الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلاق، وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به، فإنه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء. وعند مالك في إحدى الروايتين يقع، وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله: (إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها) فقال المنازع: هذا المتجاوز عنه، إنما هو حديث النفس، والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس. فقال المنازع لهم: قد قال: (ما لم تكلم به أو تعمل به)، فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي هي الكلام به / والعمل به، كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن، فإنه لو كان حديث النفس إذا صار عزمًا ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلاف النص، لكن يقال: هذا في المأمور صاحب المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل، إذا لم يتكلم ولم يعمل، وأما الإرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى مجرى التي أتى معها بكمال العمل، بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام، وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما، لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الإشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره، والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك . وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقًا فليس كذلك، بل إذا قيل: إن الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك، يصح ذلك، فإن المراد إن كان مقدورا مع الإرادة الجازمة؛ وجب وجوده، وإن كان ممتنعًا فلابد مع الإرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته، وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم، وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الإرادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب، إذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا. /وحينئذ قوله صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه تجاوز لأمتي) الحديث حق، والمؤاخذة بالإرادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق، ولكن طائفة من الناس قالوا: إن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول، ثم تنازعوا في العقاب عليها، فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك، وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل. والقاضي بناها على أصله في الإيمان الذي اتبع فيه جهمًا والصالحي، وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب، ولو كذب بلسانه، وسب اللّه ورسوله بلسانه، وإن سب اللّه ورسوله إنما هو كفر في الظاهر، وأن كلما كان كفرًا في نفس الأمر، فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب، وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل، حتى أن الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في الإيمان بهذا القول، بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون: هو تصديق القلب واللسان، فإن هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة، وإنما بدعوهم. وقد بسط الكلام في الإيمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع، وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها، فيقدر ما لا وجود له. /وأصل جهم في الإيمان تضمن غلطًا من و جوه: منها: ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب، كحب اللّه وخشيته ونحو ذلك . ومنها: ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال. ومنها: ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار، فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق، وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك. وهذا كلامهم في الإرادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك، فإن هذه الأمور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه، وإذا صارت إرادة جازمة وحبًا وبغضًا؛ لزم وجود الفعل ووقوعه، وحينئذ فليس لأحد أن يقدر وجودها مجردة، ثم يقول: ليس فيها إثم، وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل. فإن الأمة مجمعة على أن اللّه يثيب على محبته ومحبة رسوله، والحب فيه والبغض فيه، ويعاقب على بغضه وبغض رسوله، وبغض أوليائه، وعلى محبة الأنداد من دونه، وما يدخل في هذه المحبة من الإرادات / والعزوم، فإن المحبة سواء كانت نوعًا من الإرادة أو نوعًا آخر مستلزمًا للإرادة، فلابد معها من إرادة وعزم، فلا يقال: هذا من حديث النفس المعفو عنه، بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: (أوثق عرى الإيمان: الحب في اللّه، والبغض في اللّه)، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وفي صحيح البخاري عن عبد الّله بن هشام قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: لأنت يا رسول اللّه أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن ياعمر!)، بل قد قال تعالى: فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد اللّه به من كان أهله وماله أحب إليه من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله، فعلم أنه يجب / أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان، وإلا لم يكن مؤمنًا حقًا، ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر، وحتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذا لفظ البخاري، فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث: أحدها: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه من سواهما، وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنًا بدونها. الثاني: أن يحب العبد لا يحبه إلا للّه وهذا من لوازم الأول. والثالث: أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر. وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال، محبة اللّه ورسوله، ومحبة المؤمنين فيه، وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنـا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا، فهي مستلزمة لذلك، فإن من كان اللّه ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لابد / أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة، مثل إرادته نصر اللّه ورسوله ودينه والتقريب إلى اللّه ورسوله، ومثل بغضه لمن يعادي اللّه ورسوله. ومن هذا الباب: مـا استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء مع من أحب)، وفي رواية: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) أي ولما يعمل بأعمالهم، فقال: (المرء مع من أحب) .قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يجعلني اللّه معهم، وإن لم أعمل عملهم، وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك، وكونه معه هو على محبته إياه، فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه، إذا كان المحب قادرًا عليها، فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت موجودة. وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته، مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالى: فإن الإيمان باللّه يستلزم مودته ومودة رسوله، وذلك يناقض موادة من حاد اللّه ورسوله، وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم الذم والعقاب؛ لأجل عدم الإيمان. فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب، وبغض اللّه ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر اللّه به رسوله، فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات إيمان القلب، فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب، بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيًا عنه كالفواحش والظلم، فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده، إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان، وإن كان يناقض كماله، بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي، ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات، ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة تضمنت شيئين: أحدهما: نهيها عن الذنوب. والثاني: تضمنها ذكر اللّه، وهو أكبر الأمرين، فما فيها من ذكر اللّه أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ولبسط هذا موضع آخر. /والمقصود هنا أن المحبة التامة للّه ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي: (من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه؛ فقد استكمل الإيمان)، فإنه إذا كان حبه للّه، وبغضه للّه، وهما عمل قلبه، وعطاؤه للّه، ومنعه للّه، وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته للّه، ودل ذلك على كمال الإيمان؛ وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله للّه، وذلك عبادة اللّه وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولابد لكل حي من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه اللّه، وبغضه لمن يبغضه اللّه؛ دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف، بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه للّه، وعطاؤه للّه، ومنعه لله؛ دل على كمال الإيمان باطنًا وظاهرًا. وأصل الشرك في المشركين ـ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ـ إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب اللّه، كما قال تعالى: وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه، قال تعالى: وقوله: وقوله: وقال: وقال: ومثل هذا كثير في كتاب اللّه وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء اللّه من مساعي القلوب وأعمالها، مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا)، وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقوله: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، و(لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان)، وقوله: (لا تسموا العنب الكرم، وإنما الكرم قلب المؤمن) وأمثال هذا كثير. بل قول القلب وعمله هو الأصل، مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه، من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة، ومنه ما لا يقترن به ذلك إلا مع الفعل بالجوارح الظاهرة / إذا كانت مقدورة، وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل، فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام: أحدها: ما هو حسنة وسيئة بنفسه. وثانيها: ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل، وهو السيئة المقدورة كما تقدم. وثالثها: ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة، وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة، كما تقدم. فالقسم الأول: هو ما يتعلق بأصول الإيمان من التصديق والتكذيب، والحب والبغض، وتوابع ذلك؛ فإن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب، وعلو الدرجات، وأسفل الدركات، بما يكون في القلوب من هذه الأمور، وإن لم يظهر على الجوارح، بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة، وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض، وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانًا بغض القول والفعل، لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير، وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى: وأما القسم الثاني، والثالث: فمظنة الأفعال التي لا تنافى أصول الإيمان، مثل المعاصي الطبعية، مثل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر)، وكما شهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر، وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل، فقال: (لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله)، وفي رواية قال بعضهم: أخزاه اللّه ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم) وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة. ولهذا قال: (إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)، والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد المؤمنين باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان، فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث؛لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من / أمة محمد في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله، وهذا فرق بين يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية، وهذا كما عفا اللّه لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، كما دل عليه الكتاب والسنة، فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان، وحديث النفس، كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء: (نية المؤمن خير من عمله) هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في [كتاب الأمثال] من مراسيل ثابت البناني، وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضعفها، فاللّه أعلم. فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها، وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إلا العجز، ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير، وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة، وذلك لا يكون إلا قليلا؛ ولهذا قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في بدنه، وقوة المنافق في بدنه، وضعفه في قلبه. وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله: وحقيقة الأمر: أن قوله سبحانه: والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعًا لأصل الإيمان وما كان منافيًا له، ويفرق أيضًا بين ما كان مقدورًا عليه فلم يفعل، وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه، فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة. وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزمًا جازمًا لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنًا للعزم، وإن كان العجز مقارنًا للإرادة؛ امتنع وجود المراد، لكن لا تكون تلك إرادة جازمة، فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضًا، فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه، وإن لم يوجد الفعل نفسه. والإنسان يجد من نفسه: أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته، ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع، وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء، ولا عما يظهر على صفحات وجهه، /وفلتات لسانه، مثل بسط الوجه وتعبسه، وإقباله على الشيء والإعراض عنه، وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب، كما يترتب عليها الحمد والثواب. وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره، فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازمًا، ولا نزاع في إطلاق الألفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول: ما قارن الفعل فهو قصد، وما كان قبله فهو عزم. ومنهم من يجعل الجميع سواء، وقد تنازعوا: هل تسمى إرادة اللّه لما يفعله في المستقبل عزمًا ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم الإنسان عليه أن يفعله في المستقبل، فلابد حين فعله من تجدد إرادة، غير العزم المتقدم، وهي الإرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة، وتنازعوا أيضًا: هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أيضًا في ذلك قولان. والأظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور، والإرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد. والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقًا على كل عزم على فعل مستقبل، وإن لم يقترن به فعل، وإرادة الآخر رفع العقاب / مطلقًا عن كل ما في النفس من الإرادات الجازمة ونحوها، مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل، وكل من هذين انحراف عن الوسط. فإذا عرف أن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة إلا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب. وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادًا إرادة جازمة، بل هو الهم الذي وقع العفو عنه، وبه ائتلفت النصوص والأصول. ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الإرادات المتعارضة كالاعتقادات المتعارضة، وإرادة الشيء وضده، مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها، ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ منه، كما شكا أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليه فقالوا: إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: (أو قد وجدتموه؟!) فقالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان) رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وفيه: (الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة). وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان / به على الجواب، فإن له موارد واسعة. فهنا لما اقترن بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة، كان هو صريح الإيمان، وهو خالصه ومحضه؛ لأن المنافق والكافر لا يجد هذا البغض، وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك، بل إن كان في الكفر البسيط، وهو الإعراض عما جاء به الرسول، وترك الإيمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك، إذ الوسوسة بالمعارض المنافي للإيمان إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه، فإذا لم يكن معه ما يقتضي الإيمان لم يحتج إلى معارض يدفعه، وإن كان في الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة، وليس معه إيمان يكره به ذلك. ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين، كما قال تعالى: والمثل الآخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع، من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه، وأخبر أن السيل يحتمل زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله، ثم قال: فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانًا ويقينًا، كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه للّه ازداد صلاحًا وبرًا وتقوى. /وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها، فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها، والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق، فتارة يغلب هذا، وتارة يغلب هذا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها) كما في بعض ألفاظه في الصحيح، هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين، دون من كان مسلمًا في الظاهر، وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالإسلام قديمًا وحديثًا. وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الإيمان في أول الأمر، فمن أظهر الإيمان وكان صادقًا مجتنبًا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به، دون ما ليس كذلك. كما دل عليه لفظ الحديث. فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث، وكذلك قوله: (من هم بحسنة)، (من هم بسيئة) إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. /وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات للّه. كما قال تعالى: واللّه ـ سبحانه ـ أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
|