الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (156- 188): {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)}{ولا تمسوها بسوء} أي بعقر {فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين} أي على عقرها لما رأوا العذاب {فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله عز وجل: {كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين} يعني نكاح الرجال من بني آدم {وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال {بل أنتم قوم عادون} أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام {قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين} أي من قريتنا {قال إني لعملكم من القالين} أي من التاركين المبغضين {رب نجني وأهلي مما يعملون} أي من العمل الخبيث قال الله تعالى: {فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً} أي امرأته {في الغابرين} أي بقيت في المهلكين {ثم دمرنا الآخرين} أي أهلكناهم {وأمطرنا عليهم مطراً} يعني الكبريت والنار {فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله عز وجل: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد {إذ قال لهم شعيب} لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم {ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته، والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين} أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن {وزنوا بالقسطاس} أي بالميزان العدل {المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} يعني الخليقة والأمم المتقدمة {قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفاً} يعني قطعاً {من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون} يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ..تفسير الآيات (189- 214): {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}{فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب، فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا والله أعلم بمراده قوله عز وجل: {وإنه} يعني القرآن {لتنزيل رب العالمين} يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين {نزل به الروح الأمين} يعني جبريل عليه السلام سماه زوجاً لأنه خلق من الروح وسماه أميناً، لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه {على قلب} يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة، وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أخرجاه في الصحيحين. ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن تغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها، ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم. قوله تعالى: {لتكون من المنذرين} أي المخوفين {بلسان عربي مبين} قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه {وإنه} يعني القرآن وقيل ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته {لفي زبر الأولين} أي كتب الأولين {أولم يكن لهم آية} يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {أن يعلمه} يعني يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم {علماء بني إسرائيل}.قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه صلى الله عليه وسلم قيل كانوا خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد. قوله تعالى: {ولو نزلناه} يعني القرآن {على بعض الأعجمين} جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية، وإن كان عربياً في النسب ومعنى الآية، وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان {فقرأه عليهم} يعني القرآن {ما كانوا به مؤمنين} أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفه من اتباع من ليس من العرب {كذلك سلكناه} قال ابن عباس: يعني أدخلنا الشرك والتكذيب {في قلوب المجرمين لا يؤمنون به} آي القرآن {حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون} أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم {أفبعذابنا يستعجلون} قيل لما وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب، فأنزل الله أفبعذابنا يستعجلون {أفرأيت إن متعناهم سنين} أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم {ثم جاءهم ما كانوا يوعدون} يعني العذاب {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئاً ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} أي رسل ينذرونهم {ذكرى} أي تذكره {وما كنا ظالمين} أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم {وما تنزلت به الشياطين} يعني أن المشركين كانوا يقولون: إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ذلك {وما ينبغي لهم} أن ينزلوا بالقرآن {وما يستطيعون} أي ذلك، ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال {إنهم عن السمع لمعزولون} أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك.قال ابن عباس: يحذر بهم غيره يقول أنت أكرم الخلق علي، ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك. قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاماً واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بن عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذٍ نحو أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله أن كان الرجل الواحد ليأكل، مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغد يا: علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه سلم فقال: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، وأنا أحدثهم سناً فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه».(ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش، حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذباً قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتتنا فنزلت {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري، «لما نزلت {وانذر عشيرتك الأقربين} ورهطك منهم المخلصين خرج سول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه»، فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه.(ق) عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها «اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت رسول الله سليني ماشئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً».(م) عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجراً ثم نادى «يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه» ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولاً وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانياً لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع..تفسير الآيات (215- 227): {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}{واخفض} اي ألن {جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله: {من المؤمنين} وقلت: معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألستنهم وهم المنافقون {فإن عصوك} يعني فيما تأمرهم به {فقل إني بريء مما تعملون} يعني من الكفر والمخالفة {وتوكل على العزيز الرحيم} التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره وهو الله تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك، بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته {الذي يراك حين تقوم} إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك {وتقلبك في الساجدين} قال ابن عباس: ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة، وقيل: معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» وقيل: معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. قيل: تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة {إنه هو السميع} يعني لقولك ودعائك {العليم} يعني بنيتك وعملك قل يا محمد {هل أنبئكم} يعني أخبركم {على من تنزل الشياطين} هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى: {تنزل على كل أفاك} يعني كذاب {أثيم} يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى: {يلقون السمع} يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة {وأكثرهم كاذبون} لأنهم يخلطون به كذباً كثيراً {والشعراء يتبعهم الغاوون} قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار والذي كانوا يهدون النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبد الله الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب، والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمداً صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فلذلك قوله: {يتبعهم الغاوون} فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل واحد غواة من قومه، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية: {ألم تر أنهم في كل وادٍ} من أودية الكلام {يهيمون} يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون، وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق، فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم.(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً» ثم استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجتنبون شعر الكفار، ويهجون وينافحون عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل» أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: وقد روي في غير هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح، هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان والله أعلم.(ق) عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإن جبريل معك».(خ) عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينافح ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله».(م) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال أهجهم فهجاهم فلم يرضى فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان: قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعث بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبياً لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين» قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله» قالت وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى واشتفى» فقال حسان: فصل في مدح الشعر:(خ) عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال: «إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً» أخرجه أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: «ردفت وراء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء، قلت نعم قال: هيه: فأنشدته بيتاً فقال: هيه ثم أنشدته بيتاً قال: هيه حتى أنشدته مائة بيت» زاد في رواية: «لقد كان يسلم شعره» عن جابر بن سمره قال: «جالست النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت وربما تبسم معهم» أخرجه الترمذي.وقال حديث حسن صحيح. وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها فقال: فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتاً ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة. قوله تعالى: {وذكروا الله كثيراً} أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله {وانتصروا من بعد ما ظلموا} أي انتصروا من المشركين لأنهم بدؤوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا} أي أشركوا وهجوا رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر من الهجاء {أي منقلب ينقلبون} أي أيَّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس: إلى جهنم وبئس المصير والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
|