الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه» وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديًا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا وروي عن ابن زيد أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه الآية.واختلف القائلون بأن المراد من الآمين: المشركون في النسخ وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصًا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، وقيل: بآية السيف، وقيل: بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين: ما يعم المسلمين والمشركين، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة. وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصًا كما حقق في الأصول، ولابد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ حميد بن قيس الأعرج {تَبْتَغُونَ} بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في {لاَ تُحِلُّواْ} على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم، وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفي وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير آمين على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى.{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} {فاصطادوا} أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير. وقال صاحب القواطع: إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن، ونقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها: أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري في شرح الكفاية والشيخ أبي إسحاق وابن السمعاني والإمام في المحصول، ونقله الشيخ أبو حامد الإسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء، وأكثر المتكلمين، وثالثها: الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداءًا من غير تقدم حظر، ولا يبعد على ما قاله الزركشي أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب.ومن قال: إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرئ أحللتم وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرئ {فاصطادوا} بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية.{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله: فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبًا نحو كسبه، وجرمته ذنبًا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبًا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبًا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبًا، وعليه قراءة عبد الله لا يجرمنكم بضم الياء {شَنَانُ قَوْمٍ} بفتح النون؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما احتمالان: الأول: أن يكونا مصدرين عنى البغض أو شدته شذوذًا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة كجولان ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو لويته ليانًا عنى مطلته، والثاني: أن يكون صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلًا كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو فإن كان مصدرًا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قومًا، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر كما في البحر وإن كان وصفًا فهو عنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافًا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم.{أَن صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة للشنآن أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أن شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة. وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى {عَنِ المسجد الحرام} أي عن زيارته والطواط به للعمرة، وهذه كما قال شيخ الإسلام آية بينة في عموم آمّين للمشركين قطعًا، وجعلها البعض دليلًا على تخصيصه بهم {أَن تَعْتَدُواْ} أي عليهم، وحذف تعويلًا على الظهور، وإيماءًا إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يجرمنكم أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهى المخاطب على الحضور.ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجًا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلًا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ. وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى.{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} عطف على {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء. وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أن تعتدوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقًا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلًا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضًا دخولًا أوليًا، وعلى العموم أيضًا حمل قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فيعم النهي كل ماهو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان جاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات.وقوله تعالى: {واتقوا الله} أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.{أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لا يتفيه، وهذا في موضع التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة.
|