الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقد جاءت أحاديث تَنَازع الناس في صحتها، مثل قوله:(لا صلاة إلا بوُضُوء،ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه)،فأما الأول:فهو كقوله:(لا صلاة إلا بطهور) وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ فإن الطهور واجب في الصلاة، فإنما نفى الصلاة لانتفاء واجب فيها، وأما ذكر اسم اللّه _ تعالى _ على الوضوء، ففي وجوبه نزاع معروف، وأكثر العلماء لا يوجبونه، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها الخَرْقِي وأبو محمد وغيرهما. والثاني: يجب وهو قول طائفة من أهل العلم. وهو الرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى وأصحابه. وكذلك قوله:( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) رواه الدارقطني، فمن الناس من يضعفه مرفوعاً ويقـول:هو من كلام علي _ رضي اللّه عنه _ ومنهم من يثبته كعبد الحق. وكذلك قوله:(لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) قد رواه أهل السنن. وقيل: إن رفعه لم يصح، وإنما يصح موقوفاً على ابن عمر أو حفصة، فليس لأحد أن يثبت لفظا عن الرسول،مع أنه أريد به نفي الكمال/ المستحب،فإن صحت هذه الألفاظ دلت قطعاً على وجوب هذه الأمور، فإن لم تصح فلا ينقض بها أصل مستقر من الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يحمل كلام اللّه ورسوله على وفق مذهبه، إن لم يتبين من كلام اللّه ورسوله ما يدل على مراد اللّه ورسوله،وإلا فأقوال العلماء تابعة لقول اللّه ـ تعالى ـ ورسوله صلىالله عليه وسلم ليس قول اللّه ورسوله تابعاً لأقولهم. فإذا كان فى وجوب شيء نزاع بين العلماء، ولفظ الشارع قد اطرد في معنى، لم يجز أن ينقض الأصل المعروف من كلام اللّه ورسوله بقول فيه نزاع بين العلماء. ولكن من الناس من لا يعرف مذاهب أهل العلم، وقد نشأ على قول لا يعرف غيره فيظنه إجماعاً،كمن يظن أنه إذا ترك الإنسان الجماعة وصلى وحده برئت ذمته إجماعاً، وليس الأمر كذلك، بل للعلماء قولان معروفان في إجزاء هذه الصلاة، وفي مذهب أحمد فيها قولان؛ فطائفة من قدماء أصحابه _ حكاه عنهم القاضي أبو يعلى في شرح المذهب، ومن متأخريهم كابن عقيل وغيره _ يقولون: من صلى المكتوبة وحده من غير عذر يسوغ له ذلك،فهو كمن صلى الظهر يوم الجمعة، فإن أمكنه أن يؤديها في جماعة بعد ذلك فعليه ذلك، وإلا باء بإثمه،كما يبوء تارك الجمعة بإثمه، والتوبة معروضة. وهذا قول غير واحد من أهل العلم، وأكثر الآثار المروية عن السلف من الصحابة والتابعين تدل على هذا. وقد احتجوا بما ثبت عنه صلىالله عليه وسلم، أنه قال:(من سمع النداء/ ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له)،وأجابوا عن حديث التفضيل بأنه في المعذور الذي تباح له الصلاة وحده، كما ثبت عنه أنه قال:(صلاة الرجل قاعداً على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد)، والمراد به المعذور، كما في الحديث: أنه خرج وقد أصابهم وَعْكُ، وهم يصلون قعوداً، فقال ذلك. ولم يجوز أحد من السلف صلاة التطوع مضطجعاً من غير عذر، ولا يعرف أن أحداً من السلف فعل ذلك، وجوازه وجه في مذهب الشافعي، وأحمد، ولا يعرف لصاحبه سلف صدق، مع أن هذه المسألة مما تعم بها البلوى؛ فلو كان يجـوز لكل مسلم أن يصلي التطوع على جنبه، وهو صحيح لا مرض به، كما يجوز أن يصلي التطوع قاعداً وعلى الراحلة، لكان هذا مما قد بينه الرسول صلىالله عليه وسلم لأمته، وكان الصحابه تعلم ذلك، ثم مع قوة الداعي إلى الخير لابد أن يفعل ذلك بعضهم، فلما لم يفعله أحد منهم، دل على أنه لم يكن مشروعاً عندهم، وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا أنه ينبغي للمسلم أن يُقَدِّر قَدْرَ كلام اللّه ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد، فإن كثيراً من الناس يتأول النصوص المخالفة لقوله؛ يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنه ذكر ما يحتمله اللفظ، وقصده به دفع ذلك المحتج عليه بذلك النص وهذا خطأ، بل جميع ما قاله اللّه ورسوله/ يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه، وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل عند من يكون اصطلاحه تغاير معناهما، وأما من يجعلهما بمعنى واحد، كما هو الغالب على اصطلاح المفسرين، فالتأويل عندهم هو التفسير. وأما التأويل في كلام اللّه ورسوله، فله معنى ثالث غير معناه في اصطلاح المفسرين، وغير معناه في اصطلاح متأخري الفقهاء والأصوليين؛ كما بسط في موضعه. والمقصود هنا أن كل ما نفاه اللّه ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة، كاسم الإيمان، والإسلام،والدين، والصلاة، والصيام، والطهارة،والحج، وغير ذلك، فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى، ومن هذا قوله تعالى: ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شَجَرَ بين/ الناس،في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء، ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم، ويسلموا تسليماً، قال تعالى: وكذلك قوله تعالى: وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة؛من جهة أن مخالفتهم/مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين، فإنها مما بين اللّه فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به، فهنا قد لا يقطع _ أيضًا _ بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر، بل قد يكون ظن الإجماع خطأ، والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. و الإجماع هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة ؟ فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا، والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع، ويعلم يقيناً أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلاً، فهذا يجب القطع بأنه حق، وهذا لابد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى، كما قد بسط هذا في موضع آخر. ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة، دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها، وهذا مثل [الصراط المستقيم] الذي أمرنا اللّه بسؤال هدايته، فإنه قد وصف بأنه الإسلام، ووصف بأنه اتباع القرآن، ووصف بأنه طاعة اللّه ورسوله، ووصف بأنه طريق العبودية، ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه، ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته؛ فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها، فإنه مدلول الأخرى. وكذلك أسماء اللّه _ تعالى _ وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، هي مثل أسماء دينه. /وكذلك قوله تعالى: وكذلك إذا قلنا: الكتاب، والسنة،والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنه الرسول صلىالله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون، فإنه لا يكون إلا حقاً موافقاً لما في الكتاب والسنة، لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول، وأما الرسول فينزل عليه وحي القرآن، ووحي آخر هو الحكمة، كما قال صلىالله عليه وسلم: (ألا إني أوتِيتُ الكتابَ وِمْثَله معه). وقال حسان بن عطية: كان جبريل ينزل على النبي صلىالله عليه وسلم بالسنة فيعلِّمه إياها كما يعلمه القرآن. فليس كل ما جاءت به السنة يجب أن يكون مفسراً في القرآن، بخلاف ما يقوله أهل الإجماع، فإنه لابد أن يدل عليه الكتاب والسنة، فإن الرسول هو الواسطة بينهم وبين اللّه في أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، والمقصود ذكر الإيمان. ومن هذا الباب قول النبي صلىالله عليه وسلم:(لا يُبْغِض الأنصارَ رجل يؤمن باللّه واليوم الآخر). وقوله:(آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار). فإن من علم ما قامت به الأنصار من نصر اللّه ورسوله من أول/ الأمر. وكان محباً للّه ولرسوله، أحبهم قطعاً، فيكون حبه لهم علامة الإيمان الذي في قلبه، ومن أبغضهم لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه اللّه عليه. وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه اللّه ورسوله من المنكر الذي حرمه اللّه ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه اللّه عليه، فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلا، لم يكن معه إيمان أصلاً _ كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى _ وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، لم يكن معه ما أوجبه اللّه عليه من الإيمان، فحيث نفى اللّه الإيمان عن شخص، فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان، ويكون من المعرضين للوعيد، ليس من المستحقين للوعد المطلق. وكذلك قوله صلىالله عليه وسلم: (من غَشَّنا فليس مِنَّا، ومن حمل علينا السلاح فليس مِنَّا)، كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب اللّه عليه، أو فعل ما حرمه اللّه ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الاسم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد، السالمين من الوعيد.وكذلك قوله تعالى: فهذا حكم اسم الإيمان إذا أطلق في كلام اللّه ورسوله، فإنه يتناول فعل الواجبات، وترك المحرمات،ومن نفى اللّه ورسوله عنه الإيمان، فلابد أن يكون قد ترك واجباً أو فعل محرماً،فلا يدخل في الاسم الذي يستحق أهله الوعد دون الوعيد،بل يكون من أهل الوعيد. وكذلك قوله تعالى: قال محمد بن نصر المروزي: لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرق بينها، فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق، وأخبر أنه كَرَّهها كلها إلى المؤمنين، ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان، وليس فيها شيء خارج عنه،لم يفرق بينها فيقول: حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات؛ بل أجمل ذلك فقال: (حّبَّبّ إلّيًكٍمٍ الإيمّانّ ). فدخل في ذلك جميع الطاعات؛ لأنه قد حبب إلى المؤمنين الصلاة والزكاة، وسائر الطاعات حب تديّن؛ لأن اللّه أخبر أنه حبب ذلك إليهم، وزينه في قلوبهم؛ لقوله: قلت: وتكريهه جميع المعاصي إليهم، يستلزم حب جميع الطاعات؛ لأن ترك الطاعات معصية؛ ولأنه لا يترك المعاصي كلها إن لم يتلبس بضدها، فيكون محباً لضدها وهو الطاعة، إذ القلب لابد له من إرادة، فإذا كان يكره الشر كله، فلابد أن يريد الخير. والمباح بالنية الحسنة يكون خيراً، وبالنية السيئة يكون شراً، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(أحب الأسماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء حارث وهمَّام، وأقبحها: حَرْبٌ وَمُرَّة). وقوله: (أصدق الأسماء حارث وهمام)؛ لأن كل إنسان همام حارث، والحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم _ وهو مبدأ الإرادة _ وهو حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة، فإذا فعل شيئًا من المباحات؛ فلابد له من غاية ينتهي إليها قصده، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره، فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة اللّه وحده لا شريك له، وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئًا سواه، وهو أحب إليه من كل ما سواه، فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه اللّه، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة، كما في الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: (نَفَقَة الرجل على أهله يحتسبها صدقة).وفي الصحيحين عنه أنه قال لسعد بن أبي وقاص ـ لما /مرض بمكة وعاده ـ: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللُّقْمَة ترفعها إلى في امرأتك). وقال معاذ بن جبل لأبي موسى: إني أحتسب نَوْمَتِي كما أحتسب قَوْمَتِي. وفي الأثر: نوم العالِم تسبيحٌ. وإن كان أصل مقصوده عبادة غير اللّه، لم تكن الطيبات مباحة له؛ فإن اللّه أباحها للمؤمنين من عباده، بل الكفار وأهل الجرائم والذنوب وأهل الشهوات، يحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، فلم يذكروه ولم يعبدوه بها، ويقال لهم: وكذلك قال للرسل: فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره، فما سواه لم يكن محرمًا على المؤمنين، و مع هذا فلم يكن أحله بخطابه، بل كان عفواً، كما في الحديث عن سلمان موقوفًا ومرفوعاً: (الحلال ما أحله اللّه في كتابه، والحرام ما حرمه اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه). /وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلىالله عليه وسلم (إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ). وكذلك قوله تعالى: وقد حرم النبي صلىالله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلَب من الطير، ولم يكن هذا نسخاً للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك، ولكن سكت عن تحريمه، فكان تحريمه ابتداء شرع. ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، وغيرهم:(لا أَلْفيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه). وفي لفظ: (ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر، ألا وإني/ حرمت كل ذي ناب من السباع). فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب، وأن اللّه حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخًا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط، إنما أحل الطيبات، وهذه ليست من الطيبات، وقال: وأما الكفار، فلم يأذن اللّه لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها،ملكوها شرعاً؛ لأن اللّه أباح لهم الغنائم، ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم، ويجوز أن يشتري من بعضهم ما /سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات، ولهذا سمى اللّه ما عاد من أموالهم إلى المسلمين[ فيئًا]؛ لأن اللّه أفاءه إلى مستحقه؛ أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه، ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه؛ وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته. ولفظ الفيء قد يتناول الغنيمة، كقول النبي صلىالله عليه وسلم في غنائم حنين: (ليس لي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، لكنه لما قال تعالى: وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلىالله عليه وسلم:(وفي بُضْع أحدكم صدقة). قالوا: يا رسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: (إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته). رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما. فأخبر أن اللّه يحب إتيان رخصه، كما يكره فعل معصيته. وبعض الفقهاء يرويه: (كما يحب أن تؤتى عزائمه). وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها اللّه لحاجة العباد إليها، والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛/ فهو يحب الأخذ بها، لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث القصر:(صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته). ولأنه بها تتم عبادته وطاعته، وما لا يحتاج إليه الإنسان من قول وعمل، بل يفعله عبثًا، فهذا عليه لا له، كما في الحديث: (كل كلام ابن ادم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر أو ذكر اللّّه). وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال:(من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت). فأمر المؤمن بأحد أمرين: إما قول الخير أو الصُّمَات؛ ولهذا كان قول الخير خيراً من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خيراً من قوله؛ ولهذا قال اللّه تعالى: وقد اختلف أهل التفسير: هل يكتب جميع أقواله؟ فقال مجاهد وغيره: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر. والقرآن يدل على أنهما يكتبان الجميع؛ فإنه قال: ولهذا قال تعالى: وأيضًا،فإذا كرهوا جميع السيئات لم يبق إلا حسنات أو مباحات، والمباحات لم تبح إلا لأهل الإيمان الذين يستعينون بها على الطاعات، وإلا فاللّه لم يبح قط لأحد شيئًا أن يستعين به على كفر، ولا فسوق، ولا عصيان؛ ولهذا لعن النبي صلىالله عليه وسلم عاصر الخمر ومعتصرها، كما لعن شاربها. والعاصر/ يعصر عنبًا يصير عصيراً يمكن أن ينتفع به في المباح، لكن لما علم أن قصد العاصر أن يجعلها خمراً، لم يكن له أن يعينه بما جنسه مباح على معصية اللّه، بل لعنه النبي صلىالله عليه وسلم على ذلك؛ لأن اللّه لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به في المعصية. فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات. فيلزم من انتفاء السيئات أنهم لا يفعلون إلا الحسنات؛ ولهذا كان من ترك المعاصي كلها، فلابد أن يشتغل بطاعة اللّه. وفي الحديث الصحيح: (كُلُّ الناس يَغْدُوا، فبائع نَفْسَه فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا) فالمؤمن لابد أن يحب الحسنات، ولابد أن يبغض السيئات، ولابد أن يسره فعل الحسنة، ويسوؤه فعل السيئة، و متى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان، والمؤمن قد تصدر منه السيئة فيتوب منها، أو يأتي بحسنات تمحوها، أو يبتلى ببلاء يكفرها عنه ولكن لابد أن يكون كارهاً لها؛ فإن اللّه أخبر أنه حَبَّبَ إلى المؤمنين الإيمان، وكَرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن لم يكره الثلاثة لم يكن منهم. ولكن محمد ابن نصر يقول: الفاسق يكرهها تديناً، فيقال: إن أريد بذلك أنه يعتقد أن دينه حرمها، وهو يحب دينه، وهذه من جملته، فهو يكرهها. وإن كان يحب دينه مجملاً، وليس في قلبه كراهة لها، كان قد عدم من الإيمان بقدر ذلك، كما في الحديث الصحيح:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). / فعلم أن القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه اللّه، لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب. وقوله:[من الإيمان] أي: من هذا الإيمان، و هو الإيمان المطلق، أي: ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان، ولا قدر حبة خردل. والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقى بعد هذا من الإيمان شيء، ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء، بل لفظ الحديث إنما يدل على المعنى الأول.
ومن هذا الباب لفظ [الكفر] و [النفاق]، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة، دخل فيه المنافقون، كقوله: فهذه كلها يدخل فيها المنافقون الذين هم في الباطن كفار ليس معهم من الإيمان شيء، كما يدخل فيها الكفار المظهرون للكفر، بل المنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر اللّه بذلك في كتابه. ثم قد يقرن الكفر بالنفاق في مواضع، ففي أول البقرة ذكر أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فقال تعالى: وكذلك لفظ[المشركين] قد يقرن بأهل الكتاب فقط، وقد يقرن بالملل الخمس؛ كما في قوله تعالى: والأول كقوله: وقوله: /وقوله في الرواية الأخرى: لا تباح ـ متابعة لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ـ لم يكن لأجل النسب، بل لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر ونحوه، ولكن بعض التابعين ظن أن ذلك لأجل النسب،كما نقل عن عطاء، وقال به الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وفَرَّعُوا على ذلك فروعاً، كمن كان أحد أبويه كتابياً والآخر ليس بكتابي ونحو ذلك، حتى لا يوجد في طائفة من كتب أصحاب أحمد إلا هذا القول، وهو خطأ على مذهبه، مخالف لنصوصه، لم يعلق الحكم بالنسب في مثل هذا البتة كما قد بسط في موضعه. ولفظ[المشركين] يذكر مفرداً في مثل قوله:
وكذلك لفظ[الصالح] و [الشهيد] و [الصديق]، يذكر مفرداً؛ فيتناول النبيين، قال تعالى في حق الخليل: وكذلك [الشهيد]، قد جعل هنا قرين الصديق والصالح، وقد قال:
|