الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ فِي كِتَاب اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدٌ مُطْلَقٌ، وَمَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ. وَالْمُفْرَدُ نَوْعَانِ أَيْضًا: فُسُوقُ كُفْرٍ، يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفُسُوقٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَالْمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}. وَالْمُفْرَدُ- الَّذِي هُوَ فُسُوقُ كُفْرٍ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الْآيَةَ، فَهَذَا كُلُّهُ فَسُوقُ كُفْرٍ. وَأَمَّا الْفُسُوقُ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمُ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الْآيَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلَقِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ مُصَدِّقًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ بِمَقْدِمِهِ تَلَقَّوْهُ، تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَهَابَهُمْ فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلَقِ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ، فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ، وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلَنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ، فَبَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَخَشِينَا أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضَبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضِبِ رَسُولِهِ، فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَهُ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا تَسْتَعْمِلُ فِي الْكُفَّارِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ، وَوَافَاهُمْ، فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَنَزَلَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةَ. وَالنَّبَأُ هُوَ الْخَبَرُ الْغَائِبُ عَنِ الْمُخْبَرِ إِذَا كَانَ لَهُ شَأْنٌ، وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَالْإِحَاطَةِ بِهَا عِلْمًا. وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَتَكْذِيبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَإِنْ قَامَتْ قَرَائِنُ وَأَدِلَّةٌ مِنْ خَارِجٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ عُمِلَ بِدَلِيلِ الصِّدْقِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَخْبَرَ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَاسِقِينَ يَصْدُقُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَشَهَادَاتِهِمْ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ غَايَةَ التَّحَرِّي، وَفِسْقُهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ مِثْلِ هَذَا وَرِوَايَتُهُ لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ الْحُقُوقِ، وَبَطَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ مُتَحَرٍّ لِلصِّدْقِ، فَهَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْكَذِبِ فَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ وَتَكَرَّرَ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَإِنْ نَدُرَ مِنْهُ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفُسُوقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْفُسُوقُ الَّذِي تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ أَعَمُّ مِنَ الْفُسُوقِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ. وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَهُوَ قِسْمَانِ: فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ، وَفِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ. فَفِسْقُ الْعَمَلِ نَوْعَانِ: مَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ وَمُفْرَدٌ. فَالْمَقْرُونَ بِالْعِصْيَانِ: هُوَ ارْتِكَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْعِصْيَانُ: هُوَ عِصْيَانُ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَرْتُكَ أَمْرًا جَازِمًا فَعَصَيْتَنِـي *** فَأَصْبَحْتَ مَسْلُوبَ الْإِمَارَةِ نَادِمًا فَالْفِسْقُ أَخَصُّ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَلِهَذَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} وَالْمَعْصِيَةُ أَخَصُّ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فَسَمَّى مُخَالَفَتَهُ لِلْأَمْرِ فِسْقًا، وَقَالَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فَسَمَّى ارْتِكَابَهُ لِلنَّهْيِ مَعْصِيَةً، فَهَذَا عِنْدَ الْإِفْرَادِ، فَإِذَا اقْتَرَنَا كَانَ أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَالْآخَرُ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَالتَّقْوَى اتِّقَاءُ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَبِتَحْقِيقِهَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ. وَفِسْقُ الِاعْتِقَادِ كَفِسْقِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُوجِبُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ، وَلَكِنْ يَنْفُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، جَهْلًا وَتَأْوِيلًا، وَتَقْلِيدًا لِلشُّيُوخِ، وَيُثْبِتُونَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ كَالْخَوَارِجِ الْمَارِقَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا غُلَاةً فِي التَّجَهُّمِ. وَأَمَّا غَالِيَّةُ الْجَهْمِيَّةِ فَكَغُلَاةِ الرَّافِضَةِ، لَيْسَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ. وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً، وَقَالُوا: هُمْ مُبَايِنُونَ لِلْمِلَّةِ. وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْعَشْرَةِ. فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الْفُسُوقِ: بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَرَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا نَزَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَتَلَقِّي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، لَا مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ وَنَتَائِجِ أَفْكَارِهِمُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُبَيِّنُوا فَسَادَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ هِيَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَلِهَذَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبَةِ الْكَاتِمِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْبَيَانَ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ لَمَّا كَانَ بِالْكِتْمَانِ، كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ بِالْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَذَنْبُ الْمُبْتَدِعِ فَوْقَ ذَنْبِ الْكَاتِمِ، لِأَنَّ ذَاكَ كَتَمَ الْحَقَّ، وَهَذَا كَتَمَهُ وَدَعَا إِلَّا خِلَافِهِ، فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ كَاتِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَشَرَطَ فِي تَوْبَةِ الْمُنَافِقِ الْإِخْلَاصَ; لِأَنَّ ذَنْبَهُ بِالرِّيَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}- ثُمَّ قَالَ- {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ ضِدَّ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَهَتَكَ بِهِ عِرْضَ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ، لِيَنْتَفِيَ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْعَارُ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ بِالْقَذْفِ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْقَذْفِ، وَيَعْتَرِفَ بِتَحْرِيمِهِ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَقْذُوفِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ بَرَاءَةُ عِرْضِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ: حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْقَذْفِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِاسْتِغْفَارِهِ، وَاعْتِرَافِهِ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ، وَنَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَحَقًّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ إِلْحَاقُ الْعَارِ بِهِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِتَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ صَادِقًا قَدْ عَايَنَ الزِّنَا، فَأَخْبَرَ بِهِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ وَقَذْفُهَا بِالْكَذِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ؟. قِيلَ: هَذَا هُوَ الْإِشْكَالُ الَّذِي قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَجْلِهِ مَا قَالَ إِنَّ تَوْبَتَهُ الِاعْتِرَافُ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْكَذِبِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْقَاذِفِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ، فَنَقُولُ: الْكَذِبُ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِمَخْبَرِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: كَذِبٌ عَمْدٌ، وَكَذِبٌ خَطَأٌ، فَكَذِبُ الْعَمْدِ مَعْرُوفٌ، وَكَذِبُ الْخَطَأِ كَكَذِبِ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ فِي فَتْوَاهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتِمَّ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ مَنْ قَالَهَا لِمَنْ قَالَ: حَبِطَ عَمَلُ عَامِرٍ، حَيْثُ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، حَيْثُ قَالَ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَذِبِ الْخَطَأِ، وَمَعْنَاهُ أَخْطَأَ قَائِلُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْكَذِبِ: الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، كَخَبَرِ الْقَاذِفِ الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا، وَالْإِخْبَارِ بِهِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَحُكْمُ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ الْمُفْتَرِي الْكَاذِبِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ وَجَعَلَهُ اللَّهُ كَاذِبًا، فَأَيُّ تَوْبَةٍ لَهُ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ الْإِصْرَارِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِمُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ؟
وَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ السَّارِقِ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ، هَلْ مِنْ شَرْطِهَا ضَمَانُ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ لِرَبِّهَا؟ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ، إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ ضَمَانُهَا لِمَالِكِهَا، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ- وَقَدِ اسْتُهْلِكَتِ الْعَيْنُ- لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا، وَلَا تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ عَلَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ هُوَ مَجْمُوعُ الْجَزَاءِ، وَالتَّضْمِينَ عُقُوبَةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ لَا تُشْرَعُ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُهَا عُقُوبَةً ثَانِيَةً، بِخِلَافِ التَّضْمِينِ، فَإِنَّهُ غَرَامَةٌ، وَقَدْ قُطِعَ طَرَفَهُ، فَلَا نَجْمَعُ عَلَيْهِ غَرَامَةَ الطَّرَفِ وَغَرَامَةَ الْمَالِ. قَالُوا: وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي عُقُوبَةِ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ غَيْرَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ لِمَا أَتْلَفُوهُ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْحَدِّ، وَلَمَا جَعَلَ مَجْمُوعَ جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِأَدَاةِ " إِنَّمَا " الَّتِي هِيَ عِنْدَكُمْ لِلْحَصْرِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الْآيَةَ، وَمَدْلُولُ هَذَا الْكَلَامِ- عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ أَدَاةَ " إِنَّمَا " لِلْحَصْرِ- أَنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى فِي السَّارِقِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُهُمْ أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ السُّرَّاقَ، وَلَا يُغَرِّمُونَهُمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا لَوْ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ- بَعْدَ الْقَطْعِ- لَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا، إِذْ لَا يَجْتَمِعُ لِرَبِّهَا الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَثُبُوتُ بَدَلِهَا فِي ذِمَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَ مِلْكِهَا، وَهُوَ شُبْهَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْقَطْعِ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْعَيْنُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقَّانِ، حَقُّ اللَّهِ، وَحَقٌّ لِمَالِكِهَا، وَهُمَا حَقَّانِ مُتَغَايِرَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، فَلَا يُبْطِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ يُسْتَوْفَيَانِ مَعًا، لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ، وَالضَّمَانَ حَقٌّ لِلْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ أُسْقِطَ الضَّمَانُ سَقَطَ. وَهَذَا كَمَا إِذَا أَكْرَهَ أَمَةَ غَيْرِهِ عَلَى الزِّنَا لَزِمَهُ الْحَدُّ لِحَقِّ اللَّهِ، وَالْمَهْرُ لِحَقِّ السَّيِّدِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَكْرَهَ الْحُرَّةَ عَلَى الزِّنَا أَيْضًا، بَلْ لَوْ زَنَا بِأَمَةٍ ثُمَّ قَتَلَهَا، لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا وَقِيمَتُهَا لِمَالِكِهَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إِذَا سَرَقَهَا، ثُمَّ قَتَلَهَا، قُطِعَتْ يَدُهُ لِسَرِقَتِهَا وَضَمِنَهَا لِمَالِكِهَا. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ فِي الْإِحْرَامِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِمَالِكِهِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَقِيمَةُ الصَّيْدِ لِمَالِكِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ خَمْرَ ذِمِّيٍّ وَشَرِبَهَا لَزِمَهُ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَزِمَهُ عِنْدَكُمْ ضَمَانُهَا لِلذِّمِّيِّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْمَيْتَةِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ قَطْعَ الْيَدِ مَجْمُوعُ الْجَزَاءِ، إِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ مَجْمُوعُ الْعُقُوبَةِ فَصَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ لِلسَّرِقَةِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْجَانِي، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً أَوْ إِكْرَاهًا، أَوْ فِي حَالِ نَوْمِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ إِتْلَافًا مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِهِ، أَوِ الْمُضْطَرِّ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ لِإِنْجَاءِ السَّفِينَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ الضَّمَانُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ تَضْمِينَ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ، فَهُوَ لَمْ يَنْفِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَحُكْمُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ كَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَهَذَا قَدِ اعْتَدَى بِالْإِتْلَافِ، فَيُعْتَدَى عَلَيْهِ بِالتَّضْمِينِ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا رَدَّ الْعَيْنِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، بَلْ مِنْ بَابِ إِعْمَالِ النُّصُوصِ كُلِّهَا، لَا يُعَطَّلُ بَعْضُهَا وَيُعْمَلُ بِبَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ عُقُوبَتُهُمْ. قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَمُنْقَطِعٌ لَا يَثْبُتُ، يَرْوِيهِ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَنْصُورٍ، وَقَدْ طَعَنَ فِي الْحَدِيثِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَأَمَّا اسْتِقْرَارُ ذَلِكَ فِي فِطَرِ النَّاسِ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِهِمْ أَنَّ الْغَنِيَّ الْوَاجِدَ إِذَا سَرَقَ مَالَ فَقِيرٍ مُحْتَاجٍ، أَوْ يَتِيمٍ وَأَتْلَفَهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَالَ هَذَا الْفَقِيرِ وَالْيَتِيمِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الضَّمَانِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَضَرُورَةِ صَاحِبِهِ وَضَعْفِهِ؟ وَهَلِ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطَرِ النَّاسِ إِلَّا عَكْسُ هَذَا؟. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَوْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ، لَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا، فَضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّهَا بِالْإِتْلَافِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ، وَلِهَذَا لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَذْلِهَا اتِّفَاقًا، وَهَذَا الِاسْتِقْرَارُ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بَعْدَ إِتْلَافِهَا، وَاسْتِقْرَارِهَا فِي ذِمَّتِهِ، فَكَيْفَ يُزِيلُ الْقَطْعُ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَكُونُ مُبَرِّئًا لَهُ مِنْهُ؟. وَتَوَسَّطَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ- مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ- بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ضَمِنَهَا بَعْدَ الْقَطْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَمَا أَقْرَبَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرْعِ، وَأَوْلَاهُ بِالْقَبُولِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ فَهُمَا قَرِينَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ تَضَمَّنَ الْآخَرَ، فَكُلُّ إِثْمٍ عُدْوَانٌ، إِذْ هُوَ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ عُدْوَانٌ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكُلُّ عُدْوَانٍ إِثْمٌ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا فَهُمَا شَيْئَانِ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِمَا وَوَصْفِهِمَا. فَالْإِثْمُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالْكَذِبِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعُدْوَانُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْقَدْرِ وَالزِّيَادَةِ. فَالْعُدْوَانُ: تَعَدِّي مَا أُبِيحَ مِنْهُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُحَرَّمِ وَالزِّيَادَةِ، كَالِاعْتِدَاءِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِأَنْ يَتَعَدَّى عَلَى مَالِهِ، أَوْ بَدَنِهِ أَوْ عِرْضِهِ، فَإِذَا غَصَبَهُ خَشَبَةً لَمْ يَرْضَ عِوَضَهَا إِلَّا دَارَهُ، وَإِذَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا أَتْلَفَ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ كَلِمَةً قَالَ فِيهِ أَضْعَافَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ عُدْوَانٌ وَتَعَدٍّ لِلْعَدْلِ. وَهَذَا الْعُدْوَانُ نَوْعَانِ: عُدْوَانٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَعُدْوَانٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّ اللَّهِ كَمَا إِذَا تَعَدَّى مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وَكَذَلِكَ تَعَدَّى مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ، فَتَعَدَّاهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ إِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِجُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ، فَتَنَاوَلَ الْكَأْسَ كُلَّهَا، أَوْ أُبِيحَ لَهُ نَظْرَةُ الْخِطْبَةِ، وَالسَّوْمُ، وَالشَّهَادَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَالْمُدَاوَاةُ، فَأَطْلَقَ عِنَانَ طَرْفِهِ فِي مَيَادِينِ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ، وَأَسَامَ طَرْفَ نَاظِرِهِ فِي تِلْكَ الرِّيَاضِ وَالزُّهُورِ، فَتَعَدَّى الْمُبَاحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمَحْظُورِ، وَحَامَ حَوْلَ الْحِمَى الْمَحُوطِ الْمَحْجُورِ، فَصَارَ ذَا بَصَرٍ حَائِرٍ، وَقَلْبٍ عَنْ مَكَانِهِ طَائِرٍ، أَرْسَلَ طَرْفَهُ رَائِدًا يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَخَامَرَ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ فِي تِلْكَ الْخِيَامِ، فَبَعَثَ الْقَلْبَ فِي آثَارِهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُوَ أَسِيرٌ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ بَيْنَ تِلْكَ الْخِيَامِ، فَمَا أَقْلَعَتْ لَحْظَاتُ نَاظِرِهِ حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا، وَمَا بَرِحَتْ تَنُوشُهُ سُيُوفُ تِلْكَ الْجُفُونِ حَتَّى جَنْدَلَتْهُ تَجْدِيلًا، هَذَا خَطَرُ الْعُدْوَانِ، وَمَا أَمَامَهُ أَعْظَمُ وَأَخْطَرُ، وَهَذَا فَوْتُ الْحِرْمَانِ، وَمَا حُرِمَهُ مِنْ فَوَاتِ ثَوَابِ مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ، سَافَرَ الطَّرْفُ فِي مَفَاوِزِ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَرْبَحْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ، وَغَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِي رُكُوبِ تِلْكَ الْبَيْدَاءِ، وَمَا عَرَفَ أَنَّ رَاكِبَهَا عَلَى أَعْظَمِ الْخَطَرِ؟! يَا لَهَا مِنْ سَفْرَةٍ لَمْ يَبْلُغِ الْمُسَافِرُ مِنْهَا مَا نَوَاهُ، وَلَمْ يَضَعْ فِيهَا عَنْ عَاتِقِهِ عَصَاهُ، حَتَّى قَطَعَ عَلَيْهِ فِيهَا الطَّرِيقَ، وَقَعَدَ لَهُ فِيهَا الرَّصَدُ عَلَى كُلِّ نَقَبٍ وَمَضِيقٍ، لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ إِلَى وَطَنِهِ وَالْإِيَابَ، وَلَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى الْمُرُورِ وَالذَّهَابِ، يَرَى هَجِيرَ الْهَاجِرَةِ مِنْ بَعِيدٍ، فَيَظُنُّهُ بَرْدَ الشَّرَابِ {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا بِلَامِعِ السَّرَابِ، تَاللَّهِ مَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الذِّلَّةُ وَتِلْكَ اللَّذَّةُ فِي الْقِيمَةِ فَيَشْتَرِيهَا بِهَا الْعَارِفُ الْخَبِيرُ، وَلَا تَقَارَبَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَيَتَحَيَّرُ بَيْنَهُمَا الْبَصِيرُ، وَلَكِنْ عَلَى الْعُيُونِ غِشَاوَةٌ فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ مَوَاطِنِ السَّلَامَةِ وَمَوَاضِعِ الْعُثُورِ، وَالْقُلُوبُ تَحْتَ أَغْطِيَةِ الْغَفَلَاتِ، رَاقِدَةٌ فَوْقَ فُرُشِ الْغُرُورِ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْعُدْوَانِ تَجَاوُزُ مَا أُبِيحَ مِنَ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ إِلَى مَا لَمْ يُبَحْ مِنْهَا، إِمَّا بِأَنْ يَشْبَعَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ سَدُّ الرَّمَقِ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ لَهُ الشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا وَأَكَلَهَا وَاقِيًا لِمَالِهِ، وَبُخْلًا عَنْ شِرَاءِ الْمُذَكَّى وَنَحْوِهِ، كَانَ تَنَاوُلُهَا عُدْوَانًا، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: لَا يَأْكُلُهَا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَلَا يَعْدُو شِبَعَهُ، وَقِيلَ: " غَيْرَ بَاغٍ " غَيْرَ طَالِبِهَا وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا " وَلَا عَادٍ " أَيْ لَا يَتَعَدَّى مَا حُدَّ لَهُ مِنْهَا فَيَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، وَلَكِنْ سَدَّ الرَّمَقِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا، وَلَا مُتَزَوِّدٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: لَا يَبْغِي بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ الَّذِي حُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَا يَتَعَدَّى بِتَقْصِيرِهِ عَنْ تَنَاوُلِهِ حَتَّى يَهْلِكَ، فَيَكُونَ قَدْ تَعَدَّى حَدَّ اللَّهِ بِمُجَاوَزَتِهِ أَوِ التَّقْصِيرِ عَنْهُ، فَهَذَا آثِمٌ، وَهَذَا آثِمٌ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَا عَادٍ فِي سَفَرِهِ، فَلَا يَكُونُ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، إِذِ الْآيَةُ لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِلسَّفَرِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ وَلَا سِيقَتْ لَهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِيهَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْأَكْلِ الْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ، لَا إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَكْلِ، وَلِأَنَّ نَظِيرَ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} فَهَذَا هُوَ الْبَاغِي الْعَادِي، وَالْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ الْمَائِلُ إِلَى الْقَدْرِ الْحَرَامِ مِنْ أَكْلِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُبَاحُ لَهُ بِدُونِهِ، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَتَقَدَّرَتِ الْإِبَاحَةُ بِقَدْرِهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ وَإِثْمٌ، فَلَا تَكُونُ الْإِبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ سَبَبًا لِحِلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ هُمَا الْإِثْمُ وَالْبَغْيُ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، مَعَ أَنَّ الْبَغْيَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قُرِنَ الْبَغْيُ بِالْعُدْوَانِ كَانَ الْبَغْيُ ظُلْمَهُمْ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ، كَالسَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ، وَالْبَهْتِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى، وَالْعُدْوَانُ تَعَدِّي الْحَقِّ فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ اللَّهِ. فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: حَقٌّ لِلَّهِ وَلَهُ حَدٌّ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ وَلَهُ حَدٌّ، فَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ تَجَاوُزُ الْحَدَّيْنِ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، أَوِ التَّقْصِيرُ عَنْهُمَا، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ فَالْفَحْشَاءُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ قَدْ حُذِفَ تَجْرِيدًا لِقَصْدِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَالْخَصْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَهِيَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاسْتَفْحَشَهُ كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَسَمَّاهَا اللَّهُ فَاحِشَةً لِتَنَاهِي قُبْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ يُسَمَّى فُحْشًا، وَهُوَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهُ جِدًّا مِنَ السَّبِّ الْقَبِيحِ، وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَصِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْضًا، أَيِ الْفِعْلُ الْمُنْكَرُ، وَهُوَ الَّذِي تَسْتَنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ إِلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ، وَالْمَنْظَرِ الْقَبِيحِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالطَّعْمِ الْمُسْتَكْرَهِ إِلَى الذَّوْقِ، وَالصَّوْتِ الْمُسْتَنْكَرِ إِلَى الْأُذُنِ، فَمَا اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ لَهُ فَهُوَ فَاحِشَةٌ، كَمَا فَحُشَ إِنْكَارُ الْحَوَاسِّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدْرَكَاتِ. فَالْمُنْكَرُ لَهَا مَا لَمْ تَعْرِفْهُ وَلَمْ تَأْلَفْهُ، وَالْقَبِيحُ الْمُسْتَكْرَهُ لَهَا الَّذِي تَشْتَدُّ نَفْرَتُهَا عَنْهُ هُوَ الْفَاحِشَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَالْمُنْكَرُ مَا لَمْ يُعْرَفْ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ. فَتَأَمَّلْ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ مَا لَمْ يُعْرَفْ حُسْنُهُ وَلَمْ يُؤْلَفْ، وَبَيْنَ مَا اسْتَقَرَّ قُبْحُهُ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا، وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ} قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا حَقَّقَهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ، وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ، وَوَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ، فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ. وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا مِثْلَهُ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشُدُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ، بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، وَحَرَّمَ اللَّهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ هَذَا، وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَصْلُ الشِّرْكَ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزِلَةٍ مِنْهَا مُبَوَّءًا، وَهُوَ الْمَنْزِلُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ، لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، كَصَرِيحِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا انْضَافَ إِلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُرْسِلِ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ صَرِيحٍ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ. وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟ فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُّ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا، وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا. فَإِنَّ السُّنَّةَ- بِالذَّاتِ- تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ، وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ، وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا الْمُتَابَعَةُ، وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللَّهِ، بِالِاسْتِعَانَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللَّهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ، بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَهَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ أَنَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَدَارُكُهُ ثُمَّ تَابَ فَكَيْفَ حُكْمُ تَوْبَتِهِ؟ وَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَكَمَنَ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا وَفَرْضِهَا ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ، فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَوْبَتُهُ بِالنَّدَمِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمُسْتَأْنَفَةِ وَقَضَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَتْرُوكَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَوْبَتُهُ بِاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَنْفَعُهُ تَدَارُكُ مَا مَضَى بِالْقَضَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَحُجَّةُ الْمُوجِبِينَ لِلْقَضَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا. قَالُوا: فَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِمَا فَوُجُوبُهُ عَلَى الْعَامِدِ وَالْمُفَرِّطِ أَوْلَى. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الصَّلَاةُ وَإِيقَاعُهَا فِي وَقْتِهَا، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بَقِيَ الْآخَرُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنْ قُلْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَأَمْرُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي بِهِ: تَنْبِيهٌ عَلَى الْعَامِدِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْفِعْلِ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْعَبْدَ تَدَارُكُهَا تَدَارَكَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ فَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ فَيَتَدَارَكُ مَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَهُوَ الْفِعْلُ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَهَذَا قَدِ اسْتَطَاعَ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْمُسْتَطَاعِ. قَالُوا: وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ يُخَفِّفُ عَنْ هَذَا الْمُتَعَمِّدِ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِتَرْكِ الْوُجُوبِ وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمَعْذُورِ بِالنَّوْمِ أَوِ النِّسْيَانِ؟. قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ بَدَلٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا كَانَ لَهَا بَدَلٌ وَتَعَذَّرَ الْمُبْدَلَ انْتَقَلَ الْمُكَلَّفُ إِلَى الْبَدَلِ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةِ الْقَاعِدِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقِيَامِ، وَالْمُضْطَجِعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقُعُودِ، وَإِطْعَامِ الْعَاجِزِ عَنِ الصِّيَامِ- لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ غَيْرِ مَرْجُوِّ الْبُرْءِ- عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ حَقٌّ مُؤَقَّتٌ فَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُسْقِطُهُ إِلَّا بِمُبَادَرَتِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ كَدُيُونٍ الْآدَمِيِّينَ الْمُؤَجَّلَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَمَنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا تَأْخِيرًا أَثِمَ بِهِ أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ تَأْخِيرًا أَثِمَ بِهِ. قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَ الْجُمُعَةُ حَتَّى صَلَّاهَا الْإِمَامُ عَمْدًا عَصَى بِتَأْخِيرِهَا وَلَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَنِسْبَةُ الظُّهْرِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَنِسْبَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى صَلَاتِهَا قَبْلَ الطُّلُوعِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِلَى أَنْ صَلَّاهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا مُمْكِنٌ خَارِجَ الْوَقْتِ فِي الْعَمْدِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْذُورًا بِهِ كَهَذَا التَّأْخِيرِ، وَكَتَأْخِيرِ مَنْ أَخَّرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِهِ كَتَأْخِيرِ الْمُفَرِّطِ، فَتَأْخِيرُهُمَا إِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ لَا فِي وُجُوبِ التَّدَارُكِ بَعْدَ التَّرْكِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ خَارِجَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ وَلَا تُجِبُ لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ يُصَلُّوهَا فِيهِمْ، فَأَخَّرَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى صَلَّاهَا فِيهِمْ بِاللَّيْلِ فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ وَلَمْ يُعَنِّفْ مَنْ صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ لِاجْتِهَادِ الْفَرِيقَيْنِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ تَائِبٍ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى التَّوْبَةِ فَكَيْفَ تُسَدُّ عَنْ هَذَا طَرِيقُ التَّوْبَةِ وَيُجْعَلُ إِثْمُ التَّضْيِيعِ لَازِمًا لَهُ وَطَائِرًا فِي عُنُقِهِ؟ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمُرَاعَاتِهِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. فَهَذَا أَقْصَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: الْعِبَادَةُ إِذَا أُمِرَ بِهَا عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ إِلَّا إِذَا أَوْقَعَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ وَصْفِهَا وَوَقْتِهَا وَشَرْطِهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِدُونِهِ. قَالُوا: وَإِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا كَإِخْرَاجِهَا عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَثَلًا، وَكَالسُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ بَدَلَ الْجَبْهَةِ، وَالْبُرُوكِ عَلَى الرُّكْبَةِ بَدَلَ الرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي جُعِلَ لَهَا ظَرْفٌ مِنَ الزَّمَانِ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِيهِ كَالْعِبَادَاتِ الَّتِي جُعِلَ لَهَا ظَرْفٌ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَوْ أَرَادَ نَقْلَهَا إِلَى أَمْكِنَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا لَمْ تَصِحَّ إِلَّا فِي أَمْكِنَتِهَا، وَلَا يَقُومُ مَكَانٌ مَقَامَ مَكَانٍ آخَرَ، كَأَمْكِنَةِ الْمَنَاسِكِ- مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ- فَنَقْلُ الْعِبَادَةِ إِلَى أَزْمِنَةٍ غَيْرِ أَزْمِنَتِهَا الَّتِي جُعِلَتْ أَوْقَاتًا لَهَا شَرْعًا إِلَى غَيْرِهَا كَنَقْلِهَا عَنْ أَمْكِنَتِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا شَرْعًا إِلَى غَيْرِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِدَادِ وَعَدَمِهِ كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِثْمِ. قَالُوا: فَنَقْلُ الصَّلَاةِ الْمَحْدُودَةِ الْوَقْتِ أَوَّلًا وَآخِرًا عَنْ زَمَنِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَنَقْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَنْ زَمَنِهِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَنَقْلِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ زَمَنِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ. قَالُوا: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ نَقَلَ صَوْمَ رَمَضَانَ إِلَى شَوَّالٍ، أَوْ صَلَّى الْعَصْرَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَبَيْنَ مَنْ حَجَّ فِي الْمُحَرَّمِ وَوَقَفَ فِيهِ؟ فَكَيْفَ تَصِحُّ صَلَاةُ هَذَا وَصِيَامُهُ دُونَ حَجِّ هَذَا، وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَاصٍ آثِمٌ؟. قَالُوا: فَحُقُوقُ اللَّهِ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا، فَكَمَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا لَا تُقْبَلُ بَعْدَ خُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، فَلَوْ قَالَ: أَنَا أَصُومُ شَوَّالًا عَنْ رَمَضَانَ، كَانَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَصُومُ شَعْبَانَ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْهُ. قَالُوا: فَإِنَّ الْحَقَّ اللَّيْلِيَّ لَا يُقْبَلُ بِالنَّهَارِ، وَالنَّهَارِيَّ لَا يُقْبَلُ بِاللَّيْلِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ الصِّدِّيقِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّتِي تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ هُوَ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِذَا فَاتَ وَقْتُهَا الْمَحْدُودُ لَهَا شَرْعًا لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُهَا، فَإِذَا فُعِلَتِ الْعَصْرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ تَكُنْ عَصْرًا، فَإِنَّ الْعَصْرَ صَلَاةُ هَذَا الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ عَصْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ مُصَلِّيهَا الْعَصْرَ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ صُورَتُهَا صُورَةُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، لَا أَنَّهَا هِيَ. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ وَفِي لَفْظٍ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَلَوْ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى التَّدَارُكِ وَفَعَلَهَا صَحِيحَةً لَمْ يَحْبَطْ عَمَلُهُ وَلَمْ يُوتَرْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ مَعَ صِحَّتِهَا مِنْهُ وَقَبُولِهَا; لِأَنَّ مَعْصِيَةَ التَّأْخِيرِ عِنْدَكُمْ لَا تُحَقِّقُ التَّرْكَ وَالْفَوَاتَ, لِاسْتِدْرَاكِهِ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. قَالُوا: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَرْدُودَةٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ بِقَبُولِهَا وَصِحَّتِهَا مَعَ تَصْرِيحِهِ بِرَدِّهَا وَإِلْغَائِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَفِي لَفْظٍ كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَهَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ رَدًّا، وَالرَّدُّ بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَالضَّرْبِ بِمَعْنَى الْمَضْرُوبِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَرْدُودَةٌ فَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ وَلَا مَقْبُولَةٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَكَانَ شَرْطًا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالصِّحَّةِ كَسَائِرِ شُرُوطِهَا- مِنَ الطَّهَارَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ- فَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ الشُّرُوطَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا فَكَيْفَ سَاغَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الْوُجُوبِ وَالْأَمْرِ وَالشَّرْطِيَّةٍ؟. قَالُوا: وَلَيْسَ مَعَ الْمُصَحِّحِينَ لَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَسَنُبْطِلُ جَمِيعَ أَقْيِسَتِهِمُ الَّتِي قَاسُوا عَلَيْهَا وَنُبَيِّنُ فَسَادَهَا. قَالُوا: وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَقْضِهِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ فَكَيْفَ يُقَالُ يَقْضِيهِ عَنْهُ يَوْمٌ مِثْلُهُ؟. قَالُوا: وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ إِنْ فُسِّرَتْ بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ غَيْرُ مُوَافِقَةٍ لَهُ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ فَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِمَا أَبْرَأَ الذِّمَّةَ فَهَذِهِ لَمْ تُبْرِئِ الذِّمَّةَ مِنَ الْإِثْمِ قَطْعًا، وَلَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِبْرَاؤُهَا لِلذِّمَّةِ مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَأْمُورِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَرَضِيَهُ وَقَبِلَهُ، وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ عَنْ صِحَّتِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهَا أَمْرَهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَيْفَ يُحْكَمُ لَهَا بِالصِّحَّةِ؟. قَالُوا: فَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ مَرْجِعُهُمَا إِلَى الشَّارِعِ، فَالصَّحِيحُ مَا شَهِدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَافَقَ أَمْرَهُ أَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَا شَهِدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْمِثْلِ مِثْلَهُ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ قَدِ انْتَفَى عَنْهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَمِنْ أَفْسَدِ الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُهَا بِالتَّأْخِيرِ الْمَعْذُورِ بِهِ أَوِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى مُخَالِفِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشَّرْعِ، وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَالْمُفَرِّطُ أَوْلَى، فَهَذِهِ الْحُجَّةُ إِلَى أَنْ تَكُونَ عَلَيْكُمْ أَقْرَبَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ لَكُمْ، فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ شَرَطَ فِي فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ عَنْ نَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَكُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ قِيَاسِ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي الْمُسْتَحِقِّ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ عَذَرَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا وَأَيُّ قِيَاسٍ فِي الدُّنْيَا أَفْسَدَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ وَأَبْطَلَ؟. قَالُوا: وَأَيْضًا فَهَذَا لَمْ يُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بَلْ وَقْتُهَا الْمَأْمُورُ بِهِ لِمِثْلِهِ: حِينَ اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَهَذِهِ اللَّامُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النُّحَاةِ اللَّامُ الْوَقْتِيَّةُ، أَيْ عِنْدَ ذِكْرِي، أَوْ فِي وَقْتِ ذِكْرِي. قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ الْوَادِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَّا فِي وَقْتِهَا حَقِيقَةً. قَالُوا: وَالْأَوْقَاتُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: وَقْتٌ لِلْقَادِرِ الْمُسْتَيْقِظِ الذَّاكِرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ فَهِيَ خَمْسَةٌ، وَوَقْتٌ لِلذَّاكِرِ الْمُسْتَيْقِظِ الْمَعْذُورِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَإِنَّ فِي حَقِّهِ: وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَاحِدٌ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَاحِدٌ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ وَاحِدٌ، فَالْأَوْقَاتُ فِي حَقِّ هَذَا ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى أَنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَإِنَّمَا صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا. وَوَقْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ الْبَتَّةَ، بَلِ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ يَقَظَتِهِ وَذِكْرِهِ لَا وَقْتَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ. هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ، وَهَذَا الْمُفَرِّطُ الْمُضَيِّعُ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَهُوَ قِسْمٌ رَابِعٌ، فَبِأَيِّهَا تُلْحِقُونَهُ؟. قَالُوا: وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِمَنْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ أَفْطَرَهُ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِيمَاءٍ وَلَا تَنْبِيهٍ، وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُهُ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا مَعَكُمْ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَعْذُورِ مَعَ اطِّرَادِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ أَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَقْضِيهِ عَنْ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ بِلَا عُذْرٍ، فَضْلًا عَنْ يَوْمٍ مِثْلِهِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْعِبَادَةُ وَإِيقَاعُهَا فِي وَقْتِهَا فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، فَهَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِيَّةِ كَمَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَتَرَكَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْآخَرُ، أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْإِتْيَانُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَشْرُوطِ إِلَّا بِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْآخَرِ بِدُونِهِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ بِدُونِ وَصْفِهِ وَشَرْطِهِ؟ فَأَيْنَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ؟ وَهَلِ الْكَلَامُ إِلَّا فِيهِ؟. قَالُوا: وَإِنْ قُلْنَا إِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَلَا أَمْرَ مَعَكُمْ بِالْقَضَاءِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ مُمْتَنِعٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَافِعًا وَمَصْلَحَتُهُ كَمَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ كَقَضَاءِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ لِلصَّوْمِ، وَقَضَاءِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ غَيْرَ مُبَرِّئٍ لِلذِّمَّةِ وَلَا هُوَ مَعْذُورٌ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ فَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَلَا أَمْرٌ ثَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عُلِمَ افْتِرَاقُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ فِي وَصْفٍ ظَاهِرِ التَّأْثِيرِ مَانِعٍ لِلْإِلْحَاقِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ تَدَارَكَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَ، فَهَذَا إِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى شَرْطٍ تَزُولُ الْمَصْلَحَةُ بِزَوَالِهِ، وَالتَّدَارُكُ بَعْدَ فَوَاتِ شَرْطِهِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ مِنَ التَّوْبَةِ وَتَكْثِيرِ النَّوَافِلِ وَالْحَسَنَاتِ، وَأَمَّا تَدَارُكُ غَيْرِ هَذَا الْفِعْلِ فَكَلَّا، وَلَمَّا. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ مَنِ احْتَجَّ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَجَزَ عَنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَتَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَنْ إِكْمَالِ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ عَنْ إِكْمَالِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَنْ تَمَامِ الْكِفَايَةِ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَتَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، أَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهُ عَمْدًا وَتَفْرِيطًا بِلَا عُذْرٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ، وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لَهُ لَمَا تَوَعَّدَهُ بِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ، وَتَشْبِيهِهِ بِمَنْ سُلِبَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَبَقِيَ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّرْعِ تَخْفِيفُهُ عَنْ هَذَا الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ بِعَدَمِ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ, وَتَكْلِيفِ الْمَعْذُورِ بِهِ، فَكَلَامٌ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْذُورَ إِنَّمَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فِي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ الَّذِي صَلَّى فِي وَقْتِهِ، وَنَحْنُ لَمْ نُسْقِطِ الْقَضَاءَ عَنِ الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ تَخْفِيفًا عَنْهُ، بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ وَلَا مَقْبُولٍ مِنْهُ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ مَا تَرَكَهُ، فَأَيْنَ التَّخْفِيفُ عَنْهُ؟. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ بَدَلٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْمُبْدَلُ انْتُقِلَ إِلَى بَدَلِهِ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى؟ وَهَلْ وَقَعَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي هَذَا؟ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الْمُفَرِّطِ الْعَامِدِ بَدَلٌ؟ وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِالْأَمْرِ بِهَا أَوَّلًا، وَبِكَوْنِهَا مَقْبُولَةً نَافِعَةً ثَانِيًا، وَبِكَوْنِهَا بَدَلًا ثَالِثًا، وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلًا بِجَعْلِ الشَّارِعِ لَهُ كَذَلِكَ، كَشَرْعِهِ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْإِطْعَامَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَأَيْنَ جَعَلَ الشَّرْعُ قَضَاءَ هَذَا الْمُفَرِّطِ الْمُضَيِّعِ بَدَلًا عَنْ فِعْلِهِ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ؟. قَالُوا: وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ فِعْلَهَا خَارِجَ الْوَقْتِ عَلَى صِحَّةِ أَدَاءِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ بَعْدَ وَقْتِهَا فَمِنْ هَذَا النَّمَطِ; لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لَيْسَ مَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَالْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ لَيْسَ مُؤَقَّتًا مَحْدُودًا، بَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِخْرَاجٌ عَنْ وَقْتٍ مَحْدُودٍ هُوَ شَرْطٌ لِفِعْلِهِ. نَعَمْ أَوْلَى الْأَوْقَاتِ بِهِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ قَضَاءً. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ مَحْدُودٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْسِعَةِ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَإِطْعَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُؤَقَّتَةَ لَا يَتَعَذَّرُ فِعْلُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا شَرْعًا؟. قِيلَ: قَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، فَجَعَلَ أَيَّامَ رَمَضَانَ مَحْدُودَةَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا وَلَا تَأَخُّرُهَا، وَأَطْلَقَ أَيَّامَ قَضَائِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَطْلَقَ الْعِدَّةَ وَلَمْ يُوَقِّتْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي أَيِّ أَيَّامٍ كَانَتْ، وَلَمْ يَجِئْ نَصٌّ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ، وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِأَيَّامٍ لَا تُجْزِئُ فِي غَيْرِهَا، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَقْضِيهِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ مِنَ الشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّوْقِيتِ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ كَتَوْقِيتِ أَيَّامِ رَمَضَانَ بِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُمْتَنِعٌ وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ أَيَّامَ رَمَضَانَ مَحْدُودَةً بِحَدٍّ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، وَأَطْلَقَ أَيَّامَ الْقَضَاءِ وَأَكَّدَ إِطْلَاقَهَا بِقَوْلِهِ " أُخَرَ " وَأَفْتَى مَنْ أَفْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ جَبْرًا لِزِيَادَةِ التَّأْخِيرِ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ، وَلَا تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا قَضَاءً بَلْ هِيَ قَضَاءٌ وَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَ رَمَضَانَ آخَرَ فَحُكْمُهَا فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ رَمَضَانَ وَبَعْدَهُ وَاحِدٌ بِخِلَافِ أَيَّامِ رَمَضَانَ. يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَهُ الْبَتَّةَ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْقَضَاءِ قَامَ الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهُ مَقَامَهُ. وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَعْذُورَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّهِ أَيَّامُ الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا، وَأَيَّ يَوْمٍ صَامَهُ قَامَ مَقَامَ الْآخَرِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَأَيَّامُ الْوُجُوبِ مُتَعَيَّنَةٌ فِي حَقِّهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا. قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ عَمْدًا فَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الظُّهْرَ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدُ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا بُدَّ إِمَّا الْجُمُعَةُ وَإِمَّا الظُّهْرُ، فَإِذَا تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَوَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمٌ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِوَظِيفَةِ الْوَقْتِ. قَالُوا: وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْجُمُعَةَ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا فَاتَهُ الْبَدَلُ رَجَعَ إِلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ أَجَبْنَا بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ. فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَالْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ، عَمَلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ بَطَلَ الْإِلْحَاقُ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بَطَلَ الْقِيَاسُ. قَالُوا: وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ- هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟- قَوْلَانِ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ- كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ- هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ نُسِخَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّأْخِيرُ كَتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ التَّرْكِ الْمُحَرَّمِ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ تَأْخِيرِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَتَأْخِيرِ الْمُفَرِّطِ، بَلْ أَوْلَى. فَإِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِهِ فَهُوَ كَتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْعٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَلِلْمُقَاتِلِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ وَالْمُسَايَفَةِ، وَفِعْلُهَا عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ تَأْخِيرِ الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ بِهِ، وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الصَّحَابَةِ الْعَصْرَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَإِنَّهُ كَانَ تَأْخِيرًا مَأْمُورًا بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ، أَوْ تَأْخِيرًا سَائِغًا لِلتَّأْوِيلِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهَا، وَلَا مَنْ أَخَّرَهَا إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى صَلَّاهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَأُولَئِكَ نَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى وَالْمُرَادِ مِنْهُمْ وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَصْوِيبِ أَيِ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَوْ كُنَّا مَعَ الْقَوْمِ لَصَلَّيْنَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ الَّذِينَ فَهِمُوا الْمُرَادَ وَعَقِلُوا مَقْصُودَ الْأَمْرِ فَجَمَعُوا بَيْنَ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَبَيْنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَدُوِّ وَلَمْ يَفُتْهُمْ مَشْهَدُهُمْ إِذِ الْمِقْدَارُ الَّذِي سَبَقَهُمْ بِهِ أُولَئِكَ لَحِقُوهُمْ بِهِ , لَمَّا اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ وَقْتَ النُّزُولِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالُوا: فَهَؤُلَاءِ أَفْقَهُ الطَّائِفَتَيْنِ، جَمَعُوا بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْجِهَادِ مَعَ فِقْهِ النَّفْسِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَوْ كُنَّا مَعَهُمْ لَأَخَّرْنَا الصَّلَاةَ مَعَ الَّذِينَ أَخَّرُوهَا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمُ الَّذِينَ أَصَابُوا حُكْمَ اللَّهِ قَطْعًا، وَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ وَاجِبًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ خَاصَّةً، وَاللَّهُ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ، فَأَمْرُهُ بِالتَّأْخِيرِ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ كَأَمْرِهِ بِالتَّقْدِيمِ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَسْعَدَ بِالنَّصِّ وَهُمُ الَّذِينَ فَازُوا بِالْأَجْرَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَنِّفِ الْآخَرِينَ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَجْرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ كَالْحَاكِمِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ الْحَقَّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِلْحَاقَ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي بِالتَّأْخِيرِ بِهَؤُلَاءِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: هَذَا تَائِبٌ نَادِمٌ فَكَيْفَ تُسَدُّ عَلَيْهِ طَرِيقُ التَّوْبَةِ وَيُجْعَلُ إِثْمُ التَّضْيِيعِ لَازِمًا لَهُ وَطَائِرًا فِي عُنُقِهِ؟، فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَسُدَّ عَلَيْهِ بَابًا فَتَحَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ كُلِّهِمْ وَلَمْ يُغْلِقْهُ عَنْ أَحَدٍ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ أَوْ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي طَرِيقِ تَوْبَتِهِ وَتَحْقِيقِهَا هَلْ يَتَعَيَّنُ لَهَا الْقَضَاءُ أَمْ يَسْتَأْنِفُ الْعَمَلَ وَيَصِيرُ مَا مَضَى لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي اسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ؟ فَإِنَّ تَرْكَ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ بِجُمْلَتِهِ وَفَرَائِضِهِ، فَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ تَارِكِ الْإِسْلَامِ مَقْبُولَةً صَحِيحَةً لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا إِعَادَةُ مَا فَاتَهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ- أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا- كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي تَرْكِ أَمْرِ الْمُرْتَدِّينَ- لَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ- بِالْقَضَاءِ، فَقَبُولُ تَوْبَةِ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَعَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|