الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ. وَلَكَانَ الْحَاصِلُ بَعْضَهَا، لَا كُلَّهَا. فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا: مِنَ الْمُوَالَاةِ فِيهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ. وَبَذْلِ النَّفْسِ لَهُ فِي مُحَارَبَةِ عَدُوِّهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَإِيثَارُ مَحَابِّ الرَّبِّ عَلَى مَحَابِّ النَّفْسِ. وَمِنْهَا: عُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. وَيُحِبُّ تَوْبَتَهُمْ. فَلَوْ عُطِّلَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي يُتَابُ مِنْهَا لَتَعَطَّلَتْ عُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا. وَمِنْهَا: عُبُودِيَّةُ مُخَالَفَةِ عَدُوِّهِ، وَمُرَاغَمَتِهِ فِي اللَّهِ، وَإِغَاظَتِهِ فِيهِ. وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ وَلِيِّهِ أَنْ يَغِيظَ عَدُوَّهُ وَيُرَاغِمَهُ وَيَسُوءَهُ. وَهَذِهِ عُبُودِيَّةٌ لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا إِلَّا الْأَكْيَاسُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَعَبَّدَ لَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَسُؤَالِهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ، وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَبِيدَهُ يَشْتَدُّ خَوْفُهُمْ وَحَذَرُهُمْ إِذَا رَأَوْا مَا حَلَّ بِعَدُوِّهِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَسُقُوطِهِ مِنَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ. فَلَا يَخْلُدُونَ إِلَى غُرُورِ الْأَمَلِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يَنَالُونَ ثَوَابَ مُخَالَفَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ، الَّذِي حُصُولُهُ مَشْرُوطٌ بِالْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ. فَأَكْثَرُ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ نَفْسَ اتِّخَاذِهِ عَدُوًّا مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَجَلِّهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. فَاتِّخَاذُهُ عَدُوًّا أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ. وَهُوَ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ. وَذَلِكَ كَامِنٌ فِيهَا كُمُونَ النَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَخُلِقَ الشَّيْطَانُ مُسْتَخْرِجًا لِمَا فِي طَبَائِعِ أَهْلِ الشَّرِّ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ تَسْتَخْرِجُ مَا فِي طَبِيعَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. فَاسْتَخْرَجَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ مَا فِي قُوَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَامِنِ فِيهَا، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَمَا فِي قُوَى أُولَئِكَ مِنَ الشَّرِّ، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَظْهَرَ حِكْمَتُهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ. وَيَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيهِمَا. وَيَظْهَرَ مَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ مُطَابِقًا لِعِلْمِهِ السَّابِقِ. وَهَذَا هُوَ السُّؤَالُ الَّذِي سَأَلَتْهُ مَلَائِكَتُهُ حِينَ قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ وُجُودَ مَنْ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَيُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ أَوْلَى مِنْ وُجُودِ مَنْ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ. فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي خَلْقِ هَذَا النَّوْعِ مَا لَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّ ظُهُورَ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ: حَصَلَ بِسَبَبِ وُقُوعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ مِنَ النُّفُوسِ الْكَافِرَةِ الظَّالِمَةِ، كَآيَةِ الطُّوفَانِ، وَآيَةِ الرِّيحِ، وَآيَةِ إِهْلَاكِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَآيَةِ انْقِلَابِ النَّارِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَالْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يَقُولُ سُبْحَانَهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. فَلَوْلَا كُفْرُ الْكَافِرِينَ. وَعِنَادُ الْجَاحِدِينَ، لَمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْبَاهِرَةُ، الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ إِلَى الْأَبَدِ. وَمِنْهَا: أَنَّ خَلْقَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْهَرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَكْسِرُ بَعْضُهَا بَعْضًا: هُوَ مِنْ شَأْنِ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ، وَالْحِكْمَةِ التَّامَّةِ، وَالْمُلْكِ الْكَامِلِ- وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ تُخْلَقْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ- لَكِنَّ خَلْقَهَا مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِهِ وَمُلْكِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَظُهُورُ تَأْثِيرِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ: تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ الْكَمَالِ، وَمُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِهِ. فَتَعْمِيرُ مَرَاتِبِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ مِنْ آثَارِ الْكَمَالِ الْإِلَهِيِّ الْمُطْلَقِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ وَأَقْسَامِهِ وَغَايَاتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْعُبُودِيَّةُ وَالْآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِ مَا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَتَقْدِيرُهُ وَمَشِيئَتُهُ: أَحَبُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ فَوَاتِهَا وَتَعْطِيلِهَا بِتَعْطِيلِ أَسْبَابِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تِلْكَ الْحِكَمِ بِدُونِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؟ قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ بَاطِلٌ. إِذْ هُوَ فَرْضُ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ. كَفَرْضِ وُجُودِ الِابْنِ بِدُونِ الْأَبِ، وَالْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُتَحَرِّكِ، وَالتَّوْبَةِ بِدُونِ التَّائِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً، لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ مَرَضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؟ قُلْتُ: هَذَا السُّؤَالُ يُورَدُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَلْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهَا مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا لِذَاتِهَا؟ الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ. وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُسَوَّغُ لَهُ الرِّضَا بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ لَهُ شَأْنٌ. فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ- أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ- وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وُجُودُهَا خَيْرٌ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا. فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لَا تَسْكُنُ. فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ. وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةُ خَيْرٍ. وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ. وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ. وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا. فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ: نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الْمَوْضُوعَاتُ فِي مَحَالِّهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهَا. وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ، لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ، مُسْتَعِدَّةً لَهُ. فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ شَرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَفِي خَلْقِهِ مَصَالِحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ، أَرْجَحَ مِنِ اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ. بَلِ الْوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ. فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ- جَلَّ جَلَالُهُ- أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ. لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا. هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ. بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ. وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا. فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا. فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ. فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ. وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ: مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ. فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لِذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ. فَهَذِهِ هِيَ الْخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا. فَإِيجَادُ السَّبَبِ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَى اللَّهِ. وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. وَإِمْدَادُهُ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ قُلْتُ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ. فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- يُوجِدُ وَيُمِدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ: أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يُمِدَّهُ بِحِكْمَتِهِ. فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ. وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ قُلْتُ: فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ. وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهَا. وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ. فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تَفَاوُتٍ. وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدْمِيَّةٍ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ. وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ. فَإِنِ اعْتَاصَ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ. فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ *** وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ كَمَا ذُكِرَ: أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ اجْتَمَعَ بِالْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ. وَحَرَصَ عَلَى فَهْمِ الْعَرُوضِ مِنْهُ: فَأَعْيَاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيلُ يَوْمًا: قَطِّعْ لِي هَذَا الْبَيْتَ. وَأَنْشَدَهُ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا- الْبَيْتَ فَفَهِمَ مَا أَرَادَ. فَأَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ الرِّضَا بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَحْكَامِهِ. وَلَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ كُلِّهَا. بَلْ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يُوَافِقَهُ عَبْدُهُ فِي رِضَاهُ وَسَخَطِهِ. فَيَرْضَى مِنْهَا بِمَا يَرْضَى بِهِ. وَيَسْخَطُ مِنْهَا مَا سَخِطَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ سُبْحَانُهُ يَرْضَى عُقُوبَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعَبْدَ أَنْ يَرْضَى بِعُقُوبَتِهِ لَهُ؟ قِيلَ: لَوْ وَافَقَهُ فِي رِضَاهُ بِعُقُوبَتِهِ لَانْقَلَبَتْ لَذَّةً وَسُرُورًا. وَلَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، الَّتِي هِيَ سُرُورُ النَّفْسِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ. فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي مَحَبَّتِهِ لِلْعُقُوبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَأَشَقُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ؟ بَلْ كَانَ كَارِهًا لِمَا يُحِبُّهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ. وَلَوْ قَبِلَ ذَلِكَ لَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ- مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْأَلَمِ- مَعَ كَرَاهَتِهِ؟ قُلْتُ: لَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَرْضَى بِهِ مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهِ إِلَى مَا يُحِبُّ. وَيَكْرَهُهُ مِنْ جِهَةِ تَأَلُّمِهِ بِهِ، كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ. فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِضَاهُ بِهِ، وَكَرَاهَتُهُ لَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا، وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُفَوِّتًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. وَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ سَتَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} أَيْ فَسَادًا وَشَرًّا {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} أَيْ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْفَسَادِ وَالشَّرِّ. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}. أَيْ قَابِلُونِ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلَاءِ بِالْفَسَادِ وَقَبُولِ أُولَئِكَ مِنْهُمْ مَنِ الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ. فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ: أَنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَقْعَدَهُمْ عَنْهُ. فَاجْعَلْ هَذَا الْمِثَالَ أَصْلًا لِهَذَا الْبَابِ. وَقِسْ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ يُتَصَوَّرُ لِي هَذَا فِي رِضَا الرَّبِّ تَعَالَى لِبَعْضِ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَكَيْفَ لِي بِأَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرَانِ فِي حَقِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ؟ قُلْتُ: هُوَ مُتَصَوَّرٌ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْخَطُ ذَلِكَ وَيُبْغِضُهُ، وَيَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فُعِلَ لَهُ بِسَبَبِهِ وَوَاقِعٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ. وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِذْنِهِ الْكَوْنِيِّ فِيهِ. فَيَرْضَى بِمَا مَنَّ اللَّهُ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَأَوْا كَرَاهَةَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَعَدَمَ الرِّضَا بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُخَالِفُونَ أُولَئِكَ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَرِهَهَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الِاعْتِبَارِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا عِلْمَ الرَّبِّ وَكِتَابَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ، وَإِلْزَامَهُ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَرْضَوْا بِهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي سَخِطَهَا الرَّبُّ وَأَبْغَضَهَا لِأَجْلِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَالَّذِي إِلَى الْعَبْدِ مِنْهَا هُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَسْخُوطُ. فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا؟ قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ. وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ: هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ، مَعَ شُهُودِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَمَعَ شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شُهُودِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَرَأَى تِلْكَ الْأَفْعَالَ طَاعَاتٍ، لِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا الْمَشِيئَةَ وَالْقَدَرَ. وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ. فَقَدْ أَطَعْتُ إِرَادَتَهُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ *** مِنِّي , فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ وَهَؤُلَاءِ أَعْمَى الْخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ. لَا مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ طَاعَةً لِلَّهِ لَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ. وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ لَهُ. فَيَكُونُ قَدْ عَذَّبَهُمْ أَشَدَّ الْعَذَابِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِأَجْلِهَا. وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: وَمَعَ ذَلِكَ، فَاجْمَعْ لِي بَيْنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ. وَبَيْنَ مَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟ قُلْتُ: الْعَبْدُ إِذَا شَهِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ، وَنُفُوذَ الْأَقْدَارِ فِيهِ، وَكَمَالَ فَقْرِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ عِصْمَتِهِ وَحِفْظِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ- كَانَ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَا بِنَفْسِهِ فَوُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُ لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ عَلَيْهِ حِصْنًا حَصِينًا مِنْ: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي. فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. فَإِذَا حُجِبَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، وَسَقَطَ إِلَى وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقِيَ بِنَفْسِهِ: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُكْمُ النَّفْسِ وَالطَّبْعُ وَالْهَوَى. وَهَذَا الْوُجُودُ الطَّبِيعِيُّ قَدْ نُصِبَتْ فِيهِ الشِّبَاكُ وَالْأَشْرَاكُ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِ الصَّيَّادُونَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي شَبَكَةٍ مِنْ تِلْكَ الشِّبَاكِ، وَشَرَكٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ. وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ حِجَابٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْحِجَابُ. وَيَقْوَى الْمُقْتَضَى، وَيَضْعُفُ الْمَانِعُ. وَتَشْتَدُّ الظُّلْمَةُ، وَتَضْعُفُ الْقُوَى، فَأَنَّى لَهُ بِالْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ وَالشِّبَّاكِ؟ فَإِذَا انْقَشَعَ ضَبَابُ ذَلِكَ الْوُجُودِ الطَّبِيعِيِّ، وَانْجَابَ ظَلَامُهُ، وَزَالَ قَتَامُهُ، وَصِرْتَ بِرَبِّكَ ذَاهِبًا عَنْ نَفْسِكَ وَطَبْعِكَ. بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتِتَامُهُ *** وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامَهُ فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ، وَطَنَبَّتْ *** عَلَى مِنْكَبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ *** وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ *** شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَا *** وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْمُعَنَّى قَتَامُهُ فَهُنَالِكَ يَحْضُرُهُ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ. فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ بِنَفْسِهِ، مَحْجُوبًا فِيهَا عَنْ رَبِّهِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ. فَلَمَّا فَارَقَ ذَلِكَ الْوُجُودَ، وَصَارَ فِي وُجُودٍ آخَرَ: بَقِيَ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ يَكُونَانِ فِي هَذَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِرَبِّهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَشْهَدَ الْحِكْمَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ تَحْقِيقُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ هِيَ: بِاسْتِوَاءِ الْحَالَاتِ عِنْدَ الْعَبْدِ. وَسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَاحِ. يَعْنِي: أَنَّ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الرِّضَا الْمُوَافِقَ تَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ- مِنَ النِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّةِ- فِي رِضَاهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهَا عِنْدَهُ فِي مُلَاءَمَتِهِ وَمُنَافَرَتِهِ. فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ، بَلْ خِلَافُ الطَّبْعِ الْحَيَوَانِيِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَيْضًا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ عِنْدَهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِنَّمَا تَسْتَوِي النِّعْمَةُ وَالْبَلِيَّةُ عِنْدَهُ فِي الرِّضَا بِهِمَا لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُفَوَّضٌ. وَالْمُفَوَّضُ رَاضٍ بِكُلِّ مَا اخْتَارَهُ لَهُ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ كَمَالَ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ وَحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَلِيَّةِ وَالنِّعْمَةِ بِقَضَاءٍ سَابِقٍ، وَقَدَرٍ حَتْمٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. وَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَا يَسْخَطُ جَرَيَانَ أَحْكَامِ سَيِّدِهِ الْمُشْفِقِ الْبَارِّ النَّاصِحِ الْمُحْسِنِ. بَلْ يَتَلَقَّاهَا كُلَّهَا بِالرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحِبٌّ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ: مَنْ رَضِيَ بِمَا يُعَامِلُهُ بِهِ حَبِيبُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاهِلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ. وَسَيِّدُهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ وَبِمَا يَنْفَعُهُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ عَرَفَ أَسْبَابَهَا. فَهُوَ جَاهِلٌ ظَالِمٌ. وَرَبُّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مَصْلَحَتَهُ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِ أَسْبَابَهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: مَا يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ فِيمَا يَكْرَهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَصْلَحَتِهِ فِيمَا يُحِبُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. السَّابِعُ: أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ. وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْخَطْ ذَلِكَ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ عَارِفٌ بِرَبِّهِ. حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ. لَا يَتَّهِمُهُ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ مِنْ أَقَضَيْتِهِ وَأَقْدَارِهِ. فَحُسْنُ ظَنِّهِ بِهِ يُوجِبُ لَهُ اسْتِوَاءَ الْحَالَاتِ عِنْدَهُ، وَرِضَاهُ بِمَا يَخْتَارُهُ لَهُ سَيِّدُهُ سُبْحَانَهُ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حَظَّهُ مِنَ الْمَقْدُورِ مَا يَتَلَقَّاهُ بِهِ مِنْ رِضًا وَسَخَطٍ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. فَإِنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَإِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. الْعَاشِرُ: عِلْمُهُ بِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ انْقَلَبَ فِي حَقِّهِ نِعْمَةً وَمِنْحَةً، وَخَفَّ عَلَيْهِ حَمْلُهُ، وَأُعِينَ عَلَيْهِ. وَإِذَا سَخِطَهُ تَضَاعَفَ عَلَيْهِ ثِقَلُهُ وَكَلَّهُ، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شِدَّةً. فَلَوْ أَنَّ السُّخْطَ يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا لَكَانَ لَهُ فِيهِ رَاحَةٌ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الرِّضَا بِهِ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ: إِيمَانُهُ بِأَنَّ قَضَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَمَامَ عُبُودِيَّتِهِ فِي جَرَيَانِ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَّا مَا يُحِبُّ لَكَانَ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. فَلَا تَتِمُّ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ- مِنَ الصَّبْرِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالرِّضَا، وَالتَّضَرُّعِ، وَالِافْتِقَارِ، وَالذُّلِّ، وَالْخُضُوعِ، وَغَيْرِهَا- إِلَّا بِجَرَيَانِ الْقَدَرِ لَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ. وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُلَازِمِ لِلطَّبِيعَةِ. إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْقَضَاءِ الْمُؤْلِمِ الْمُنَافِرِ لِلطَّبْعِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ يُثْمِرُ رِضَا رَبِّهِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ: رَضِيَ رَبُّهُ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ. وَإِذَا رَضِيَ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَاسْتَوَتْ عِنْدَهُ، وَجَدَهُ أَسْرَعَ شَيْءٍ إِلَى رِضَاهُ إِذَا تَرَضَّاهُ وَتَمَلَّقَهُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَعْظَمَ رَاحَتِهِ، وَسُرُورَهُ وَنَعِيمَهُ: فِي الرِّضَا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. فَإِنَّ الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا. فَجَدِيرٌ بِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ تَشْتَدَّ رَغْبَتُهُ فِيهِ. وَأَنْ لَا يَسْتَبْدِلَ بِغَيْرِهِ مِنْهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ السُّخْطَ بَابُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ، وَشَتَاتِ الْقَلْبِ، وَكَسْفِ الْبَالِ، وَسُوءِ الْحَالِ، وَالظَّنِّ بِاللَّهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ. وَالرِّضَا يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ جَنَّةِ الدُّنْيَا قَبْلَ جَنَّةِ الْآخِرَةِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وَبَرْدَ الْقَلْبِ، وَسُكُونَهُ وَقَرَارَهُ. وَالسُّخْطَ يُوجِبُ اضْطِرَابَ قَلْبِهِ، وَرَيْبَتَهُ وَانْزِعَاجَهُ، وَعَدَمَ قَرَارِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يُنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ الَّتِي لَا أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا. وَمَتَى نَزَلَتْ عَلَيْهِ السِّكِّينَةُ: اسْتَقَامَ. وَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُ، وَصَلَحَ بَالُهُ. وَالسُّخْطُ يُبْعِدُهُ مِنْهَا بِحَسَبِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَإِذَا تَرَحَّلَتْ عَنْهُ السَّكِينَةُ تَرَحَّلَ عَنْهُ السُّرُورُ وَالْأَمْنُ وَالدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ. فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: الرِّضَا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ السَّلَامَةِ. فَيَجْعَلُ قَلْبَهُ سَلِيمًا نَقِيًّا مِنَ الْغِشِّ وَالدَّغَلِ وَالْغِلِّ. وَلَا يَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. كَذَلِكَ وَتَسْتَحِيلُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مَعَ السُّخْطِ وَعَدَمِ الرِّضَا. وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ رِضًا كَانَ قَلْبُهُ أَسْلَمَ. فَالْخُبْثُ وَالدَّغَلُ وَالْغِشُّ: قَرِينُ السُّخْطِ. وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ وَبِرُّهُ وَنُصْحُهُ: قَرِينُ الرِّضَا. وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ: هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِ السُّخْطِ. وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الرِّضَا. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ السُّخْطَ يُوجِبُ تَلَوُّنَ الْعَبْدِ، وَعَدَمَ ثَبَاتِهِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى إِلَّا بِمَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ وَنَفْسَهُ. وَالْمَقَادِيرُ تَجْرِي دَائِمًا بِمَا يُلَائِمُهُ وَبِمَا لَا يُلَائِمُهُ. وَكُلَّمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْهَا مَا لَا يُلَائِمُهُ أَسَخَطَهُ. فَلَا تَثْبُتُ لَهُ قَدَمٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يُزِيلُ التَّلَوُّنَ عَنِ الْعَبْدِ شَيْءٌ مِثْلُ الرِّضَا. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ السُّخْطَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الشَّكِّ فِي اللَّهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ. فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ السَّاخِطُ مِنْ شَكٍّ يُدَاخِلُ قَلْبَهُ وَيَتَغَلْغَلُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِهِ. فَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ غَايَةَ التَّفْتِيشِ لَوَجَدَ يَقِينَهُ مَعْلُولًا مَدْخُولًا. فَإِنَّ الرِّضَا وَالْيَقِينَ أَخَوَانِ مُصْطَحَبَانِ. وَالشَّكَّ وَالسُّخْطَ قَرِينَانِ. وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيَّ- أَوْ غَيْرِهِ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا.. الْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ، وَسُخْطَهُ مِنْ شَقَاوَتِهِ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ. وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ: سُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ. وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ. وَالتَّسَخُّطُ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ. الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَأْسَى عَلَى مَا فَاتَهُ، وَلَا يَفْرَحَ بِمَا آتَاهُ. وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ. أَمَّا عَدَمُ أَسَاهُ عَلَى الْفَائِتِ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَدَمُ فَرَحِهِ بِمَا آتَاهُ: فَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِيهِ مَكْتُوبَةٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِهِ. فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ فِيهِ مُصِيبَةً مُنْتَظَرَةً وَلَا بُدَّ؟ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ مَنْ مَلَأَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ: مَلَأَ اللَّهُ صَدْرَهُ غِنًى وَأَمْنًا وَقَنَاعَةً. وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الرِّضَا: امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَاشْتَغَلَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ. فَالرِّضَا يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلَّهِ، وَالسُّخْطُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ مِنَ اللَّهِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُثْمِرُ الشُّكْرَ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ. وَالسُّخْطُ يُثْمِرُ ضِدَّهُ. وَهُوَ كُفْرُ النِّعَمِ. وَرُبَّمَا أَثْمَرَ لَهُ كُفْرَ الْمُنْعِمِ. فَإِذَا رَضِيَ الْعَبْدُ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ شُكْرَهُ. فَيَكُونُ مِنَ الرَّاضِينَ الشَّاكِرِينَ. وَإِذَا فَاتَهُ الرِّضَا: كَانَ مِنَ السَّاخِطِينَ. وَسَلَكَ سَبِيلَ الْكَافِرِينَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يَنْفِي عَنْهُ آفَاتِ الْحِرْصِ وَالْكَلَبِ عَلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ. وَأَسَاسُ كُلِّ رَزِيَّةٍ. فَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: يَنْفِي عَنْهُ مَادَّةَ هَذِهِ الْآفَاتِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَظْفَرُ بِالْإِنْسَانِ غَالِبًا عِنْدَ السُّخْطِ وَالشَّهْوَةِ. فَهُنَاكَ يَصْطَادُهُ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا اسْتَحْكَمَ سُخْطُهُ. فَإِنَّهُ يَقُولُ مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ. وَيَفْعَلُ مَا لَا يُرْضِيهِ. وَيَنْوِي مَا لَا يُرْضِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ يَحْزَنُ الْقَلْبُ. وَتَدْمَعُ الْعَيْنُ. وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ. فَإِنَّ مَوْتَ الْبَنِينَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُوجِبُ لِلْعَبْدِ السُّخْطَ عَلَى الْقَدَرِ. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ- الَّذِي يَسْخَطُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ. وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُرْضِيهِ- إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلِهَذَالَمَّا مَاتَ ابْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رُؤِيَ فِي الْجِنَازَةِ ضَاحِكًا. فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ وَقَدْ مَاتَ ابْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَضَى بِقَضَاءٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ. فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى الْفُضَيْلِ. وَقَالُوا: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ. وَهُوَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الرِّضَا. فَكَيْفَ يُعَدُّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ الْفُضَيْلِ؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنْ قَلْبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّسَعَ لِتَكْمِيلِ جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ، مِنَ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ، وَالْبُكَاءِ رَحْمَةً لِلصَّبِيِّ. فَكَانَ لَهُ مَقَامُ الرِّضَا، وَمَقَامُ الرَّحْمَةِ وَرِقَّةُ الْقَلْبِ. وَ الْفُضَيْلُ لَمْ يَتَّسِعْ قَلْبُهُ لِمَقَامِ الرِّضَا وَمَقَامِ الرَّحْمَةِ. فَلَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ الْأَمْرَانِ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ. أَحَدُهَا: مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَرَحْمَةُ الطِّفْلِ. فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ رَحْمَةً وَالْقَلْبُ رَاضٍ. الثَّانِي: مَنْ غَيَّبَهُ الرِّضَا عَنِ الرَّحْمَةِ. فَلَمْ يَتَّسِعْ لِلْأَمْرَيْنِ. بَلْ غَيَّبَهُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. الثَّالِثُ: مَنْ غَيَّبَتْهُ الرَّحْمَةُ وَالرِّقَّةُ عَنِ الرِّضَا فَلَمْ يَشْهَدْهُ، بَلْ فَنِيَ عَنِ الرِّضَا. الرَّابِعُ: مَنْ لَا رِضَا عِنْدَهُ وَلَا رَحْمَةَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ حُزْنُهُ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنَ الْمَيِّتِ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ. فَلَا إِحْسَانَ. وَلَا رِضَا عَنِ الرَّحْمَنِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَالْأَوَّلُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الرِّضَا. وَالثَّانِي دُونَهُ. وَالثَّالِثُ دُونَ الثَّانِي. وَالرَّابِعُ هُوَ السَّاخِطُ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا هُوَ اخْتِيَارُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ. وَالسُّخْطَ كَرَاهَةُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ، وَهَذَا نَوْعُ مُحَادَّةٍ. فَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَّا بِالرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخْرِجُ الْهَوَى مِنَ الْقَلْبِ. فَالرَّاضِي هَوَاهُ تَبَعٌ لِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. أَعْنِي الْمُرَادَ الَّذِي يُحِبُّهُ رَبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَلَا يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْقَلْبِ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَشُعْبَةٌ مِنْ هَذَا، فَهُوَ لِلْغَالِبِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ يُثْمِرُ لِلْعَبْدِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ- كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الرِّضَا بِهِ- فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا يُدْنِي مِنْ رِضَاهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ رِضَايَ فِي رِضَاكَ بِقَضَائِي. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَشَقُّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ. بَلْ هُوَ ذَبْحُهَا فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّهُ مُخَالَفَةُ هَوَاهَا وَطَبْعِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَلَا تَصِيرُ مُطَمَئِنَّةً قَطُّ حَتَّى تَرْضَى بِالْقَضَاءِ. فَحِينَئِذٍ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. الثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرَّاضِيَ مُتَلَقٍّ أَوَامِرَ رَبِّهِ- الدِّينِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ- بِالِانْشِرَاحِ وَالتَّسْلِيمِ، وَطِيبِ النَّفْسِ، وَالِاسْتِسْلَامِ. وَالسَّاخِطُ يَتَلَقَّاهَا بِضِدِّ ذَلِكَ إِلَّا مَا وَافَقَ طَبْعَهُ. وَإِرَادَتَهُ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّضَا بِذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ لِكَوْنِ اللَّهِ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَأَمَرَ بِهِ. وَإِنَّمَا رَضِيَ بِهِ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ وَطَبْعَهُ. فَهُوَ إِنَّمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ. لَا بِرَبِّهِ، وَلَا عَنْ رَبِّهِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الْمُخَالَفَاتِ كُلَّهَا أَصْلُهَا مِنْ عَدَمِ الرِّضَا. وَالطَّاعَاتِ كُلَّهَا أَصْلُهَا مِنَ الرِّضَا. وَهَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ عَدَمَ الرِّضَا يَفْتَحُ بَابَ الْبِدْعَةِ، وَالرِّضَا يُغْلِقُ عَنْهُ ذَلِكَ الْبَابَ. وَلَوْ تَأَمَّلْتَ بِدَعَ الرَّوَافِضِ، وَالنَّوَاصِبِ، وَالْخَوَارِجِ. لَرَأَيْتَهَا نَاشِئَةً مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ، أَوْ كِلَيْهِمَا. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا مَعْقِدُ نِظَامِ الدِّينِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَإِنَّ الْقَضَايَا لَا تَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ: فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: دِينِيَّةٍ، وَكَوْنِيَّةٍ. وَهِيَ مَأْمُورَاتٌ، وَمَنْهِيَّاتٌ، وَمُبَاحَاتٌ، وَنِعَمٌ مُلَذَّةٌ، وَبَلَايَا مُؤْلِمَةٌ. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْعَبْدُ الرِّضَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْحَظِّ الْوَافِرِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفَازَ بِالْقِدْحِ الْمُعَلَّى. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ مُخَاصَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي أَحْكَامِهِ وَأَقْضِيَتِهِ. فَإِنَّ السُّخْطَ عَلَيْهِ مُخَاصَمَةٌ لَهُ فِيمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ. وَأَصْلُ مُخَاصَمَةِ إِبْلِيسَ لِرَبِّهِ: مِنْ عَدَمِ رِضَاهُ بِأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَلَوْ رَضِيَ لَمْ يُمْسَخْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ، وَحِكْمَتُهُ، وَمُلْكُهُ. فَهُوَ مُوجِبُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا رَضِيَ بِهِ رَبُّهُ، لَمْ يَرْضَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ كُلَّ قَدَرٍ يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ. لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ هُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى الذَّنْبِ. فَهُوَ دَوَاءٌ لِمَرَضٍ. لَوْلَا تَدَارُكُ الْحَكِيمِ إِيَّاهُ بِالدَّوَاءِ لَتَرَامَى بِهِ الْمَرَضُ إِلَى الْهَلَاكِ. أَوْ يَكُونَ سَبَبًا لِنِعْمَةٍ لَا تُنَالُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَكْرُوهِ. فَالْمَكْرُوهُ يَنْقَطِعُ وَيَتَلَاشَى. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الرِّضَا عَنْ رَبِّهِ فِي كُلِّ مَا يَقْتَضِيهِ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ حُكْمَ الرَّبِّ تَعَالَى مَاضٍ فِي عَبْدِهِ، وَقَضَاؤُهُ عَدْلٌ فِيهِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِالْعَدْلِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. وَقَوْلُهُ: عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، يَعُمُّ قَضَاءَ الذَّنْبِ، وَقَضَاءَ أَثَرِهِ وَعُقُوبَتَهُ. فَإِنَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَضَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ فِي قَضَائِهِ بِالذَّنْبِ، وَفِي قَضَائِهِ بِعُقُوبَتِهِ. أَمَّا عَدْلُهُ فِي الْعُقُوبَةِ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَدْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالذَّنْبِ: فَلِأَنَّ الذَّنْبَ عُقُوبَةٌ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ رَبِّهِ. وَإِعْرَاضِ قَلْبِهِ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، وَنَقَصَ إِخْلَاصُهُ: اسْتَحَقَّ أَنْ يُضْرَبَ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ. لِأَنَّ قُلُوبَ الْغَافِلِينَ مَعْدِنُ الذُّنُوبِ. وَالْعُقُوبَاتُ وَارِدَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ وَالذِّكْرِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَذِكْرِهِ، يَسْتَحِيلُ صُدُورُ الذَّنْبِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. فَإِنْ قُلْتَ: قَضَاؤُهُ عَلَى عَبْدِهِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَنِسْيَانِهِ إِيَّاهُ، وَعَدَمِ إِخْلَاصِهِ: عُقُوبَةٌ عَلَى مَاذَا؟ قُلْتُ: هَذَا طَبْعُ النَّفْسِ وَشَأْنُهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا لَمْ يُرِدِ الْخَيْرَ بِعَبْدِهِ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَثَرَهَا مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ تَقْتَضِي آثَارَهَا مِنَ الْآلَامِ، وَفَوَاتِ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ. كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَآثَارِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا خَلَقَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، وَمَضْمُونُهُ: هَلَّا خَلَقَهُ مَلَكًا لَا إِنْسَانًا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَعْطَاهُ التَّوْفِيقَ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ، وَظُلْمَةِ طَبْعِهِ؟ قُلْتُ: مَضْمُونُ هَذَا السُّؤَالِ: هَلَّا سَوَّى بَيْنِ جَمِيعِ خَلْقِهِ؟ وَلِمَ خَلَقَ الْمُتَضَادَّاتِ وَالْمُخْتَلِفَاتِ؟ وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْأَسْئِلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ لِخَلْقِ ذَلِكَ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ عَدَمَ الرِّضَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَوَاتِ مَا أَخْطَأَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ. وَإِمَّا لِإِصَابَةِ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ. فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ: فَلَا فَائِدَةَ فِي سَخَطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فَوَاتَ مَا يَنْفَعُهُ وَحُصُولَ مَا يَضُرُّهُ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، نَظِيرُ الْجِهَادِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِيمَانِ: الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ. الْأَرْبَعُونَ: أَنَّ أَوَّلَ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ: إِنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا. فَإِبْلِيسُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ كَوْنًا، مِنْ تَفْضِيلِ آدَمَ وَتَكْرِيمِهِ، وَلَا بِحُكْمِهِ الدِّينِيِّ، مِنْ أَمْرِهِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَآدَمُ لَمْ يَرْضَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ الْأَكْلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحُمَّى. ثُمَّ تَرَتَّبَتْ مَعَاصِي الذُّرِّيَّةِ عَلَى عَدَمِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ الرِّضَا. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرَّاضِيَ وَاقِفٌ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ. مُعْرِضٌ عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا مِنْ قُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، وَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ. فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ قَبْلَ الْيَوْمِ. وَأَمَّا الْيَوْمَ: فَوَدِدْتُ أَنِّي مَيِّتٌ. فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: وَلِمَ؟ فَقَالَ: لِمَا أَتَخَوَّفُ مِنَ الْفِتْنَةِ. فَقَالَ يُوسُفُ: لَكِنِّي لَا أَكْرَهُ طُولَ الْبَقَاءِ. فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: وَلِمَ تَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُصَادِفُ يَوْمًا أَتُوبُ فِيهِ وَأَعْمَلُ صَالِحًا. فَقِيلَ لِوُهَيْبٍ: أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَخْتَارُ شَيْئًا، أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ. فَقَبَّلَ الثَّوْرِيُّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ: رُوحَانِيَّةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَهَذَا حَالُ عَبْدٍ قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَقَفَ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ وُهَيْبٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَهُ الْمَقَامُ الْعَالِي مِنَ الرِّضَا وَغَيْرِهِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَنْعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنَ الْمُحِبِّ عَطَاءٌ، وَابْتِلَاءَهُ إِيَّاهُ عَافِيَةٌ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْعُهُ عَطَاءٌ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ بُخْلٍ وَلَا عَدَمٍ. وَإِنَّمَا نَظَرَ فِي خَيْرِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَمَنَعَهُ اخْتِيَارًا وَحُسَنَ نَظَرٍ. وَهَذَا كَمَا قَالَ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، سَاءَهُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ أَوْ سَرَّهُ. فَقَضَاؤُهُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنَ الْمَنْعَ عَطَاءٌ. وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْمَنْعِ. وَنِعْمَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ فِي صُورَةِ مِحْنَةٍ. وَبَلَاؤُهُ عَافِيَةٌ. وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ بَلِيَّةٍ. وَلَكِنْ لِجَهْلِ الْعَبْدِ وَظُلْمِهِ لَا يَعُدُّ الْعَطَاءَ وَالنِّعْمَةَ وَالْعَافِيَةَ إِلَّا مَا الْتَذَّ بِهِ فِي الْعَاجِلِ. وَكَانَ مُلَائِمًا لِطَبْعِهِ. وَلَوْ رُزِقَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَظًّا وَافِرًا لَعَدَّ الْمَنْعَ نِعْمَةً، وَالْبَلَاءَ رَحْمَةً. وَتَلَذَّذَ بِالْبَلَاءِ أَكْثَرَ مِنْ لَذَّتِهِ بِالْعَافِيَةِ. وَتَلَذَّذَ بِالْفَقْرِ أَكْثَرَ مِنْ لَذَّتِهِ بِالْغِنَى. وَكَانَ فِي حَالِ الْقِلَّةِ أَعْظَمَ شُكْرًا مِنْ حَالِ الْكَثْرَةِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ السَّلَفِ. فَالْعَاقِلُ الرَّاضِي: مَنْ يَعُدُّ الْبَلَاءَ عَافِيَةً، وَالْمَنْعَ نِعْمَةً، وَالْفَقْرَ غِنًى. وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا، فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا. فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ. فَالرَّاضِي: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُحِبُّهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: يَا ابْنَ آدَمَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيمَا تَكْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ فِيمَا تُحِبُّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ارْضَ عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ بِكَ. فَإِنَّهُ مَا مَنَعَكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ. وَلَا ابْتَلَاكَ إِلَّا لِيُعَافِيَكَ. وَلَا أَمْرَضَكَ إِلَّا لِيَشْفِيَكَ. وَلَا أَمَاتَكَ إِلَّا لِيُحْيِيَكَ. فَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَ الرِّضَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَتَسْقُطَ مِنْ عَيْنِهِ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُظْهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ اخْتِيَارٌ. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي اخْتَارَ وُجُودَهُ. وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ لَهُ وَقَضَاهُ: مِنْ عَافِيَةٍ وَبَلَاءٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَنَبَاهَةٍ وَخُمُولٍ، فَكَمَا تَفَرَّدَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ، تَفَرَّدَ بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّدْبِيرِ- وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ- فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فَإِذَا تَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَوَّلٌ- بَعْدَ ذَلِكَ- غَيْرَ الرِّضَا بِمَوَاقِعِ الْأَقْدَارِ. وَمَا يَجْرِي بِهِ مِنْ رَبِّهِ الِاخْتِيَارُ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا. لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةُ اللَّهِ وَالْجَنَّةَ خَلْقُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وَهَذَا الرِّضَا جَزَاءٌ عَلَى رِضَاهُمْ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، كَانَ سَبَبُهُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَضِيَ بِهِ وَعَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: لَمْ يَتَخَيَّرْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ. وَأَغْنَاهُ رِضَاهُ بِمَا يَقْسِمُهُ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَجَعَلَ ذِكْرَهُ فِي مَحَلِّ سُؤَالِهِ. بَلْ يَكُونُ مِنْ سُؤَالِهِ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى ذِكْرِهِ، وَبُلُوغُ رِضَاهُ. فَهَذَا يُعْطَى أَفْضَلَ مَا يُعْطَاهُ سَائِلٌ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ. فَإِنَّ السَّائِلِينَ سَأَلُوهُ. فَأَعْطَاهُمُ الْفَضْلَ الَّذِي سَأَلُوهُ. وَالرَّاضُونَ رَضُوا عَنْهُ فَأَعْطَاهُمْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ الرِّضَا سُؤَالُهُ أَسْبَابَ الرِّضَا، بَلْ أَصْحَابُهُ مُلِحُّونَ فِي سُؤَالِهِ ذَلِكَ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْدُبُ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. فَإِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ عَنْهُ: حَطَّ إِلَى الْمَقَامِ الْوَسَطِ، كَمَا قَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَهَذَا مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْجَامِعُ لِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَحَطَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعِلْمُ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ لَهُ، وَمُشَاهَدَتِهِ لِعَبْدِهِ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلَاءِ، وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا فَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى أَوْسَطِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْأَعْلَى. فَالْأَوَّلُ: مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَالَّذِي حَطَّهُ إِلَيْهِ: مَقَامُ الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ دُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَقَامُ الْخُسْرَانِ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى الرَّاضِينَ بِمُرِّ الْقَضَاءِ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَالْقُرْبِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. كَمَا فِي حَدِيثِ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: مُؤْمِنُونَ. فَقَالَ: مَا عَلَامَةُ إِيمَانِكُمْ؟ فَقَالُوا: الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ. وَالصِّدْقُ فِي مُوَاطِنِ اللِّقَاءِ، وَتَرْكُ الشَّمَاتَةِ بِالْأَعْدَاءِ. فَقَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ. كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرِّضَا آخِذٌ بِزِمَامِ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَهُوَ رُوحُهَا وَحَيَاتُهَا. فَإِنَّهُ رُوحُ التَّوَكُّلِ وَحَقِيقَتُهُ، وَرُوحُ الْيَقِينِ، وَرُوحُ الْمَحَبَّةِ، وَصِحَّةُ الْمُحِبِّ، وَدَلِيلُ صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وَرُوحُ الشُّكْرِ وَدَلِيلُهُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ: كَثْرَةُ ذِكْرِهِ. فَإِنَّكَ لَا تُحِبُّ شَيْئًا إِلَّا أَكْثَرْتَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَعَلَامَةُ الدِّينِ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَعَلَامَةُ الشُّكْرِ، الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمُ لِقَضَائِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ: ذَاكَرْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ: أَوَّلُ [مَنْ] يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ فَقَالَ: وَيْحَكَ، لَيْسَ هُوَ أَنْ تَحْمَدَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَقَلْبُكَ يَتَعَصَّى عَلَيْكَ. إِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى الصَّابِرِينَ. إِنَّمَا الْحَمْدُ: أَنْ تَحْمَدَهُ وَقَلْبُكَ مُسَلِّمٌ رَاضٍ. فَصَارَ الرِّضَا كَالرُّوحِ لِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَالْأَسَاسِ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدُونِهِ أَلْبَتَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرِّضَا يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ الَّتِي تَشُقُّ عَلَى الْبَدَنِ. فَيَكُونُ رِضَاهُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ، وَأَلَذَّ لَهُ، وَأَرْفَعَ فِي دَرَجَتِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ دَهْرًا طَوِيلًا، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ: أَنَّ فُلَانَةَ الرَّاعِيَةَ رَفِيقَتُكَ فِي الْجَنَّةِ، فَسَأَلَ عَنْهَا، إِلَى أَنْ وَجَدَهَا. فَاسْتَضَافَهَا ثَلَاثًا لِيَنْظُرَ إِلَى عَمَلِهَا فَكَانَ يَبِيتُ قَائِمًا وَتَبِيتُ نَائِمَةً. وَيَظَلُّ صَائِمًا وَتَظَلُّ مُفْطِرَةً. فَقَالَ لَهَا: أَمَا لَكِ عَمَلٌ غَيْرُ مَا رَأَيْتُ؟ قَالَتْ: مَا هُوَ وَاللَّهِ غَيْرَ مَا رَأَيْتَ- أَوْ قَالَتْ: إِلَّا مَا رَأَيْتَ- لَا أَعْرِفُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ لَهَا: تَذَكَّرِي. حَتَّى قَالَتْ: خُصَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ فِيَّ. وَذَلِكَ: أَنِّي إِنْ كُنْتُ فِي شِدَّةٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي رَخَاءٍ. وَإِنْ كُنْتُ فِي مَرَضٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي صِحَّةٍ. وَإِنْ كُنْتُ فِي شَمْسٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي الظِّلِّ. قَالَ: فَوَضَعَ الْعَابِدُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَالَ: أَهَذِهِ خُصَيْلَةٌ؟ هَذِهِ وَاللَّهِ خَصْلَةٌ عَظِيمَةٌ يَعْجِزُ عَنْهَا الْعُبَّادُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ رَضِيَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ غُفِرَ لَهُ. وَفِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ: خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ: الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ. فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، فَإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاهُ. وَفِي أَثَرٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَمْرًا إِذَا هُمْ فَعَلُوهُ رَضِيَ عَنْهُمْ. فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ. فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ يَرْضَوْنَ عَنِّي حَتَّى أَرْضَى عَنْهُمْ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ. فَلْيَنْظُرْ مَا لِلَّهِ عِنْدَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ يُنْزِلُهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: مَنْ رَضِيَ مِنَ اللَّهِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، رَضِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَعْرِفُ فِي الْمَوْتَى عَالَمًا يَنْظُرُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجِنَانِ فِي قُبُورِهِمْ، يُغْدَى عَلَيْهِمْ وَيُرَاحُ بِرِزْقِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَهُمْ فِي غُمُومٍ وَكُرُوبٍ فِي الْبَرْزَخِ. لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ. قِيلَ: وَمَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ؟ قَالَ: كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ التَّوَكُّلِ وَلَا مِنَ الرِّضَا نَصِيبٌ. وَفِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: أُوصِيكَ بِخِصَالٍ تُقَرِّبُكَ مِنَ اللَّهِ، وَتُبَاعِدُكَ مِنْ سَخَطِهِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. وَأَنْ تَرْضَى بِقَدَرِ اللَّهِ فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَيَرْضَ بِقَدَرِ اللَّهِ، فَقَدْ أَقَامَ الْإِيمَانَ، وَفَرَّغَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ لِكَسْبِ الْخَيْرِ، وَأَقَامَ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تُصْلِحُ لِلْعَبْدِ أَمْرَهُ. الْخَمْسُونَ: أَنْ الرِّضَا يَفْتَحُ بَابَ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ النَّاسِ; فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنَ الرِّضَا وَسُوءَ الْخُلُقِ مِنَ السَّخَطِ. وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُثْمِرُ سُرُورَ الْقَلْبِ بِالْمَقْدُورِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَطِيبَ النَّفْسِ وَسُكُونَهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ مُفْزِعٍ مُهْلِعٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَبِرَدِّ الْقَنَاعَةِ، وَاغْتِبَاطِ الْعَبْدِ بِقَسْمِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَفَرَحِهِ بِقِيَامِ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَاسْتِسْلَامِهِ لِمَوْلَاهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَرِضَاهُ مِنْهُ بِمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِهِ لَهُ الْأَحْكَامَ وَالْقَضَايَا، وَاعْتِقَادِ حُسْنَ تَدْبِيرِهِ، وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَيُذْهِبُ عَنْهُ شَكْوَى رَبِّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَتَبَرُّمَهُ بِأَقْضِيَتِهِ. وَلِهَذَا سَمَّى بَعْضُ الْعَارِفِينَ الرِّضَا: حُسْنَ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَرْكَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِي مُلْكِهِ، وَحَذْفَ فُضُولِ الْكَلَامِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ. فَلَا يَقُولُ: مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى مَطَرٍ؟ وَلَا يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْحَرِّ، أَوْ شَدِيدُ الْبَرْدِ. وَلَا يَقُولُ: الْفَقْرُ بَلَاءٌ، وَالْعِيَالُ هَمٌّ وَغَمٌّ، وَلَا يُسَمِّي شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ بَاسِمٍ مَذْمُومٍ إِذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يُنَافِي رِضَاهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاقِعِ الْقَدَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقْرُ وَالْغِنَى مَطِيَّتَانِ مَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ، إِنْ كَانَ الْفَقْرَ فَإِنَّ فِيهِ الصَّبْرَ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَى فَإِنَّ فِيهِ الْبَذْلَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ- أَوْ قِيلَ لَهُ- إِنَّ فُلَانًا قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّيْلَ أَطْوَلُ مِمَّا هُوَ. فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ. وَقَدْ أَسَاءَ. أَحْسَنَ حَيْثُ تَمَنَّى طُولَهُ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَأَسَاءَ حَيْثُ تَمَنَّى مَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ، وَأَحَبَّ مَا لَمْ يُحِبَّهُ اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ وَأَمْسَيْتُ: مِنْ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءِ. وَقَالَ يَوْمًا لِامْرَأَتِهِ عَاتِكَةَ، أُخْتِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ- وَقَدْ غَضِبَ عَلَيْهَا- وَاللَّهِ لَأَسُوأَنَّكِ. فَقَالَتْ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْرِفَنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَتْ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَسُوءُنِي بِهِ إِذًا؟. تُرِيدُ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِمَوَاقِعِ الْقَدَرِ. لَا يَسُوؤُهَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا صَرْفُهَا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يَوْمًا عِنْدَ رَابِعَةَ: اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا. فَقَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَسْأَلَهُ الرِّضَا عَنْكَ، وَأَنْتَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَتَى يَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: إِذَا كَانَ سُرُورُهُ بِالْمُصِيبَةِ مِثْلَ سُرُورِهِ بِالنِّعْمَةِ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: مَا لِأَوْلِيَائِي وَالْهَمُّ بِالدُّنْيَا؟ إِنَّ الْهَمَّ بِالدُّنْيَا يُذْهِبُ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ النَّاسِ هَمًّا بِالدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ هَمًّا فِي الْآخِرَةِ. وَأَقَلُّهُمْ هَمًّا بِالدُّنْيَا أَقَلُّهُمْ هَمًّا فِي الْآخِرَةِ. فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ، وَالرِّضَا بِهِ: يُذْهِبُ عَنِ الْعَبْدِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ وَالْحَزَنَ. وَذُكِرَ عِنْدَ رَابِعَةَ وَلِيٌّ لِلَّهِ قُوتُهُ مِنَ الْمَزَابِلِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: مَا ضَرَّ هَذَا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ فِي غَيْرِ هَذَا؟ فَقَالَتِ: اسْكُتْ يَا بَطَّالُ. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ أَرْضَى عَنْهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلُوهُ أَنْ يَنْقُلَهُمْ إِلَى مَعِيشَةٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ لَهُمْ؟ وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَلَ رَبَّهُ عَمَّا فِيهِ رِضَاهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ رِضَاهُ فِي كُرْهِكَ، وَأَنْتَ لَا تَصْبِرُ عَلَى مَا تَكْرَهُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِنَّ رِضَاهُ فِي رِضَاكَ بِقَضَائِي. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، أَيُّ خَلْقِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: مَنْ إِذَا أَخَذْتُ مِنْهُ مَحْبُوبَهُ سَالَمَنِي. قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَنْتَ عَلَيْهِ سَاخِطٌ؟ قَالَ: مَنِ اسْتَخَارَنِي فِي أَمْرٍ فَإِذَا قَضَيْتُهُ لَهُ سَخِطَ قَضَائِي. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: أَنَا اللَّهُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، قَدَّرْتُ التَّقَادِيرَ، وَدَبَّرْتُ التَّدَابِيرَ، وَأَحْكَمْتُ الصُّنْعَ. فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا مِنِّي حَتَّى يَلْقَانِي. وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ حَتَّى يَلْقَانِي. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ أَفْضَلَ الْأَحْوَالِ: الرَّغْبَةُ فِي اللَّهِ وَلَوَازِمُهَا. وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَالرِّضَا عَنِ اللَّهِ. وَلِهَذَا قَالَ سَهْلٌ: حَظُّ الْخَلْقِ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِمْ مِنَ الرِّضَا. وَحَظُّهُمْ مِنَ الرِّضَا عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِمْ فِي اللَّهِ. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخَلِّصُهُ مِنْ عَيْبِ مَا لَمْ يُعِبْهُ اللَّهُ. وَمِنْ ذَمِّ مَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالشَّيْءِ عَابَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَعَايِبِ. وَذَمَّهُ بِأَنْوَاعِ الْمَذَامِّ. وَذَلِكَ مِنْهُ قِلَّةُ حَيَاءٍ مِنَ اللَّهِ. وَذَمٌّ لِمَا لَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ، وَعَيْبٌ لِخَلْقِهِ. وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْعَبْدَ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ لَكَ طَعَامًا وَقَدَّمَهُ إِلَيْكَ فَعِبْتَهُ وَذَمَمْتَهُ، لَكُنْتَ مُتَعَرِّضًا لِمَقْتِهِ وَإِهَانَتِهِ، وَمُسْتَدْعِيًا مِنْهُ: أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْكَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ ذَمَّ الْمَصْنُوعِ وَعَيْبَهُ- إِذَا لَمْ يَذُمَّهُ صَانِعُهُ- غِيبَةٌ لَهُ وَقَدْحٌ فِيهِ. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي. وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ. وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ. وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زِيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ. وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: سَأَلَهُ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَبَيَّنَ حَقِيقَةَ الرِّضَا. وَأَمَّا الرِّضَا قَبْلَهُ: فَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْضَى إِذَا أَصَابَهُ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بَعْدَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ، وَالْعِفَّةَ، وَالْأَمَانَةَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ. الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْقَدَرِ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ أَنْ يُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ. وَأَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. وَأَنْ يَحْمَدَهُمْ عَلَى مَا هُوَ عَيْنُ فَضْلِ اللَّهِ. فَيَكُونُ ظَالِمًا لَهُمْ فِي الْأَوَّلِ- وَهُوَ رِضَاهُمْ وَذَمُّهُمْ- مُشْرِكًا بِهِمْ فِي الثَّانِي- وَهُوَ حَمْدُهُمْ- فَإِذَا رَضِيَ بِالْقَضَاءِ تَخَلَّصَ مِنْ ذَمِّهِمْ وَحَمْدِهِمْ. فَخَلَّصَهُ الرِّضَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ: أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. إِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ. وَإِنَّ اللَّهَ- بِحِكْمَتِهِ- جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ. وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُفَرِّغُ قَلْبَ الْعَبْدِ. وَيُقَلِّلُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ. فَيَتَفَرَّغُ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ بِقَلْبٍ خَفِيفٍ مِنْ أَثْقَالِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَغُمُومِهَا. كَمَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ بِشْرِ بْنِ بَشَّارٍ الْمُجَاشِعِيِّ- وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ- قَالَ: قُلْتُ لِعَابِدٍ: أَوْصِنِي. قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مَعَ الْقَدَرِ حَيْثُ أَلْقَاكَ. فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَكَ. وَيُقَلِّلَ هَمَّكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْخَطَ ذَلِكَ، فَيَحِلَّ بِكَ السَّخَطُ وَأَنْتَ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ لَا تَشْعُرُ بِهِ. فَيُلْقِيَكَ مَعَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ذَرُوا التَّدْبِيرَ وَالِاخْتِيَارَ تَكُونُوا فِي طِيبٍ مِنَ الْعَيْشِ. فَإِنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاخْتِيَارَ يُكَدِّرُ عَلَى النَّاسِ عَيْشَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ: الْفَرَحُ فِي تَدْبِيرِ اللَّهِ لَنَا. وَالشَّقَاءُ كُلُّهُ فِي تَدْبِيرِنَا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَصْلُحْ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ لَمْ يَصْلُحْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ: مَنْ تَرَكَ التَّدْبِيرَ عَاشَ فِي رَاحَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِدِ السَّلَامَةَ حَتَّى تَكُونَ فِي التَّدْبِيرِ كَأَهْلِ الْقُبُورِ. وَقَالَ: الرِّضَاءُ تَرْكُ الْخِلَافِ عَلَى الرَّبِّ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَى الْعَبْدِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ تَرَكَتْنِي هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتُ، وَمَا لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا أَرَبٌ، إِلَّا فِي مَوَاقِعِ قَدَرِ اللَّهِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو: اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ. وَلَا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ. وَقَالَ: مَا أَصْبَحَ لِي هَوًى فِي شَيْءٍ سِوَى مَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ شُعْبَةُ: قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا تَمَنَّيْتُ شَيْئًا قَطُّ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّسْلِيمِ: مُقَابَلَةُ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّفْوِيضِ: تَعْطِيلُ إِرَادَتِكَ لِمُرَادِهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى مَا يَقَعُ مِنْ تَدْبِيرِهِ لَكَ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْحُكْمِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّوْحِيدِ: رُؤْيَةُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، وَقَبُولُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ، وَإِضَافَةُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَصْلُ الْعِبَادَةِ ثَلَاثَةٌ: لَا تَرُدَّ مِنْ أَحْكَامِهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْأَلْ غَيْرَهُ حَاجَةً، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شَيْئًا. وَسُئِلَ ابْنُ شَمْعُونٍ عَنِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: أَنْ تَرْضَى بِهِ مُدَبِّرًا وَمُخْتَارًا. وَتَرْضَى عَنْهُ قَاسِمًا وَمُعْطِيًا وَمَانِعًا. وَتَرْضَاهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا وَرَبًّا. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الرِّضَا تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَسُرُورُ الْقَلْبِ بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَإِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ مِنَ النَّفْسِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الرَّاضِي مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهَا. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ *** وَالدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا *** وَفِي اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالْقَدَرِ وَقَعَ فِي لَوْمِ الْمَقَادِيرِ. إِمَّا بِقَالَبِهِ، وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَلَوْمُ الْمَقَادِيرِ لَوْمٌ لِمُقَدِّرِهَا، وَكَذَلِكَ يَقَعُ فِي لَوْمِ الْخَلْقِ. وَاللَّهُ وَالنَّاسُ يَلُومُونَهُ، فَلَا يَزَالُ لَائِمًا مَلُومًا. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَهُ؟ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ كَانَ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ. وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ: لَيْتَهُ كَانَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إِذَا لَامَنِي يَقُولُ: دَعُوهُ. فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ. وَقَوْلُهُ: لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ. يَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ مُرَادِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: مَا وُجِدَ مِمَّا يَكْرَهُهُ. وَهُوَ يَتَنَاوَلُ فَوَاتَ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولَ الْمَكْرُوهِ، فَلَوْ قُضِيَ الْأَوَّلُ لَكَانَ. وَلَوْ قُضِيَ خِلَافُ الْآخَرِ لَكَانَ. فَإِذَا اسْتَوَتِ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ. فَعُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضَاهُ. وَهَذَا مُوجَبُ الْعُبُودِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا. يُوَضِّحُهُ: الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضَا الرَّبِّ تَعَالَى. فَهَذَا رَضِيَهُ لِعَبْدِهِ فَقَدَّرَهُ. وَهَذَا لَمْ يَرْضَهُ لَهُ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ. فَكَمَالُ الْمُوَافَقَةِ: أَنْ يَسْتَوِيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ. فَيَرْضَى مَا رَضِيَهُ لَهُ رَبُّهُ فِي الْحَالَيْنِ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدَيْ رَسُولِهِ فِي حُكْمِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. وَذَلِكَ عُبُودِيَّةُ هَذَا الْأَمْرِ. فَعُبُودِيَّةُ أَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا حَيْثُ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ فِي ذَلِكَ. فَيَكُونَ التَّقَدُّمُ أَيْضًا بِأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. فَإِذَا كَانَ فَرْضُهُ الصَّبْرَ أَوْ نَدْبُهُ. أَوْ فَرْضُهُ الرِّضَا حَتَّى تَرَكَ ذَلِكَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. السِّتُّونَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِخْلَاصَ وَالْإِنَابَةَ: لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى سَاقِ الرِّضَا. فَالْمُحِبُّ رَاضٍ عَنْ حَبِيبِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَقَدْ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتُسْقِيَ بَطْنُهُ، فَبَقِيَ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ. وَقَدْ نُقِبَ لَهُ فِي سَرِيرِهِ مَوْضِعٌ لِحَاجَتِهِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّخِّيرُ. فَجَعَلَ يَبْكِي لِمَا رَأَى مِنْ حَالِهِ. فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: لِمَ تَبْكِي؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الْفَظِيعَةِ. فَقَالَ: لَا تَبْكِ. فَإِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ، وَاكْتُمْ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ. إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَزُورُنِي فَآنَسُ بِهَا. وَتُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَسْمَعُ تَسْلِيمَهَا. وَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ- وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ- جَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ. فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ. فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ. فَعَرَفَنِي. فَقُلْتُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ. فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ. فَتَبَسَّمَ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاهُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ذَنْبٌ أَذْنَبْتُهُ. أَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِشَيْءٍ قَضَاءُ اللَّهِ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ قُرِضَ لَحْمِي بِالْمَقَارِيضِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ. وَقِيلَ لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ: هَاهُنَا رَجُلٌ قَدْ تَعَبَّدَ خَمْسِينَ سَنَةً. فَقَصَدَهُ. فَقَالَ لَهُ: حَبِيبِي، أَخْبِرْنِي عَنْكَ، هَلْ قَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أَنْتَ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ رَضِيتَ عَنْهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّمَا مَزِيدُكَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَسْتَحِي مِنْكَ لَأَخْبَرْتُكَ: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ خَمْسِينَ سَنَةً مَدْخُولَةٌ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُقَرِّبْهُ فَجَعَلَهُ فِي مَقَامِ الْمُقَرَّبِينَ. فَيُوجِدَهُ مَوَاجِيدَ الْعَارِفِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَزِيدُهُ لَدَيْهِ: أَعْمَالَ الْقُلُوبِ. الَّتِي يَسْتَعْمِلُ بِهَا كُلُّ مَحْبُوبٍ مَطْلُوبٍ، لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ: حَالُ الْمُوَفَّقِ، وَالْأُنْسَ بِهِ: مَقَامُ الْمُحِبِّ، وَالرِّضَا: وَصْفُ الْمُتَوَكِّلِ. يَعْنِي أَنْتَ عِنْدَهُ فِي طَبَقَاتِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَمَزِيدُكَ عِنْدَهُ مَزِيدُ الْعُمُومِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مُعَامَلَتَهُ مَدْخُولَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالَ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً سَالِمَةً، لَا عِلَّةَ فِيهَا وَلَا غِشَّ: لَأَثْمَرَتْ لَهُ الْأُنْسَ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ، وَالْأَحْوَالَ الْعَلِيَّةَ. فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى شَكُورٌ. إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَمَلُ عَبْدِهِ جَمَّلَ بِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ. وَأَثَابَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ. فَحَيْثُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا فِي قَلْبِهِ، مِنَ الْأُنْسِ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ: اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَدْخُولٌ، غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ الْآفَاتِ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ تُضَاعَفُ إِلَى حَدٍّ مَعْلُومٍ مَحْسُوبٍ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقَلْبِ: فَلَا يَنْتَهِي تَضْعِيفُهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ: لَهَا حَدٌّ تَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَتَقِفُ عِنْدَهُ. فَيَكُونُ جَزَاؤُهَا بِحَسَبِ حَدِّهَا. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ: فَهِيَ دَائِمَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَإِنْ تَوَارَى شُهُودُ الْعَبْدِ لَهَا. مِثَالُهُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا حَالُ الْمُحِبِّ الرَّاضِي، لَا تُفَارِقُهُ أَصْلًا. وَإِنْ تَوَارَى حُكْمُهَا. فَصَاحِبُهَا فِي مَزِيدٍ مُتَّصِلٍ. فَمَزِيدُ الْمُحِبِّ الرَّاضِي: مُتَّصِلٌ بِدَوَامِ هَذِهِ الْحَالِ لَهُ. فَهُوَ فِي مَزِيدٍ، وَلَوْ فَتَرَتْ جَوَارِحُهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ مَزِيدُهُ فِي حَالِ سُكُونِهِ وَفُتُورِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّوَافِلِ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَيَبْلُغُ ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَزِيدُهُ فِي حَالِ نَوْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ. وَأَكْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَالْجُوعِ. فَإِنْ أَنْكَرْتَ هَذَا فَتَأَمَّلْ مَزِيدَ نَائِمٍ بِاللَّهِ، وَقِيَامَ غَافِلٍ عَنِ اللَّهِ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَالْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ، لَا إِلَى صُوَرِ الْأَعْمَالِ. وَقِيمَةُ الْعَبْدِ: هِمَّتُهُ وَإِرَادَتُهُ. فَمَنْ لَا يُرْضِيهِ غَيْرُ اللَّهِ- وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا- لَهُ شَأْنٌ. وَمَنْ يُرْضِيهِ أَدْنَى حَظٍّ مِنْ حُظُوظِهَا لَهُ شَأْنٌ. وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمَا فِي الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَدْ تَكُونُ أَعْمَالُ الْمُلْتَفِتِ إِلَى الْحُظُوظِ أَكْثَرَ وَأَشَقَّ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ فِي مَسْأَلَةٍ. وَهِيَ: هَلْ لِلرِّضَا حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُوسُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ لَا حَدَّ لَهَا: الزُّهْدُ، وَالْوَرَعُ، وَالرِّضَا. وَخَالَفَهُ سُلَيْمَانُ ابْنُهُ- وَكَانَ عَارِفًا، حَتَّى إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُقَدِّمُهُ عَلَى أَبِيهِ- فَقَالَ: بَلْ مَنْ تَوَرَّعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الْوَرَعِ. وَمَنْ زَهِدَ فِي غَيْرِ اللَّهِ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الزُّهْدِ. وَمَنْ رَضِيَ عَنِ اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الرِّضَا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَهِيَ: أَهْلُ مَقَامَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهُمْ: يُحِبُّ الْمَوْتَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ وَلِقَائِهِ. وَالثَّانِي: يُحِبُّ الْبَقَاءَ لِلْخِدْمَةِ وَالتَّقَرُّبِ. وَقَالَ الثَّالِثُ: لَا أَخْتَارُ. بَلْ أَرْضَى بِمَا يَخْتَارُ لِي مَوْلَايَ، إِنْ شَاءَ أَحْيَانِي، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَنِي. فَتَحَاكَمُوا إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ. فَقَالَ: صَاحِبُ الرِّضَا أَفْضَلُهُمْ. لِأَنَّهُ أَقَلُّهُمْ فُضُولًا، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى السَّلَامَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقَامَ الرِّضَا فَوْقَ مَقَامِ الشَّوْقِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. بَقِيَ النَّظَرُ فِي مَقَامَيِ الْآخَرِينَ: أَيُّهُمَا أَعْلَى؟ فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مَقَامَ مَنْ أَحَبَّ الْمَوْتَ. لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ لِقَائِهِ. وَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مَقَامَ مُرِيدِ الْبَقَاءِ لِتَنْفِيذِ أَوَامِرِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَوَّلَ مُحِبٌّ لِحَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا مُحِبٌّ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ. لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُ، وَلَمْ يَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا. قَالُوا: وَهَذَا حَالُ مُوسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- حِينَ لَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ. فَفَقَأَ عَيْنَهُ، لَا مَحَبَّةً لِلدُّنْيَا، وَلَكِنْ لِيُنَفِّذَ أَوَامِرَ رَبِّهِ. وَمَرَاضِيهِ فِي النَّاسِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ عَبْدُهُ، وَأَنَا عَبْدُهُ. وَأَنْتَ فِي طَاعَتِهِ. وَأَنَا فِي طَاعَتِهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ. وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: إِنَّ حَالَ الرَّاضِي الْمُسَلِّمِ يَنْتَظِمُ حَالَيْهِمَا جَمِيعًا، مَعَ زِيَادَةِ التَّسْلِيمِ، وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ غَابَ بِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ- مِنْ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ- عَنْ مُرَادِهِ هُوَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَى لِقَاءِ حَبِيبِهِ، مُؤْثِرٌ لِمَرَاضِيهِ. فَقَدْ أَخَذَ بِزِمَامِ كُلٍّ مِنَ الْمَقَامَيْنِ، وَاتَّصَفَ بِالْحَالَيْنِ. وَقَالَ: أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ لَا أَتَمَنَّى غَيْرَ رِضَاهُ. وَلَا أَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَالَ: الثَّانِي: سُقُوطُ الْخُصُومَةِ عَنِ الْخَلْقِ. يَعْنِي أَنَّ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تُنَافِي حَالَ الرِّضَا. وَتُنَافِي نِسْبَةَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَفِي الْخُصُومَةِ آفَاتٌ مِنْهَا. أَحَدُهَا: الْمُنَازَعَةُ الَّتِي تُضَادُّ الرِّضَا. الثَّانِي: نَقْصُ التَّوْحِيدِ بِنِسْبَةِ مَا يُخَاصَمُ فِيهِ إِلَى عَبْدٍ دُونَ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ. الثَّالِثُ: نِسْيَانُ الْمُوجِبِ وَالسَّبَبِ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخُصُومَةِ. فَلَوْ رَجَعَ الْعَبْدُ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُوجِبِ لَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِدَفْعِهِ أَجْدَى عَلَيْهِ، وَأَنْفَعَ لَهُ مِنْ خُصُومَةِ مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ. فَإِنَّهُ- وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا- فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِظُلْمِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فَأَخْبَرَ عَنْ أَذَى عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، وَغَلَبَتِهِمْ لَهُمْ: إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ بَصِيرَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَشَاهِدِ الْقَدَرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ: انْسَدَّ عَنْهُ بَابُ خُصُومَةِ الْخَلْقِ، إِلَّا فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَالرَّاضِي لَا يُخَاصِمُ وَلَا يُعَاتِبُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخَاصِمُ أَحَدًا وَلَا يُعَاتِبُهُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. كَمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ. فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ. فَالْمُخَاصَمَةُ لِحَظِّ النَّفْسِ تُطْفِئُ نُورَ الرِّضَا، وَتُذْهِبُ بَهْجَتَهُ. وَتُبَدِّلُ بِالْمَرَارَةِ حَلَاوَتَهُ. وَتُكَدِّرُ صَفْوَهُ. قَالَ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ لِلْخَلْقِ وَالْإِلْحَاحِ. وَذَلِكَ: لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ: فِيهَا ضَرْبٌ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ مَالِكِ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا بِرَبِّهِ. وَفِيهَا الْغَيْبَةُ عَنِ الْمُعْطِي الْمَانِعِ. وَالْإِلْحَاحُ يُنَافِي حَالَ الرِّضَا وَوَصْفَهُ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا. فَقَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَسْأَلُونَ النَّاسَ مَا تَدْعُو حَاجَتُهُمْ إِلَى سُؤَالِهِ. وَلَكِنْ لَا يُلْحِفُونَ. فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ سُؤَالَ الْإِلْحَافِ، لَا مُطْلَقَ السُّؤَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ غَدَاءٌ لَمْ يَسْأَلْ عَشَاءً. وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَاءٌ لَمْ يَسْأَلْ غَدَاءً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ- مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا- بَلِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ تَرْكَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. لِأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِالتَّعَفُّفِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِسِيمَاهُمْ، دُونَ الْإِفْصَاحِ بِالْمَسْأَلَةِ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَفْصَحُوا بِالسُّؤَالِ لَمْ يَحْسَبْهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا يَكُونُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَيَقَعُ إِلْحَافٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أَيْ لَا تَكُونُ شَفَاعَةٌ فَتَنْفَعَ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أَيْ لَا يَكُونُ عَدْلٌ فَيُقْبَلَ، وَنَظَائِرُهُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى لِمَنَارِهِ أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ يُهْتَدَى بِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: لَا يَسْأَلُونَ أَلْبَتَّةَ. فَيُخْرِجَهُمُ السُّؤَالُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلَى الْإِلْحَافِ. فَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِكَ: فُلَانٌ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ. أَيْ لَيْسَ لَهُ خَيْرٌ فَيُرْجَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْهُمْ مَسْأَلَةٌ، فَيَكُونَ مِنْهُمْ إِلْحَافٌ. قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا *** وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أَيْ لَيْسَ بِهَا أَرْنَبٌ فَتُفْزَعَ لِهَوْلِهَا، وَلَا ضَبٌّ فَيَنْجَحِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَفَى الْإِلْحَافَ عَنْهُمْ. وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَ جَمِيعِ السُّؤَالِ.
وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. لِأَنَّهَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْمَسْئُولِ. وَظُلْمٌ فِي حَقِّ السَّائِلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ بَذَلَ سُؤَالَهُ وَفَقْرَهُ وَذُلَّهُ وَاسْتِعْطَاءَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَذَلِكَ نَوْعُ عُبُودِيَّةٍ. فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَنْزَلَهَا بِغَيْرِ أَهْلِهَا. وَظَلَمَ تَوْحِيدَهُ وَإِخْلَاصَهُ. وَفَقْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ بِقَسْمِهِ. وَاسْتَغْنَى بِسُؤَالِ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَةِ رَبِّ النَّاسِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ يَهْضِمُ مِنْ حَقِّ التَّوْحِيدِ، وَيُطْفِئُ نُورَهُ وَيُضْعِفُ قُوَّتَهُ. وَأَمَّا ظُلْمُهُ لِلْمَسْئُولِ: فَلِأَنَّهُ سَأَلَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. فَأَوْجَبَ لَهُ بِسُؤَالِهِ عَلَيْهِ حَقًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَرَّضَهُ لِمَشَقَّةِ الْبَذْلِ، أَوْ لَوْمِ الْمَنْعِ. فَإِنْ أَعْطَاهُ، أَعْطَاهُ عَلَى كَرَاهَةٍ. وَإِنْ مَنْعَهُ. مَنَعَهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَإِغْمَاضٍ. هَذَا إِذَا سَأَلَهُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا سَأَلَهُ حَقًّا هُوَ لَهُ عِنْدَهُ: فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَظْلِمْهُ بِسُؤَالِهِ. وَأَمَّا ظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ: فَإِنَّهُ أَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ. وَذَلَّ لِغَيْرِ خَالِقِهِ. وَأَنْزَلَ نَفْسَهُ أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَرَضِيَ لَهَا بِأَبْخَسِ الْحَالَتَيْنِ. وَرَضِيَ بِإِسْقَاطِ شَرَفِ نَفْسِهِ، وَعِزَّةِ تَعَفُّفِهِ، وَرَاحَةِ قَنَاعَتِهِ. وَبَاعَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بِمَا قُسِمَ لَهُ، وَاسْتِغْنَاءَهُ عَنِ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ. وَهَذَا عَيْنُ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ. إِذْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَخْمَلَ شَرَفَهَا. وَوَضَعَ قَدْرَهَا. وَأَذْهَبَ عِزَّهَا. وَصَغَّرَهَا وَحَقَّرَهَا. وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ تَحْتَ نَفْسِ الْمَسْئُولِ. وَيَدُهُ تَحْتَ يَدِهِ. وَلَوْلَا الضَّرُورَةُ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا. فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ. فَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنِ النَّاسِ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَأَنْ يَأْخُذَ تُرَابًا فَيَجْعَلَهُ فِي فِيهِ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ. فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا. فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ. حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُمْ- حِينَ أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ-: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ. وَمَنْ يَتَصَبَّرُ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ- الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. فَالْيَدُ الْعُلْيَا: هِيَ الْمُنْفِقَةُ. وَالْيَدُ السُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَ مُسْلِمٌ. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي. ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ. فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ. وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بِعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ: أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ. مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا. قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَ مُسْلِمٌ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ. فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ. فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ.. وَفِي لَفْظٍ إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ. فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ- أَمَّا هُوَ: فَحَبِيبٌ إِلَيَّ. وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي: فَأَمِينٌ. عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً- أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً- فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟- وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَتِهِ- فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا. وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَتُطِيعُوا اللَّهَ- وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَلَا أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْمَسَائِلُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ. فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ. وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ رَجُلٌ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ يَسْأَلَ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَتَقَبَّلْ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلْ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا. فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ، وَهُوَ رَاكِبٌ. فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيهِ، حَتَّى يَنْزِلَ هُوَ فَيَتَنَاوَلَهُ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ. فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ: لَمْ تَسُدَّ فَاقَتَهُ. وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ: أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى: إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَسَأَلَاهُ. فَأَمَرَ لَهُمَا بِمَا سَأَلَاهُ. وَأَمَرَ مُعَاوِيَةَ فَكَتَبَ لَهُمَا بِمَا سَأَلَا. فَأَمَّا الْأَقْرَعُ: فَأَخَذَ كِتَابَهُ فَلَفَّهُ فِي عِمَامَتِهِ وَانْطَلَقَ. وَأَمَّا عُيَيْنَةُ: فَأَخَذَ كِتَابَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَانِي حَامِلًا إِلَى قَوْمِي كِتَابًا لَا أَدْرِي مَا فِيهِ، كَصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ، فَأَخْبَرَ مُعَاوِيَةُ بِقَوْلِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ- وَفِي لَفْظٍ: مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟- وَفِي لَفْظٍ: وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ؟- قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَمَا يُعَشِّيهِ. وَفِي لَفْظٍ: أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ أَنَّ الْفِرَاسِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَإِنْ كُنْتَ سَائِلًا لَا بُدَّ فَسَلِ الصَّالِحِينَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ: فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ. فَآمُرَ لَكَ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحْمَّلَ حَمَالَةً. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَأَلَهُ. فَأَعْطَاهُ. فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ. فَيَدُ اللَّهِ: الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي: الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ: السُّفْلَى. فَأَعْطِ الْفَضْلَ. وَلَا تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً- وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ- كَانَتْ شَيْنًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: ثَلَاثٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لَا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، فَتَصَدَّقُوا. وَلَا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ. فَأَتَيْتُهُ فَقَعَدْتُ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَنِي، فَقَالَ: مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ، فَقَدْ أَلْحَفَ. فَقُلْتُ: نَاقَتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ. وَلَمْ أَسْأَلْهُ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ جَاءَهُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ، مِنْ غَيْرِ إِشْرَافٍ وَلَا مَسْأَلَةٍ. فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ. فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا: تَرْكَ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا. لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِتَرْكِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَلَا يُخَاصِمُهُمْ فِي حَقِّهِ. وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ حُقُوقَهُ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ. وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي رِضَاهُ. وَهَذَا يَصِحُّ فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الدَّاعِي يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ بِأَغْرَاضِهِ وَحُظُوظِهِ الْعَاجِلَةِ. وَأَمَّا إِذَا أَلَحَّ عَلَى اللَّهِ فِي سُؤَالِهِ بِمَا فِيهِ رِضَاهُ وَالْقُرْبُ مِنْهُ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِ الرِّضَا أَصْلًا. وَفِي الْأَثَرِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ بَدْرٍ- لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ. كَفَاكَ بَعْضُ مُنَادَتِكَ لِرَبِّكَ فَهَذَا الْإِلْحَاحُ عَيْنُ الْعُبُودِيَّةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ سُؤَالُهُ يُرْضِيهِ لَمْ يَكُنِ الْإِلْحَاحُ فِيهِ مُنَافِيًا لِرِضَاهُ. وَحَقِيقَةُ الرِّضَا: مُوَافَقَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي رِضَاهُ. بَلِ الَّذِي يُنَافِي الرِّضَا: أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِ. مُتَحَكِّمًا عَلَيْهِ، مُتَخَيِّرًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ: هَلْ يُرْضِيهِ أَمْ لَا؟ كَمَنْ يُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي وِلَايَةِ شَخْصٍ، أَوْ إِغْنَائِهِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ. فَهَذَا يُنَافِي الرِّضَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَرْضَاةَ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ يُبَاحُ لَهُ سُؤَالُهُ إِيَّاهَا. فَيُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِهَا حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ مِنْ لَذِيذِ مُنَاجَاتِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَمَلُّقِهِ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهِ فِي حَاجَتِهِ بِغَيْرِهِ-: مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِدُونِ الْإِلْحَاحِ عَلَى اللَّهِ فِي السُّؤَالِ. فَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الْإِلْحَاحُ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَظًّا مِنْ حُظُوظِهِ؟ قِيلَ: هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَفْنَى بِمَطْلُوبِهِ وَحَاجَتِهِ عَنْ مُرَادِهِ وَرِضَاهُ، وَيَجْعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَسِيلَةً إِلَى مَطْلُوبِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَهَمَّ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَهَذَا يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ. الثَّانِي: أَنْ يُفْتَحَ عَلَى قَلْبِهِ- حَالَ السُّؤَالِ- مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّمَلُّقِ: مَا يُنْسِيهِ حَاجَتَهُ. وَيَكُونَ مَا فُتِحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ. بِحَيْثُ يُحِبُّ أَنْ تَدُومَ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ، وَتَكُونَ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ حَاجَتِهِ. وَفَرَحُهُ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ فَرَحِهِ بِحَاجَتِهِ لَوْ عُجِّلَتْ لَهُ وَفَاتَهُ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُنَافِي رِضَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَأَنْ تَكُونَ لِي حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ. فَأَسْأَلَهُ إِيَّاهَا. فَيَفْتَحَ عَلَيَّ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَالتَّمَلُّقِ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنِّي قَضَاءَهَا. وَتَدُومَ لِي تِلْكَ الْحَالُ. وَفِي أَثَرٍ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَةَ عَبْدِي وَأَخِّرُوهَا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ دُعَاءَهُ، وَيَدْعُوهُ آخَرُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَتَهُ وَعَجِّلُوهَا. فَإِنِّي أَكْرَهُ صَوْتَهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. فَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ، حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ. وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ. فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَعَالَى لِلدُّعَاءِ، فَلَا يُنَافِي الْإِلْحَاحُ فِيهِ الرِّضَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَيَتَعَلَّقَ بِرَبِّهِ فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالطَّلَبِ. وَلَا يَلْوِي عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَهَذَا قَدْ تَنْشَأُ لَهُ الْمَصْلَحَةُ مِنْ نَفْسِ الطَّلَبِ، وَإِفْرَادِ الرَّبِّ بِالْقَصْدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ فُتِحَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ. فَهُوَ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِهَا بَعْدَ ظَفَرِهِ بِمَا فُتِحَ عَلَيْهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الرِّضَا بِرِضَا اللَّهِ. فَلَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ سُخْطًا، وَلَا رِضًا. فَيَبْعَثُهُ عَلَى تَرْكِ التَّحَكُّمِ، وَحَسْمِ الِاخْتِيَارِ، وَإِسْقَاطِ التَّمْيِيزِ، وَلَوْ أُدْخِلَ النَّارَ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا مِنَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَهُ: لِأَنَّهَا دَرَجَةُ صَاحِبِ الْجَمْعِ، الْفَانِي بِرَبِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّا مِنْهَا، قَدْ غَيَّبَهُ شَاهِدُ رِضَا اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ عَنْ شَاهِدِ رِضَاهُ هُوَ. فَيَشْهَدُ الرِّضَا لِلَّهِ وَمِنْهُ حَقِيقَةً. وَيَرَى نَفْسَهُ فَانِيًا، ذَاهِبًا مَفْقُودًا. فَهُوَ يَسْتَوْحِشُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهَا، وَمِنْ رِضَاهَا، وَمِنْ سُخْطِهَا، فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى التَّغَيُّبِ عَنْ وُجُودِهِ وَعَمَّا مِنْهُ. مُتَرَامٍ إِلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ. قَدْ تَلَاشَى وُجُودُهُ وَنَفْسُهُ وَصِفَاتُهَا فِي وُجُودِ مَوْلَاهُ الْمَلِكِ الْحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. كَمَا يَتَلَاشَى ضَوْءُ السِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ. فَغَابَ بِرِضَا رَبِّهِ عَنْ رِضَاهُ هُوَ وَعَنْ رَبِّهِ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ. وَغَابَ بِصِفَاتِ رَبِّهِ عَنْ صِفَاتِهِ. وَبِأَفْعَالِهِ عَنْ أَفْعَالِهِ. فَتَلَاشَى وُجُودُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ فِي جَنْبِ وُجُودِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، بِحَيْثُ صَارَ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ رِضًا وَلَا سُخْطًا. فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا الْفَنَاءُ: تَرْكَ التَّحَكُّمِ عَلَى اللَّهِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَتَرْكَ التَّخَيُّرِ عَلَيْهِ. فَتَذْهَبُ مَادَّةُ التَّحَكُّمِ وَتَفْنَى. وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ الِاخْتِيَارِ وَتَتَلَاشَى. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ تَمْيِيزُ الْعَبْدِ وَيَتَلَاشَى. هَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِهِ. وَبَعْدُ، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا حَالٌ يَعْرِضُ. لَا مَقَامٌ يُطْلَبُ، وَيُشَمَّرُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَ مَتَى عَرَضَتْ لَهُ وَارَتْ عَنْهُ تَمْيِيزَهُ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُومَ لَهُ ذَلِكَ. بَلْ يَقْصُرُ زَمَنُهُ وَيَطُولُ. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ مَغْلُوبٌ: إِمَّا سَكْرَانُ. بِحَالِهِ، وَإِمَّا فَانٍ عَنْ وُجُودِهِ. وَالْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَانِيًا عَنْ إِرَادَتِهِ بِإِرَادَةِ رَبِّهِ مِنْهُ. فَيَكُونَ بَاقِيًا بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرِ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ. وَهُوَ وُجُودٌ مُطَهِّرٌ كَائِنٌ بِاللَّهِ. وَلِلَّهِ. وَمَعَ اللَّهِ. وَصَاحِبُ هَذَا فِي مَقَامِ: " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ ". قَدْ فَنِيَ عَنْ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ وَالنَّفْسِيِّ. وَبَقِيَ بِهَذَا الْوُجُودِ الْعُلْوِيِّ الْقُدْسِيِّ. فَيَعُودُ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهُ، وَفُرْقَانُهُ، وَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى، وَمَقَامَاتُ إِيمَانِهِ. وَهَذَا أَكْمَلُ وَأَعْلَى مِنْ فَنَائِهِ عَنْهَا كَالسَّكْرَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يُمْكِنُ وُصُولُهُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ دَرْبِ الْفَنَاءِ، وَعُبُورِهِ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ جِسْرِهِ؟ قُلْتُ: اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْبَقَاءِ، وَإِلَى هَذَا الْوُجُودِ الْمُطَهَّرِ إِلَّا بَعْدَ عُبُورِهِ عَلَى جِسْرِ الْفَنَاءِ. فَعَدُّوهُ لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى غَيْرِ دَرْبِ الْفَنَاءِ، وَالْفَنَاءُ عِنْدَهُمْ عَارَضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، لَا لَازِمٌ. وَسَبَبُهُ: قُوَّةُ الْوَارِدِ وَضَعْفُ الْمَحَلِّ وَاسْتِجْلَابُهُ بِتَعَاطِي أَسْبَابِهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا بَعْدَ عُبُورِهِ عَلَى جِسْرِ الْفَنَاءِ عَنْ مُرَادِهِ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ. فَمَا دَامَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْفَنَاءُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا فَنَاؤُهُ عَنْ وُجُودِهِ: فَلَيْسَ شَرْطًا لِذَلِكَ الْبَقَاءِ. وَلَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ فِي رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. كَمَا هُوَ فِي تَوَكُّلِهِ، وَتَفْوِيضِهِ، وَتَسْلِيمِهِ، وَإِخْلَاصِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ بِرَبِّهِ، لَا بِنَفْسِهِ. فَيَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَالْفَضْلِ، مُسْتَعْمَلًا فِيهِ. قَدْ أُقِيمَ فِيهِ. لَا أَنَّهُ قَدْ قَامَ هُوَ بِهِ. فَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ مَشْهَدِ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وَمَشْهَدِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
|