الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى : قد كثر تنازع الناس: أيهما أفضل [الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم. وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [التمام لكتاب الروايتين والوجهين] لأبيه فيها عن أحمد روايتين: إحداهما: أن الفقير الصابر أفضل. وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو . والثانية: أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة. و[القول الأول] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه / والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و[القول الثاني] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [أبو العباس بن عطاء: هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن: يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال: كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه: إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ]. وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط . وفي المسألة [قول ثالث] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما. كما قال تعالى: والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام. وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [شرح السنة] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى: (وإن من عبادي من / لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السـقم، ولو أصححته لأفسـده ذلك، إنى أدبـر عبادى، إنى بهم خبير بصير). وفي هذا المعنى ما يروى: (إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب)، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا. ذكره أحمد في الزهد. فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: (نعم المال الصالح للرجل الصالح). وكما أن الأقوال في المسألة [ثلاثة] فالناس [ثلاثة أصناف]: غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا: كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين. /وفيهم من كان فقيرًا: كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء: كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر . والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال: وفضلهم بالأعمال الصالحة: من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له. وقال في آية العدل: ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين. غنيهم وفقيرهم في أمورهم. ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك. وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال: وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك. و من اختص منهم بفضل عرف النبيصلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضًا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء. وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء. وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه. /وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء: كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك. ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة. ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة فإنه قد روى: أن الفقراء قالوا له: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال: (ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم؟) فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة. فجاؤوا إليه فقالوا: إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال: وثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال: (يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ خمسمائة عام)، وفي رواية: (بأربعين خريفًا) فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على /قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات. والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول. وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه. وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير. ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في [حوضه]: الذي طوله شهر وعرضه شهر: (ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين: الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل: إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم. وما روي: (إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا) كلام موضوع / لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة. وقد ثبت في الصحاح أنه قال: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء) وثبت في الصحاح أيضًا أنه قال: (احتجت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون) وقوله: (وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار)، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير). فهذه الأحاديث فيها معنيان: أحدهما: أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح: أنه (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، و(لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان). فقيل: يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: (لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس /الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب) وكذلك الحديث المروي: (لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا. وما يملك إلا أهله). فعلم بهذين الحديثين: أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة. وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).ومن هذا الباب: قول هرقل لأبي سفيان: أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. قال: وهم أتباع الأنبياء. وقد قالوا لنوح: وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته.المعنى الثاني: أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء. كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل.ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا/صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر.فهذا هذا والله أعلم. فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه. /و فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الحمد: يتضمن المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد، أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: /وأما [الشكر] فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثــــة**يدي، ولساني، والضمير المحجبا ولهذا قال تعالى: والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، ومن هذا الحديث (الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) والله أعلم. / بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وبين ابن المرحل . كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان. فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين ـ وسماه ـ: إن مذهب أهل السنة والجماعة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا: إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا. قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ. فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل. قال الله تعالى: قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة. قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق؟ ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة [ص] (سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا). ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟ قال ابن المرحل: هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل. /قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا. ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص؟. وكذلك هذا. لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر. قلت: كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة. قال: وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر/ النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله. قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد. ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة ـ التي هي ذات شعب وأجزاء ـ زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها. قال الصدر بن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله. قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة. قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا. قال الشيخ تقي الدين: ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك /قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق ـ مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين ـ على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة. فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه. ثم عاد ابن المرحل، فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع، لكن يستشكل. قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع: أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه. ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل. وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ [الحمد] و [الشكر] مثل كتب التفسير واللغة، / وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك. فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال: الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا. قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر. وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات. قال له ابن المرحل: ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟ قال الشيخ تقي الدين: هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره. وحكوه عن العلماء. وقال غير واحد من السلف (كفر دون كفر، و نفاق دون نفاق، وشرك دون شرك). /وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه. قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا. قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك. وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم. ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمى مشككا. قال ابن المرحل: كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره. قال له الشيخ تقي الدين: المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به/ تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا. قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة، وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز. وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز. مثال ذلك: [اسم الجنس] إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب. فيكون متواطئًا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة: مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي. وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح /استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك. ولفظ [النفاق] من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين. ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا. فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا. فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ. وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله: وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: /(آية المنافق ثلاث) وقوله: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا) وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه: كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقًا. فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي. وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد. كما قال سبحانه: أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه كان منافقًا) يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن. فإطلاق لفظ [النفاق] على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ [منافق] بل لام التعريف. /وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته. فلهذا صح أن يقال: [النفاق] اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا. وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر. /بحث ثان وهو: أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد، والقول، والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول، أو بالاعتقاد. أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي [زين الدين ابن المنجى الحنبلي: هو أسعد بن المنجَّى بن أبي المنجي بركات بن المؤمل التنوخي المعري الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي. ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة. ارتحل إلى بغداد بعد أن تفقه على شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي سمع من أبي الفضل الأرموي وغيره وروى عنه الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، ولى قضاء حران في دولة الملك نور الدين، ألف كتاب [النهاية في شرح الهداية]. في عدة مجلدات، توفي في جمادي الآخرة سنة ست وستمائة، وله سبع وثمانون سنة. [سير أعلام النبلاء 12/436، 437 - شذرات الذهب 5/18، 19]: إن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها. فقال شيخ الإسلام ـ تقي الدين ابن تيمية :ـ المعاني على قسمين: مفردة، ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلابد أن يوجد في /حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات، فتكون المتعلقات جزءًا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود. والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما. فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية.فلا يكون الحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود. فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، ليس على العموم. بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية. ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية ونحوها. فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني: صفة ثبوتية مضافة / إلى غيرها، كالحب والبغض. والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية. قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية، كالحب. قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة، والنسب عدمية. قال الشيخ تقي الدين: كون الحب، والبغض، والإرادة، والكراهة أمرًا عدميًا باطل بالضرورة. وهو خلاف إجماع العقلاء. ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال: إنه عدمي. فأصر ابن المرحل على أن الحب ـ الذي هو ميل القلب إلى المحبوب ـ أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي. /قال الشيخ تقي الدين: المحبة هي الحب، فإنه يقال:أحبه، وحبه حبًا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر. قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي. قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم. وكون الحب والبغض أمرًا وجوديًا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليًا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا، فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب. ومن يحس ذلك من نفسه يجده، كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه. ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة، ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات. قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع، فإن نقيض الامتناع: لا امتناع. وامتناع صفة عدمية. قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل، / وباعتبار كونه معلومًا له ثبوت علمي، وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت. وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة، وتقول: هذا الحي صار محبًا بعد أن لم يكن محبًا. فتخبر عن الوجود الخارجي. فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًا، كانت وجودًا خارجيًا. وفي الجملة، فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية. قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة. فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير. وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكرحقيقتهما. والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر /فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر. قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب ـ من حيث هو أب ـ فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة، التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرًا وجوديًا. فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وإن لم يكن هذا المتعلق عارضًا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة، الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر. فإذا كان فهمها موقوفًا على فهم متعلقهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق، وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرًا عدميًا. والله أعلم. /قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: قوله: قال ابن المرحل: هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة. وإذا كان هذا تخصيصًا لم يمنع ادعاء العموم فيه. قال الشيخ تقي الدين:هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناءً، كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانًا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربًا. /فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعًا فهو مخطئ. قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا. قال له الشيخ تقي الدين:وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين. وادعى مدعٍ أن فيه قولين: أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد. فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام. فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخًا. قال الشيخ تقي الدين: فيلزم من هذا ألا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد، ولا بقياس، فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة. /قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول: هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعًا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي. قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطًا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضًا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن، والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك، هي باقية على مسمياتها. والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها، مثل الصلاة والزكاة، والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة. قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة. قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي.أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا ـ مع أنه مكرر ـ فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية. /قال ابن المرحل: متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية. قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه. وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمى في اللغة صلاة وزكاة، وتيممًا، وصومًا وبيعًا، وإجارة، ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير، فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل، إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول، حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل.
|