الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: كتاب العلم **
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد. أيها الأخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن، والخلق كما يقول أهل العلم هو: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن للإنسان صورتين: صورة ظاهرة، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليه. وكما نعلم جميعًا أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك. وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق. فالخُلُق إذن هو: "الصورة الباطنة التي طُبعَ الإنسان عليها"، وكما يكون الخُلُق طبيعة فإنه يكون كسبًا. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعًا على الخُلُق الحسن الجميل قد يحصل على الخُلُق الحسن الجميل عن طريق الكسب والمرونة، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأشج عبد القيس: فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبعًا، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع؛ لأن الخلق إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته إلا تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن حُرم هذا أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق، دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون فيم معاملة الخالق. فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق ـ جل وعلا ـ ومعاملة الخلق أيضًا. فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟ حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاث أمور: 1ـ تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق. 2ـ وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق. 3ـ وتلقي أقداره بالصبر والرضا. فهذه ثلاث أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله ـ عز وجل أولًا: تلقي أخباره بالتصديق: بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى، لأن خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ صادر عن علم وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه: ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقًا بها مدافعًا عنها مجاهدًا بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأخبار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا ن غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلًا: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: هذا خبر رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمور الغيب لا ينطق بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له: ومثال آخر: من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل [جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ثانيًا: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئًا من أحكام الله، فإذا ردّ شيئًا من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرًا حكمها، أو ردها مستكبرًا عن العمل بها، أو ردها متهاونًا بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ. ولنضرب لذلك مثلًا، الصوم لا شك أنه شاق على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاق، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه ـ عز وجل ـ يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخُلُق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام. ومثال آخر: الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: فحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبسًا بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائمًا قلبك معلق بهذه الصلوات. ونضرب مثالًا ثالثًا في المعاملات: في المعاملات حرم الله عينا الربا، حرمه تحريمًا صريحًا في القرآن كما قال الله تعالى: هل المرض يلائم الإنسان؟ أبدًا الإنسان يحب أن يكون صحيحًا. وهل الفقر يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالمًا. لكن أقدار الله ـ عز وجل ـ بحكمته تتنوع منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فما هو حسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ نحو أقدار الله؟ حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ـ ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محموة يستحق عليها الشكر، وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن. ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: ونوجز ما سبق: نقول إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق، وأن حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقي أخباره بالتصديق وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق. وتلقي أقداره بالصبر والرضا. هذا حسن الخلق مع الله. أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم. ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه". ثلاثة أمور: 1ـ كف الأذى. 2ـ بذل الندى. 3ـ طلاقة الوجه. ومعنى كف الأذى، أن الإنسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس من حسن الخُلق، بل هو سيئ الخُلق. وقد أعلن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال:) إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا). إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهًا إلى من له حق عليك أكبر. فالإساءة إلى الوالدين مثلًا أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا من جيرانًا لك.ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ومعنى ذلك أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في الجنة وكل إنسان يتصل بالناس فلابد أن يجد من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفوا ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى: وهاهنا مسألة: هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقًا محمود ومأمور به؟ قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقًا محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلومًا لديكم أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى: الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شريرُ، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟ الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحًا. قال شيخ الإسلام: (الإصلاح واجب، والعفو مندوب). فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبًا على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله. وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل. لابد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول أنا لا أبالي أن أصدم شخصًا لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟ أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا يمكن أن نعفو. ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس. لماذا نقول إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟ لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال: والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو بذل الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط. وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: طلاقة الوجه تدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك ـ وجرب تجد ـ لكن إذا كنت عبوسًا فإن الناس ينفرون منك، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوبًا إلى الخلق. هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق. ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حسن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضِّيق عليهم، بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لابد منه أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يسير إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه. لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق. كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب؟ فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: يا رسول الله:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك. في الثالثة أو الرابعة" [أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم ، كتاب البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به.] . والحاصل إن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤديًا لنتيجته المقصودة. ولهذا قال الله تعالى: فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميدانًا للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق. فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع ـ كما تقدم ـ وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحاسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائمًا فأجلس وإذا كنت جالسًا فاضجع، وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك. والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف. كذلك نقول إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟ يكون الإنسان حسن الخلق بالآتي: أولًا: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئًا من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به. ثانيًا: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق. ثالثًا: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح. فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظاهرًا وباطنًا وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. * * * الخلاف بين العلماء وأسبابه وموقفنا إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا أما بعد: فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لا سيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله أستعين أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.إن من نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة أن الخلاف بين الأمة لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون، وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي: أولًا: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله تعالى بعث محمدًا بالهدى ودين الحق وهذا يتضمن أن يكون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بين هذا الدين بيانًا شافيًا كافيًا، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل ـ ورسول الله بعث بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبين لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبينًا لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: (يسألونك عن) كذا فيجيب الله ـ تعالى نبيه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس، قال الله تعالى: إلى غير ذلك من الآيات. ولكن بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة، وأصول مصادرها. ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه. ونحن جميعًا نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عمد وقصد؛ لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان رائده الحق فإن الله سييسره له. واستمعوا إلى قوله تعالى: الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابد أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور. ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة: مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي: السبب الأول: أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه. وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع: الأول إننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري [البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.] وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علمًا، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: مثال آخر: كان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل [صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب:انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل. ] ، لأن الله تعالى يقول:" السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلًا أيضًا، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا نفقة لها ولا سكنى [صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.] ، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملًا لقوله تعالى السبب الثالث: أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثًا، بل قد ينسى آية. رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسيانًا، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال: السبب الرابع: أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد. فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة: 1ـ من القرآن قوله تعالى: اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: 2ـ من السنة: لما رجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بالخروج وقال: الحديث، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع. السبب الخامس: أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحًا والمراد منه مفهومًا ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ. ومن هذا رأي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى: السبب السادس: أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو أجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعًا. ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس. ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في ربا الفضل. ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره : وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلًا مثقالًا من الذهب بمثقالين من الذهب يدًا بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعتطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا . . لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن: إنما تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضًا في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى: السبب السابع: أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالًا ضعيفًا. وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح وهو أن يصلي الإنسان، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقد من حيث اشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقال: إنها لا تصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذًا حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سندًا ومتنًا، وأن من قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: أنه لم يستحبها أحد من الأئمة . وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمرًا مشروعًا، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة. كذلك أيضًا من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أسود فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته. ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وانهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت. ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟ تكاثرت الظباء على خراش** فما يدري خراش ما يصيد وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علمًا وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم. ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين: 1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يتقضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحرًا في العلم. 2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ ايتبع الإنسان إمامًا لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفًا لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحدًا غير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجب أن يؤخذ بقوله فعلًا وتركًا بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لانزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صحابها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئ، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام: 1ـ عالم رزقه الله علمًا وفهمًا. 2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر. 3ـ عامي لا يدري شيئًا. أما الأول: فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس لأنه مأمور بذلك، قال تعالى: أما الثاني: الذي رزقه الله علمًا ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزًا في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عامًا، أو قيد ما كان مطلقًا، أو نسخ ما يراه محكمًا. وهو لا يدري بذلك. أما الثالث: وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟ فمنهم من يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا، لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علمًا إذًا لا فرق. ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علمًا قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل. والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه. وأخيرًا أنصح نفسي أولًا وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم. فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ) أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به) [أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ:"القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" قال أبو داود:" وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة".]. كذلك أيضًا من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس. وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطًا ن قوله تعالى: وقد ذكر الشافعي أنه قال: وقال اعلـم بأن العلـم نـور ** ونـور الله لا يؤتاه عـاصي فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سببًا لفتح الله على المرء. وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين أولًا وأخيرًا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. * * *
حث طلبة العلم على الالتحاق بجماعات تحفيظ القرآن الكريم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله ـ عز وجل ـ تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين (جبريل) على قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. وقد جاء نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هبَّ كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعليمًا فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والتحق بها ـ ولله الحمد ـ جم غفير من الشباب ولم يتقصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضًا وحصل بذلك خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين. وإنني لأحث إخواني الذي منَّ الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ]. ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات ـ أعني جماعات تحفيظ القرآن ـ يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد. يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه. ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله ـ عز وجل ـ (المساجد) . ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل. ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره. ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، وكما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد . يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضررًا من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه شيء فإن كل وقت مضى لا يرجع كما قيل: امس الدابر لا يعود. تندرس به مفسدة الفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل:
إن الشـباب والفراغ والجدة ** مفسـدة للمـرء أي مفسـدة فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية فيها. ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سببًا للتخريب. ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول، الذي ربما يفضي إلى فاسد الأخلاق. ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن ويكون الشاب سطحيًا ليس عنده تفكير عميق ولا ذهن حاد. وإني لأحث إخواني الذين منَّ الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما منَّ الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر كما جاء نحو ذلك فيمن جهز غازيًا، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملًا بقول الله تعالى: وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا ممن حقق ذلك بمقالة وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.
|