الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} ولما بين سبحانه نعمته عليهم بالإمكان من القرية بالنصر على أهلها والتمتع بمنافعها وختمه بتعذيبهم بما يميت أو يحرق وتبين من ذلك كله أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة كما سيأتي التصريح به من قول الله تعالى في قصة البقرة وأنها لا منفعة فيها اتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد ويحيي الأجساد فذكر انفجار الماء من الحجر الذي عمهم نفعه وأنقذهم من الموت تبعة ودلهم على التوحيد والرسالة أصله وفرعه بقدرة الصانع وعلمه جمعاً لهم بذلك بين نعمتي الدين والدنيا فقال تعالى {وإذ استسقى} أي طلب السقيا. قال الحرالي: والسقيا فعلى صيغة مبالغة فيما يحصل به الري من السقي والسقي إحياء موات شأنه أن يطلب الإحياء حالاً أو مقالاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسق عبادك! ثم قال: وأحي بلدك الميت» انتهى. {موسى لقومه} أي لما خافوا الموت من العطش {فقلنا} أي بما لنا من العظمة حين خفيت عنهم {اضرب} قال الحرالي: من الضرب وهو وقع الشيء على الشيء بقوة {بعصاك} والعصا كأنها ما يكف به العاصي، وهو من ذوات الواو، والواو فيه إشعار بعلو كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية، كأن العصو أدب العصي، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا اشتقاق ثان، وعصى يعصي إذا خالف الأمر- انتهى. {الحجر} أي جنسه فضرب حجراً {فانفجرت} وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج عن محيط، هذا خروج يحيي وذاك خروج يميت. قال الحرالي: الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه- انتهى. ولأن هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة، ولما لم يكن {منه} أي الحجر الذي ضربه {اثنتا عشرة عيناً} لكل سبط عين، والعين قال الحرالي هو باد نام قيم يبدو به غيره، فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين، يقال إن العين مطر أيام لا يقلع وإنما هو مطر يغني وينجع، وما تبدو به الموزونات عين، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين، وما تنال به الأعيان من الحواس عين، والركية وهي بئر السقيا عين، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول: الركبة- بالباء يعني الموحدة- وإنما هي الركيّة- بالياء المشددة- كذا قال، وقد ذكر أهل اللغة عين الرُكبة؛ وعدّ في القاموس المعاني التي لهذا اللفظ نحو أربعين، منها نقرة الركبة أي بالموحدة، ومنها مفجر ماء الركية بالتحتانية مشددة. ولما توقع السامع إخبار المتكلم هل كانت الأعين موزعة بينهم معروفة أو ملبسة قال {قد علم كل أناس} أي منهم. قال الحرالي: وهو اسم جمع من الأنس- بالضم، كالناس اسم جمع من النوس، قال: فلم يسمهم باسم من أسماء الدين لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمّين بها من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع {مشربهم} مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب أو اسم محل يلزمه التكرار عليه والتردد، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر، فكان فيها نقمة ورحمة؛ وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنياً في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر، وتمليك الماء من أعظم التمكين، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء ومنه كل حي وفيه كل مجعول ومصور- انتهى. يعني أن هذه الخارقة دون ما نبع للنبي صلى الله عليه وسلم من الماء من بين أصابعه، ودون ما نبع بوضع أصحابه سهماً من سهامه في بئر الحديبية وقد كانت لا ماء فيها، ونحو ذلك كثير. ولما كان السياق للامتنان وكان الإيجاد لا تستلزم التحليل للتناول قال زيادة على ما في الأعراف ممتناً عليهم بنعمة الإحلال بعد الإيجاد على تقدير القول لأنه معلوم تقديره {كلوا واشربوا من رزق الله} أي الذي رزقكموه من له الكمال كله من غير كد ولا نصب. قال الحرالي: لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جرى العادة حكمته في الأرض فكان من غيب فأضيف ذكره لاسم الله الذي هو غيب {ولا تعثوا} من العثو وهو أشد الفساد وكذلك العثي إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء، إن العثو إفساد أهل القوى بالسطوة والعثى إفساد أهل المكر بالحيلة- انتهى. {في الأرض} أي عامة، لأن من أفسد في شيء منها بالفعل فقد أفسد فيها كلها بالقوة. واتباع ما معناه الفساد قوله {مفسدين} دليل على أن المعنى ولا تسرعوا إلى فعل ما يكون فساداً قاصدين به الفساد، فإن العثي والعيث الإسراع في الفساد، لكن قد يقصد بصورة الفساد الخير فيكون صلاحاً في المعنى، كما فعل الخضر عليه السلام في السفينة والغلام، وليس المراد بالإسراع التقييد بل الإشارة إلى أنه لملاءمته للهوى لا يكون إلا كذلك، سيأتي له في سورة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى مزيد بيان. قال الحرالي: وفيه إشعار بوقوع ذلك منهم، لأن في كل نهي إشعاراً بمخالفته، إلا ما شاء الله، وفي كل أمر إشعاراً بموافقته إلا ما شاء الله، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به لاكتفاء إجباره فيه طبعاً عن أمره، وما منع منه لا ينهى عنه لاكتفاء إجباره عن أمره، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده وهي مباني أجساد بني آدم فكيف بالمؤمنين منهم فكيف بالأنبياء منهم- انتهى. ولما امتنّ عليهم بهذه النعمة العظمة من أكل المن والسلوى وشرب هذا الماء الرباني بين أنهم كفروها بالتضجر منها وطلب غيرها وبالتيه كان قريباً منها بل كما أن هذه في غاية العلو كان مطلوبهم في غاية الدناءة والسفول فقال تعالى {وإذ قلتم} أي بعد هذه النعم كلها {يا موسى} منادين له باسمه من غير تعظيم {لن نصبر} أي طويلاً {على طعام} قال الحرالي: الطعام ما يقوت المتطعم ويصير جزاء منه {فلينظر الإنسان إلى طعامه *} [عبس: 24] الآية- انتهى. {واحد} أي لا يتبدل وإن كان متعدداً وإن كان شريفاً لا تعب فيه {فادع لنا} قال الحرالي: من الدعاء وهو نداء لاقتضاء غلبة لما تدعو الحاجة إليه من القائم على الداعي بتذلل وافتقار وهو في مقابلة الأمر من الأعلى، لأنه اقتضاء لما لا تدعو إليه حاجة من الآمر لأن الآمر بالحقيقة إنما هو الغني لا المفتقر لما يقضيه- انتهى. {ربك} مضيفين لهذا الاسم إليه دون أنفسكم مع كثرة تجليه لكم بهذا الوصف الناظر إلى الإحسان {يخرج لنا} أي وإن كنت أنت غير ملتفت إلى ذلك {مما تنبت} من الإنبات وهو التغذية والتنمية- قاله الحرالي. {الأرض} ثم بينوا ما أرادوا بقولهم {من بقلها} أي خضرها. قال الحرالي: البقل ما يكثر به الأدم، والأدم الأشياء الدسمة فما يصلح معها من نجم الأرض فهو بقل- انتهى. {وقثائها وفومها} أي الحنطة. وقال الحرالي: يقال هو الحب الذي يخبز- انتهى. {وعدسها وبصلها} فكأنه قيل إن هذا العجب منهم فما قال؟ فقيل قال {قال} منكراً عليهم {أتستبدلون} أي أتأخذون {الذي هو أدنى} أي منزلة {بالذي هو خير} أي بدله. فالباء داخلة هنا على المتروك وهذه المادة أعني الباء والدال المهملة واللام بهذا الترتيب لها استعمالات كثيرة يختلف معناها معها فيشكل فهمها بسبب ذلك، فإنه قد يذكر معها المتقابلان فقط، وقد يذكر معها غيرها، وقد لا يكون كذلك، وقد يكون ذلك مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء، وقد لا يكون كذلك، وقد يذكران مع التبديل والإبدال، وتارة تكون الباء داخلة على المتروك، وتارة على المأخوذ، وقد يعدي الفعل بنفسه إلى المفعولين، وتارة يقتصر به على مفعول واحد؛ ولبعض الاستعمالات معنى غير معنى الآخر وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في سورة سبأ فكأنه قيل: فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل: نعم، قال {اهبطوا مصراً} أي من الأمصار، قال الحرالي: المصر هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا الذي يجمع هذه المطالب التي طلبوها لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها، ومنه سميت مصر لجماع أمر ما في الدنيا فيها وغرابة سقياها، وإن وافق ذلك ما يقال إنها سميت مصر باسم رجل فالوفاق في حكمه الله، لأن كل دقيق وجليل فيها جارٍ بعلم الله وحكمته حيث كانت من وراء حجاب يخفيها أو ظاهرة بادية لأهل النظر والاستبصار- انتهى. {فإن لكم} أي فيه {ما سألتم} وينقطع عنكم المن والسلوى، والسؤال قال الحرالي طلب ما تدعو إليه الحاجة وتقع به الكفاية، قال: وذكر تعالى أن مطلبهم إنما يجدونه في الأمصار التي أقر فيها حكمته لا في المفاوز التي تظهر فيها كلمته، ولذلك كثيراً ما تنخرق العدة لأولياء هذه الأمة في المفاوز وقل ما تنخرق في الأمصار والقرى، لما في هذه الآية مضمونة، ولذلك حرص السالكون على السياحة والانقطاع عن العمائر، لما يجدون في ذلك من روح رزق الله عن كلمته دون كلفة حكمته. ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السلام ما كان من نبأهم مع يوشع عليه السلام بعده نظم في هذه الآية بخطاب موسى عليه السلام ما كان منهم بعد يوشع عليه السلام إلى آخر اختلال أمرهم وانقلاب أحوالهم من حسن المظاهرة لنبيهم إلى حال الاعتداء والقتل لأنبيائهم عليهم السلام، وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم إلا لأجل إيثار الدنيا ورئاستها ومالها على الآخرة إيثاراً للعاجلة على الآجلة، وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم؛ ولذلك انتظم بها الآية الجامعة وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفاً إن شاء الله تعالى- انتهى. ولما كان التقدير ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر فكان ما وعدوا به عطف عليه قوله {وضربت عليهم الذلة} ملازمة لهم محيطة بهم من جميع الجوانب كما يحيط البيت المضروب على الإنسان به، وهي اسم من الذل وهو صغار في النفس عن قهر وغلبة. قال الحرالي: وفي عطفه إفهام لمجاوزة أنباء عديدة غايتها في الظهور ما عطف عليها كأن الخطاب يفهم فأنزلناهم حيث أنزلوا أنفسهم ومنعناهم ما لا يليق عن حاله مثل حالهم فظهر منهم وجوه من الفساد، فسلط عليهم العدو فاستأصل منهم من شاء الله ومن بقي منهم أخذوا بأنواع من الهوان- انتهى. {والمسكنة} أي كذلك مناسبة لخساسة ما سألوه. قال الحرالي: وهي ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة سكوناً وانكفاف حراك- انتهى. {وباؤوا} أي رجعوا وكانوا أحقاء {بغضب} من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له. قال الحرالي: معناه إجماع القاهر على الانتقام في حق مراغمة- انتهى. {من الله} الملك الأعظم لجرأتهم على هذا المقام الأعظم مرة بعد مرة وكرة إثر كرة. قال الحرالي: وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدنيا منهم من مثل أحوالهم باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام والمتشابه بالأعلى من الطيب والأطيب المأخوذ عفواً واقتناعاً- انتهى. ثم ذكر سبب هذا وقال الحرالي: ولما كان الغضب إنما يكون على من راغم الجليل في معصيته ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم ذكر فعلهم- انتهى. فقال {ذلك} أي الأمر العظيم الذي حل بهم من الغضب وما معه، ويجوز أن يرجع إلى اهتمامهم بأمر معاشهم وعنايتهم بأحوال شهواتهم على هذا النحو الأخس الأدنى {بأنهم} أي بسبب أنهم {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكفرون} أي مجددين مستمرين {بآيات الله} أي يسترون إذعانهم وتصديقهم بسبب آيات الله الذي له جميع العظمة كتماناً عمن لا يعلم الآيات وتلبيساً، وكان تجديد ذلك والإصرار عليه ديدناً لهم وخلقاً قائماً بهم. قال الحرالي: والكفر بالآيات أبعد الرتب من الإيمان، لأنه أدنى من الكفر بالله، لأن الكفر بالله كفر بغيب والكفر بآيات الله كفر بشهادة {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة *} [البلد: 19] انتهى. {ويقتلون النبيين} أي كان ذلك جبلة لهم وطبعاً. قال الحرالي: وهذا جمع نبيء وهو من النبأ وهو الإخبار عن غيب عجز عنه المخبر به من حيث أخبر- انتهى. ولما كان النبي معصوماً ديناً ودنيا قال {بغير الحق} أي الكامل تنبيهاً على أن قتله لا يقع إلا كذلك، لكن هذا لا ينفي أن يكون ثم شبهة كظن التنبؤ فالذم على الإقدام على إراقة الدم بدون الوضوح التام وفاقاً لنهي. {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الإسراء: 33] فهو أخف مما في آل عمران. ثم علل هذه الجرأة فقال {ذلك} أي الأمر الكبير من الكفر والقتل الذي هو من أعظم الكفر {بما عصوا} وهو من العصيان. قال الحرالي: وهو مخالفة الأمر- انتهى. {وكانوا} أي جبلة وغريزة {يعتدون} أي يتجاوزون الحدود على سبيل التجدد والاستمرار، فإن من فعل ذلك مرد عليه ومرن فاجترأ على العظائم. قال الحرالي: وهو أي الاعتداء تكلف العداء، والعداء مجاوزة الحد، فيما يفسح فيه إلى حد لا عذر لمجاوزه من حيث فسح له سعة ما فسح وحُدّ له ما حُدّ- انتهى. وقد جاء نظم هذه الآيات من قصصهم على غير ترتيبها في الوجود، وفي التوراة لما ذكرت من هذه المناسبات العظيمة والله أعلم شرح أمرها من التوراة قال في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته في نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليها آثار قراءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى كما مضى مع شخص منهم وكان هو القارئ ما نصه: وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون عليهما السلام وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب ظعنوا من رَعَمْسِيس- وفي نسخة: من عين شمس- في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول من غد الفِصح- وفي نسخة: بعد الفصح بيوم- والمراد بالشهر الأول عندهم نيسان وهو شهر الفريك، وخرج بنو إسرائيل بقوة عظيمة تجاه جميع أهل مصر كانوا مشاغيل بدفن الأبكار الذين قتلهم الرب، وبما انتقم الرب من آلهتهم، فظعن بنو إسرائيل من رعمسيس- وفي نسخة: عين شمس- ونزلوا ساحوت وارتحلوا من ساحوت ونزلوا آثمْ- وفي نسخة: آثام- التي في أقاصى المفازة وظعنوا من آثام ونزلوا في فوهة الخندق الذي في جبال بَعَلصَفُون ونزلوا بإزاء مغدول- وفي نسخة: مجدول- وارتحلوا من فوهة الخندق وجازوا في وسط البحر إلى القفر- وفي نسخة: بين البحر والقفر- وساروا مسيرة ثلاثة أيام في برية اثام ونزلوا مرراً- وفي نسخة: المُرَيرة- وأتوا آليم وفي نسخة: ونزلوا في المراير وارتحلوا من المراير وصاروا إلى آليم- وكان في آليم اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة ونزلوا هناك على الماء، وارتحلوا من آليم ونزلوا ساحل بحر سوف- وفي نسخة: على البحر الأحمر- وظعنوا من شاطئ بحر سوف- وفي نسخة: من البحر الأحمر- وفي أخرى: بحر القلزم- ونزلوا برية سينين وارتحلوا من قفر سينين ونزلوا ذِفقاً وظعنوا من ذِقفاً ونزلوا آلوش وارتحلوا من آلوش ونزلوا رفيدين- وفي نسخة: رفيديم- ولم يكن هناك ماء يشرب الشعب وظعنوا من رفيدين- وفي نسخة: رفيديم- فنزلوا برية- وفي نسخة: قفر سيناء- وظعنوا من قفر سيناء ونزلوا الموضع المعروف بقبور الشهوة وارتحلوا من مقبرة الشهوة- وفي نسخة: قفر قبور الشهوة- فنزلوا حصروث وظعنوا من حصروث فنزلوا رثما- وفي نسخة: الرامة- وارتحلوا من رثما- وفي نسخة: الرامة- فنزلوا رِمُون فيرص. وقال في السفر الثاني عند ذكر الإنعام عليهم باستنقاذهم من أيدي القبط بتلك الآيات العظيمة التي ستشرح إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف فقال موسى للشعب: اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق، لأن الرب أخرجكم من ههنا بيد منيعة فلا يؤكل الخمير في هذا اليوم وهو ذا أنتم خارجون في شهر الفقاخ- وفي نسخة: الفريك- فإذا أدخلكم الرب إلى أرض الكنعانيين والحيثانيين والأمورانيين والجاوانيين واليابسانيين والفرزانيين كالذي أقسم لآبائكم أن يعطيكم الأرض التي تغل السمن والعسل، تعملون هذا العمل في هذا الشهر، كلوا الفطير سبعة أيام ولا يوجدن الخمير عندكم؛ وتعلمون أبناءكم في ذلك اليوم وتقولون لهم إن الله فعل بنا هذا الفعل إذ أخرجنا من أرض مصر، وليكن ذلك آية على يدك وعلامة بين عينيك لتكون سنة الرب وشريعته على لسانك لأن الرب أخرجك من مصر بيد عزيزة منيعة واحتفظ بهذا وهذه الوصية من سنة إلى سنة في وقته، وإذا أدخلك الرب إلى أرض الكنعانيين التي أقسم لك ولآبائك أن يعطيكها فميز كل ذكر بفتح الرحم للرب وكل ذكر من البهائم التي تكون لك يفتح الرحم يكون خاصة للرب تفتديه بحمل، فإن لم تفتده فاذبحه، وتفتدي كل بكر ذكر من أولادك، فإذا سألك ابنك غداً وقال لك: ما هذا العمل؟ فقل: إن الرب أخرجنا من أرض مصر من العبودية والرق بيد منيعة عزيزة، لأن فرعون قسا وفظَّ وأبى أن يرسلنا، فقتل الرب جميع أبكار أرض مصر من بكر البشر إلى بكر البهائم، فمن أجل ذلك أذبح للرب كل ذكر بفتح الرحم وأفتدي جميع أبكار ولدي، فيكون ذلك علامة على يدك وذكراً بين عينيك، لأن الرب أخرجك من مصر بيد منيعة عزيزة. فلما أرسل فرعون الشعب وانطلقوا لم يرسلهم الله تعالى في طريق أرض فلسطين، لأنه كان قريباً ولأن الله قال: لعل الشعب إذا ما عاينوا القتال أن يخافوا ويرهبوا فيرجعوا إلى مصر، فساس الله الشعب في طريق برية بحر سوف، وخرج بنو إسرائيل من أرض مصر وهم متسلحون، وحمل موسى عليه السلام عظام يوسف عليه السلام معه، لأنه أقسم على بني إسرائيل بأيمان وقال: إن الله سيذكركم فأصعدوا عظامي معكم من ههنا، فظعنوا من ساحوت ونزلوا آثام التي في أقطار البرية، وكان الرب يسير أمامهم بالنهار في عمود السحاب ليسكنهم في الطريق وبالليل في عمود نار ليضيء لهم وكان يسير أمامهم بالليل والنهار، ولم يكن عمود الغمام يزول بالنهار وعمود النار بالليل من بين يدي الشعب، وكلم الرب موسى وقال له: قل لآل إسرائيل أن يرجعوا فينزلوا على شاطئ الخندق وما بين مغرول والبحر أمام بعلصفون، انزلوا هناك إزاء البحر حتى يقول فرعون إن بني إسرائيل غرباء في الأرض، فيظن أنهم قد تاهوا في القفر وأن البر قد انغلق عليهم؛ وقال الرب لموسى: أنا أقسي قلب فرعون فيسير في طلبكم فأمجد بفرعون وجميع جنوده، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب، ففعلوا كذلك؛ فأسف فرعون وعبيده لإرسال الشعب وندموا، فألجم خيله وسار في جميع شعبه وظعن في ستمائة ألف راكب مختارة وجميع مواكب المصريين أيضاً والرجال- وفي نسخة: والقواد- على جميعها، فسار المصريون في طلبهم فرهقوهم وهم حلول على المهرقان، فقرب فرعون ورفع بنو إسرائيل أبصارهم فرأوا المصريين وهم في طلبهم فخافوا خوفاً شديداً، فصلى بنو إسرائيل بين يدي الرب وقالوا لموسى: ألقلة القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البرية؟ لم فعلت بنا هذا الفعل وأخرجتنا من مصر؟ أليس هكذا كنا نقول لك ونحن بمصر: دعنا نتعبد للمصريين كان خيراً لنا أن نتعبد للمصريين من الموت في هذا القفر؟ فقال موسى للشعب: لا خوف عليكم! انتظروا فأبصروا خلاص الرب إياكم في هذا اليوم، لأنكم عاينتم المصريين يومنا هذا، لا تعودون أن تعاينوهم أيضاً إلى الأبد، والرب يجاهد عنكم إذ أنتم في هدوء وطمأنينة؛ فصلى موسى بين يدي الرب فقال: مُر بني إسرائيل أن يظعنوا وأنت فارفع عصاك واضرب ماء البحر، فيسير آل إسرائيل في البحر في اليبس، وها أنا ذا أقسي قلوب المصريين وأغلظها ليتبعوهم، فأمجد بفرعون وبجميع جنوده وبمواكبه وفرسانه، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب إذا مجدت بفرعون وبجميع جنوده، فظعن ملك الله الذي كان يسير أمام عسكر بني إسرائيل فصار على ساقتهم، فاحتمل السحاب الذي كان أمامهم فوقف خلفهم ودخل بين عسكر المصريين ومحلة بني إسرائيل، وكان السحاب والحِنْدِس تلك الليلة بأسرها وكان الضياء والنور لبني إسرائيل تلك الليلة كلها، فلم يقدروا على الدنو إليهم تلك الليلة. فرفع موسى يده على البحر فزجر الرب البحر بريح سموم- وفي نسخة: قَبول عاصف- أليل أجمع، فصير ماء البحر في اليبس، وانقسم الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر في اليبس، فصارت المياه كالسور بين ميامنهم ومياسرهم، فسار المصريون فدخلوا في طلبهم فصار خيل فرعون وجميع مواكبه في البحر، فلما كان عند حريم الغداة تراءى الرب لعسكر المصريين في عمود نار ومزنة غمامة، فأرجف عسكر المصريين وأفتنه وربط مواكبهم وحبسها وجعلوهم يُعنقون بالسير عليها، فقال المصريون: سيروا بنا لنهرب بين يدي آل إسرائيل، لأن الرب حارب عنهم بمصر، فقال الرب لموسى: ابسط يدك على المهرقان فتؤول المياه على المصريين فتطفح على مواكبهم وفرسانهم، فرفع يده على البحر، فرجع البحر عند وقت الغداة إلى موضعه والمصريون جعلوا يهربون إزاءه، فعذب الرب المصريين في البحر وأكذبهم، فجرت المياه وطفت على المواكب والفرسان وعلى جميع جنود فرعون الذين دخلوا في البحر في طلبهم، ولم ينج منهم واحد، فخلص آل إسرائيل في ذلك اليوم من أيدي المصريين، فنظر بنو إسرائيل إلى المصريين موتى على شاطئ المهرقان، وعاين آل إسرائيل النقمة العظيمة التي أنزلها الله بالمصريين، وخاف الشعب الرب وآمنوا به وصدقوا قول موسى عبده، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح وقالوا: نسبح الرب ذا الجلال الذي تعالى على المواكب وغرق فرسانها في البحر المنيع، والمحمود الرب الأزلي، فكان لي منجياً، هذا إلهنا فلنحمده ولنمجده، إله آبائنا فلنعظمه ولنجله، الرب ذو الملاحم، جبار اسمه، لأنه قذف بمواكب فرعون وجنوده في البحر وغرق جبابرة في بحر سوف وغطتهم الأمواج وهبطوا في القعر فرسبوا مثل الجنادل، يمينك يا رب بهية بالقوة، يمينك يا رب أهلكت أعداءك بعظم عزك، كبت شانئك أرسلت غضبك فأحرقهم كالسهم بريح وجهك، وأمرك جمدت المياه ووقف جريها كأنه الأطواد، ورسب الأغمار في قعر البحر كالرصاص في الماء المنيع؛ فمن مثلك ومن يفعل كأفعالك أيها البهي في قدسه المرهوب المحمود مظهر العجائب، سُسْتَ بنعمتك هذا الشعب الذي خلّصت، فبلغ ذلك الشعوب فارتجفوا وقلقوا وغشي الخوف والرعب سكان فلسطين، عند ذلك ذعر أشراف ادوم وغشى الرعدة والارتعاش رجال مؤاب وانكسر جميع سكان كنعان فانهزموا فلينزل بهم الخوف والقلق والرجفة بعظمة ذراعك، يغرقون كالجنادل حتى يجوز شعبك الذي خلّصت، تقبل بهم فتقدسهم في جبل ميرانك، الرب يملك إلى أبد الآبدين؛ وظعن موسى ببني إسرائيل من بحر سوف، فخرجوا حتى انتهوا إلى برية أسود، ثم ساروا في البرية مسيرة ثلاثة أيام فلم يجدوا هناك ماء، ثم انتهوا إلى مورّث فلم يقدروا على أن يشربوا ماء مورث، لأنه كان مُرّاً فتذمر الشعب على موسى وقالوا له: ما الذي نشرب الآن؟ فصلى موسى بين يدي الرب، فأظهر الرب له عوداً فألقاه في الماء، فعذب الماء هناك، علمه السنن والأحكام، فأتوا حتى انتهوا إلى آليم وكان هناك اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة فنزلوا هناك على الماء، ثم ظعنوا من آليم فأتوا برية سينين التي بين آليم وسينين في خمسة عشر من الشهر الثاني من الزمان الذي خرجوا من مصر، فتذمر جميع جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون وقالوا لهما: قد كنا نحب أن نتوفى في أرض مصر إذ كنا جلوساً بين أيدينا مراجل اللحم وكبار الخبز ونفضل فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتقتلا جماعة بني إسرائيل بالجوع! فقال الرب لموسى: ها أنا ذا مهبط لكم الخبز من السماء فليخرج الشعب فليلتقطوا طعام يوم بيوم لكي أمتحنهم هل يسيرون بوصاياي وسنني ويحفظونها أم لا، فإذا كان اليوم السادس فليعدوا فضلاً على ما يأتون به وليكن ذلك ضعف ما يلتقطون في كل يوم، فقال موسى وهارون لجميع بني إسرائيل عند الأصيل: تعلمون أن الرب أخرجكم من أرض مصر وبالغداة تعاينون مجد الرب، لأن تذمركم بلغ الرب، ونحن فمن نحن إذ تتذمرون علينا، وقال لهم موسى: إن الرب قد أعطاكم لحماً عند الأصيل لتأكلوا ورزقكم خبزاً بالغداة لتشبعوا، لأنه قد بلغ الرب تذمركم الذي تراطنون عليه، ونحن فمن نحن وليس إنما تتذمرون علينا بل على الرب، وقال لهارون: مر جميع جماعة بني إسرائيل أن يدنوا فيقفوا بين يدي الرب، فلما قال هارون ذلك لجميع جماعة بني إسرائيل التفتوا فإذا مجد الرب قد اعتلن في السحاب وقال الرب لموسى: قد بلغني تذمر بني إسرائيل فقل: عند مغارب الشمس تأكلون اللحم وبالغداة شرقاً تشبعون من الخبز فتعلمون أني أنا الرب إلهكم، فلما كان عند الأصيل صعدت السُماني فتغشت العسكر، وكان بالغداة ضبابة تقطر المن فأحاطت بالعسكر، فارتفعت الضبابة فإذا على وجه الأرض دقيق يتقشر وكان شبه صفائح الجليد على الأرض، فقال موسى: هذا الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا، وهذا قول الرب الذي أمر به ليلتقط المرء منه على قدر قوته مكيالاً لكل نفس على عدد رؤوسكم ليأخذ المرء لكل من كان في خيمته، فصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى والتقطوا، فمنهم من أخذ كثيراً ومنهم من تناول قليلاً وكالوا ذلك، فلم يفضل الذي أخذ الكثير والذي أخذ القليل لم يعدمه، فقال لهم موسى: لا تبقين منه للغد شيئاً، فلم يطيعوا موسى فأفضل رهط منهم للغد، فدب فيه الدود وأنتن، فغضب موسى، فجعلوا يلتقطونه في كل غداة كل امرئ على قدر قوته، وكان إذا حميت عليه الشمس يميع، فلما كان اليوم السادس التقطوا من الخبز ضعفي ما كانوا يتناولون كل رجل مكيالين، فأتى جميع أشياخ الجماعة فأخبروا موسى، فقال لهم: هكذا قال الرب، إن السبت راحة ودعة وغداً يوم قدس الرب؛ وقال في موضع آخر: لا تعملوا فيه عملاً بل يكون سبتاً للرب في جميع مساكنكم، وكل ما أردتم أن تختبزوه فاخبزوه واطبخوا ما أردتم طبخه واحتفظوا بما تفضلون بارداً للغد، فأبقوا منه للغد كما أمر موسى، فلم ينتن ولم يدب فيه الدود فقال لهم موسى: كلوه يومكم هذا، لأن اليوم يوم سبت للرب ولستم تقدرون عليه اليوم في الحقل، كونوا تلتقطونه ستة أيام واليوم السابع هو سبت لا يؤخذ فيه، فلما كان اليوم السابع خرج رهط من الشعب ليلتقطوا فلم يجدوا فقال الرب لموسى: حتى متى يأبوا أن يقبلوا وصاياي وسنني، فاستراح الشعب في اليوم السابع، فسماه بنو إسرائيل المن وهو كحبة الكزبرة وطعمه كشهد العسل. وقال في السفر الرابع: والمن كان يشبه حبة الكزبرة وكان منظره أبيض كالمها، وكان الشعب يترددون ويلتقطونه ويطحنونه في الرحى ويهرسونه في المهراس ويطبخونه في القدور ويصيرون منه مليلاً ويصيّر طعمه مثل طعم الخبز الذي يعجن دقيقه بالزيت. رجع إلى الثاني قال: فأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة ولم يزالوا يأكلون المن حتى انتهوا إلى أقطار الأرض ذات السكنى وحتى انتهوا إلى أقطار أرض كنعان، وكان ذلك المكيال عشر جريب أي عشر ويبة، وإن جماعة بني إسرائيل ظعنوا من برية سينين في مظاعنهم كما أمر الرب فوردوا رفيدين ولم يكن للشعب ماء يشربون، فضج الشعب على موسى وقالوا له: أعطنا ماء لنشرب، فقال: ما بالكم تضجون وكم تجربون الرب؟ واشتد عطش الشعب هناك فتذمّروا على موسى وقالوا له: لم أصعدتنا من أرض مصر لتقتلنا وأبناءنا ومواشينا بالعطش؟ فصلى موسى أمام الرب وقال: ما أصنع بهذا الشعب؟ إنهم كادوا أن يرجموني، فقال الرب لموسى: جُز قدام الشعب وانطلق ببعض أشياخ بني إسرائيل والعصا التي ضربت بها البحر ففلقته، خذها بيدك وانطلق وها أنا ذا واقفاً بين يديك على حجر الظِرّان بَحوْرِيب فاضرب عند ذلك الظران فيخرج الماء ويشرب الشعب، فصنع موسى هذا الصنيع بين أشياخ بني إسرائيل، فسمى ذلك الموضع التجريب والتذمر، لأن بني إسرائيل تنازعوا واصطخبوا ولأنهم جربوا الله وقالوا: هل الله بيننا أم لا؟ ولما كان في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من مصر انتهوا إلى برية سيناء إذ ظعنوا من رفيدين فأتوا برية سيناء وحل هناك إسرائيل قبالة الجبل، فصعد موسى إلى الجبل فدعاه الله من الجبل وقال: هكذا قل لآل يعقوب: قد رأيتم ما صنعت بالمصريين وحملتكم كأنكم على أجنحة النسور وأقبلت بكم إليّ، فإن أنتم الآن أطعتم قولي وحفظتم عهدي فأنتم أحبّ إليّ من جميع شعوب الأرض، فأتى موسى فدعا بأشياخ الشعب فقص عليهم جميع هذه الآيات التي أمره بها الرب، فأجاب الشعب كلهم جميعاً وقالوا: نحن فاعلون جميع ما أمرنا به الرب، فرد موسى جواب الشعب على الرب فقال الرب لموسى: ها أنا ذا مناجيك في سحابة مظلمة لكي يسمع الشعب كلامي إذا كلمتك فيقبلوا كلامك ويصدقوك إلى الأبد، فقال الرب لموسى: انطلق إلى الشعب وطهرهم اليوم وغداً وليبيضوا ثيابهم ويرحضوها وليستعدوا في اليوم الثالث فناشد الشعب وتقدم إليهم وقل لهم: احذروا أن تصعدوا إلى الجبل ولا تقربوا إلى حافاته، ومن دنا من الجبل فليقتل ولا تصيبه أيدي الناس بل يرجم رجماً ويقذف به إلى أسفل به بهيمة كان أو إنساناً، فإذا صمتت أصوات القرون فأنتم في حل من الصعود إلى الجبل، فهبط موسى من الجبل إلى الشعب فطهر الشعب وبيضوا ثيابهم، وقال موسى للشعب: كونوا مستعدين في اليوم الثالث، لا تقتربن إلى امرأة، فلما كان في اليوم الثالث باكروا غلساً، فإذا هم بأصوات قرون وبروق وإذا هم أيضاً بسحابة عظيمة قد حلت على الجبل، فاشتد صوت القرن جداً واشتد فزع من كان في العسكر، وأخرج موسى الشعب إلى لقاء الرب من العسكر فقاموا في حافات الجبل وكان جبل سيناء يخرج منه القُتار والدخان، لأن الرب هبط عليه بالنار وارتفع غباره كغبار الأتون وتزلزل الجبل زلزلة شديدة واشتد صوت القرن، ودعا الرب موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى وقال له الرب: انزل فأنشد بني إسرائيل وإنذرهم أن لا يتزحزحوا عند النظر بين يدي الرب فيهلك منهم كثير، وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح ويسمعون أصوات القرون ويرون الدخان يخرج من الجبل. فرأى ذلك الشعب ففزعوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى: كلمنا أنت حتى نسمع ولا يكلمنا الله لكيلا نموت، فقال موسى: لا خوف عليكم، لأن الله إنما كلمكم ليمتحنكم ويجربكم لكي تخافوه وترهبوه ولا تخطئوا ولا تأثموا، فوقف الشعب من بعيد ودنا موسى من الضباب التي اعتلن الله فيها، وقال الرب لموسى: هكذا قل لآل إسرائيل: قد رأيتم وعلمتم أني كلمتكم من السماء، لا تتخذوا معي آلهة من ذهب ولا تعملوا لكم آلهة من فضة، ثم قال: ها أنا ذا مرسل إليك الملك بين يديك ليحفظك في سفرك ويوردك البلد الذي أتقنت- وفي نسخة: الذي هيأته- فاحذره واسمع منه، لأن اسمي حالُّ عليه، فإن أنت قبلت قوله وأطعت أمره وعملت بكل ما يأمرك به أبغض مبغضيك ويسير ملكي أمامك فيدخلك على الأمورانيين- وذكر بعدهم خمس فرق- فأقتلهم وأبيدهم وأرسل الرعب والخوف والجزع بين يديك وأبيد جميع الشعوب الذين تسير إليهم ولا أبيدهم في سنة واحدة لكي لا تخرب الأرض بل رويداً رويداً حتى تعتز- وفي نسخة: تكثر- فتصير ذا بطش فترث الأرض واجعل تخومك من بحر سوف إلى فلسطين ومن البرية حتى النهر- وفسره في موضع آخر بالفرات- وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل أنت وهارون وناذاب وآبِيهُوا وسبعون رجلاً من أشياخ بني إسرائيل ويسجدون من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون ولا يصعد الشعب معه. فجاء موسى وقص على الشعب جميع عهود الرب وجميع أحكامه، فنادى الشعب كلهم بصوت عال وقالوا: نحن نفعل ما أمرنا الرب، وكتب موسى جميع كلام الرب، وغداً باكراً فبنى مذبحاً في حافة الجبل ونصب اثنتي عشرة نصبة لأسباط بني إسرائيل- ثم ذكر ذبائح وقرابين وغير ذلك ثم قال: ثم أخذ سفر العهد فتلاه على الشعب، فقالوا: نحن سامعون فاعلون ما أمرنا به الرب، فتناول موسى ذلك الدم- يعني دم القربان- فرشه على الشعب وقال: هذا دم العهد الذي عاهدكم في جميع هذه الأقاويل، وصعد موسى ومن ذكر معه ثم تركهم في مكان من الجبل ثم قال لهم امكثوا ههنا، فصعد موسى إلى الجبل وتغشاه السحاب وحل مجد الله على جبل سيناء وستره السحاب ستة أيام، ودعا الرب موسى في اليوم السابع من جوف السحاب ونظر إلى مجد الرب مثل نار تتوقد في رأس الجبل أمام جميع بني إسرائيل، فدخل موسى في جوف السحاب وصعد إلى الجبل فمكث موسى في الجبل أربعين يوماً نهاراً وأربعين ليلة، وكلم الرب موسى وقال له: قل لبني إسرائيل: فليخصوا لي تزكية أموالهم، وخذ ذلك من كل رجل بلغ أشده- ثم ذكر الأموال التي تزكى إلى أن قال: ويتخذون لي مظهراً حتى أحل بينهم كل شيء أريكه شبه القبة وجميع متاعها كذلك فليصنعوه- ثم قال: واعمل على المثال الذي أريكه في الجبل وليتخذوا تابوتاً من خشب الشمشاد طوله ذراعان ونصف وسمكه ذراع ونصف، وصفّحه بصفائح الذهب الإبريز من داخله ومن خارجه، واتخذ له طوقاً من ذهب يحيط به، وضع له أربع حلقات من ذهب وسمرها في أربع زوايا التابوت حلقتين في شق واحد وحلقتين في الجانب الآخر، واتخذ أصطاراً من خشب الشمشاد وصفحها بالذهب، وصير الأصطار في الحلق في جانبي التابوت ليحل بها، وليكن الأصطار في حلق التابوت ولا ينزع منها، وتضع الشهادة التي أعطيك في التابوت، وسمي هذا تابوت الشهادة، واتخذ كروبين أي شخصين من ذهب اتخذهما مفرعين مصبوبين فيكونا على جانبي التطهير وتكون أجنحة الكروبين مبسوطة تظل من فوق فتظل بأكنافها على التطهير، وليكن وجه كل واحد منهما إزاء صاحبه وليكن وجها الكروبين من فوق التطهير؛ وقال: واتخذ داراً للقبة من مهب الجنوب واستمر يصف له عمل هذه القبة وأعمدتها وستورها وآلاتها وخدمها وما يقرّب فيها ومحل ضربها من العسكر وعلى أيّ كيفية في نحو خمس عشرة ورقة وسماها قبة الزمان، ثم أمره تعالى في آخر هذا السفر الثاني بأشياء مما يتصل بأمتعها وسرادقاتها وغير ذلك في أزيد من عشر ورقات كما سيأتي؛ وقال في تضاعيف ذلك: وتصير الشهادة التي أعطيك في التابوت وأواعدك إلى هنالك وأكلمك فوق التطهير من بين الكروبين الذين فوق تابوت الشهادة بجميع ما آمرك في بني إسرائيل وقال: ويتخذوا هذا القربان دائماً في كل حين في أحقابكم على باب قبة الزمان قدام الرب. وأواعدكم إلى هناك لأكلمكم وأواعد بني إسرائيل إلى هناك فأتقدس بكرامتي وأحل بين بني إسرائيل فيعلمون أني أنا الرب إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر، ثم قال: فليؤد المرء منهم الزكاة عن نفسه إذا عددتهم لكيلا ينزل بهم الوباء، ثم ذكر له تفاصيل ما يؤدى وأن الزكاة على الغني والمسكين، وكلم الرب موسى وقال له: اعلم أني قد انتخبت بَصَلْيال بن أُورِي بن حُور من سبط يهودا وأسبغت عليه روح الله وملأته من الحكمة والعلم في كل علم ليعلم الصناعات في عمل آنية الذهب والفضة والنحاس وفي رندجة الحجارة ونظمها وكمالها وفي تجارة الخشب ليعمل كل عمل وقد ضممت إليه آلْيهبَ بن اخسَمَخ من سبط دان وأحللت الحكمة والفهم في قلوب ذوي الحكمة والعقل ليعملوا جميع ما أمرتك به من عمل قبة الأمد وتابوت الشهادة والتطهير الذي فوقها وجميع متاع قبة المائدة وجميع متاعها والمنارة وجميع آنيتها ومذبح البخور ومذبح القرابين وجميع آنيتهما والسطل وأسفله ولباس النضائد ولباس القدس لهارون الكاهن يعني الإمام وكسوة بنيه ليكهنوا ودهن المسح وبخور الطيب للقدس فليعملوا جميع ما أمرتك به- إلى أن قال: ودفع إلى موسى: لما فرغ من كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة لوحي حجارة مكتوب عليهما بيد الله، فرأى الشعب أن موسى قد أبطأ عن النزول من الجبل فاجتمع الشعب يعني وقالوا: نتخذ لنا آلهة تسير أمامنا، لأن الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا علم لنا ما صار من أمره- فذكر اتخاذهم العجل وأنهم ذبحوا له الذبائح وجلسوا يأكلون ويشربون وقاموا يلعبون ويتسافهون وأن هارون عليه السلام ذُعر من ذلك وفزع. وإنما لم أسُق نص التوراة عن هذا بلفظه لأن في أول عبارته ما رأيته غضاً بالنسبة إلى مقام هارون عليه السلام وحاشاه مما يوهم نقصاً فجوزت أن يكون مما بدلوه ثم تأملت ما رواه النسائي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون فوجدته ليس بعيداً من تأويله وقد ذكرت محل الحاجة منه في سورة طه والله الموفق؛ ثم قال فقال الرب لموسى: اهبط من ههنا لأن شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر أفسدوا سيرتهم وصدوا وشيكاً عن الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه فاتخذوا لهم عجلاً مفترغاً وسجدوا له بين يديه وذبحوا له الذبائح وقالوا: هذا إلهك يا إسرائيل الذي أخرجك من أرض مصر، وقال الرب لموسى: إني قد رأيت هذا الشعب قاسية قلوبهم فدعني الآن فيشتد غضبي عليهم فأقتلهم وأبيدهم وأصيرك إلى شعب عظيم، فصلى موسى بين يدي الإله وقال: كلا يا رب! لا يشتد غضبك على شعبك الذين أخرجتم من مصر بقوتك المنيعة وبذراعك العلية الرفيعة ولا يقول أهل مصر: إنك إنما أخرجتهم لهلاكهم لتقتلهم بين الجبال وتستأصل شأفتهم وتبيد خضراءهم عن جديد الأرض يا رب ليسكن غضبك ورجزك واغفر ذنب شعبك اذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب عبيدك والأيمان التي أقسمت بها لهم وقلت: إني مكثر نسلكم مثل نجوم السماء وجميع الأرض التي وعدت بها نسلهم أن تعطيهموها فيرثوها إلى الأبد؛ فعفا الرب عن شعبه ولم ينزل بهم الشر، فنزل موسى وهبط من الجبل ولَوحا الشهادة في يده لَوْحان كتب عليهما في الوجهين جميعاً واللوحان من عمل الله جل ثناؤه وخط الله مكتوب عليهما، فلما دنا من العسكر نظر العجل والصنوج فاشتد غضب موسى فرمى باللوحين منْ يده فكسرهما في سفح الجبل، ثم أخذ العجل الذي اتخذوه فأحرقه بالنار وسحله بالمبرد حتى صيره مثل التراب ونثر سحالته على وجه الماء، فوقف موسى على الباب قبة الزمان وقال: من كان من حزب الله فليقل إليّ، فانحاز إليه بنو لاوى بأجمعهم فقال لهم موسى: هكذا يقول الرب إله إسرائيل ليتقلد المرء منكم سيفه وجوزوا من باب إلى باب وجولوا العسكر وليقتل المرء منكم أخاه وصاحبه وقرابته، فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى، فقتل من الشعب في ذلك اليوم نحو من ثلاثة آلاف رجل فقال لهم موسى: كفوا أيديكم يومكم هذا من الحمية للرب لتحل عليكم البركة يومنا هذا، فلما كان الغد من ذلك اليوم قال موسى للشعب: أنتم خطئتم وارتكبتم هذه الخطيئة العظيمة! فأما الآن فإني أصعد إلى الرب لعله أن يغفر لكم ذنوبكم وإثمكم، فرجع موسى إلى الرب وقال: أطلب إليك بالتضرع اللهم ربي حقاً لقد أخطأ هذا الشعب وارتكب إثماً عظيماً واتخذوا آلهة من ذهب، فالآن إن أنت غفرت خطاياهم وإلا فامحني من سفرك الذي كتبت، فقال الرب: أنا أمحو من سفري من أخطأ وأذنب، فأما الآن فانطلق بهذا الشعب إلى الموضع الذي أقول لك وهذا ملاكي ينطلق أمامك إلى الأرض التي تغل السمن والعسل، لأني لا أصعد معكم؛ لأنهم شعب قاسية رقابهم ولعل غضبي أن يشتد عليهم فأقتلهم في الطريق، فسمع الشعب هذا القول الفظيع فحزنوا، فلم يتسلح المرء منهم بسلاحه، فأخذ موسى خيمته فنصبها خارجاً من العسكر وأبعدها من المحلة وسماها قبة الزمان، وكان من سأل الرب أمراً يخرج إلى قبة الزمان، وكان إذا خرج موسى إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرئ منهم على باب خيمته ينظرون إلى موسى من خلفه حتى يدخل إلى القبة، وإذا دخل موسى إلى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ويكلم موسى، وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرئ منهم على باب خيمته، وكلم الرب موسى مواجهة كما يكلم المرء أخاه وصاحبه، وكان يرجع إلى العسكر وكان خادمه يشوع بن نون الغلام لم يكن يفارق القبة، وقال موسى للرب: أنت يا رب أمرتني أن أصعد بهذا الشعب ولم تطلعني على من ترسل معي وقلت: إني قد أطلعتك على جميع خلائقي ومجدي وظفرت أيضاً مني برحمة ورأفة، فالآن إن كنت قد ظفرت منك برحمة ورأفة فأرني طريقك حتى أعرفك، فقال الرب لموسى: سر أمامي فأواعدك وأريحك، فقال له: إن أنت لم تصعد بيننا فلا تصعدنا من ههنا، فبماذا يعرف أني قد ظفرت منك برحمة ورأقة أنا وشعبك إلا إذا سرت بيننا فنكون أنا وشعبك منفصلين معروفين من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، فقال الرب لموسى: إني فاعل ما سألت، لأنك ظفرت مني برحمة ورأقة، وأصير اسمك معروفاً شهيراً إلى الأبد، فقال له: أرني مجدك، فقال: أنا أجيز جميع مجدي وكرامتي بين يديك ويذكر اسم الرب أمامك وأتحنن على من أردت التحنن عليه وأرحم من أردت أرحم، وقال: إنك لا تقدر على النظر إلى وجهي، لأنه لا يراني بشري فيحيا، وقال الرب لموسى: انقر لوحي حجارة مثل اللوحين الأولين اللذين كسرتهما وكن مستعداً بالغداة واصعد باكراً إلى الجبل جبل سيناء وقف هنالك على رأس الجبل، ولا يصعدن أحد معك، ولا يرى أحد في جميع الجبل، ولا ترتعي الغنم والبقر قبالة ذلك الجبل، فنقر موسى لوحين آخرين من حجارة مثل الأولين وغداً باكراً فصعد إلى طور سيناء كما أمره الرب وأخذ اللوحين في يده فنزل استعلان الرب أمامه، فقال موسى: يا رب! اللهم ربي الرؤوف الرحيم الطويل الأناة والمهل الكبير نعمته وقسطه حافظ النعمة والعدل إلى ألف حقب وتغفر الذنوب والإثم والخطايا، فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً وقال: إن ظفرت يا رب منك برحمة ورأفة فليسلك الرب الآن بيننا. لأن هذا الشعب هو شعب قاسية رقابهم، واغفر ذنوبنا وخطايانا وخبث نياتنا؛ فقال له: ها أنا ذا أعهد عهداً أمام جميع الشعب وأظهر عجائب لم أظهر مثلها في الأرض كلها وفي جميع الشعوب فيرى ذلك جميع هذا الشعب الذي أنت فيه فعل الرب الذي أمرك به أنه مخوف مرهوب، احتفظ بما آمرك به في هذا اليوم، ها أنا ذا أقبل وأبيد من بين يديك من الكنعانيين- وسمى من تقدم، وكرر النهي عن السجود لغيره سبحانه، وأوصى بأشياء منها الفطير فقال: واحتفظ بعيد الفطير سبعة أيام كما أمرتك في أوان شهر الفقاج- وفي نسخة: الفريك- لأنك إنما خرجت من مصر في شهر الفقاج، ثم قال: فمكث هناك عند الرب أربعين يوماً ولياليها لم يأكل طعاماً ولم يشرب شراباً، وكتب الله على لوحي الحجارة كلام العهد وهو العشر الآيات، فلما هبط موسى من جبل سيناء كان لوحا الشهادة في يده ولم يعلم موسى أن بشرة وجهه قد جللت بالبهاء إذ كلمه الله فنظر هارون وجميع بني إسرائيل إلى وجه موسى ففزعوا أن يقتربوا إليه، فدعاهم فأتاه هارون وجميع عظماء الجماعة وكلمهم موسى، فلما فرغ من كلامه لهم بسط على وجهه جلباباً وكان إذا دخل إلى الرب ليكلمه يسفر عن وجهه حتى يخرج، وكان يخرج فيأمر بني إسرائيل بما يؤمر به، وقال لهم: إن الرب أمر أن تعمل عملك ستة أيام واليوم السابع يكون مخصوصاً مقدساً، السبت يوم راحة قدس الرب، ومن عمل فيه عملاً فليقتل، ولا تشعلوا النار في جميع مساكنكم يوم السبت، ثم أمرهم تعالى بالزكاة من الذهب والفضة والنحاس والقز والجلود وغير ذلك وبأشياء يزيدونها في قبة الزمان في أكثر من عشر ورقات، وقال في آخر ذلك: وقال الرب لموسى: أنصب قبة الزمان في أول يوم من الشهر الأول؛ وصير تابوت الشهادة هنالك، وأسبل الجلال على التابوت- إلى أن قال: وادن بهارون وبنيه إلى باب قبة الأمد واغسلهم بالماء، والبس هارون لباس القدس وامسحه فليكهن لي، وادن بنيه وألبسهم السراويل وامسحهم كما مسحت هارون أخاك فليكهنوا لي، وليكن لهم مسحهم للكهنوت إلى الأبد لأحقابهم، فصنع موسى كما أمره الله، فلما كان أول يوم من الشهر الأول من السنة الثانية نصب القبة يوم الأحد وضرب أوتادها وركب ألواحها وزرفن عوابرها وركز أعمدتها وستر الستر على القبة وجللها من فوقها كما أمر الرب، وتناول الشهادة فوضعها في التابوت، وصير الدهوق في التابوت، ووضع التطهير على التابوت من فوق، وأدخل التابوت إلى القبة، وأخذ حجاب وجه الباب فجلل تابوت الشهادة كما أمر الرب، ونصب المنارة عند حافات القبة مما يلي مهب الشمال خارجاً من الحجاب، ونضّد عليها صفوف الخبز بين يدي الرب كما أمر الرب موسى، ونصب المنارة إزاء المائدة في حافات القبة مما يلي مهب الجنوب، ودلوا مصابيحها قدام الرب كما أمر الرب موسى، ونصب مذبح الذهب في قبة الزمان خارجاً من الحجاب، وبخر عليه بخور الطيب كما أمر الرب، وأسبل الستر على باب القبة، ونصب مذبح القرابين على الباب، وقرب عليه القرابين كما أمر الرب، ووضع السطل بين قبة الزمان والمذبح وسكب عليه ماء الغسل، وكان هارون وبنوه يغسلون أيديهم وأقدامهم إذا أرادوا الدخول إلى قبة الزمان، وكانوا إذا دنوا من المذبح يغسلون أيضاً كما أمر الرب موسى، ونصب داراً تحيط بالقبة والمذبح، وأسبل الستر على باب الدار، وكمل موسى عملها؛ وتغشت السحابة قبة الزمان وامتلأت القبة مجد الرب وكرامته، ولم يقدر موسى على الدخول إلى قبة الزمان، لأن السحاب حلت عليها. وامتلأت القبة مجد الرب وكرامته. فكان إذا ارتفع السحاب عن القبة كان بنو إسرائيل يظعنون في جميع مظاعنهم، وإن لم ترتفع الغمامة لم يظعنوا إلي اليوم الذي ترتفع فيه، لأن سحاب الرب كان يغشى القبة بالنهار وكانت النار تضيء عليها بالليل وتزهر وتنير أمام جميع بني إسرائيل في جميع مظاعنهم. وقال في أول السفر الرابع: أمر الله بإحصاء بني إسرائيل فكانوا من أبناء عشرين سنة إلى ما فوقها، من خرج منهم للحرب في الأجناد ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين دون سبط لاوى، فإنهم لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وتكون منازلهم حولها محدقة بها، وهم من ابن شهر إلى ما فوقه اثنان وعشرون ألفاً، ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: إذا أتى على الرجل من اللاويين خمسة وعشرون سنة يتقوى على أن يعمل العمل في قبة الزمان، فإذا أتت عليه خمسون سنة يخرج من العمل ولا يعمل عملاً في قبة الآمد، وكان ينزل بنو إسرائيل حول بني لاوى بإنزال الله تعالى لهم، كلّ له محل من القبة على الاستدارة، وكان ينزل من مشارقها موسى وهارون وبنوه ليحفظوا حفاظ القدس والقرابين على بني إسرائيل ومن دنا من قبة الزمان وأعمالها من الغرباء يؤمر بقتله، فقد علم من هذا ومما قبله من أن كلاًّ يصلي على باب خيمته أن قبلتهم وهم في التيه قبة الزمان، وفي اليوم الذي نصب فيه الخباء أي في قبة الزمان تغشت سحابة من عند الرب قبة الزمان وحجاب باب الشهادة وكانوا يرون في الخباء عند المساء ناراً تتوقد إلى الصباح، كذلك كان يكون في الخباء دائماً وكانت تغشاه سحابة بالنهار وتُرى فيه نار بالليل، فإذا ارتفعت السحابة عن القبة ارتحل بنو إسرائيل من مواضعهم وحيث ما نزلت السحابة هناك كان ينزل بنو إسرائيل، وإنما كان ارتحال بني إسرائيل عن قول الرب وبأمره، فربما مكثت السحابة على القبة من المساء حتى الصباح وترتفع بعد الصبح فيرتحلون، وربما مكثت الليل والنهار وربما مكثت أياماً وأشهراً وربما مكثت سنة، وكلم الرب موسى وقال له: اتخذ قرنين من قضة يكونان عند حضور الجماعة وارتحال العسكر يهتف بهما الكهنة، فتحشد إليك جماعة بني إسرائيل أجمعون إلى باب قبة الزمان، وإن نفخ في واحد اجتمع إليك القواد ورؤساء الألوف، ولما كان في السنة الثانية في عشر خلون من الشهر الثاني ارتفعت السحابة عن قبة الشهادة، وارتحل بنو إسرائيل من برية سيناء. ونزلت السحابة في قفر فاران، ثم قال: وارتحلوا من عند جبل الرب مسيرة ثلاثة أيام، فأما تابوت عهد الرب فظعن قبلهم مسيرة يوم ليهيء منزلاً، وكانت تظلهم سحابة من قبل الرب إذا ارتحلوا لئلا تؤذيهم حرارة الشمس، فلما ارتحل حاملوا التابوت قال موسى: انهض إلينا يا رب لينكسر شانئك ويبيد أعداؤك من بين يديك، وإذا نزل حملة التابوت قال: أقبل يا رب إليّ ألوف بني إسرائيل، فتذمر الشعب وساء الرب ذلك وغضب وسمع توشوشهم فاشتد غضبه عليهم واشتعلت فيهم نار من قبل الرب، فأحرقت الذي في أطراف العسكر وحوله، وضج الشعب على موسى فصلى موسى أمام الرب وخمدت النار، ودعا اسم ذلك الموضع الاحتراق، لأن نار الرب اشتعلت فيهم وأحرقتهم هناك، واشتهى الخلط الذين كانوا فيهم من الشعوب شهوة وأقبلوا على بني إسرائيل وقالوا: ليت أنا وجدنا من يطعمنا لحماً! ذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر وأكلنا القثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم والآن أنفسنا قرمة- أي يابسة- لا تقدر على شيء نأكله ما خلا هذا المن الذي قدام أعيننا، وسمع موسى الشعب يبكون في قبائلهم، كل إنسان على باب خيمته، واشتد غضب الرب، وشق ذلك على موسى أيضاً، ثم قال من أين أقدر أعطي هذه الأمة كلها لحماً؟ إنها تبكي عليّ وتقول: أعطنا لحماً، لست أقدر أحتمل هذه الأمة كلها وحدي، لأنها أقوى مني، إن كان فعلك هذا بي فاقتلني قتلاً إن وافيت منك رحمة ولا أعاين شراً ولا أرى سوء. فقال الرب لموسى: اجمع سبعين شيخاً من أشياخ بني إسرائيل الذين تعلم أنهم رؤساء الشعب وكتّابه وانطلق بهم إلى قبّة الزمان فإني أنزل إليك وأكلمك هناك وأنقص من عطية الروح التي عليك وأصيره عليهم ليحملوا أثقل هذا الشعب ولا يتركوك وحدك، ثم قال موسى للشعب: تهيؤوا غداً لتأكلوا لحماً، لأنكم بكيتم أمام الرب وقلتم: ليت من يطعمنا لحماً! وإن الموت بأرض مصر خير لنا، فسيعطيكم الرب لحماً وليس إنما تأكلون منه يوماً أو يومين بل تأكلون منه شهراً حتى يخرج من أنوفكم وتصيبكم منه تخمة، وجمع سبعين شيخاً من مشايخ الشعب وأقامهم حول الخباء، ونزل الرب سبحانه وكلمه وأخذ من الروح الذي عليه وصيره على السبعين، ودخل موسى العسكر هو وأشياخ بني إسرائيل، وهبت ريح من قبل الرب وأصعدت السلوى من البحور وألقته على العسكر ومسيرة يوم يمنة ويسرة حول العسكر وكان مرتفعاً من الأرض نحو ذراعين، وجمعوا ونشروا حول العسكر ليكون لهم قديداً، فبينا اللحم بين أسنانهم قبل أن ينقلع اشتد غضب الرب عليهم وضرب الشعب ضربة عظيمة جداً ودعا اسم ذلك الموضع قبور الشهوة، وارتحل الشعب من قبور الشهوة فأتوا حصروث ونزلوها، وذكر أنهم مكثوا هنالك سبعة أيام ثم قال: ثم ارتحل الشعب من حصروث ونزلوا مفازة فاران وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوماً يُحسبون الأرض التي أعطى بني إسرائيل- فذكر إرسال النقباء الاثني عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المائدة ثم قال: ورجعوا إلى موسى بعد أربعين يوماً، فأتوا موسى وهارون وجماعة بني إسرائيل إلى برية فاران إلى رقيم- انتهى شرح ما أشير إليه في هذه السورة من قصص بني إسرائيل من التوراة. ولما بين سبحانه أنهم لما تعنتوا على موسى عليه السلام كما مر ويأتي عن نصوص التوراة مرة بعد مرة أورثهم كفراً في قلوبهم فمردوا على العصيان والتجرّؤ على مجاوزة الحدود فضرب عليهم الذلة والمسكنة وأحلهم الغضب، وكان في ذلك تحذير لمن طلب سلوك ذلك الصراط المستقيم من حالهم، وإعلام بأن المتقين المستجاب لهم في الدعاء بالهداية ليسوا في شيء من ذلك بل قالوا: اهدنا، عن يقين وإخلاص متبرئين من الدعاوى والاعتراض على الرسل نبه على أن من عمل ضد عملهم فآمن منهم أو من غيرهم من جميع الملل كان على ضد حالهم عند ربهم فلا يغضب عليهم بل يوفيهم أجورهم ويورثهم الأمن والسرور المتضمنين لضد الذلة والمسكنة فقال تعالى {إن الذين آمنوا} أو يقال إنه سبحانه لما علّل إهانة بني إسرائيل بعصيانهم واعتدائهم كان كأنه قيل: فما لمن أطاع؟ فأجيب بجواب عام لهم ولغيرهم، أو يقال إنّه لما أخبر تعالى بأنهم ألزموا الخزي طوق الحمامة وكان ذلك ربما أوهم أنه لا خلاص لهم منه وإن تابوا وكانت عادته سبحانه جارية بأنه إذا ذكر وعداً أو عيداً عقبه حكم ضده ليكون الكلام تاماً، اعلموا أن باب التوبة مفتوح والرب كريم على وجه عام. وقال الحرالي: لما أنهى الحق تعالى نبأ أحوال بني إسرائيل نهايته مما بين أعلى تكرمتهم بالخطاب الأول إلى أدنى الغضب عليهم بهذا النبأ الآخر عنهم إعراضاً في مقابلة ذلك الإقبال الأول وكانوا هم أول أهل كتاب أشعر تعالى بهذا الختم أن جميع من بعدهم يكون لهم تبعاً لنحو مما أصابهم من جميع أهل الملل الأربعة- انتهى. فقيل {إن الذين آمنوا} أي ادعوا الإيمان بما دعا إليهم محمد صلى الله عليه وسلم {والذين هادوا} أي ادعوا أنهم على دين موسى عليه السلام. قال الحرالي: وهو من الهود وهو رجوع بالباطن وثبات فيه- انتهى. وقال أبو عمر وابن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون: إن السماوات والأرض تحركتا حين آتى الله عزّ وجلّ التوراة لموسى عليه السلام {والنصارى} المدعين أنهم تبعوا المسيح عليه السلام. قال الحرالي: جمع نصران فإن كان من النصرة فهو فعلان. ولما كانت هذه السورة في استعطاف بني إسرائيل ترغيباً وترهيباً قرن هنا بين فريقيهم، ولما كانت ملة الصابئة جامعة لما تفرق من أصول أديان أهل الشرك تلاهم بهم مريداً كل مشرك فقال {والصابئين} المنكرين للرسالة في الصورة البشرية القائلين بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب، قال الحرالي: بالهمز من صبأ يصبأ صبأ وبغير همز من صبا يصبوا صبواً، تعاقبت الهمزة والياء مع الصاد والباء لعام معنى هو عود إلى حال صغر بعد كبر- انتهى. {من آمن} أي منهم بدوامه على الإيمان إن كان آمن قبل ذلك، ودخوله في الإيمان إن كان كافراً فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز {بالله} أي لذاته {واليوم الآخر} الذي الإيمان به متضمن للإيمان بجميع الصفات من العلم والقدرة وغيرهما وحاثّ على كل خير وصادّ عن كل ضير {وعمل صالحاً} أي وصدق ما ادعاه من الإيمان باتباع شرع الرسول الذي في زمانه في الأعمال الظاهرة ولم يفرق بين أحد من الرسل ولا أخل بشيء من اعتقاد ما جاءت به الكتب من الصلاح. قال الحرالي: وهو العمل المراعى من الخلل، وأصله الإخلاص في النية وبلوغ الوسع في المحاولة بحسب علم العامل وإحكامه، وقال: والعمل ما دبر بالعلم- انتهى. ولما كان الإفراد أدل على تخصيص كل واحد بما له والجمع أدل على إرادة العموم وأقطع للتعنت أفرد أولاً وجمع هنا فقال {فلهم أجرهم} الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان، وهو في الأصل جعل العامل على عمله، كائناً «عند ربهم» فهو محفوظ لا يخشى عليه نسيان ولا يتوجه إليه تلف {ولا خوف عليهم} من آتٍ يستعلي عليهم من جميع الجهات {ولا هم يحزنون *} على شيء فات بل هم في أعظم السرور بما لهم من العز والجدة ضد ما للمعتدين من الذل والمسكنة، وحسن وضع هذه الآية في أثناء قصصهم أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم، وربما أمروا بقتل النساء أيضاً، فربما ظنّ من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل. قال في التوراة في قصة مدين: وقتلوا كل ذكر فيها، ثم قال: وغضب موسى فقال لهم: لماذا أبقيتم على الإناث؟ وهن كنّ عشرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته- يعني بما أفضى إلى الزنا، ثم قال: وقال الرب لموسى: كلّم بني إسرائيل وقل لهم: أنتم جائزون الأردن لتهلكوا جميع سكان الأرض ونحو هذا مما لعل بعضه أصرح منه وقد ذكر منه في سورة المائدة، وفي وضعها أيضاً في أثناء قصصهم إشارة إلى تكذيبهم في قولهم: {ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع، وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذلة والمسكنة، وسيأتي بعض ذلك عند قوله: {لا تعبدون إلاّ الله} [البقرة: 83] الآية، بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف في الدين فإنه قال في وسط السفر الثاني: وإذا لقيت ثور عدوك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه، وإذا رأيت حمار عدوك جاثماً تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده، ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فإنه لما ذكر تعالى للمؤمنين هذا الجزاء الذي فخم أمره ترغيباً بإبهامه ونسبته إلى حضرة الرب المحسن بأنواع التربية وأنه لا خوف معه ولا حزن تلاه بأنهم لم يؤمنوا بعد رؤية ما رأوا من باهر الآيات حتى رفع فوقهم الطور وعلموا أنه دافنهم إن عصوا، فكان قبوله من أعظم النعم عليهم، لأن حقه الرد، لأنه كالإيمان عند رؤية البأس لا إيمان بالغيب، ثم ذكر أنه لما أقلع عنهم تولوا عن الحضرة الشريفة إلى حضرات الشيطان فأكرموا المعاصي إشارة إلى أنهم أغلظ الناس أكباداً وأكثرهم جرأة وعناداً لا يرعوون لرهبة ولا يثبتون لرغبة فقال تعالى {وإذ} وأخصر من هذا أن يقال إنه لما قرر سبحانه قوله للعالم العامل المذعن كائناً من كان تلاه بما لليهود من الجلافة الداعية إلى النفور عن خلال السعادة التي هي ثمرة للعلم وما له سبحانه من التطول عليهم بإكراههم على ردهم إليه فقال وإذ أي اذكروا يا بني إسرائيل إذ {أخذنا} بما لنا من العظمة {ميثاقكم} بالسمع والطاعة من الوثيقة وهي تثنية العهد تأكيداً كإثباته بالكتاب- قاله الحرالي. {ورفعنا} ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة عاماً لهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان نزع الجار فقال {وفوقكم الطور} ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور، وقلنا لكم وهو مظل فوقكم {وخذوا ما آتيناكم} من الكتاب للسعادة بطاعتي والتزام أحكامي الموجبة للكون في حضرتي «بقوة» أي بجد واجتهاد، والقوة باطن القدرة، من القوى وهي طاقات الحبل التي يمتن بها ويؤمن انقطاعه- قاله الحرالي. {واذكروا ما فيه} من التمسك به وللانتقال عنه عند مجيء الناسخ المنعوت فيه ذكراً يكون بالقلب فكراً وباللسان ذكراً {لعلكم تتقون *} أي لتكونوا على رجاء من أن تتقوا موجبات السخط. ولما كان التقدير: فأخذتم ذلك وأوثقتم العهد به خوفاً من أن يدفنكم بالجبل عطف عليه وأشار إلى أنه من حقه البعد عن تركه بأداة البعد.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} قوله: {ثم توليتم} والتولي قال الأصفهاني: أصله الإعراض عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمر والدين- انتهى. وهو هنا الإعراض المتكلف بما يفهمه التفعل- قاله الحرالي. وذلك لأن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه فرجعت بذلك إلى نحو من الفطر الأولى لم ترجع عنه إلاّ بمنازعة من الهوى شديدة. ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك} أي التأكيد العظيم عن الوفاء به {فلولا} أي فتسبب عن توليكم أنه لولا {فضل الله} أي الذي له الجلال والإكرام مستعل {عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة والإكرام بالهداية والنصر على الأعداء {ولكنتم من الخاسرين *} بالعقوبة وتأبد الغضب، وأيضاً فلما كان يمكنهم أن يدعوا الإيمان والعمل الصالح عقبت تلك بآية الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما آتاهم في التوراة إيماناً مصحوباً بالقوة، ومما آتاهم صفة عيسى ومحمد عليهما السلام والأمر باتباعهما، فهو مما أخذ عليهم به العهد وقد كفروا به فلم يصح لهم إيمان ولا عمل، لأن التفرقة بين ما أتى منه سبحانه زنذقة. ثم جاءت قصة المعتدين في السبت مؤكدة لذلك إذ كان حاصلها أنهم لما ضيعوا أمراً واحداً من أوامره واستخفوا به وهو تحريم السبت عذبهم بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين فقال: ولقد وأقرب من ذلك أن يقال إنه سبحانه لما ذكرهم بنعمة العفو الحافظ لهم من الخسران قرعهم بحلافة أخرى لهم خذل بها فريقاً منهم حتى غلبهم الخسران فما ضروا إلاّ أنفسهم مقسماً على أنهم بها عالمون ولها مستحضرون فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره: لقد علمتم جميع ذلك من عهودنا وما ذكرنا من الإيقاع بمن نقض من شديد وعيدنا ومن التهديد على ذلك بضرب الذلة وما تبعها من أنواع النكال و{لقد} أي وعزتي لقد {علمتم الذين اعتدوا} أي تعمدوا العدوان {منكم في السبت} بأن استحلوه وأصل السبت القطع للعمل ونحوه {فقلنا} أي فتسبب عن اعتدائهم أن قلنا بما لنا من العظمة. «لهم كونوا» بإرادتنا {قردة خاسئين *} أي صاغرين مطرودين جمع خاسئ من الخسئ وهو طرد بكره واستخباث، وسبب ذلك أن الله تعالى أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فألزمهم الله إياه وجعله لهم محنة وحرم عليهم فيه العمل، فاصطادوا على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم وحمله سبحانه فتجاهروا بالمعصية مسخ منهم من عصى بالمباشرة ومن سكت عن النهي عن المنكر {فجعلناها} أي فتسبب عن قولنا إنهم كانوا قردة كما قلنا، فجعلنا هذه العقوبة {نكالاً} أي قيداً مانعاً {لما بين يديها} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها {وما خلفها} ممن جاء بعدهم، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والنكال إبداء العقوبة لمن يتّعظ بها، واليد ما به تظهر أعيان الأشياء وصورها أعلاها وأدناها، فلذلك ثنيت لأنها يد عليا هي اليمنى ويد دنيا هي اليسرى، والخلف ما يخلفه المتوجه في توجهه فينطمس عن حواس إقباله شهوده- قاله الحرالي. وقال {وموعظة} من الوعظ وهو دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها {للمتقين *} وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور وأن النقم تقع في غيرهم وعظاً لهم. ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه عامة ثم خاصة اتبعه بيان جساوتهم في مصالح أنفسهم لينتج أنهم أسفه الناس فقال {وإذ قال موسى لقومه} بني إسرائيل {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يأمركم أن تذبحوا بقرة} لتعرفوا بها أمر القتيل الذي أعياكم أمره، وتاؤها ليست للتأنيث الحقيقي بل لأنها واحدة من الجنس فتقع على الذكر والأنثى. ولما كان من حقهم المبادرة إلى الامتثال والشكر فلم يفعلوا بيّن فظاظتهم على طريق الاستئناف معظماً لها بقوله حكاية عنهم {قالوا أتتخذنا هزواً} أي مكان هزء ومهزوءاً بنا حين نسألك عن قتيل فتأمرنا بذبح بقرة، فجمعوا إلى ما أشير إليه من إساءتهم سوء الأدب على من ثبتت رسالته بالمعجزة فرد كلامه كفر، فذكرهم بما رأوا منه من العلم بالله المنافي للهزء بأن قال {أعوذ بالله} أي أعتصم بمن لا كفوء له من {أن أكون من الجاهلين *} فإنه لا يستهزئ إلا جاهل، والعوذ اللجاء من متخوَّف لكاف يكفيه، والجهل التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم- قاله الحرالي. {قالوا} تمادياً في الغلظة {ادع لنا ربك} أي المحسن إليك فكان تخصيصهم له بالإضافة غاية في الجفاء «يبين» من التبيين وهو اقتطاع الشيء، والمعنى مما يلابسه ويداخله- قاله الحرالي. والمراد المبالغة في البيان بما يفهمه صيغة التفعيل «لنا ما هي» تلك البقرة «قال إنه يقول». ولما كانوا يتعنتون أكد فقال {إنها بقرة لا فارض} أي مسنة فرضت سنها أي قطعتها {ولا بكر} أي فتية صغيرة {عوان} أي نصف وهو خبر مبتدأ محذوف، وبين هذا الخبر بقوله {بين ذلك} أي سني الفارض والبكر {فافعلوا ما تؤمرون *} فإن الاعتراض على من يجب التسليم له كفر فلم يفعلوا بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن {قالوا ادع لنا ربك} تمادياً في الجفاء بعدم الاعتراف بالإحسان {يبين لنا ما لونها} بعد بيان سنها، واللون تكيف ظاهر الأشياء في العين- قاله الحرالي. {قال} وأكد لما مضى من تلددهم فقال {إنه يقول} وأكد إشارة إلى مزيد تعنتهم فقال {إنها بقرة صفراء} وأكد شدة صفرتها بالعدول عن فاقعة إلى قوله معبراً باللون {فاقع لونها} أي خالص في صفرته. قال الحرالي: نعت تخليص للون الأصفر بمنزلة قانئ في الأحمر فهي إذن متوسطة اللون بين الأسود والأبيض كما كانت متوسطة السن، {تسر الناظرين *} أي تبهج نفوسهم بأنك إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- قاله وهب {قالوا ادع لنا ربك} المحسن إليك بالإجابة في كل ما سألته {يبين لنا ما هي} ثم عللوا تكريرهم لذلك بقولهم {إن البقر} أي الموصوف بما قدمته {تشابه} أي وقع تشابهه {علينا} وذكر الفعل لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحدة فإن العرب تذكره نقل عن سيبويه؛ ثم أدركتهم العناية فقالوا {وإنا إن شاء الله} أي الذي له صفات الكمال وأكدوا لما أوجب توقفهم من ظن عنادهم وقدموا التبرك بالمشية لذلك على خبر إن {لمهتدون} أي إلى المراد فتبركوا بما لا تكون بركة إلا به {قال إنه يقول إنها} أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها {بقرة لا ذلول} من الذل وهو حسن الانقياد- قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله {تثير الأرض} أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً. ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل عبر فيه بالفعل وأصحبه لا عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى فقال واصفاً للبقرة {ولا تسقي الحرث} أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات لا فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف للاذلول، وحذف لا قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير {مسلّمة} أي من العيوب {لا شية} أي علامة {فيها} تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها {قالوا الآن} أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي {جئت بالحق} أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها {فذبحوها} أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها {وما كادوا} أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة {يفعلون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم- يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق، وهو دليل جواز النسخ قبل الفعل، أو يقال إنه لما كان السبت إنما وجب عليهم وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كما يأتى إن شاء الله تعالى بيانه عند قوله تعالى {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] كان أنسب الأشياء تعقيبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت، ويجوز أن يقال إنه لما كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان وكان في قصة البقرة التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها، ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث- يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} [الشورى: 11]- انتهى. ولما قسمت القصة شطرين تنبيهاً على النعمتين: نعمة العفو عن التوقف عن الأمر ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق، وتنبيهاً على أن لهم بذلك تقريعين: أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال والثاني على قتل النفس وما تبعه، ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر. وقال الحرالي: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر تدارئهم في القتيل ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة- انتهى. فقال تعالى {وإذ} أي واذكروا إذ، وأسند القتل إلى الكل والقاتل واحد لأن ذلك عادة العرب، لأن عادة القبيلة المدافعة عن أحدهم فقال {قتلهم نفساً} فأقبل عليهم بالخطاب توبيخاً لهم وإشارة إلى أن الموجودين منهم راضون بما مضى من أسلافهم وأن من ودّ شيئاً كان من عملته. ولما كانوا قد أنكروا القتل سبب عنه قوله مشيراً إلى إخفائه بالإدغام {فادارأتم فيها} أي تدافعتم فكان كل فريق منكم يردّ القتل إلى الآخر فكان لكم بذلك ثلاثة آثام: إثم الكبيرة وإثم الإصرار وإثم الافتراء بالدفع؛ قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، كأنه يشير إلى ما أذكره عنها قريباً. ولما كان فعلهم في المدارة فعل غافل عن إحاطة علم الخالق سبحانه قال يحكي حالهم إذ ذاك {والله} أي والحال أن الذي له الأمر كله {مخرج} بلطيف صنعه وعظيم شأنه {وما كنتم تكتمون *} وفي تقديمه أيضاً زيادة تبكيت لهم بتوقفهم في ذبح بقرة أمروا بذبحها لمصلحة لهم عظيمة بعد مبادرة بعضهم إلى قتل إنسان مثله بعد النهي الشديد عنه وقال منبهاً بالالتفات إلى أسلوب العظمة على ما في الفعل المأمور به منها {فقلنا} أي بما لنا من العظمة {اضربوه} وأضمر ذكر البقرة ولم يظهر دلالة على اتحاد هذا الشق الأول من القصة الذي جعل ثانياً بالشق الذي قبله في أنهما قصة واحدة فقال {ببعضها} قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة: قلنا اضربوا المقتول ببعض البقرة فضربوه به فحيي، يعني والدليل على هذا المحذوف قوله {كذلك} أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة {يحيي الله} أي الذي له صفات الكمال {الموتى} مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد- انتهى. روي أنهم لما ضربوه قام وقال: قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخدا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك؛ وهذه الخارقة كما أَخْبَرَ نَبِيَّنا صلى الله عليه وسلم ذراعُ الشاة المسمومة بأنه مسموم لما سمته اليهودية التي كانت في قومها هذه الآية، وجعل هذا التنبيه على البعث في قصصهم، لأنه من أعظم الأدلة عليه، وقد وقع منهم ما ساغ معه عدهم منكرين وهو قولهم للمشركين: دينكم خير من دين محمد، أو أن هذا تنبيه مقصود به حث العرب على سؤال من استنصحوهم في السؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم لكونهم أهل العلم الأول، فهو ملزِم لهم باعتقاد البعث أو اعتقاد كذب اليهود، وعبر بالاسم العلم لأن الإحياء من أخص الآيات بصفة الإلهية كما أن الإرزاق أخص الآيات بالربوبية {ويريكم آياته} فيما يشهد بصحته {لعلكم تعقلون *} أي لتكونوا برؤية تلك الآيات الشاهدة له على رجاء من أن يحصل لكم عقل فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلاً عن الوقوع أشار إليه بقوله {ثم قست} من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر {قلوبكم} ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال {من بعد ذلك} أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيراً لهم بطول إمهاله لهم سبحانه مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيراً من مثل ما أحل بأهل السبت {فهي} أي فتسبب عن قسوتها أن كانت {كالحجارة} التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين. ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال {أو} قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام- انتهى. وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال {أشد قسوة} لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك. ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيراً إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله: {وإن من الحجارة} وزاد في التأكيد تأكيداً لذلك قوله {لما يتفجر} أي يتفتح بالسعة والكثرة {منه الأنهار} ذكر الكثير من ذلك وتذكيراً بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال: {وإن منها لما يشقق} أي يسيراً بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين- قاله الحرالي. {فيخرج منه الماء} الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك وقلوبكم لانتقاد لشيء من الأوامر فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه. ولما كان التقدير: فما أعمالكم- أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب- مما يرضي الله؟ عطف عليه {وما} ويجوز أن يكون حالاً من قلوبكم أي قست والحال أنه ما {الله} أي الذي له الكمال كله {بغافل} والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به {عما تعملون} فانتظروا عذاباً مثل عذاب أصحاب السبت إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه بقوله تعالى: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسبباً عنه أنه قال في السفر الخامس منها ما نصه: فإذا وجدتم قتيلاً في الأرض التي يعطيكم الله ربكم مطروحاً لا يعرف قاتله يخرج أشياخكم وقضاتكم ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأية قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلاً لم يعمل به عمل ولم يحرث به حرث، فينزل أشياخ تلك القرية العجل إلى الوادي الذي لم يزرع ولم يحرث فيه حرث يذبحون العجل في ذلك الوادي ويتقدم الأحبار بنو لاوى الذين اختارهم الله ربكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب وعن قولهم يقضي كل قضاء ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي ويحلفون ويقولون: ما سفكت أيدينا هذا الدم وما رأينا من قتله فاغفر يا رب لآل إسرائيل شعبك الذين خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم وأنتم فافحصوا عن الدم واقضوا بالحق وأبعدوا عنكم الإثم واعملوا الحسنات بين يدي الله ربّكم- انتهى. وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع هذا الأصل المذكور في القرآن العظيم والله أعلم. ولما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم منكراً للطمع في إيمانهم بعد ما قرر أنه تكرر من كفرانهم فقال: {أفتطمعون} والطمع تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له {أن يؤمنوا} أي هؤلاء الذين بين أظهركم وقد سمعتم ما اتفق لأسلافهم من الكثافة وهم راضون بذلك وإلا لآمنوا بمجرد هذا الإخبار عن هذه القصص من هذا النبي الأمي الذي يحصل التحقيق بأنه لا معلم له بها إلاّ الله معترفين «لكم وقد» أي والحال أنه قد {كان فريق} أي ناس يقصدون الفرقة والشتات {منهم} قال الحرالي: من الفرق وهو اختصاص برأي وجهة عمن حقه أن يتصل به ويكون معه- انتهى. و{يسمعون كلام الله} المستحق لجميع صفات الكمال والكلام قال الحرالي: هو إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار- انتهى. {ثم يحرفونه} أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، وفي ذكر الفريق مع المعطوفات عليه تأكيد لعظيم تهمّكهم في العصيان بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقاً في الكفر والعدوان والتبرء من جلباب الحياء، وقوله: {من بعد ما عقلوه} مع كونه توطية لما يأتي من أمر الفسخ مشيراً إلى أن تحريفهم لم يكن في محل إشكال لكونه مدركاً بالبديهة، وأثبت الجار لاختلاف أحوالهم. ولما كان هذا مع أنه إشارة إلى أنهم على جبلات إبائهم وإلى أن من اجترأ على الله لم ينبغ لعباد الله أن يطمعوا في صلاحه لهم، لأنه إذا اجترأ على العالم بالخفيات كان على غيره أجرأ مشيراً إلى أنه لا يفعله عاقل ختمه بقوله: {وهم يعلمون *} أي والحال أنهم مع العقل حاملون للعلم فاهمون له غير غافلين بل متعمدون. ولما كان الكلام مرشداً إلى أن التقدير فهم لجرأتهم على الله إذا سمعوا كتابكم حرفوه وإذا حدثوا عباد الله لا يكادون يصدقون عطف عليه قوله {وإذا لقوا الذين آمنوا} بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا} نفاقاً منهم {آمنا وإذا خلا بعضهم} أي المنافقين {إلى بعض قالوا} لائمين لهم ظنّاً منهم جهلاً بالله لما وجدوا كثيراً من أسرارهم وخفي أخبارهم مما هو في كتابهم من الدقائق وغير ذلك عند المؤمنين مع اجتهاده في إخفائها أن بعضهم أفشاها فعلمت من قبله {أتحدثونهم} من التحديث وهو تكرار حدث القول أي واقعه {بما فتح الله} ذو الجلال والجمال {عليكم} من العلم القديم الذي أتاكم على ألسنة رسلكم أو بما عذب به بعضكم. والفتح قال الحرالي توسعة الضيق حساً ومعنى {ليحاجوكم} أي المؤمنون {به عند ربكم} والمحاجة تثبيت القصد والرأي بما يصححه. ولما كان عندهم أن إفشاءهم لمثل هذا من فعل من لا يفعل قالوا إنكاراً من بعضهم على بعض {أفلا تعقلون *} ويمكن أن يكون خطاباً للمؤمنين المخاطبين يتطمعون، أي أفلا يكون لكم عقل ليردكم ذلك عن تعليق الأمل بإيمانهم. ولما كان ظنهم هذا أقبح الفساد لأنه لو لم يكن علمه من قبل الله لم يقدر غيره أن يعبر عنه بعبارة تعجز الخلائق عن مماثلتها وصل به قوله موبخاً لهم {أولا} أي ألا يعلمون أن علم المؤمنين لذلك لم يكن إلا عن الله لما قام عليه من دليل الإعجاز أو لا {يعلمون أن الله} الذي له الإحاطة بكل شيء {يعلم ما يسرون} أي يخفون من قولهم لأصحابهم ومن غيره {وما يعلنون} أي يظهرون من ذلك فيخبر به أولياءه. ولما ذكر سبحانه هذا الفريق الذي هو من أعلاهم كفراً وأعتاهم أمراً عطف عليه قسماً أعتى منه وأفظ لأن العالم يرجى لفته عن رأيه أو تخجيله بالحجاج بخلاف المقلد العاتي الكثيف الجافي فقال {ومنهم أميون} ويجوز أن يراد بهم من لا يحسن الكتابة ومن يحسنها وهو غليظ الطبع بعيد عن الفهم، لأن الأمي في اللغة من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتابة وهو باق على جبلته وحال ولادته والغبي الجلف الجافي القليل الكلام، فالمعنى أنهم قسمان: كتبة وغير كتبة، وهم المراد بالأميين، وهؤلاء مع كونهم لا يحسنون الكتاب يجوز أن يتعلموا القراءة تلقيناً ولا يفهمون المعاني، ويجوز أن يكون المعنى أنهم قسمان: علماء نحارير عارفون بالمعاني وجهلة غبيون لا حظ لهم من التوراة إلا القراءة الخالية عن التدبر المقرونة بالتمني ولذلك قال: {لا يعلمون الكتاب} أي بخلاف القسم الذي أكد فيه كونهم من أهل العلم. ولما كان المراد سلب العلم عنهم رأساً أبرز الاستثناء مع كونه منقطعاً في صورة المتصل فقال: {إلاّ أماني} جمع أمنية، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، ويقال إن معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى- قاله الحرالي. أي إن كانت الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم لا غيرها من جميع أنواعه. ولما أفهم ذلك أن التقدير ما هم ألا يقدرون تقديرات لا علم لهم بها عطف عليه قوله: {وإن هم إلا يظنون} تأكيداً لنفي العلم عنهم. ولما أثبت لهذا الفريق القطع على الله بما لا علم لهم به وكان هذا معلوم الذم محتوم الإثم سبب عنه الذم والإثم بطريق الأولى لفريق هو أردؤهم وأضرهم لعباد الله وأعداهم فقال: {فويل} والويل جماع الشر كله- قاله الحرالي. {للذين يكتبون} أي منهم ومن غيرهم {الكتاب} أي الذي يعلمون أنه من عندهم لا من عند الله {بأيديهم} وأشار إلى قبح هذا الكذب وبعّدَ رتبته في الخبث بأداة التراخي فقال {ثم يقولون} لما كتبوه كذباً وبهتاناً {وهذا من عند الله} الملك الأعظم ثم بين بالعلة الحاملة لهم على ذلك خساستهم وتراميهم إلى النجاسة ودناءتهم فقال: {ليشتروا به} أي بهذا الكذب الذي صنعوه {ثمناً قليلاً} ثم سبب عنه قوله: {فويل لهم مما كتبت أيديهم} من ذلك الكذب على الله {وويل لهم مما يكسبون *} أي يجدون كسبه مما اشتروه به، وجرد الفعل لوضوح دلالته على الخبث بقرينة ما تقدم وإذا كان المجرد كذلك كان غيره أولى قال الحرالي: والكسب ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار على إحساس بمنة فيه وقوة عليه- انتهى. وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنه لإعجازه لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه فيلبس به- فللّه المنّة علينا والفضل. ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير: فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى: {وقالوا لن تمسّنا} من المس وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره {النار} أي المعدة في الآخرة {إلا أياماً} ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم: {معدودة} أي منقضية، لأن كل معدود منقض. قال الحرالي: والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران. ولما ادعوا ذلك ادعوا أن المسلمين يخلفونهم بعد ذلك فيها، روى البخاري في الجزية والمغازي والطب والدارمي في أول المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان ههنا من يهود، فجمعوا له فقال: إن سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت وبررت، قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسؤوا فيها! والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك» ولما ادعوا ذلك كان كأنه قيل: فيما ذا نرد عليهم؟ فقال {قل} منكراً لقولهم {اتخذتم} في ذلك {عند الله} أي الذي له الأمر كله {عهداً فلن} أي فيتسبب عن ذلك أنه يوفي بعهده، لأنه {يخلف الله} الذي له صفات الكمال {عهده أم} لم يكن ذلك فأنتم {تقولون على الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما لا تعلمون} ومعنى الإنكار في الاستفهام أنه ليس واحد من الأمرين واقعاً، لا اتخذتم عهداً ولا قلتم ذلك جهلاً، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه، ولما انتفى الأمران علم أن الكائن غير ما ادعوه فصرح به في قوله: {بلى} أي لتمسنكم على خلاف ما زعمتموه، فإنّ بلى كلمة تدل على تقرير يفهم من إضراب عن نفي كأنها بل وصلت بها الألف إثباتاً لما أضرب عن نفيه- قاله الحرالي. ونعم جواب لكلام لا جحد فيه. ولما أضرب سبحانه عما قالوه من القضاء في الأعيان قاضياً عليهم بالخسران علل ذلك بوصف هم به متلبسون معلماً بأن من حق الجاهل بالغيب الحكم على الأوصاف التي ناط علام الغيوب بها الأحكام فقال: {من كسب سيئة} أي عملاً من حقه أن يسوء {وأحاطت به خطيئة} بحيث لم يكن شيء من أحواله خارجاً عن الخطيئة بل كانت غامرة لكل ما سواها من أعماله، ولا يكون ذلك إلاّ للكفر الهادم لأساس الأعمال الذي لا يتأتى بقاء الأعمال بدونه. ولما كان إفراد الضمير أنصّ على جزاء كل فرد والحكم بالنكال على الكل أنكأ وأروع وأقبح وأفظع وأدل على القدرة أفرد ثم جمع فقال آتياً بالفاء دليلاً أن أعمالهم سبب دخولهم النار: {فأولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار هم} خاصة {فيها خالدون *}. ولما بان بهذا مالهم ولكل من شاركهم في هذا الوصف عطف عليه ما لمن ادّعوا أنهم يخلفونهم في النار ولكل من شاركهم في وصفهم الذي استحقوا به ذلك فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالوحدانية بألسنتهم {وعملوا الصالحات} بياناً لأن قلوبهم مطمئنة بذلك {أولئك} العالو المراتب الشريفو المناقب، ولم يأت بالفاء دلالة على أن سبب سعادتهم إنما هو الرحمة {أصحاب الجنة} لا غيرهم {وهم} أي خاصة {فيها خالدون}
|