الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم **
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة
هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي عن سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن وفي ذلك نظر فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد منكر الحديث وقال مرة ليس بثقة يروى أحاديث بواطيل. وقال ابن معين ليس حديثه بشيء وقال مرة كان كذابا يكذب حدث عن شعبة أحاديث موضوعة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال أبو حاتم متروك الحديث ضعيف ونسبه صالح بن محمد وابن عدي إلى وضع الحديث وتناقض ابن حبان في أمره فذكره في كتاب الثقات وذكره في كتاب الضعفاء وقال كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات لا يحل الاحتجاج بخبره. وخرج العقيلي حديثه هذا وقال ليس له أصل من حديث سفيان الثوري قال وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ولعله أخذه عنه ودلسه لأن المشهور به خالد هذا قال أبو بكر الخطيب وتابعه أيضًا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي وغيره فروى عن الثوري قال وأشهرها حديث ابن كثير كذا قال وهذا يخالف قول العقيلي إن أشهرها حديث خالد بن عمرو وهذا أصح ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ضعفه أحمد وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضًا لكن محمد بن كثير خير منهما فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا وقال ما أدري ما أقول فيه وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أبان عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري فذكر هذا الحديث فقال هذا حديث باطل يعني بهذا الإسناد يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان. وقال ابن مشيش سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد فذكر هذا الحديث فقال أحمد لا إله إلا الله تعجبا من يروى هذا الحديث قلت خالد بن عمرو فقال وقعنا في خالد بن عمرو وسكت مراده الإنكار على من ذكر له شيئًا من حديث خالد هذا فإنه لا يشتغل به وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب المواعظ له عن خالد بن عمرو ثم قال كنت منكرا لهذا الحديث فحدثني هذا الشيخ يعني وكيعا أنه سأله عنه ولولا مقالته هذه لتركته. وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو وذكر رواية محمد بن كثير له أيضًا وقال هذا الحديث عن الثوري منكر وقال ورواه زافر يعني ابن سلمان عن محمد بن عيينة أخي سفيان عن أبي حازم عن ابن عمر انتهى وزافر ومحمد بن عيينة كلاهما ضعيف وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرسلًا أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في مسند إبراهيم بن أدهم قد جمعه من رواية معاوية بن حفص عن إبراهيم بن أدهم عن منصور عن ربعي بن حراش قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس عليه فقال أما العمل الذي يحبك الله عليه فازهد في الدنيا وأما العمل الذي يحبك عليه الناس فانظر هذا الحطام فانبذه إليهم وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا من رواية على بن بكار عن إبراهيم بن أدهم قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا وقال في حديثه فانبذ إليهم ما في يدك من الحطام وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين إحداهما الزهد في الدنيا وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده والثانية الزهد فيما في أيدي الناس فإنه مقتض لمحبة الناس فأما الزهد في الدنيا فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه وكذا ذم الرغبة في الدنيا كما قال الله تعالى وقد ذم الله عز وجل من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث الأعمال بالنيات والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله عز وجل كثيرة جدًا. ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه فقال أيكم يحب أن هذا له بدرهم فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال أتحبون أنه لكم قالوا والله لما كان حيا لما رغبنا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت فقال والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم وفيه أيضًا عن المستورد الفهري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع. وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء صححه ومعنى الزهد في الشيء الإعراض عنه لاستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه يقال شيء زهيد أي قليل حقير وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا وتنوعت عباراتهم عنه وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن حليس عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو ابن واقد منكر الحديث قلت الصحيح وقفه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي خالد بن صبيح حدثنا يونس بن حليس قال قال أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك وإذا أصبت مصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر عن يونس بن ميسرة قال ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح ولهذا كان أبو سليمان يقول لا تشهد لأحد بالزهد فإن الزهد في القلب أحدها أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته فإن الله سبحانه وتعالى ضمن أرزاق عباده وتكفل بها كما قال تعالى وقال الحسن إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل وعن على وابن مسعود قالا إن أرجي ما يكون الرزق إذا قالوا ليس في الدنيا دقيق وقال مسروق إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم. وقال الإمام أحمد أسر أيامي إلى يوم أصبح وليس عندي شيء وقيل لأبي حازم الزاهد ما مالك قال لي مالان لا أخشى معهما الفقر الثقة بالله واليأس مما في أيدي الناس وقيل له أما تخاف الفقر فقال أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثري ودفع إلى على بن الموفق ورقة فقرأها فإذا فيها يا على بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك وقال الفضيل بن عياض أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل وقال القنوع هو الزاهد وهو الغني فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغني الناس وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار رضي الله عنه كفي بالموت واعظا وكفي باليقين غني وكفي بالعبادة شغلا. وقال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسد أحدًا على رزق الله ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله تعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك وفي حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ولسانا صادقا حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ورضني من العيش بما قسمته لي، وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا قال من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يدي الله أوثق منه بما في يده والثاني أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقي له وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من زهد الدنيا هانت عليه المصيبات والثالث أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها وقلة الرغبة فيها فإن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا وكلها ترجع إلى ما تقدم كقول الحسن الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال هو أفضل مني وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ولهذا يقال الزاهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس فهو الزاهد حقا وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق وكقول وهب بن الورد رحمه الله والزهد في الدنيا أن لا تأس على ما فات منها ولا تفرح بما آتاك منها قال ابن السماك رحمه الله هذا هو الزاهد المبرز في زهده وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إقبالها وإدبارها وزيادتها ونقصها وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق وسئل بعضهم أظنه الإمام أحمد عمن معه مال هل يكون زاهدا قال إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد أو كما قال وسئل الزهري عن الزاهد فقال من لم يغلب الحرام صبره ولم يشغل الحلال شكره وهذا قريب مما قبله فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر منها على حرام صبر عنه فلم يأخذه وإذا حصل له منها حلال لم يشغله عن الشكر بل قام بشكر الله عليه وقال أحمد بن الحواري رحمه الله قلت لسفيان بن عيينة من الزاهد في الدنيا قال من إذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر وفقلت يا أبا محمد الذي قد أنعم عليه فشكر وإذا ابتلي فصبر وحبس النعمة كيف يكون زاهدا فقال اسكت من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى من الصبر فذلك الزاهد وقال ربيعة رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها وقال سفيان الثوري رحمه الله الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء وقال، وكان من دعائهم اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا منها ولا تردها عنا فترغبنا فيها ولهذا قال الإمام أحمد الزهد في الدنيا قصر الأمل وقال مرة قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة الله ولقائه والخروج من الدنيا وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها فمن قصر أمله فقد كره البقاء في الدنيا وهذا نهاية الزهد فيها والإعراض عنها واستدل ابن عيينة لهذا بقوله تعالى وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله من أزهد الناس فقال من لم ينس القبر والبلى وترك زينة الدنيا وآثر ما يبقى على مايفنى ولم يعد غدا من أيامه وعد نفسه من الموتى وهذا مرسل وقد قسم كثير من السلف الزهد أقسامًا فمنهم من قال أفضل الزهد الزهد في الشرك وفي عبادة ما عبد من دون الله ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ثم الزهد في الحلال وهو أقل أقسام الزهد والقسمان الأولان من هذا الزهد كلاهما واجب والثالث ليس بواجب فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ثم في المعاصي كلها. وكان بكر المزني يدعو لإخوانه زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات فعلم أن الله يراه فتركه. وقال ابن المبارك قال معلي بن أبي مطيع الزهد على ثلاثة وجوه أحدهما أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ولا يراد بشيء منه الدنيا والثاني ترك مالًا يصلح والعمل بما يصلح والثالث الحلال أن يزهد فيه وهو التطوع وهو أدناها وهذا أقرب مما قبله إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل وهو الشرك الأصغر والحامل عليه محبة المدح في الدنيا والتقدم عند أهلها وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة. وقال إبراهيم بن أدهم الزهد ثلاثة أصناف فزهد فرض وزهد فضل وزهد سلامة فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام والزهد الفضل الزهد في الحلال والزهد السلامة الزهد في الشبهات. وقد اختلف الناس هل يستحق اسم الزهد من زهد في الحرام خاصة ولم يزهد في فضول المباحات أم لا على قولين أحدهما أنه يستحق اسم الزهد بذلك. وقد سبق ذكر ذلك عن الزهري وابن عيينة وغيرهما والثاني لا يستحق اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباحات وهو قول طائفة من العلماء العارفين وغيرهم حتى قال بعضهم لا زهد اليوم لفقد المباح المحض. وهو قول يوسف بن أسباط وغيره وفي ذلك نظر. وكان يونس بن عبيد يقول وما قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها. وقال أبو سليمان الداراني اختلفوا علينا في الزهد بالعراق فمنهم من قال الزهد في ترك لقاء الناس ومنهم من قال في ترك الشهوات ومنهم من قال في ترك الشبع وكل منهم قريب بعضه من بعض قال وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله عز وجل وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه واعلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعًا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة فإن الله تعالى جعلهما خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما، وكان يقول عليه الصلاة والسلام اعملوا الليل لما خلق له والنهار لما خلق له وقال مجاهد ما من يوم إلا يقول لابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل في فإذا انقضى طوي ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يقضيه يوم القيامة ولاالليلة إلا تقول كذلك وقد أنشد بعض السلف: إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق *** والليالي متجر الإنسان والأيام سوق وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادا ومسكنا ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ولهم به من الاعتبار والاستدلال عل وحدانية صانعه وقدرته وعظمته وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته بل يقع على ما تضر عاقبته أو لا ينفع كما قال عز وجل ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا لأنه يرى أن الاستكثار منها موجب الهم والغم ويقول كلما كثر التعلق بها تألمت النفس بمفارقتها عند الموت فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا والقسم الثاني من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله والظالم لنفسه هم الأكثرون منهم وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها فأخذها من غير وجهها واستعملها في غير وجهها وصارت الدنيا أكبر همه بها يرضى وبها يغضب ولها يوالي وعليها يعادي وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا ولا أنها منزلة سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانا مجملا فهو لا يعرفه مفصلا ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهاد في الدنيا كما سبق ذكره ولا عقاب عليهم في ذلك إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا قال ابن عمر لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريما خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد وروي مرفوعًا من حديث عائشة بإسناد فيه نظر وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده أن رجلًا دخل على معاوية فكساه فخرج فمر على أبي مسعود الأنصاري ورجل آخر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فقال أحدهما خذها من حسناتك وقال الآخر خذها من طيباتك وبإسناده عن عمر رضي الله عنه قال لولا أن تنقص من حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم ولكن سمعت الله عير قومًا فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعم بها الأحقاف وقال الفضيل ابن عياض إن شئت استقل من الدنيا وإن شئت استكثر منها فإنما تأخذ من كيسك ويشهد لهذا إن الله حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه وادخره لهم عنده في الآخرة وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وقال لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة وقال وهب إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستمسكوا نصيبهم من كرامتي سعالمًا موفرا لم أعجل لهم شيئًا في الدنيا لم تكمله. ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله إذا أحب عبدًا حماه عن الدينا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء وخرجه الحاكم ولفظه إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وأما السابق بالخيرات بإذن الله فهم الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملًا كما قال هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملًا هود وقال تعالى وخرج الحاكم من حديث عبد الجبار بن وهب أنبأنا سعيد بن طارق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه وإذا قال العبد قبح الله الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا لربه وقال صحيح الإسناد وخرجه العقيلي وقال عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثه غير محفوظ قال وهذا الكلام يروي عن علي من قوله وقول علي خرجه ابن أبي الدنيا عنه بإسناد فيه نظر أن عليا سمع رجلًا يسب الدنيا فقال إنها لدار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غني لمن تزود منها مسجد أحباب الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها ونادت بعيبها نعت نفسها وأهلها فمثلت ببلائها البلاء وشوقت بسرورها إلى أهل السرور فذمها قوم عند الندامة ومدحها آخرون حدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا فيا أيها المغتر بالدنيا المغتر بغرورها متى استلأمت إليك الدنيا بل متى غرتك بمضاجع آبائك تحت الثرى أم بمصارع أمهاتك من البلى كم قلبت بكفيك ومرضت بيديك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تسعف بطلبتك قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غدا ولا يغني عنك بكاؤك ولا ينفعك أحباؤك فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تذم مطلقا وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة وأن فيها مساجد الأنبياء ومهبط الوحي وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا منها الرحمة وربحوا بها الجنة فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته وأما ما ذكر من أنها تغر وتخدع فإنها تنادي بمواعظها وتنصح بعبرها وتبدي عيوبها بما ترى من أهلها من مصارع الهلكى وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ومن الشيبة إلى الهرم ومن الغنى إلى الفقر ومن العز إلى الذل لكن محبها قد أصمه وأعماه حبها فهو لا يسمع نداءها كما قيل: وقد نادت الدنيا على نفسها *** لو كان في العالم من يسمع كم واثق بالعمر أفنيته *** وجامع بددت ما يجمع وقال يحيى بن معاذ رحمه الله لو يسمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا في المغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا وقال بعض الحكماء الدنيا أمثال تضربها الأيام للأنام وعلم الزمان لا يحتاج إلى ترجمان وبحب الدنيا صمت أسماع القلوب عن المواعظ وما أحث السائق لو شعر الخلائق وأهل الزهد في فضول الدنيا أقسام فمنهم من يحصل له فيمسكه ويتقرب به إلى الله كما كان كثير من الصحابة وغيرهم قال أبو سليمان كان عثمان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما خازنين من خزان الله في أرضه ينفقان في طاعته وكانت معاملتهما لله بقلوبهما ومنهم من يخرجه من يده ولا يمسكه وهؤلاء نوعان منهم من يخرجه اختيارا وطواعية ومنهم من يخرجه ونفسه تأبى إخراجه ولكن يجاهدها على ذلك وقد اختلف في أيهما أفضل فقال ابن السماك والجنيد الأول أفضل للتحقق نفسه بمقام السخاء والزهد. وقال ابن عطاء الثاني أفضل لتحقق نفسه بأن له عملًا ومجاهدة وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه رضي الله عنه ومنهم من لم يحصل له شيء من الفضول وهو زاهد في تحصيله إما مع قدرته أو بدونها والأول أفضل من هذا ولهذا قال كثير من السلف أن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس ونحوه كذا قال أبو سليمان وغيره، وكان مالك بن دينار يقول الناس يقولون مالك زاهد إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز وقد اختلف العلماء أيما أفضل من طلب الدنيا من الحلال ليصل رحمه ويقدم منها لنفسه أم من تركها فلم يطلبها بالكلية فرجحت طائفة من تركها وجانبها منهم الحسن وغيره ورجحت طائفة من طلبها على ذلك الوجه منهم النخعي وغيره وروي عن الحسن رضي الله عنه نحوه والزاهدون في الدنيا بقلوبهم لهم ملاحظ ومشاهد يشهدونها فمنهم من يشهد كثرة التعب بالسعي في تحصيلها فهو يزهد فيها قصد الراحة لنفسه قال الحسن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن ومنهم من يخاف أن ينقص حظه من الآخرة بأخذ فضول الدنيا ومنهم من يخاف من طول الحساب عليها قال بعضهم من سأل الله الدنيا فإنما يسأل طول الوقوف للحساب ومنهم من يشهد كثرة عيوب الدنيا وسرعة تقلبها وفنائها ومزاحمة الأراذل في طلبها كما قيل لبعضهم ما الذي زهدك في الدنيا قال قلة وفائها وكثرة جفائها وخشية شركائها ومنهم من كان ينظر إلى حقارة الدنيا عند الله فيقذرها كما قال الفضيل لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالًا ولا أحاسب بها في الآخرة لكنت أقتذرها كما يقتذر الرجل الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه ومنهم من كان يخاف أن تشغله عن الاستعداد للآخرة والتزود لها قال الحسن إن كان أحدهم ليعيش عمره مجهودا شديد الجهد والمال الحلال إلى جنبه يقال له ألا تأتي هذا فتصيب منه فيقول لا والله لا أفعل إني أخاف أن آتيه فأصيب منه فيكون فساد قلبي وعملي وبعث إلى عمر بن المنكدر بمال فبكى واشتد بكاؤه وقال خشيت أن تغلب الدنيا على قلبي فلا يكون للآخرة مني نصيب فذلك الذي منه أبكاني ثم أمر به فتصدق به على فقراء أهل المدينة وخواص هؤلاء يخشى أن يشتغل بها عن الله كما قالت رابعة ما أحب أن لي الدنيا كلها من أولها إلى آخرها حلالًا أنفقها في سبيل الله وأنها شغلتني عن الله طرفة عين وقال أبو سليمان الزهد ترك ما يشغل عن الله وقال كل ما يشغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو مشئوم وقال الزهد في الدنيا على طبقتين منهم من يزهد في الدنيا فلا يفتح له فيها روح الآخرة ومنهم من إذا زهد فيها فتح له فيها روح الآخرة فليس شيء أحب إليه من البقاء ليطيع وقال ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا واستراح منها إنما الزاهد من زهد في الدنيا وتعب فيها للآخرة فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها ليتفرغ لطلب الله ومعرفته والقرب منه والأنس به والشوق إلى لقائه وهذه الأمور ليست من الدنيا كما كان النبي صلى الله عليه آله وسلم يقول حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ولم يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا كذا في المسند والنسائي وأظنه وقع في غيرهما حبب إلى من دنياكم ثلاث فأدخل الصلاة في الدنيا ويشهد لذلك حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو ععالمًا أو متعلما أخرجه ابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة مرفوعًا وروي نحوه من غير وجه مرسلًا ومتصلا وخرجه الطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعًا قال الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله وخرجه ابن أبي الدنيا موقوفا وخرجه أيضًا من رواية شهر بن حوشب عن عبادة قال أراه رفعه قال يؤتي بالدنيا يوم القيامة فيقال ميزوا منها ما كان لله عز وجل وألقوا سائرها في النار فالدنيا وكل ما فيها ملعونة أي مبعدة عن الله لأنها تشغل عنه إلا العلم النافع الدال علي الله وعلي معرفته وطلب قربه ورضاه وذكر الله وما والاه مما يقرب من الله فهذا هو المقصود من الدنيا فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه ولازم ذلك دوام ذكره كما قال ابن مسعود تقوي الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسي وإنما شرع الله إقام الصلاة لذكره، وكذلك الحج والطواف وأفضل أهل العبادات أكثرهم لله ذكرا فيها فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها كما قال تعالى وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم قالوا لأن نعيم الجنة حظ العبد والعبادات في الدنيا حق الرب وحق الرب أفضل من حظ العبد وهذا غلط ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله من جاء بالحسنة فله خير منها النمل قالوا الحسنة لا إله إلا الله وليس شيء خيرًا منها ولكن الكلام على التقديم والتأخير والمراد فله منها خير أي له خير بسببها ولأجلها والصواب إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى مطلقا وفي صحيح الحاكم عن المستورد بن شداد قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فتذكروا الدنيا والآخرة فقال بعضهم إنما الدنيا بلاغ للآخرة وفيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة وقالت طائفة منهم الآخرة فيها الجنة وقالوا ما شاء الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا وما فيها من الأعمال ووجه ذلك أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل والعلم مقصود الأعمال فتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته وفي الآخرة ينكشف الغطاء ويصير الخبر عيانا ويصير علم اليقين عين اليقين وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة فأين هذا مما في الدنيا وأما الأعمال البدنية فإن لها في الدنيا مقصدين أحدهما اشتغال الجوارح بالطاعة وكدها بالعبادة والثاني اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره فالأول قد رفع عن أهل الجنة ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم ارفعوا رؤوسكم إنكم لستم في دار مجاهدة وأما المقصود الثاني فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانا فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته وسماع كلامه لا سيما في أوقات الصلاة في الدنيا كالجمع والأعياد والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم حض عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس قال ابن عيينة لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا فإن لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة فتبين بهذا أن قوله من جاء بالحسنة فله خير منها على ظاهره فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه الذي يختص به أهل الجنة وبكل حال فالذي يحصل لأهل الجنة من تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ومن قربه ومشاهدته ولذة ذكره هو أمر لا يمكن التعبير عن كنهه في الدنيا لأن أهلها لم يدركوه على وجهه بل هو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والله تعالى المسئول أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا بمنه وكرمه ورحمته آمين اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم ولنرجع إلى شرح حديث ازهد في الدنيا يحبك الله فهذا الحديث يدل على أن الله يحب الزاهد في الدنيا قال بعض السلف قال الحواريون لعيسى عليه السلام يا روح الله علمنا عملًا واحدًا يحبنا الله عز وجل عليه قال ابغضوا الدنيا يحبكم الله عز وجل وقد ذم الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة كما قال والمراد حب المال فإذا ذم من أحب الدنيا دل على مدح من لا يحبها بل يرفضها ويتركها. وفي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى. وفي المسند وسنن ابن ماجه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة وخرجه الترمذي من حديث أنس مرفوعًا بمعناه ومن كلام جندب بن عبد الله الصنعاني رضي الله عنه حب الدنيا رأس كل خطيئة وروي مرفوعًا وروي عن الحسن مرسلًا وقال الحسن من أحب الدنيا وسرته خرج حب الآخرة من قلبه وقال عون بن عبد الله الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخف الأخرى وقال وهب إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إن رضي إحداهما أسخط الأخرى وبكل حال فالزهد في الدنيا شعار أنبياء الله وأوليائه وأحبائه قال عمرو بن العاص رضي الله عنه ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم إنه كان أزهد الناس في الدنيا وأنتم أرغب الناس فيها خرجه الإمام أحمد. وقال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصوما وجهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرًا منكم قالوا كيف ذلك قال كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة وقال أبو الدرداء لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم ويروى عن الحسن قال قالوا يا رسول الله من خيرنا قال أزهدكم في الدنيا وأرغبكم في الآخرة والكلام في هذا الباب يطول جدًا وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى الوصية الثانية وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى رجلًا فقال ايأس مما في أيدي الناس تكن غنيا خرجه الطبراني وغيره ويروي من حديث سهل بن سعد مرفوعًا شرف المؤمن قيامه بالليل وعزة استغناؤه عن الناس وقال الحسن لا تزال كريما على الناس ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك وقال أيوب السختياني لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان العفة عما في أيدي الناس والتجاوز عما يكون منهم، وكان عمر يقول في خطبته على المنبر إن الطمع فقر وإن اليأس غني وإن الإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه وروي أن عبد الله بن سلام لقي كعب الأحبار عند عمر فقال يا كعب من أرباب العلم قال الذين لا يعملون به قال فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه قال يذهبه الطمع وشره النفس وتطلب الحاجات إلى الناس قال صدقت وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسئلة الناس والاستغناء عنهم فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه لأن المال محبوب لنفوس بني آدم فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك وأما من كان يرى المنة للسائل عليه ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له أو كان يقول لأهله ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم فهذا نادر جدًا من طباع بني آدم وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة وأما من زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم كما قال أعرابي لأهل البصرة من سيد أهل هذه القرية قالوا الحسن قال بم سادهم قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها: وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
|