الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين: أحدهما : من جهة ثبوته عن الشيخ. والثاني: من جهة صحته في نفسه وفساده. أما المقام الأول: فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم، تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكره مرسلًا، وكثيرًا ما يقول: وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده / صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، بل موضوعًا. وما يذكره مرسلًا، ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع. فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة، فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع. وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في [التفسير] فيها هذا وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟! والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارة؛ لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكـرونه وإن علمـوا أنه كـذب؛ إذ قصـدهم رواية مـا روي في ذلك الباب، ورواية الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز. وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حـرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) ـ. وقد فعل كثير من العلماء / متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه لتعريف أنه روى؛ لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه. والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها: من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع. فالصحيح: الذي قامت الدلالة على صدقه، والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه، إما لسوء حفظه وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ. وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة. ومن ذلك: باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا). وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه، بإسناد صحيح. وذكر في أول هذا الباب حديثًا ضعيفًا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب / فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد الكذب، فإن كثيرًا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني: لو ولد أخرس لكان خيرًا له، وقال سفيان بن عيينة: لا شيء، وقال الإمام أحمد والنسائي: هو ضعيف. وقال يحيى بن معين: رجل سوء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث. وكذلك ما ذكره من الآثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب [طبقات الصوفية] وكتاب [زهاد السلف] وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب [مقامات الأولياء] وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة. وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال: سمعت النصر آبادي يقول: من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل اللّه رضاه فيه، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم مايرضى اللّه من امتثال / أوامره واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن اللّه يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه اللّه، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري: (من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته) الحديث. وذلك أن الرضا نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. ويتناول ما أباحه اللّه من غيرتعد إلى المحظور، كما قال: والنوع الثاني: الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء. وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر. كما قال الحسن: الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روى في حديث ابن عباس / أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا). وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان: فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن اللّه لا يرضاه كما قال: وإنما ضل هنا فريقان من الناس: قوم: من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد / علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافًا للقدرية. وقالوا: هو أيضا محب لها مريد لها، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا: لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد: أي لا يريده للمؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر: أي لا يريده لعباده المؤمنين. وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان: أي لا يريده للكافرين، ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر اللّه به فإنه يكون مستحبًا يحبه. ثم قد يكون مع ذلك واجبًا، وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل. والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. والفريق الثاني: من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين: فشهدوا أن اللّه رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب. قالوا: والكون كله مراد المحبوب. وضل هؤلاء ضلالًا عظيمًا، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني. كما بسطناه في غير هذا الموضع. /وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء اللّه وأعدائه، والأنبياء والمتقين. ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والشرائع وربما سموا هذا: حقيقة، ولعمري إنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال: فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام. والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان باللّه وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه اللّه، ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب. فهو من الذنوب يستغفر. وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى: والمقصود هنا: أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل اللّه رضاه فيه، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم اللّه له من الرزق، وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته، كلام حسن. لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل. وكذلك ما ذكره معلقًا قال: قال الشبلي بين يدي الجنيد: لاحول ولا قوة إلا باللّه. فقال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. فإن هذا من أحسن الكلام. وكان الجنيد ـ رضي اللّه عنه ـ سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلـمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعًا لا صبرًا. فالجنيد / أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالًا ينافى الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه. وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا. قال: وقيل: قال موسى: (إلهي، دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدًا متضرعًا. فأوحى اللّه إليه: يابن عمران، رضائي في رضاك عني)، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال: لا يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران. ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين، إلا إذا كانت منقولة لنا نقلًا صحيحًا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم، وأكابر المسلمين؛ فكيف يقال: إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى اللّه به عنه؟! واللّه تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. أفلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟! وقال تعالى: /ثم إن اللّه خص موسى بمزية فوق الرضا، حيث قال: وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلقًا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة. وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس: إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف. فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء. كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه. والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن، و [صفوة الصفوة] لابن الجوزي. وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان. ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال: قال لأحمد بن أبي الحواري: يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا / نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا. فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه. فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان. ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال: وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك الرضا بعد القضاء)، فقال: لأن الرضا بعد القضاء هوالرضا. فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلام حسن سديد. ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: أرجو أن أكون قد عرفت طرفًا من الرضا. لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا. فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا. وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك ؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم. وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ: وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني فأخذه العسر من ساعته: أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب. وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون: يارب، قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ، فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما / أطلق بوله، قال: ربي قد تبت إليك. قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال: رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم؛ ومات الطائر. وقال: رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا. وقد ذكر القشيري في (باب الرضا) عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال: قال رويم: إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل اللّه أن يحولها عن يساره، فهذا يشبه قول سمنون: فكيف ما شئت فامتحني. وإذا لم يطق الصبر على عسر البول، أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟ والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبي لك ألا فرجت عني؛ ففرج عنه. ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون: إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يستكتم سرًا / فليفعل. كما فعل رويم. كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها، فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها. هذا مع أنه ـ رحمه اللّه ـ كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود. وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلًا؛ ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة، ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل ـ صلوات اللّه عليهم ـ أعلم بطريق سبيل اللّه وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو كافرًا. ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال: (هل كنت تدعو اللّه بشيء، قال: كنت أقول: اللّهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال: سبحان اللّه لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت: ربنا آتنا في / الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) فهذا أيضًا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطًا، والخطأ والغلط مع حسن القصـد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهـده وورعـه وكراماته كثير جدًا، فليس من شرط ولي اللّه أن يكـون معصومًا مـن الخطأ والغلـط؛ بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء اللّه بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا: (أصبت بعضًا وأخطأت بعضا). ويشبه ـ واللّه أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ: لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا ـ أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال: الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار. وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ، وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛ فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا. فإن تلك الكلمة مضمونها: أن من سأل اللّه الجنة، واستعاذ من النار، لا يكون راضيًا. وفرق بين من يقول: أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا، وبين / من يقول: لا يكون راضيًا إلا من لا يطلب خيرًا، ولا يهرب من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ، وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال: إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة. فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين، يقول هذا مثل الكلام؟! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة، فكيف أبو سليمان؟!. وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان: الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار. ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس، من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة، وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك. ثم صاروا ضربين: /ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم. كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم. ومنهم من أقر بالرؤية، إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية. والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء. والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا: لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى الجويني في [الرسالة النظامية]، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا ً يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك. فقال: يا هذا، هب أن له وجهًا، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟! وذكر أبو المعالي أن اللّه يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكـره، وجعل هذا من أسرار التوحيد. /وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومشائخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللّهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين). وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه). وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في / الدنيا شوقًا إليه، وكلامهم في ذلك كثير. ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى اللّه تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هـي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من.. . والفقهاء إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا: هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم. ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكـلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء. وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري. وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه. والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق: أن اللّه يحب ويحب. ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من / أهل الكلام: كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما. ونصر ذلك أبو حامد في (الإحياء) وغيره. وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في (الرسالة) على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى بـ (قوت القلوب) وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا: يعشق ويعشق. وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه. وقد قال تعالى: والمقصود هنـا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب، ونحو ذلك. وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين. والضرب الثاني: طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة: / وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية اللّه والتنعم بالنظر إليه، وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم، وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالًا لك، وأمثال هذه الكلمات. مقصودهم بذلك: هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة. وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون اللّه بلا حظ ولا إرادة، وإن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة. وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده. فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام، إذا عنوا به طلب رؤية اللّه / تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطؤوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ رحمه اللّه ـ أنه سمع قارئًا يقرأ: ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى: والواجب أن يعلم أن كل ما أعده اللّه للأولياء من نعيم، بالنظر إليه وما سوى ذلك، هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء اللّه ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين. كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه: (كيف تقول في دعائك؟) قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال: (حولهما ندندن) فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار؟! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة. وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين. قال تعالى: وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى اللّه عليه عشرًا، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللّه لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)، فقد أخبر أن الوسيلة ـ التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد اللّه ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة، فهل بقى بعد الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟! وثبت في الصحيح ـ أيضًا ـ في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: (فيقولون للرب تبارك وتعالى: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك). قال: (فيقول: وما يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة). قال: (فيقول: وهل رأوها؟) قال: (فيقولون: لا)، قال: (فيقول: فكيف لو رأوها؟!) قال: (فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا). قال: (ومم يستعيذون؟!) قالوا: (يستعيذون من النار). قال: (فيقول: وهل رأوها؟!) قال: (فيقولون: لا). قال: (فيقول: / فكيف لو رأوها ؟) قالوا: (لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة). قال: (فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون) ـ أو كما قال ـ قال: (فيقولون: فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم)، قال: (فيقول: هم القوم لايشقى بهم جليسهم). فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء اللّه كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار. والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال: (أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم). قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: (لكم الجنة). قالوا: مد يدك فواللّه لا نقيلك، ولا نستقيلك. وقد قالوا له في أثناء البيعة: إن بيننا وبين القوم حبالًا وعهودًا وإنا ناقضوها. فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق اللّه محبة للّه ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا اللّه ورسوله، على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن / الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا. كما قال تعالى: فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل: الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك ألا تسأل اللّه ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار. فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن اللّه. ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به، ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن اللّه ولا محبة للّه فكأنه قال: يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين. ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول، ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام / ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيًا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه: كغلط سمنون كما تقدم. وإن أراد بذلك ألا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين: من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة. ومن جهة أنه ـ أيضًا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا، فإذا كان الرضا لا ينافى هذا الطلب، فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه. ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله. /وأيضًا فإذا لم يسأل اللّه الجنة، ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من اللّه ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة. وإما ألا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى. وإن كان الرضا ألا يطلب شيئًا قط، ولو كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا، فلا يخلو: إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى اللّه في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى اللّه فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه. وإن كان معرضًا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته، ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار، إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده. فإن أحبه وطلبه وأراده من غير اللّه كان مشركًا مذمومًا، فضلا عن أن يكون محمودًا. وإن قال: لا أحبه وأطلبه وأريده لا من اللّه ولا من خلقه. قيل: هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه ألا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك. فكيف يسلب عنه ذلك كله؟ / فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام. وأما في سبيل اللّه وطريقه ودينه فمن وجوه: أحدها أن يقال: الراضي لابد أن يفعل ما يرضاه اللّه، وإلا فكيف يكون راضيًا عن اللّه من لا يفعل ما يرضاه اللّه؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه اللّه ويسخطه ويذمه، وينهي عنه. وبيان هذا: أن الرضا المحمود إما أن يكون اللّه يحبه ويرضاه، وإما ألا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه اللّه ويكرهه. قال تعالى: فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا اللّه ولا هو مؤمن باللّه. بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه، لاعن له، ذام له، متوعد له بالعقاب. وطريق اللّه التي يأمر بها المشائخ المهتدون: إنما هي الأمر بطاعة اللّه والنهي عن معصيته. فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه اللّه ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو للّه لا ولى للّه وهو يصد عن سبيل اللّه وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله. وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه اللّه، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب للّه ومكروه للّه مباح. /فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل اللّه الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له: سؤال اللّه الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم: إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين. ولو قيل: إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن اللّه يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء اللّه لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء اللّه لا أولياء اللّه. والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال: اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء اللّه الذي أمـر بالرضا به، إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به. كالمعاصي وفنون محن المسلمين. وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء: كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لمـا احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء اللّه مأمور به، فلو كانت المعاصي / بقضاء اللّه لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضـا بما نهى اللّه عنه لا يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة: أحدها ـ وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة ـ: أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة اللّه ورسوله. وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم. والجواب الثاني: أنهم قالوا: إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة اللّه أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله. وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع. الثالث: أنهم قالوا: هذه المعاصي لها وجهان: وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى اللّه، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد. وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان. فإن / هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين. والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في [الرسالة] أيضًا. فإن قيل: هذا الذي ذكـرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال: الرضـا ألا تسأل اللّه الجنة ولا تستعيذه من النار؟ وغلـط من يستحسن مثل هـذا الكلام كائنا من كان؟. قيل: غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار. فقالوا: ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين: أحدهما: ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه اللّه ويرضاه / وأن هذا من أعظم طرق أولياء اللّه، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى اللّه، فضلوا ضلالًا مبينًا والطـريق إلى اللّه إنمـا هي أن ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون، فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك، ولا رضيه لـك ولا أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة لا يحصيها إلا هو، وولاية اللّه موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط اللّه قد نالك. فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا اللّه. الوجه الثاني: أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع: نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب: مثل / قوله: ونوع من الدعاء ينهي عنه: كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى. مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل اللّه تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب. وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله / حصل له من الخلق ضير. وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء. وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ. ومثل أن يقولوا: اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشىء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول: اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له)، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها. ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها. والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمـن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع. فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين / والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين. ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده، وألا يكـون لأحـدهم إرادة أصـلا، بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات. /وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى اللّه: طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى اللّه، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى اللّه، وأن يشكر اللّه. قال اللّه تعالى: ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف / الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى: ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء: بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا. فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب. فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول: أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول: أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم. أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين. /وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين اللّه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه. ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا. وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر. وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر. كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل. وهذه الأصناف الثلاثة هي: القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين اللّه عليهـا قبل الفعـل، ويشكره عليها بعد الفعل / ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)، وكما في الحديث الصحيح الإلهي: (ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد اللّه التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وقال الجنيد بن محمد: علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، واللّه أعلم. / أحدهما: أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس، والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد. قاله ابن سيده. الثاني: أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلام أوعمل، وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز، ويزعم ألا دلالة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)؛ لأن الموجب لدخول المقتول في النار مواجهته أخيه، لأنه عمل لا مجرد قصد، وألا دلالة في قوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال: (لو أن لي مالا لفعلت وفعلت، إنهما في الإثم سواء وفي الأجر سواء)؛ لأنه تكلم، / والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لم تعمل به أو تتكلم) وهذا قد تكلم، وقد وقع في هذه المسألة كلام كثير. واحتيج إلى بيانها مطولًا مكشوفًا مستوفًا.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه: الحمد للّه، هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين: أحدهما: عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام. والثاني: عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها، ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب، حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر. فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره مالا يضبطه العباد: كالشك، ثم الظن، ثم العلم، ثم اليقين، ومراتبه؛ وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك؛ ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو / ظاهر مذهب أحمـد، وهو أصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان، بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي: كالألوان والطعوم والأرواح. فنقول أولًا: الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها، إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم، ومتي وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة، وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال، ولم يفعلوه، وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزمًا تامًا. وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شىء من الفعل، وهذا لا يكون. وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لابد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإرادة الجازمة. والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام: له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام / الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل المشتركين والمتعاونين على أفعال البر، ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة، والسّان سّنة حسنة، وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص أوزارهم شىء)، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء). فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة، هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه، لكن قدرته بالدعاء والأمر، وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول؛ ولهذا قرن اللّه تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال: فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة، / وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب، وما يحصل للكفار بهم من الغيظ، وما ينالونه من العدو. وقال: وكذلك الداعي إلى الهدى والضلالة، لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي الأتباع وضلالهم، وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه، كان بمنزلة العامل الكامل، فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه: للهادي مثل أجور المهتدين، وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري، فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك، وفعله بحسب قدرته . ومن هذا: قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)، فالكفل / النصيب مثل نصيب القاتل. كما فسره الحديث الآخر، وهو كما استباح جنس قتل المعصوم، لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة، فصار شريكًا في قتل كل نفس، ومنه قوله تعالى: ويشبه هذا أنه من كذب رسولًا معينًا كان كتكذيب جنس الرسل، كما قيل فيه: ومن هذا الباب قوله تعالى: وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان: / أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)، فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الأريسيين، وهم الأتباع، وإن كان قد قيل: أن أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة، كلفظ الطاء بالتركي، فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك، ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة. ومن هذا قوله تعالى: فقوله: ومن هذا الباب قوله تعالى: فأخبر ـ سبحانه ـ أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب، كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى: ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى، وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال، حتى روى في أثر ـ لا يحضرني إسناده ـ: (أنه ما من عذاب في النار إلا يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره، وما من نعيم في الجنة إلا يبدأ فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره) فإنه هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم. كما قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة / ولا فخر)، وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة، وذلك أن جميع الخلائق أخذ اللّه عليهم ميثاق الإيمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء ؛ ويصدق بمن بعده، قال تعالى: واللّه ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى، ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه، كما في حديث ميسرة الفجر قال: ، قلت: يا رسول اللّه! متى كنت نبيًا؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبيًا ؟ فقال: (وآدم بين الروح والجسد) رواه أحمد. وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني عند اللّه لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) الحديث. /فكتب اللّه وقدر في ذلك الوقت، وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود . فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك، وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من ثـواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل، على أنه إمام مطلق لجميع الذرية، وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب، فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ـ إما من مراسيل الزهري، وإما من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال: (بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء، وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء). ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه: قوله في الحديث الذي في السنن: (وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان). فأما كون النبي صلى الله عليه وسلم راجحًا بالأمة فظاهر ؛ لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا إلى أجره. وأما أبو بكر وعمر؛ فلأن لهما / معاونة مع الإرادة الجازمة في إيمان الأمة كلها، وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى إرادة منه، فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها؛ في محياه وبعد وفاته. ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد: أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي: (لا تجيبوه). فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت ياعدو اللّه! إن الذي ذكرت لأحياء وقد بقى لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قادة المؤمنين. كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال: واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقي اللّه بعمله من هذا المسجي، واللّه إني لأرجو أن يحشرك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر). وأمثال هذه النصوص كثيرة، تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع الأمة، لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من القدرة / على ذلك كله، بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض، ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض. وأيضًا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل، وإن لم يكن إمامًا وداعيًا، كما قال سبحانه: فاللّه ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال: دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه. ولفظ الآية صريح. استثنى أولو الضرر من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين، وإن لم يساووهم في الجميع، ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: (إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم). قالوا: وهم بالمدينة. قال: (وهم بالمدينة حبسهم العذر)، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته، / فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر. ومن هذا الباب: ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)، فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة، لا لضعف النية وفتورها، فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة، ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض، إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة، كما في قوله تعالى: ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)، وقوله: (من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)، فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا بذل هذا بدنه، وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا / بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته، وكذلك لابد للغازي من خليفة في الأهل، فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضًا غاز، وكذلك الصيام لابد فيه من إمساك، ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم، وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: (إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا) وكذلك قوله في حديث أبي موسى: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين) أخرجاه. وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرًا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر، وقد فعل مقدوره وهو الامتثال، فكان أحد المتصدقين. ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه اللّه علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة اللّه)، فقال رجل: لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهما في الأجر سواء)، وقد رواه الترمذي مطولا، وقال: حديث حسن صحيح، فهذا التساوي مع (الأجر والوزر) هو في حكاية حال من قال ذلك، / وكان صادقًا فيه، وعلم اللّه منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب. وليس هذه الحال تحصل لكل من قال: (لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل) إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم، لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته، كعامة الخلق يعاهدون وينقضون، وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف، كما قال تعالى: وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات. وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ينشر اللّه له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر، ويقال له: هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل ظلمتك؟ فيقول: / لا يارب. فيقال له: لا ظلم عليك اليوم، فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة، فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما. ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر اللّه لها، فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب اللّه له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب اللّه له بها سخطه إلى يوم القيامة).
|