وَقَالَ شيخ الإسلام:
قوله:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} الآية بعد قوله:{كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} [النساء:78، 79]، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصى عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طرداً، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148].
ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى اللّه فى الهداية، كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم: (الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره) فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه. ثم قال: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) إلى آخره، لما استغفر من المعاصى استعاذه من الذنوب التى لم تقع ثم قال:(ومن سيئات أعمالنا)،أى:ومن عقوباتها،ثم قال:(من يهد الله فلا مضل له)إلخ. شهادة بأنه المتصرف فى خلقه، ففيه إثبات القضاء الذى هو نظام التوحيد، هذا كله مقدمة بين يدى الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجاء إليه، والإيمان بأقداره. فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان.
وقال: كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه:
الأول: أن النعم تقع بلا كسب.
الثانى: أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده، فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان. وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال.
الثالث: أن الحسنة تضاعف.
الرابع: أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم، ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78ـ80].
الخامس: أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة.
السادس: أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛ لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور، والترك أمر وجودى، فتركه لما عرف أنه ذنب،وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه.
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم البغض فى الله من أوثق عُرَى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك. وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضاً، بل صادراً عن بغض وعداوة. وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل. وفى الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل،وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، والغفلة، والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}الآية [الكهف:28].
السابع: أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه.
الثامن: أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه، فيرجع فى ذلك إلى الله، ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذى لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه،ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضاً، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله.
فإذا عرف أن {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2] صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده، وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذى يستحقه صار له...[بياض بالأصل]، والشر انحصر سببه فى النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه،وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أحد مطلقاً كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص.
التاسع: أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة، كما قال تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية[النور:26]،قال جمهور السلف:الكلمات الخبيثات للخبيثين،وقال:{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]،وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها،فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح،بل إذا كان فى النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما فى حديث أبى سعيد ـ الذى فى الصحيح ـ وفيه: (حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة).
فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا} [الزلزلة: 7] إلخ. وعلم أن الرب عليم حكيم، رحيم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما فى الصحيح: (يمين الله ملأى) إلى قوله: (والقسط بيده الأخرى) وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل.
إلى أن قال: ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهى أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلى [هو أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلى المغربى، رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة ـ حزب الشاذلى ـ ولد سنة 591 هـ، سكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها، وتوفى سنة 656 هـ] ـ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى، مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما فى حزب الشاذلي. وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر، ويقولون: هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات وهى من الأحوال الشيطانية التى يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } إلى قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 101، 102]، وصح قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم).
فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادى من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتى ببعض الخوارق.
ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلخ [النساء: 51].
قال: وفى قوله تعالى: {فَمِن نَّفْسِكَ}[النساء:79] من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل اللّه أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله ـ سبحانه ـ لم يقص علينا قصة فى القرآن إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قِسْنَا الثانى بالأول، فلولا أن في النفوس ما فى نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت:43] وقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] ولهذا فى الحديث: (لتسلكن سنن من كان قبلكم).
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع.
وقال بعضهم: ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسداً، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون.
وَقَالَ الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى ـ تغمده الله تعالى برحمته:
الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فصــل
فى قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79] وبعض ما تضمنته من الحكم العظيمة.
هذه الآية ذكرها اللّه فى سياق الأمر بالجهاد، وذم الناكثين عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} [النساء:71] الآيات إلى أن ذكر صلاة الخوف، وقد ذكر قبلها طاعة اللّه وطاعة الرسول، والتحاكم إلى اللّه وإلى الرسول، ورد ما تنازع فيه الناس إلى اللّه وإلى الرسول، وذم الذين يتحاكمون ويردون ما تنازعوا فيه إلى غير اللّه والرسول.
فكانت تلك الآيات تبييناً للإيمان باللّه وبالرسول؛ ولهذا قال فيها: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وهذا جهاد عما جاء به الرسول، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15].
وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، وقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} [التوبة:19-21]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 10-14].
وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول اللّه ليحكم بين الناس بما أراه اللّه، ونهيه عن ضد ذلك، وذكره فضل الله عليه ورحمته فى حفظه، وعصمته من إضلال الناس له، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين، وتعظيم أمر الشرك، وشديد خطره وأن اللّه لا يغفره ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء ـ إلى أن بين أن أحسن الأديان دينُ من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا، بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التى شرعها، لا بالبدع والأهواء، وهم أهل ملة إبراهيم، الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125].
فكان فى الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها اتباع التوحيد، وملة إبراهيم. وهو إخلاص الدين للّه، وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات.
وقد ذكر ـ تعالى ـ فى ضمن آيات الجهاد ذَمَّ من يخاف العدو، ويطلب الحياة ، وبين أن ترك الجهاد لا يدفع عنهم الموت، بل أينما كانوا أدركهم الموت، ولو كانوا فى بروج مُشَيَّدة. فلا ينالون بترك الجهاد منفعة، بل لا ينالون إلا خسارة الدنيا والآخرة، فقال تعالـى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77].
وهذا الفريق قد قيل: إنهم منافقون، وقيل: نافقوا لما كتب عليهم القتال. وقيل: بل حصل منهم جبن وفشل، فكان فى قلوبهم مرض،كما قال تعالى:{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 20، 21] وقال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
والمعنى متناول لهؤلاء ولهؤلاء ولكل من كان بهذه الحال.
ثم قال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].
فالضمير فى قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ} يعود إلى من ذكر، وهم (الذين يخشون الناس) أو يعود إلى معلوم، وإن لم يذكر، كما فى مواضع كثيرة.
وقد قيل: إن هؤلاء كانوا كفاراً من اليهود. وقيل: كانوا منافقين. وقيل: بل كانوا من هؤلاء وهؤلاء. والمعنى يعم كل من كان كذلك، ولكن تناوله لمن أظهر الإسلام وأمر بالجهاد أولى.
ثم إذا تناول الذم هؤلاء، فهو للكفار الذين لا يظهرون الإسلام أولى وأحْرَى.
والذى عليه عامة المفسرين: أن (الحسنة) و(السيئة) يراد بهما النعم والمصائب، ليس المراد مجرد ما يفعله الإنسان باختياره، باعتباره من الحسنات أو السيئات.
فصــل
ولفظ (الحسنات) و (السيئات) فى كتاب اللّه يتناول هذا وهذا، قال اللّه تعالى عن المنافقين: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]، وقال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]، وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] وقال تعالى: {إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:48]، وقال تعالى فى حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه: {َإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} ذكر هذا بعد قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:130، 131].
وأما الأعمال المأمور بها والمنهى عنها ففى مثل قوله تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [القصص:84] {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70].
وهنا قال: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79] ولم يقل: وما فعلت، وما كسبت، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ}[الرعد:31]، وقال تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 155، 156].
فلهذا كان قول {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و{مِن سَيِّئَةٍ} متناول لما يصيب الإنسان، ويأتيه من النعم التى تسره، ومن المصائب التى تسوءه.
فالآية متناولة لهذا قطعاً، وكذلك قال عامة المفسرين.
قال أبو العالية: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ} قال: هذه فى السراء {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ} قال: وهذه فى الضراء.
وقال السدى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: قالوا: والحسنة؛ الخصب؛ ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان قالوا:{هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قالوا ـ والسيئة: الضرر فى أموالهم، تشائما بمحمد ـ قالوا: {هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ} يقولون: بتركنا ديننا، واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} الحسنة والسيئة {فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قال القرآن.
وقال الوالبى عن ابن عباس: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} قال: ما فتح الله عليك يوم بدر، وكذلك قال الضحاك.
وقال الوالبى أيضا عن ابن عباس: {مِنْ حَسَنَةٍ} قال: ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله، قال: (والسيئة) ما أصابه يوم أحد؛ إذ شُجّ فى وجهه، وكسرت رَبَاعيتَهُ.
وقال: أما (الحسنة) فأنعم اللّه بها عليك، وأما (السيئة) فابتلاك الله بها.
وروى ـ أيضا ـ عن حجاج عن عطية عن ابن عباس: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} قال: هذا يوم بَدْر {أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} قال: هذا يوم أُحُد. يقول: ما كان من نَكْبَة فمن ذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك.
وكذلك روى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح: {فَمِن نَّفْسِكَ} قال: فبذنبك، وأنا قدرتها عليك. روى هذه الآثار ابن أبى حاتم وغيره.
وروى ـ أيضًا ـ عن مُطرِّف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم هذه الآية التى فى سورة النساء: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ}؟ [النساء:78] أي: من نفسك، واللّه ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا به، وإليه يصيرون.
وكذلك فى تفسير أبى صالح عن ابن عباس: {إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: الخصب والمطر {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: الجدب والبلاء.
وقال ابن قتيبة: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} قال: الحسنة النعمة، والسيئة: البلية.
وقد ذكر أبو الفرج فى قوله:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِن سَيِّئَةٍ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحسنة: ما فتح الله عليهم يوم بدر، والسيئة: ما أصابهم يوم أحد. قال: رواه ابن أبى طلحة ـ وهو الوالبى ـ عن ابن عباس.
قال: والثانى: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية. قاله أبو العالية.
والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البلية. قاله ابن مُنَبِّه.قال: وعن أبى العالية نحوه. وهو أصح.
قلت: هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية، كما تقدم من تفسيره المعروف الذى يروى عنه هو وغيره، من طريق أبى جعفر الدارى عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله.
وأما الثانى فهو لم يذكر إسناده، ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد، وكثير منها ضعيف، بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه. وعامة المفسرين المتأخرين ـ أيضا ـ يفسرونه على مثل أقوال السلف، وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية.
فأما الصنف الأول، فهى تتناوله قطعا. كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف.
وأما المعنى الثانى، فليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن قد يقال: إنه مراد مع الأول؛ باعتبار أن ما يهديه اللّه إليه من الطاعة هو نعمة فى حقه من اللّّه أصابته، وما يقع منه من المعصية هو سيئة أصابته، ونفسه التى عملت السيئة. وإذا كان الجزاء من نفسه، فالعمل الذى أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه.
فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر ـ كما تقدم . وقد روى عن مجاهد عن ابن عباس؛ أنه كان يقرأ: (فمن نفسك وأنا قدرتها عليك).
فصــل
والمعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء مع أنها من سيئات العمل.
قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث المتفق على صحته ـ عن ابن مسعود ـ رضى اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصِدْق؛ إن الصدق يهدى إلى البِرِّ، والبر يهدى إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويَتَحَرَّى الصدق، حتى يكتب عند اللّه صِدِّيقا. وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كَذَّاباً).
وقد ذكر فى غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 66ـ 68]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِم وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4- 6]، وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، وقال تعالى: {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: 15، 16]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28]، وقال تعالى: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154]، وقال تعالى: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201، 202]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، وقال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22]، وقال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14]، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:1-3]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم} [الأحزاب:70، 71]، وقال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النور: 54].
قال أبو عثمان النيسابورى: من أمّر السنة على نفسه ـ قولا وفعلاً ـ نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه ـ قولا وفعلا ـ نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}.
قلت: وقد قال فى آخر السورة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وقال تعالى:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:109، 110]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ} [ آل عمران:155]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}:[الصف: 5 ـ 7]، وقال تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، وقال تعالى ـ أيضا ـ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:155] وقال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [التوبة:25،26]، وقال ـ تعالى ـ فى النوعين: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:12،13]، وقال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:2 ـ 4]، وقال تعالى:{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 111، 112]، وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80، 81]، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [ المائـدة:82]، وقـال تعالـى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا َتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 22 ـ 26]، وقال تعالى:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 ـ 77]، وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]، وقال تعالى ـ فى ضد هذا ـ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} إلى قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 20- 23].
وتوليتهم الأدبار ليس مما نهوا عنه، ولكن هو من جزاء أعمالهم، وهذا باب واسع.
فصــل
وإذا كانت السيئات التى يعملها الإنسان قد تكون من جزاء سيئات تقدمت ـ وهى مضرة ـ جاز أن يقال: هى مما أصابه من السيئات وهى بذنوب تقدمت.
وعلى كل تقدير، فالذنوب التى يعملها هى من نفسه، وإن كانت مقدرة عليه؛ فإنه إذا كان الجزاء الذى هو مسبب عنها من نفسه، فعمله الذى هو ذلك الجزاء من نفسه بطريق الأولى، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا).
وقال له أبو بكر ـ رضى الله عنه: علمنى دعاء. فقال: (قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شىء ومليكه؛ أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسى، وشر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسى سوءاً، أو أجره إلى مسلم، قُلْه إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك).
فقد بين أن قوله: {فَمِن نَّفْسِكَ}[النساء:79] يتناول العقوبات على الأعمال، ويتناول الأعمال، مع أن الكل بقدر الله.
فصــل
وليس للقدرية أن يحتجوا بالآية لوجوه:
منها: أنهم يقولون: فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ هو منه، لا من اللّه، بل الله قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات، لكن هذا عندهم أحْدَث إرادة فَعَل بها الحسنات، وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات، وليس واحد منها من إحداث الرب عندهم.
والقرآن قد فرق بين الحسنات والسيئات، وهم لا يفرقون فى الأعمال بين الحسنات والسيئات إلا من جهة الأمر، لا من جهة كون اللّه خلق الحسنات دون السيئات، بل هو عندهم لم يخلق لا هذا ولا هذا.
لكن منهم من يقول: بأنه يحدث من الأعمال الحسنة والسيئة ما يكون جزاء، كما يقوله أهل السنة.
لكن على هذا، فليست عندهم كل الحسنات من الله، ولا كل السيئات، بل بعض هذا، وبعض هذا.
الثانى: أنه قال: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} [النساء:78] فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك فى الأعمال، بل فى الجزاء. وقوله ـ بعد هذا ـ: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِن سَيِّئَةٍ} [النساء:79] مثل قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ }[النساء:78].
الثالث: أن الآية أريد بها: النعم والمصائب ـ كما تقدم ـ وليس للقدرية المجبرة أن تحتج بهذه الآية على نفى أعمالهم التى استحقوا بها العقاب؛ فإن قوله:{كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} هو النعم والمصائب؛ ولأن قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79]، حجة عليهم، وبيان أن الإنسان هو فاعل السيئات، وأنه يستحق عليها العقاب. واللّه ينعم عليه بالحسنات ـ عملها وجزائها ـ فإنه إذا كان ما أصابهم من حسنة فهو من اللّه؛ فالنعم من اللّه، سواء كانت ابتداء أو كانت جزاء. وإذا كانت جزاء ـ وهى من الله ـ فالعمل الصالح الذى كان سببها هو ـ أيضاً ـ من الله، أنعم بهما الله على العبد.
وإلا فلو كان هو من نفسه ـ كما كانت السيئات من نفسه ـ لكان كل ذلك من نفسه، والله ـ تعالى ـ قد فرق بين نوعين فى الكتاب والسنة، كما فى الحديث الصحيح الإلهى عن الله: (يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، ثم أُوفِّيكُمْ إياها، فمن وَجَد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}
[آل عمران:165]، وقال تعالى:{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36]، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وقال تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}[هود:101]، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، وقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، وقد أمروا أن يقولوا فى الصلاة: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمت َعَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: 6، 7].
فصــل
وقد ظن طائفة أن فى الآية إشكالا، أو تناقضاً فى الظاهر، حيث قال: {كٍلَِ مٌَنً عٌندٌ بلَّهٌ} ثم فرق بين الحسنات والسيئات، فقال: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79].
وهذا من قلة فهمهم، وعدم تدبرهم الآية، وليس فى الآية تناقض، لا فى ظاهرها، ولا فى باطنها، لا فى لفظها ولا معناها؛ فإنه ذكر عن المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، الناكصين عن الجهاد، ما ذكره بقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ} [النساء:78]، هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: بسبب ما أمرتنا به من دينك، والرجوع عما كنا عليه، أصابتنا هذه السيئات؛ لأنك أمرتنا بما أوجبها. فالسيئات هى المصائب، والأعمال التى ظنوا أنها سبب المصائب هو أمرهم بها.
وقولهم: {مِنْ عِندِكَ} تتناول مصائب الجهاد التى توجب الهزيمة؛ لأنه أمرهم بالجهاد، وتتناول ـ أيضا ـ مصائب الرزق على جهة التشاؤم، والتطير، أى: هذا عقوبة لنا بسبب دينك، كما كان قوم فرعون يتطيرون بموسى وبمن معه، وكما قال أهل القرية للمرسلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس:18]، وكما قال الكفار من ثمود لصالح ولقومه: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: 74]، فكانوا يقولون عما يصيبهم ـ من الحرب، والزلزال والجراح والقتل، وغير ذلك مما يحصل من العدو ـ: هو منك؛ لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة لذلك . ويقولون عن هذا، وعن المصائب السمائية: إنها منك، أى: بسبب طاعتنا لك واتباعنا لدينك، أصابتنا هذه المصائب، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول، وفعل ما بعث به مسبباً لشر أصابه، إما من السماء وإما من آدمى، وهؤلاء كثيرون.
لم يقولوا: {هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ} بمعنى: أنك أنت الذى أحدثتها؛ فإنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك، ولم يكن قولهم: {مِنْ عِندِكَ} خطاباً من بعضهم لبعض، بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فهم هذا تبين له أن قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} لا يناقض قوله:{كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} بل هو محقق له؛ لأنهم ـ هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة ـ يجعلون ما جاء به الرسول، والعمل به سبباً لما قد يصيبهم من مصائب، وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة.
وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به، ويقولون: ليس هذا مما أمر اللّه به، ولو كان مما أمر اللّه به لما جرى على أهله هذا البلاء.
وتارة لا يقدحون فى الأصل، لكن يقدحون فى القضية المعينة، فيقولون: هذا بسوء تدبير الرسول، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يوم أُحُد ـ إذ كان رأيه مع رأى النبى صلى الله عليه وسلم ألاّ يخرجوا من المدينة ـ فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة فى الجهاد أن يخرج، فوافقهم، ودخل بيته ولبس لأمَتَه فلما لبس لأمته ندموا، وقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: أنت أعلم، فإن شئت ألاّ نخرج، فلا نخرج فقال: (ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن ينزعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) [واللأمة: الدرع، وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداته] يعنى: أن الجهاد يلزم بالشروع، كما يلزم الحج، لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز بالإحصار فى الحج.
فصــل
والمفسرون ذكروا فى قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ}[النساء:78] هذا وهذا.
فعن ابن عباس، والسدى، وغيرهما: أنهم يقولون هذا تشاؤماً بدينه.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: بسوء تدبيرك ـ يعنى كما قاله عبد الله بن أبى وغيره يوم أحد ـ وهم كالذين{قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168].
فبكل حال قولهم: {مِنْ عِندِكَ} هو طعن فيما أمر الله به ورسوله من الإيمان والجهاد، وجعل ذلك هو الموجب للمصائب التى تصيب المؤمنين المطيعين، كما أصابتهم يوم أحد. وتارة تصيب عدوهم، فيقول الكافرون: هذا بشؤم هؤلاء، كما قال أصحاب القرية للمرسلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [يس: 18]، وكما قال تعالى ـ عن آل فرعون ـ: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[ الأعراف: 131]، وقال تعالى ـ عن قوم صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47].
ولما قال أهل القرية: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 18، 19].
قال الضحاك فى قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ} يقول: الأمر من قبل اللّه، ما أصابكم من أمر فمن اللّه، بما كسبت أيديكم.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: معايبكم. وقال قتادة: عملكم عند الله.
وفى رواية غير على: عملكم عند الله ولكنكم {قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، أى: تبتلون بطاعة اللّه ومعصيته. رواهما ابن أبى حاتم وغيره.
وعن ابن إسحاق قال: قالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أى: أعمالكم.
فقد فسروا (الطائر) بالأعمال وجزائها؛ لأنهم كانوا يقولون: إنما أصابنا ما أصابنا من المصائب بذنوب الرسل وأتباعهم.
فبين الله ـ سبحانه ـ أن طائرهم ـ وهو الأعمال وجزاؤها ـ هو عند اللّه وهو معهم. فهو معهم لأن أعمالهم وما قدر من جزائها معهم، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وهو من اللّه؛ لأن اللّه ـ تعالى ـ قدر تلك المصائب بأعمالهم.فمن عنده تتنزل عليهم المصائب،جزاء على أعمالهم لا بسبب الرسل وأتباعهم.
وفى هذا يقال: إنهم يجزون بأعمالهم، لا بأعمال غيرهم؛ ولذلك قال فى هذه الآية ـ لما كان المنافقون والكفار ومن في قلبه مرض يقول: هذا الذى أصابنا هو بسبب ما جاء به محمد، عقوبة دينية وصل إلينا ـ بين سبحانه أن ما أصابهم من المصائب إنما هو بذنوبهم.
ففى هذا رد على من أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تصيبه تلك المصائب، وعلى من انتسب إلى الإيمان بالرسول، ونسبها إلى فعل ما جاء به الرسول، وعلى من أصابته مع كفره بالرسول ونسبها إلى ما جاء به الرسول.
فصــل
والمقصود أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس سبباً لشىء من المصائب، ولا تكون طاعة اللّه ورسوله قط سبباً لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضى إلا جزاء أصحابها بخيرى الدنيا والآخرة، ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحُد بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ما ابتلوا به فى السراء والضراء والزلزال، ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به، ليتخلصوا مما فيهم من الشر وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار؛ ليتميز طيبه من خبيثه، والنفوس فيها شر، والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذى فى نفسه، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140، 141]، وقال تعالى:{وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154]، ولهذا قال صالح ـ عليه السلام ـ لقومه:{طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}[النمل: 47].
ولهذا كانت المصائب تكفر سيئات المؤمنين وبالصبر عليها ترتفع درجاتهم، وما أصابهم فى الجهاد من مصائب بأيدى العدو، فإنه يعظم أجرهم بالصبر عليها.
وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ما من غازية يغزون فى سبيل الله، فيسلمون ويغنمون إلا تعجلوا ثلثى أجرهم، وإن أصيبوا وأخفقوا تم لهم أجرهم).
وأما ما يلحقهم من الجوع والعطش والتعب، فذاك يكتب لهم به عمل صالح، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
وشواهد هذا كثيرة.
فصــل
والمقصود أن قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} [النساء:78] فإنهم جعلوا ما يصيبهم من المصائب بسبب ما جاءهم به الرسول، وكانوا يقولون: النعمة التى تصيبنا هى من عند الله، والمصيبة من عند محمد، أى: بسبب دينه وما أمر به، فقال تعالى: قل هذا وهذا من عند الله، لا من عند محمد، محمد لا يأتى لا بنعمة ولا بمصيبة؛ ولهذا قال بعد هذا: {فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] قال السدى وغيره: هو القرآن؛ فإن القرآن إذا هم فقهوا ما فيه تبين لهم أنه إنما أمرهم بالخير، والعدل والصدق، والتوحيد. لم يأمرهم بما يكون سبباً للمصائب؛ فإنهم إذا فهموا ما فى القرآن علموا أنه لا يكون سبباً للشر مطلقاً.
وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم بالأمر به حسنه ونفعه، وأنه مصلحة للعباد، وليس كما يقول من يقول: قد يأمر الله العباد بما لا مصلحة لهم فيه إذا فعلوه، بل فيه مضرة لهم.
فإنه لو كان كذلك لكان قد يصدقه المتطيرون بالرسل وأتباعهم.
ومما يوضح ذلك: أنه لما قال: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} قال بعدها:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، فإنه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات والمعجزات، وإذا شهد الله له كفى به شهيداً، ولم يضره جحد هؤلاء لرسالته، بما ذكروه من الشبه التى هى عليهم لا لهم، بما أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتهم حجة على إبطال رسالته، والله ـ تعالى ـ قد شهد له أنه أرسله للناس رسولا، فكان ختم الكلام بهذا إبطالا لقولهم: إن المصائب من عند الرسول؛ ولهذا قال بعد هذا: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80].
فصــل
وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول: إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب، وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم، فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم.
يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء.
والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر.
فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء ـ كما تقدم ـ مع احتجاج الفريقين بها، وهي حجة على الفريقين.
فإن قال نفاة القدر: إنما قال فى الحسنة: هى من الله، وفى السيئة: هى من نفسك، لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين.
قالوا: ونحن نقول: المشيئة ملازمة للأمر، فما أمر به فقد شاءه، وما لم يأمر به لم يشأه. فكانت مشيئته وأمره حَاضَّة على الطاعة دون المعصية؛ فلهذا كانت هذه منه دون هذه.
قيل: أما الآية، فقد تبين أن الذين قالوا: الحسنة من عند الله والسيئة من عندك، أرادوا: من عندك يا محمد، أى: بسبب دينك. فجعلوا رسالة الرسول هى سبب المصائب، وهذا غير مسألة القدر.
وإذا كان قد أريد: أن الطاعة والمعصية ـ مما قد قيل ـ كان قوله:{كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} [النساء: 78] حجة عليكم ـ كما تقدم.
وقوله بعد هذا:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء:79] لا ينافى ذلك، بل (الحسنة) أنعم الله بها وبثوابها، و(السيئة) هى من نفس الإنسان ناشئة، وإن كانت بقضائه وقدره، كما قال تعالى:{مٌن شّرٌَ مّا خّلّقّ} [الفلق:2]، فمن المخلوقات ماله شر، وإن كان بقضائه وقدره.
وأنتم تقولون: الطاعة والمعصية هما من إحداث الإنسان، بدون أن يجعل الله هذا فاعلا وهذا فاعلا، وبدون أن يخص الله المؤمن بنعمة ورحمة أطاعه بها؟ وهذا مخالف للقرآن.
فَصـل
فإن قيل: إذا كانت الطاعات والمعاصى مقدرة، والنعم والمصائب مقدرة، فلم فرق بين الحسنات التى هى النعم، والسيئات التى هى المصائب؟ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؟
قيل: لفروق بينهما:
الفرق الأول: أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع ابتداء بلا سبب منهم أصلا، فهو ينعم بالعافية والرزق والنصر، وغير ذلك على من لم يعمل خيراً قط، وينشئ للجنة خلقاً يسكنهم فضول الجنة، وقد خلقهم فى الآخرة لم يعملوا خيراً، ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة برحمته بلا عمل. وأما العقاب، فلا يعاقب أحداً إلا بعمله.
الفرق الثانى: أن الذى يعمل الحسنات، إذا عملها، فنفس عمله ـ الحسنات ـ هو من إحسان الله، وبفضله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} [الأعراف:43].
وفى الحديث الصحيح:(يا عبادى، إنما هى أعمالكم أُحْصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وَجَد خيراً فليحمد الله،ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه).
فنفس خلق الله لهم أحياء، وجعله لهم السمع والأبصار والأفئدة، هو من نعمته. ونفس إرسال الرسول إليهم، وتبليغه البلاغ المبين الذي اهتدوا به، هو من نعمته.
وإلهامهم الإيمان، وهدايتهم إليه، وتخصيصهم بمزيد نعمة حصل لهم بها الإيمان دون الكافرين؛ هو من نعمته، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7، 8].
فجميع ما يتقلب فيه العالم من خيرى الدنيا والآخرة، هو نعمة محضة منه، بلا سبب سابق يوجب لهم حقاً، ولا حول ولا قوة لهم من أنفسهم إلا به، وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة وخالق الجزاء.
فقوله:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[النساء:79] حق من كل وجه، ظاهراً وباطناً على مذهب أهل السنة.
وأما السيئة: فلا تكون إلا بذنب العبد، وذنبه من نفسه.وهو لم يقل: إنى لم أقدر ذلك ولم أخلقه، بل ذكر للناس ما ينفعهم.
فصــل
فإذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملا صالحاً، ونعماً يفيضها عليه.
وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه استغفر وتاب،فزال عنه سبب الشر. فيكون العبد دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته: (الحمد للّه) فيشكر الله، ثم يقول: (نستعينه ونستغفره) نستعينه على الطاعة، ونستغفره من المعصية، ثم يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) فيستعيذ به من الشر الذى فى النفس، ومن عقوبة عمله، فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه، فيستعيذ الله من شر النفس؛ أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا، ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله ومن عقوبات عمله، فاستعانه على الطاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها.
فعِلْمُ العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه ـ يوجب له هذا وهذا، فهو ـ سبحانه ـ فرق بينهما هنا، بعد أن جمع بينهما فى قوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}[النساء:78].
فبين أن الحسنات والسيئات: النعم والمصائب، والطاعات والمعاصى، على قول من أدخلها فى: {مٌَنً عٌندٌ بلَّهٌ}.
ثم بين الفرق الذى ينتفعون به، وهو أن هذا الخير من نعمة الله، فاشكروه يزدكم، وهذا الشر من ذنوبكم، فاستغفروه، يدفعه عنكم.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]،وقال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:1ـ 3].
والمذنب إذا استغفر ربه من ذنبه، فقد تَأَسَّى بالسعداء من الأنبياء والمؤمنين، كآدم وغيره.وإذا أصر، واحتج بالقدر، فقد تأسى بالأشقياء، كإبليس ومن اتبعه من الغاوين.
فكان من ذكره: أن السيئة من نفس الإنسان بذنوبه، بعد أن ذكر: أن الجميع من عند الله ـ تنبيهاً على الاستغفار والتوبة، والاستعاذة باللّه من شر نفسه وسيئات عمله، والدعاء بذلك فى الصباح والمساء، وعند المنام، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر الصديق، أفضل الأمة، حيث علمه أن يقول:(اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسى سوءاً أو أجره إلى مسلم). فيستغفر مما مضى، ويستعيذ مما يستقبل، فيكون من حزب السعداء.
وإذا علم أن الحسنة من الله ـ الجزاء والعمل ـ سأله أن يعينه على فعل الحسنات، بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وبقوله: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة:6 ]، وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8 ] ونحو ذلك.
وأما إذا أخبر أن الجميع من عند الله فقط، ولم يذكر الفرق، فإنه يحصل من هذا التسوية، فأعرض العاصى والمذنب عن ذم نفسه وعن التوبة من ذنوبها، والاستعاذة من شرها، بل وقام فى نفسه أن يحتج على الله بالقدر. وتلك حجة داحضة لا تنفعه، بل تزيده عذاباً وشقاء، كما زادت إبليس لما قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
وكالذين يقولون يوم القيامة:{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وكالذين قالوا: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام:148].
فمن احتج بالقدر على ما فعله من ذنوبه، وأعرض عما أمر الله به، من التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله، والاستعاذة به، واستهدائه ـ كان من أخسر الناس فى الدنيا والآخرة. فهذا من فوائد ذكر الفرق بين الجمع.
فصــل
الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله وينميها، ويثيب على الهم بها، والسيئة لا يضاعفها، ولا يؤاخذ على الهم بها. فيعطى صاحب الحسنة من الحسنات فوق ما عمل، وصاحب السيئة لا يجزيه إلا بقدر عمله، قال تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160].
الفرق الرابع: أن الحسنة مضافة إليه؛ لأنه أحسن بها من كل وجه ـ كما تقدم ـ فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضى الإضافة إليه.
وأما السيئة فهو إنما يخلقها بحكمة، وهى باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وحسنات، وفعله كله خير.
ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعاء الاستفتاح: (والخير بيديك، والشر ليس إليك)، فإنه لا يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة، هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس وهو شر جزئى إضافى، فأما شر كلى، أو شر مطلق، فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذى ليس إليه.
وأما الشر الجزئى الإضافى، فهو خير باعتبار حكمته؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل فى عموم المخلوقات، كقوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام:101] وإما أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى:{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2 ] وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
وهذا الموضع ضل فيه فريقان من الناس الخائضين فى القدر بالباطل: فرقة كذبت بهذا، وقالت: إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كل ما يكون؛ لأن الذنوب قبيحة، وهو لا يفعل القبيح، وإرادتها قبيحة، وهو لا يريد القبيح.
وفرقة لما رأت أنه خالق هذا كله ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمة، بل قالت: إذا كان يخلق هذا فيجوز أن يخلق كل شر، ولا يخلق شيئاً لحكمة، وما ثم فعل تنزه عنه بل كل ما كان ممكناً جاز أن يفعله.
وجوزوا أن يأمر بكل كفر ومعصية، وينهى عن كل إيمان وطاعة، وصدق وعدل، وأن يعذب الأنبياء، وينعم الفراعنة والمشركين وغير ذلك ولم يفرقوا بين مفعول ومفعول.
وهذا منكر من القول وزور، كالأول، قال تعالى:{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وقال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] ونحو ذلك مما يوجب أنه يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين المحسن والمسىء، وأن من جوز عليه التسوية بينهما، فقد أتى بقول منكر، وزور ينكر عليه.
وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل فيه من الحكمة والرحمة ما يخفى على بعضهم، مما لا يقدر قدره إلا الله.
وليس إذا وقع فى المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاما، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام.
وهذا مما يقتضى أنه لا يجوز أن يؤيد اللّه كذاباً عليه بالمعجزات التى أيد بها أنبياءه الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وليس هذا كالملك الظالم، والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع اللّه به من الشر أكثر من ظلمه.
وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم، خير من ليلة واحدة بلا إمام.
وإذا قدر كثرة ظلمه، فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى اللّه، ويستغفرونه ويتوبون إليه، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو.
وأما من يكذب على الله، ويقول ـ أي يدعى ـ: إنه نبى، فلو أيده اللّه تأييد الصادق، للزم أن يسوى بينه وبين الصادق.
فيستوى الهدى والضلال، والخير والشر، وطريق الجنة وطريق النار، ويرتفع التمييز بين هذا وهذا، وهذا مما يوجب الفساد العام للناس فى دينهم ودنياهم وآخرتهم.
ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع، كالخوارج، وأمر بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم والخروج عليهم؛ ولهذا قد يمكن اللّه كثيراً من الملوك الظالمين مدة.
وأما المتنبئون الكذابون، فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـ 46]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، فأخبر أنه ـ بتقدير الافتراء ـ لابد أن يعاقب من افترى عليه.
فصــل
وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصاً، جاز أن يضل كل الناس.وإذا جاز أن يعذب حيواناً بلا ذنب ولا عوض، جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض، وإذا جاز عليه ألا يعين واحداً ممن أمره على طاعة أمره، جاز ألا يعين كل الخلق. فلم يفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام، وبين الشر الإضافى، والشر المطلق، ولم يجعلوا فى الشر الإضافى حكمة يصير بها من قسم الخير.
ثم قال النفاة: وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال، فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى اللّه ـ تعالى.
فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة: بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص، وإنما يعلم أنه لا يفعل بما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل بالخبر، خبر الأنبياء عنه.وإلا فمهما قدر جاز أن يفعله، وجاز ألا يفعله، ليس فى نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض، بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء، ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح.
فقيل لهم: فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز، فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء. فلا يبقى خبر نبى يعلم به الفرق، فيلزم ـ مع الكفر بالأنبياء ـ ألا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل.
فاحتالوا للفرق بين المعجزات وغيرها، بأن تجويز إتيان الكذاب بالمعجزات يستلزم تعجيز الباري ـ تعالى ـ عما به يفرق بين الصادق والكاذب، أو لأن دلالتها على الصدق معلوم بالاضطرار، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين خطأ الطائفتين، وأن هؤلاء الذين اتبعوا جَهْماً في الجبر ـ ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التى بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها ـ هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول.
كما أن القدرية النفاة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول.
فصــل
والمقصود هنا الكلام على قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [ النساء: 79]، وأن هذا يقتضي أن العبد لا يزال شاكراً مستغفراً.
وقد ذكر أن الشر لا يضاف إلى الله إلا على أحد الوجوه الثلاثة. وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة، هو ـ سبحانه: الرحمن الذي وسعت رحمته كل شىء، وفي الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم.
فإرادته أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53].
وقد قال سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ثم قال: {وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم} [الحجر: 49، 50]، وقال تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98] فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه. فهى من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها.
وأما العذاب، فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة. فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده، ولا يأتيه الشر إلا من نفسه، فما أصابه من حسنة فمن اللّه، وما أصابه من سيئة فمن نفسه.
وقوله: {مَّا أَصَابَكَ} إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم ـ كما قال ابن عباس وغيره ـ وهو الأظهر؛ لقوله بعد ذلك: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79].
وإما أن تكون لكل واحد واحد من الآدميين، كقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [ الانفطار: 6].
لكن هذا ضعيف، فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه، وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه. فلو أريد ذكرهم لقيل : (ما أصابهم من حسنة فمن اللّه وما أصابهم من سيئة).
لكن خوطب الرسول بهذا؛ لأنه سيد ولد آدم. وإذا كان هذا حكمه، كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى، كما فى مثل قوله: {اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94].
ثم هذا الخطاب نوعان: نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمًْ}[التحريم: 1، 2 ].
ونوع قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره.
وليس المعنى: أنه لم يخاطب بذلك، بل هو المقدم. فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري. وإن كان هو لا يقع منه ما نهى عنه، ولا يترك ما أمر به، بل هذا يقع من غيره، كما يقول ولي الأمر للأمير: سافر غداً إلى المكان الفلاني، أي أنت ومن معك من العسكر. وكما ينهى أعز من عنده عن شيء، فيكون نهياً لمن دونه، وهذا معروف من الخطاب.
فقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} الخطاب له صلى الله عليه وسلم، وجميع الخلق داخلون فى هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى، بخلاف قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}[النساء: 79]، فإن هذا له خاصة. ولكن من يبلغ عنه يدخل فى معنى الخطاب، كما قال صلى الله عليه وسلم:(بَلِّغوا عني ولو آية)، وقال:(نَضَّر اللّه امرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه)، وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب)، وقال: (إن العلماء ورثة الأنبياء)، وقد قال تعالى فى القرآن: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19].
والمقصود هنا أن الحسنة مضافة إليه ـ سبحانه ـ من كل وجه، والسيئة مضافة إليه لأنه خلقها،كما خلق الحسنة فلهذا قال:{كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}.ثم إنه إنما خلقها لحكمة،ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التى تفعل الشر بها لا لحكمة، فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها، فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيراً يكون فعله لأجله أرجح، بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات؛ ولهذا كان فعل اللّه حسناً، لا يفعل قبيحاً ولا سيئاً قط.
وقد دخل فى هذا سيئات الجزاء والعمل؛ لأن المراد بقوله:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و{مِن سَيِّئَةٍ} النعم والمصائب ـ كما تقدم ـ لكن إذا كانت المصيبة من نفسه ـ لأنه أذنب ـ فالذنب من نفسه بطريق الأولى، فالسيئات من نفسه بلا ريب، وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} كما تقدم؛ لأنها لا تضاف إلى اللّه مفردة، بل إما فى العموم، كقوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}.
وكذلك الأسماء التى فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا: (الضار النافع، المعطى المانع، المعز المذل) أو مقيدة، كقوله:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22].
وكل ما خلقه ـ مما فيه شر جزئي إضافى ـ ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك، مثل إرسال موسى إلى فرعون، فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه، وذلك شر بالإضافة إليهم، لكن حصل به ـ من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون ـ ما هو خير عام، فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به، كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55] وقال تعالى ـ بعد ذكر قصته: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [النازعات:26].
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، شقى برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم اللّه تعالى بسببه، ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء.
ولذلك من شقى به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث اللّه محمداً صلى الله عليه وسلم فأهلك اللّّه بالجهاد طائفة، واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك.
والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصَّغَار [أى: الذل والهوان]، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم؛ لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم.
ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا اللّه، وهم دائماً يهتدى منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد.
فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التى حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافى، لما فى ذلك من الخير والحكمة أيضا؛ إذ ليس فيما خلقه الله ـ سبحانه ـ شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة.