الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه. والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه. وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرًا ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ وغير هؤلاء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ـ أو فقاتلوهم ـ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وفي رواية : (شر قتيل تحت أديم السماء، خير قتيل من قلتوه) وفي رواية : (لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوي لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لَنَكِلُوا عن العمل) و[زوى] : أي قضى، و[لنكلوا] : أي لانقطعوا. وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام. وهكذا كل من فارق جماعة المسلمين، وخرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته من أهل الأهواء المضِلَّة والبدع المخالفة. ولهذا قاتل المسلمون أيضًا [الرافضة] الذين هم شر من هؤلاء، وهم الذين يُكَفِّرون جماهير المسلمين؛ مثل الخلفاء الثلاثة وغيرهم، ويزعمون أنهم هم المؤمنون ومن سواهم كافر، ويكفرون من يقول: إن الله يُرَى في الآخرة، أو يؤمن بصفات الله وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم التي هم عليها. فإنهم يمسحون القدمين ولا يمسحون على الخف، ويؤخرون الفطور والصلاة إلى طلوع النجم، ويجمعون بين الصلاتين من غيرعذر، ويقنتون في الصلوات الخمس، ويحرمون الفقاع، وذبائح أهل الكتاب، وذبائح من خالفهم من المسلمين؛ لأنهم عندهم كفار، ويقولون على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أقوالاً عظيمة لا حاجة إلى ذكرها هنا، إلى أشياء أخر. فقاتلهم المسلمون بأمر الله ورسوله. فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها، بل قد مرق منها، وذلك بأسباب: منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه، حيث قال: ومنها : التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز. ومنها : أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها لموافقة ظنه وهواه. وأضل الضلال اتباع الظن والهوى،كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: فنزهه عن الضلال والغواية، اللذين هما الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى. وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها، وصار من أكابر الظالمين. وهي فصول: الفصل الأول أحاديث رووها في الصفات، زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام، مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع. وقد يقولون من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثًا؛ مثل حديث يروونه: (أن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق، يصافح الركبان ويعانق المشاة). وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أهل العلم ـ كابن قتيبة وغيره : هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار ليشينوا به على أهل الحديث، ويقولون: إنهم يروون مثل هذا. وكذلك حديث آخر فيه : (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف). أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله، الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهكذا حديث فيه: (أن الله يمشي على الأرض، فإذا كان موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه) ويقرؤون قوله تعالى: وهكذا أحاديث في بعضها: [أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف]، وفي بعضها: [أنه رآه وهو خارج من مكة]، وفي بعضها : [أنه رآه في بعض سكك المدينة] إلى أنواع أُخر. وكل حديث فيه: [أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض] فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شىء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم. وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وطائفة معها تنكر ذلك، ولم ترو عائشة ـ رضي الله عنها ـ في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا سألته عن ذلك. ولا نقل في ذلك عن الصديق ـ رضي الله عنه ـ كما يروونه ناس من الجهال: [أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم. وقال لعائشة : لا] فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء. ولهذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره: أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ هل يقال: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه؟ أو يقال: بعين قلبه. أو يقال: رآه ولا يقال: بعيني رأسه ولا بعين قلبه؟ على ثلاث روايات. وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: [رأيت ربي في صورة كذا وكذا] يروى من طريق ابن عباس ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه: [أنه وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري]، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج؛ فإن هذا الحديث كان بالمدينة. وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح ثم خرج إليهم، وقال :[رأيت كذا وكذا] وهو من رواية من لم يصلِّ خلفه إلا بالمدينة كأم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال الله تعالى: فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة، كما جاء مفسرًا في كثير من طرقه: [أنه كان رؤيا منام]، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة ليلة المعراج. وقد اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينيه في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم قط حديث فيه: [أن الله نزل له إلى الأرض]، بل الأحاديث الصحيحة:[إن الله يدنو عشية عرفة]، وفي رواية : [إلى سماء الدنيا كل ليلة،حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟]. وثبت في الصحيح: أن الله يدنو عشية عرفة، وفي رواية: [إلى سماء الدنيا، فيباهي الملائكة بأهل عرفة،فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا، ما أراد هؤلاء؟] وقد روى: [أن الله ينزل ليلة النصف من شعبان] إن صح الحديث فإن هذا مما تكلم فيه أهل العلم. وكذلك ما روى بعضهم : [أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من حراء تبدي له ربه على كرسي بين السماء والأرض] غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح: [أن الذي تبدي له الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وقال له: اقرأ. فقلت: لست بقارئ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ: فقلت: لست بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي. قال: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض). رواه جابر ـ رضي الله عنه ـ في الصحيحين. فأخبر أن الملك الذي جاءه بحراء رآه بين السماء والأرض، وذكر أنه رعب منه، فوقع في بعض الروايات الملَك فظن القارئ أنه الملك، وأنه الله، وهذا غلط وباطل. وبالجملة، أن كل حديث فيه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض] وفيه: [أنه نزل له إلى الأرض] وفيه: [أن رياض الجنة من خطوات الحق] وفيه: [أنه وطئ على صخرة بيت المقدس ] كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين مـن أهـل الحديث وغيرهم. وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطل باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه لما ذكر الدجال قال: [واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت]. وكذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر؛ يحذر أمته فتنة الدجال، وبين لهم: [أن أحدًا منهم لن يرى ربه حتى يموت]، فلا يظنن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه. ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها هو على مراتب كثيرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإحسان قال: [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك]. وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه. ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق. وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضًا من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا. وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه، فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام. فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشهود بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين: أنه رأى ربه بعيني رأسه، فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان. نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:[إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوًا ليس دونه سحاب]. وقال صلى الله عليه وسلم:[جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، وقال صلى الله عليه وسلم:[إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار. فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة]. وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم؛ الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة. ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل. وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال، كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص؛ إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم. بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس: أنا ربكم! ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ! ويقول للخَرِبَة: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها ! وهذا هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وقال:[ما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال]، وقال:[إذا جلس أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع؛ ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال]. فهذا ادَّعَى الربوبية وأتى بشبهات فَتَنَ بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :[إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت]، فذكر لهم علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيجوز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون [الحلولية] و[الاتحادية]. وهم صنفان : قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء؛ كما يقوله النصارى في المسيح ـ عليه السلام ـ والغالية في علي ـ رضي الله عنه ـ ونحوه؛ وقوم في أنواع من المشائخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى. وصنف يعمون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات ـ حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها ـ كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية: كأصحاب ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، والبلياني، وغيرهم. ومذهب جميع المرسلين ـ ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب ـ أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه. وهو ـ سبحانه ـ فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا؛ كما قال سبحانه وتعالى: فهؤلاء الضلال الكفار؛ الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه! وربما يعين أحدهم آدميًا؛ إما شخصًا، أو صبيًا، أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم، يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارًا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا:
وكذلك الغلو في بعض المشائخ: إما في الشيخ عدي ويونس القتي أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ونحوه،بل الغلو في المسيح ـ عليه السلام ـ ونحوه. فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح؛ كمثل علي ـ رضي الله عنه ـ أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح، كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى؛ مثل أن يقول:يا سيدي فلان، اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني، أو أغثني أو أجرني،أو توكلت عليك،أو أنت حسبي،أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال؛ التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى ـ فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهًا آخر. والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى ـ مثل: الشمس والقمر والكواكب، والعزير والمسيح والملائكة، واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسر، أو غير ذلك ـ لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق؛ أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله. فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فقال الله لهم : هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلىّ كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وقال تعالى: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت فقال:[أجعلتني لله ندًا ؟! بل ما شاء الله وحده]، وقال: [لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد]، ونهى عن الحلف بغير الله فقال: [من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت]، وقال :[من حلف بغير الله فقد أشرك]، وقال: [لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله]. ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة ونحوها. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك، وقال:[لا يصلح السجود إلا لله]، وقال: [لو كنت آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها]، وقال لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: [أرأيت لو مررت بقبري، أكنت ساجدًا له؟] قال: لا. قال: [فلا تسجد لي]. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: [لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] يحذر ما فعلوا. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ قبل أن يموت بخمس ـ:[إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني]؛ ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول:الصلاة عندها باطلة. والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: [السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم]. وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه : ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. وكذلك الطواف والصلاة والاجتماع للعبادات، إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تتخذوا بيتي عيدًا]. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، وكما قال تعالى: ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت - بلا زيادة ولا نقصان - مثل الكلام في القرآن، وسائر الصفات. فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. هكذا قال غير واحد من السلف. روى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ـ وكان من التابعين الأعيان ـ قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك. والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئًا لا لمن قاله مبلغًا مؤديًا، قال الله تعالى : والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله. وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات) وقال أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وإذا كتب المسلمون مصحفًا، فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز ذلك، كما كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأن القوم كانوا عربًا لا يلحنون. وهكذا هي المصاحف التي بعث بها عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى الأمصار في زمن التابعين. ثم فشا اللحن فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك. وفيه خلاف عن الإمام أحمد ـ رحمه اللّه- وغيره من العلماء، قيل : يكره ذلك لأنه بدعة. وقيل : لا يكره للحاجة إليه. وقيل: يكره النقط دون الشكل لبيان الإعراب. والصحيح أنه لا بأس به. والتصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يتكلم بصوت ـ وينادي آدم ـ عليه السلام ـ بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث. فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة. وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلى وحيث كتب. فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد. ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق. وأما من قال : إن المداد قديم؛ فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى : وكذلك من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق، أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين. والكلام في المصحف ـ على الوجه الذي يعرفه الناس ـ له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء. وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، فهو مبتدع ضال. كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت، فإنه أيضًا مبتدع منكر للسنة. وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم، فهو ضال. كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله. وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق، والجلد، والوتد، وقطعة من الحائط كلام الله، فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة. وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة نفيًا وإثباتًا، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل؛ فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم، فهو ضال جاهل، ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن، فهو ضال مبتدع. بل الواجب أن يقال : هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه، ويقال: ما بين اللوحين جميعه كلام الله. فإن كان المصحف منقوطًا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله. وإن كان غير منقوط ولا مشكول ـ كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ـ كان أيضًا ما بين اللوحين هو كلام الله. فلا يجوز أن تلقي الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر [الصحابة] و[القرابة] ـ رضي الله عنهم ـ فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى : وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه]. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر ـ رضي الله عنهما. واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر ـ رضي الله عنهما ـ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). وكان أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ آخر الخلفاء الراشدين المهديين. وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبوبكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي ـ رضي الله عنهم ـ ودلائل ذلك، وفضائل الصحابة كثير، ليس هذا موضعه. وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب. وهم كانوا مجتهدين؛ إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات ـ وقد سبق لهم من الله الحسنى ـ فإن الله يغفرها لهم؛ إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم : (خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) وهذه خير أمة أخرجت للناس. ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن عليًا ـ رضي الله عنه ـ أقرب إلى الحق. وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة؛ كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما ـ رضي الله عنهم ـ فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة، وعلى ذلك أكثر أهل الحديث. وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: قولوا : [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد]. وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل، وغيرهما من العلماء ـ رحمهم الله ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الصدقة لا تَحِلُّ لمحمد ولا لآل محمد] وقد قال الله تعالى في كتابه : وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم). وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده، صار قوم ممن يحب عثمان ويغلو فيه ينحرف عن علي ـ رضي الله عنه ـ مثل كثير من أهل الشام، ممن كان إذ ذاك يسب عليًا ـ رضي الله عنه ـ ويبغضه. وقوم ممن يحب عليًا ـ رضي الله عنه ـ ويغلو فيه ينحرف عن عثمان ـ رضي الله عنه مثل كثير من أهل العراق، ممن كان يبغض عثمان ويسبه ـ رضي الله عنه. ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك، حتى سبوا أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وزاد البلاء بهم حينئذ. والسنة محبة عثمان وعلى جميعا، وتقديم أبى بكر وعمر عليهما ـ رضي الله عنهم ـ لما خصهما الله به من الفضائل التي سبقا بها عثمان وعليا جميعًا. وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله. فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله؛ فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة، ثم كفرت الصحابة وقالت عنهم أشياء، قد ذكرنا حكمهم فيها في غير هذا الموضع. ولم يكن أحد إذ ذاك يتكلم في يزيد بن معاوية ولا كان الكلام فيه من الدين، ثم حدثت بعد ذلك أشياء، فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية. وربما كان غرضهم بذلك التطرق إلى لعنة غيره، فكره أكثر أهل السنة لعنة أحد بعينه، فسمع بذلك قوم ممن كان يتسنن، فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى. وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون: إنه كافر زنديق، وإنه قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل الأنصار وأبناءهم بالحرة ليأخذ بثأر أهل بيته الذين قتلوا كفارًا، مثل جده لأمه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد، وغيرهما، ويذكرون عنه من الاشتهار بشرب الخمر وإظهار الفواحش أشياء. وأقوام يعتقدون أنه كان إماما عادلا هاديًا مهديًا، وأنه كان من الصحابة أو أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى. وربما اعتقد بعضهم أنه كان من الأنبياء! ويقولون: من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم، و يروون عن الشيخ حسن بن عدي: أنه كان كذا و كذا وليًا، ومن وقفوا فيه وقفوا على النار؛ لقولهم في يزيد. وفي زمن الشيخ حسن زادوا أشياء باطلة نظمًا ونثرًا. وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير ـ قدس الله روحه ـ فإن طريقته كانت سليمة لم يكن فيها من هذه البدع، وابتلوا بروافض عادوهم، وقتلوا الشيخ حسنا، وجرت فتن لا يحبها الله ولا رسوله. وهذا الغلو في يزيد من الطرفين، خلاف لما أجمع عليه أهل العلم والإيمان. فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء، ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرًا ولا زنديقًا، وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، ولم يكن مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه. وجرت في إمارته أمور عظيمة: أحدها: مقتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه ـ رضي الله عنه ـ ولا حمل رأس الحسين ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، لكن أمر بمنع الحسين ـ رضي الله عنه ـ وبدفعه عن الأمر، ولو كان بقتاله، فزاد النواب على أمره، وحض الشمرذي الجيوش على قتله لعبيد الله بن زياد، فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد، فطلب منهم الحسين ـ رضي الله عنه ـ أن يجىء إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر مرابطًا، أو يعود إلى مكة فمنعوه ـ رضي الله عنه ـ إلا أن يستأسر لهم، وأمر عمر بن سعد بقتاله ـ فقتلوه مظلومًا ـ له ولطائفة من أهل بيته ـ رضي الله عنهم. وكان قتله ـ رضي الله عنه ـ من المصائب العظيمة، فإن قتل الحسين، وقتل عثمان قبله، كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة، وقَتَلَتْهُمَا من شرار الخلق عند الله. ولما قدم أهلهم ـ رضي الله عنهم ـ على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروى عنه أنه لعن ابن زياد على قتله. وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصار له، والأخذ بثأره كان هو الواجب عليه، فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب مضافًا إلى أمور أخرى. وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء. وأما الأمر الثاني: فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون وينهبون، ويفتضون الفروج المحرمة. ثم أرسل جيشًا إلى مكة المشرفة، فحاصروا مكة، وتوفى يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره. ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة: أنه لا يسب ولا يحب.قال صالح ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد. قال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟ وروى عنه: قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية ؟ فقال: لا. ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟ فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه، فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه. فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله). ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه؛ لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله. وطائفة أخرى ترى محبته؛ لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة، وبايعه الصحابة. ويقولون: لم يصح عنه ما نقل عنه، وكانت له محاسن أو كان مجتهدًا فيما فعله. والصواب هو ما عليه الأئمة: من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن. ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له) وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه. وقد يشتبه يزيد بن معاوية بعمه يزيد بن أبي سفيان، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة وكان من خيار الصحابة، وهو خير آل حرب. وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في فتوح الشام، ومشى أبو بكر في ركابه يوصيه مشيعًا له، فقال له: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال:لستُ براكب ولستَ بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. فلما توفى بعد فتوح الشام في خلافة عمر، ولى عمر ـ رضي الله عنه ـ مكانه أخاه معاوية، وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان، وأقام معاوية بالشام إلى أن وقع ما وقع. فالواجب الاقتصار في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بين.
|