرًا. “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ “ الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ “ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعًا. ثُمَّ قَرَأَ: “ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ “، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَالَ، حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ: “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ “ وَمِنَ الصِّهْرِ: “ أُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجَمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “ ثُمَّ قَالَ: “ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ “ “ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكُلُّ هَؤُلَاءِ اللَّوَاتِي سَمَّاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ تَحْرِيمَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مُحَرَّمَاتٌ، غَيْرُ جَائِزٍ نِكَاحُهُنَّ لِمَنْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ، بِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهِمْ فِي ذَلِكَ: إِلَّا فِي أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا اللَّوَاتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، فَإِنَّ فِي نِكَاحِهِنَّ اخْتِلَافًا بَيْنَ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِذَا بَانَتِ الِابْنَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا مِنْ زَوْجِهَا، هَلْ هُنَّ مِنَ الْمُبْهَمَاتِ، أَمْ هُنَّ مِنَ الْمَشْرُوطِ فِيهِنَّ الدُّخُولُ بِبَنَاتِهِنَّ؟ فَقَالَ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُتَقَدِّمِهِمْ وَمُتَأَخِرِهِمْ: مِنَ الْمُبْهَمَاتِ، وَحَرَامٌ عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُمُّهَا، دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ الَّتِي نَكَحَهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَقَالُوا: شَرْطُ الدُّخُولِ فِي الرَّبِيبَةِ دُونَ الْأُمِّ، فَأَمَّا أُمُّ الْمَرْأَةِ فَمُطْلَقَةٌ بِالتَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الدُّخُولِ فِي قَوْلِهِ: “ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “، يَرْجِعُ مَوْصُولًا بِهِ قَوْلُهُ: “ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ “، جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: “ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ “ مِنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِقَوْلِهِ: “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ “، الْآيَةَ. قَالُوا: وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِمَّا وَلِيَهُ مِنْ قَوْلِهِ: “ وَالْمُحْصَنَاتُ “، أَبْيَنُ الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ: “ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “، مِمَّا وَلِيَهُ مِنْ قَوْلِهِ: “ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “، دُونَ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَلَالٌ نِكَاحُ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا اللَّوَاتِي لَمْ نَدْخُلْ بِهِنَّ، وَأَنَّ حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الرَّبَائِبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، أَيَتَزَوَّجُ أُمَّهَا؟ قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيبَةِ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيبَةٍ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا مَاتَتْ عِنْدَهُ وَأَخَذَ مِيرَاثَهَا، كُرِهَ أَنْ يَخْلُفَ عَلَى أُمِّهَا. وَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ: أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ لَهُ: “ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ “، أُرِيدَ بِهِمَا الدُّخُولُ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: “ الْأُمُّ مِنَ الْمُبْهَمَاتِ “. لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرُطْ مَعَهُنَّ الدُّخُولَ بِبَنَاتِهِنَّ، كَمَا شَرْطَ ذَلِكَ مَعَ أُمَّهَاتِ الرَّبَائِبِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إِجْمَاعٌ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مُتَّفِقَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرًا، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دَخَلَ بِالِابْنَةِ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الِابْنَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِي إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ، مُسْتَغْنًى عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّتِهِ بِغَيْرِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ لِعَطَاءٍ: الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى يُطَّلِقَهَا، أَيَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا؟ قَالَ: لَا هِيَ مُرْسَلَةٌ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: “ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “؟ قَالَ: “ لَا “، تَتْرَى قَالَ حَجَّاجٌ، قُلْتُ لِابْنِ جُرَيْجٍ: مَا “ تَتْرَى “؟ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: لَا! لَا! وَأَمَّا “ الرَّبَائِبُ “ فَإِنَّهُ جَمْعُ “ رَبِيبَةٍ “، وَهِيَ ابْنَةُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ. قِيلَ لَهَا “ رَبِيبَةٌ “ لِتَرْبِيَتِهِ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا هِيَ “ مَرْبُوبَةٌ “ صُرِفَتْ إِلَى “ رَبِيبَةٍ “، كَمَا يُقَالُ: “ هِيَ قَتِيلَةٌ “ مِنْ “ مَقْتُولَةٍ “. وَقَدْ يُقَالُ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ: “ هُوَ رَبِيبُ ابْنِ امْرَأَتِهِ “، يَعْنِي بِهِ: “ هُوَ رَابُّهُ “، كَمَا يُقَالُ: “ هُوَ خَابِرٌ، وَخَبِيرٌ “ وَ“ شَاهِدٌ، وَشَهِيدٌ “. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى “ الدُّخُولِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْجِمَاعُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “، وَالدُّخُولُ النِّكَاحُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الدُّخُولُ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هُوَ التَّجْرِيدُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَوْلُهُ: “ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ “، مَا “ الدُّخُولُ بِهِنَّ “؟ قَالَ: أَنْ تُهْدَى إِلَيْهِ فَيَكْشِفَ وَيَعْتَسَّ، وَيَجْلِسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا؟ قَالَ: هُوَ سَوَاءٌ، وَحَسْبُهُ! قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنَتَهَا. قُلْتُ: تُحْرُمُ الرَّبِيبَةُ مِمَّنْ يَصْنَعُ هَذَا بِأُمِّهَا؟ أَلَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ مِنْ أَمَتِي إِنْ صَنَعْتُهُ بِأُمِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَوَاءٌ. قَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كَشَفَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، أَنْهَاهُ عَنْ أُمِّهَا وَابْنَتِهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى: “ الدُّخُولِ “ الْجِمَاعُ وَالنِّكَاحُ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مَعْنَاهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ مَعَانِي “ الدُّخُولِ “ فِي النَّاسِ، وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِالْخُلْوَةِ بِهَا أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَتِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ ابْنَتَهَا إِذَا طَلَّقْهَا قَبْلَ مَسِيسِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا، أَوْ قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِالشَّهْوَةِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ “، فَإِنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، دَخَلْتُمْ بِأُمَّهَاتِ رَبَائِبِكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فَجَامَعْتُمُوهُنَّ حَتَّى طَلَّقْتُمُوهُنَّ “ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ “، يَقُولُ: فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي نِكَاحِ مَنْ كَانَ مِنْ رَبَائِبِكُمْ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَزْوَاجُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ. وَهِيَ جَمْعُ “ حَلِيلَةٍ “ وَهِيَ امْرَأَتُهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ “ حَلِيلَتُهُ “، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَلِيلَةَ ابْنِ الرَّجُلِ، حَرَامٌ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِعَقْدِ ابْنِهِ عَلَيْهَا النِّكَاحَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرِّضَاعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ حَلَائِلَ أَبْنَائِنَا مِنْ أَصْلَابِنَا؟ قِيلَ: إِنَّ حَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرِّضَاعِ، وَحَلَائِلَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْأَصْلَابِ، سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَإِنَّمَا قَالَ: “ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ “، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ وَلَّدْتُمُوهُمْ، دُونَ حَلَائِلِ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ تَبَنَّيْتُمُوهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَوْلُهُ: “ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ “، قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا نَـزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حِينَ نَكَحَ امْرَأَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: “ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ “، وَنَـزَلَتْ: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 4]، وَنَـزَلَتْ: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 40] وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ “ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عِنْدَكُمْ بِنِكَاحٍ فَـ “ أَنْ “ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. “ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ “ لَكِنْ مَا قَدْ مَضَى مِنْكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا تَابُوا إِلَيْهِ مِنْهَا “ رَحِيمًا “ بِهِمْ فِيمَا كَلَّفَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُحَمِّلْهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. يُخْبِرُ بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ كَانَ جَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنِكَاحٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِ، وَقَبْلَ تَحْرِيمِهِ ذَلِكَ، إِذَا اتَّقَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ تَحْرِيمِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَطَاعَهُ بِاجْتِنَابِهِ رَحِيمٌ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ.
|