الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وبهذا تبين أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها، إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: / (إن اللّه كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها اللّه عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها اللّّه عنده عشر حسنات، ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له اللّه حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها اللّه له عنده سيئة واحدة) وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة. فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال: (فعملها)، (فلم يعملها) ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته جازمة، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل، كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل، وموجب له، إذ لو توقف على شيء آخر؛ لم تكن الإرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل، ومن المعلوم المحسوس أن الأمر بخلاف ذلك، ولا ريب أن [الهم] و [العزم] و [الإرادة] ونحو ذلك قد يكون جازمًا لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز، وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم. فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل، بل يفرق بين إرادة وإرادة، إذ الإرادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد، كما قال أبو هريرة: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده، وإذا خبث الملك؛ خبثت جنوده. وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: / (إن في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب). فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة، وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة، فإن ذلك طاعة وخير، وكذلك هو في عرف الناس كما قيل: لأشكرنك معروفًا هممت به ** إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر ** فالشيء بالقدر المحتوم مصروف فإن عملها كتبها اللّه له عشر حسنات، لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، كما قال تعالى: وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها، فإن اللّه لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح، وسواء سمى همه إرادة أو عزمًا أو لم يسم، متى كان قادرًا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته جازمة، وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح / ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به). فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة، فتلك مما لم يكتبها اللّه عليه، كما شهد به قوله: (من هم بسيئة فلم يعملها)، ومن حكى الإجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار. وهذا الهام بالسيئة، فإما أن يتركها لخشية اللّه وخوفه، أو يتركها لغير ذلك، فإن تركها لخشية اللّه؛ كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث، وكما قد جاء في الحديث الآخر: (اكتبوها له حسنة، فإنما تركها من أجلي)، أو قال: (من جرائي)، وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث الآخر: (فإن لم يعملها لم تكتب عليه). وبهذا تتفق معاني الأحاديث. وإن عملها لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة، فإن اللّه تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها، ولا يجزي الإنسان في الآخرة إلا بما عملت نفسه، ولا تمتلئ جهنم إلا من أتباع إبليس من الجنة والناس، كما قال تعالى: ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولاد المشركين، وأنه لا يجزم لمعين منهم بجنة ولا نار، بل يقال فيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين: حديث أبي هريرة وابن عباس: (الله أعلم بما كانوا عاملين). فحديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وفي حديث سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري: (إن منهم من يدخل الجنة)، وثبت: (أن منهم من يدخل النار) كما في صحيح مسلم في قصة الغلام الذي قتله الخضر، وهذا يحقق ما روى من وجوه: أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم اللّه فيهم، فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية، وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره. وأما أئمة الضلال ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم، فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة: (فهما في الوزر سواء)، وقوله: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه)، فإذا وجدت الإرادة الجازمة، والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام، والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة، وفاعل / السيئة التي تمضي لا يجزي بها إلا سيئة واحدة، كما شهد به النص، وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد: (الهم) همان: هم خطرات، وهم إصرار. فهم الخطرات يكون من القادر، فإنه لو كان همه إصرارًا جازمًا وهو قادر لوقع الفعل. ومن هذا الباب هم [يوسف]، حيث قال تعالى: فهذه الإرادة هي الحرص، وهي الإرادة الجازمة، وقد وجد معها المقدور، وهو القتال لكن عجز عن القتل، وليس هذا من الهم الذي لا يكتب، ولا يقال: إنه استحق ذلك بمجرد قوله: لو أن لي ما لفلان / لعملت مثل ما عمل، فإن تمنى الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم، بل لابد من أمر آخر، وهـو لم يذكـر أنه يعاقب على كلامه، وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء. وعلى هذا فقوله: (إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل) لا ينافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، فإن الإرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل، وإلا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة، فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة عازمة فلابد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه، ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية، مثل تقرب السارق إلى مكان المال المسروق، ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به، وتكلمه معه، ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك، فلابد مع الإرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور، بل مقدمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). قيل: يارسول الّله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ / قال: (إنه أراد قتل صاحبه) وفي رواية في الصحيحين: (إنه كان حريصًا على قتل صاحبه). فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره، منعه منها من قتل صاحبه العجز، وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل، فاستحق حينئذ النار، كما قدمنا من أن الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام. والإرادة التامة قد ذكرنا أنه لابد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة، بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك، مع القدرة، مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا: من اللمس، والنظر والقبلة، ويمتنع عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح: (العين تزنى، والأذن تزني، واللسان يزني ـ إلى أن قال ـ: والقلب يتمنى ويشتهي) أي يتمنى الوطء ويشتهيه، ولم يقل: يريد، ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة، ولا يستلزم وجود الفعل، فلا يعاقب على ذلك، وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة التي يصدقها الفرج. ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك / له، فأنزل اللّه تعالى: فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الإصرار هو الذي عليه الجواب، فمن لم يمنعه من الفعل إلا العجز، فلابد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته، وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك: المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته أنه إذا قدر على شربها (شربها). وقد يكون مصرًا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت، كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره، فليس هذا بتائب مطلقا، ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان، ويثاب إذا كان ذلك الترك للّه وتعظيم شعائر اللّه، واجتناب محارمه في ذلك الوقت، ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة، ولا هو مصر مطلقًا. وأما الذي / وصفه ابن المبارك، فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها. قلت: والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضًا، لكن نيته أن يشربها إذا قدر عليها، غير النية مع وجود القدرة، فإذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى، ولكن متى كان مريدا إرادة جازمة لا يمنعه إلا العجز فهو معاقب على ذلك، كما تقدم. وتقدم أن مثل هذا لابد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه، وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الإجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له، فهذا الإجماع صحيح مع القدرة، فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل، وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن، فإنه بمنزلة الفاعل التام، كما تقدم. ومما يوضح هذا: أن اللّه ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى: فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة، ويريد الحياة الدنيا، ويريد حرث الدنيا، وقال في آية هود: ومنه قوله:
|