الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
الجزء الثاني {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} ثم شرع سبحانه يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال: {وإذ} أي اذكروا ما تعلمون في كتابكم من حال من كسب سيئة محيطة واذكروا إذ {أخذنا} بما لنا من تلك العظمة التي أشهدناكم كثيراً منها ميثاقكم ولكنه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وغيرهم فقال: {ميثاق بني إسرائيل} ويجوز أن يكون معطوفاً على {نعمتي} في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} لأن الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم. ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتباً له على الأحق فالأحق فقال ذاكراً له في صيغة الخبر مريداً به النهي والأمر وهو أبلغ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف {وقولوا} عليه: {لا تعبدون إلا الله} المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحساناً هو الإحسان كله {و} أحسنوا أو تحسنون {بالوالدين} ولو كانا كافرين. قال الحرالي: تثنية والد من الولادة لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه- انتهى {إحساناً} عظيماً لا يبلغ كنهه، لكونهما في الرتبة الثانية لجعلهما سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأول والمباشرين للتربية، وغيّر السياق فلم يقل: ولا تحسنون إلا إلى الوالدين، إفهاماً لأن الإحسان إليهما يشركهما فيه من بعدهما، لو جبر فوات هذا الحصر بتقديمهما إيذاناً بالاهتمام {وذي القربى} وهم المتوسلون بالوالدين لما لهم من أكيد الوصلة {واليتامى} لضعفهم، واليُتم قال الحرالي: فقد الأب حين الحاجة، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ، وفي البنت إلى الثيوبة لبقاء حاجتها بعد البلوغ، والقربى فعلى من القرابة وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن- انتهى {المساكين} لكسرهم. ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكناً أمر بجعل ذلك بالقول فقال عطفاً على الخبر الذي معناه الإنشاء: {وقولوا للناس} عامة {حسناً} أي حَسَناً بالتحريك وهو لغة فيه كالبُخْل والبَخَل، وذلك بأن يأمروهم بما أمر الله به وينهوهم عما نهى عنه. ولما أمرهم بما إن امتثلوه اجتمعت كلمتهم ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال: {وأقيموا الصلاة} ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه فقال: {وآتوا الزكاة} ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم توليتم} أي عن ذلك أو عن كثير منه، وأشار بصيغة التفعل إلى أن الأمور الدينية لحسنها لا يعرض عنها إلا بعلاج بين الفطرة الأولى والأمارة {إلا قليلاً منكم وأنتم} أي والحال أنكم {معرضون} عادتكم ذلك، لم يكن ذلك منكم عن غير علم، والإعراض صرف الشيء إلى العُرض التي هي الناحية. قال السمين: وروى عن أبي عمرو وغيره: إلا قليل- بالرفع، وفيه أقوال، أصحها رفعه على الصفة بتأويل إلا وما بعدها بمعنى غير- انتهى. ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا الإعراب عند قوله: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} [البقرة: 249] ذكر ما يشهد لذلك من التوراة، قال في السفر الثاني منها لما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل وقال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب، إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة من أعدائي، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي، لا تقسم بالرب إلهك كذباً، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً. أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تتمن بنت صاحبك، ولا تشتهين امرأة صاحبك ولا كل شيء لصاحبك- وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح. وقال في موضع آخر من السفر الثالث: لا تسرقوا، ولا تغدروا، ولا تحلفوا باسمي كذباً، ولا تنجسوا اسم الرب إلهكم، أنا الرب وليس غيري، لا تظلمن صاحبك، ولا تشتمن الأخرس، ولا تضع عثرة بين يدي الضرير، اتق الله ربك، لا تحيفوا في القضاء، ولا تأثموا، ولا تحابين المسكين ولا تحاب الكبير أيضاً بل أقض بالبر والعدل، لا تبغض أخاك في قلبك بل بكّت صاحبك ووبخه بالحق لكيلا يلزمك خطيئة في سببه، ولا تحقدن على أحد بل أحبب صاحبك كما تحب نفسك، ولا تتطيروا بسنح الطير، ولا يكونن فيكم عراف، ولا تُطوّلن شعر رؤوسكم، ولا تحلقوا عنافق لحاكم، ولا تخدشوا وجوهكم على الميت، ولا تكتبوا على لحومكم بالإبر، أنا الله ربكم، لا تتبعوا العرّافين والقافة ولا تنطلقوا إليهم ولا تسألوهم عن شيء لئلا تتنجسوا بهم، أكرم الشيخ وقم إليه إذا رأيته، وأكرم من هو أكبر منك، واتق الله ربك، أنا الله ربكم، وإذا سكن بينكم الذي يقبل إليّ فلا تظلموه بل أنزلوه منزلة أحدكم وصيروه منكم، الذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم أحبوهم كما تحبون أنفسكم لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، أنا الله ربكم، لا تأثموا في القضاء ولا تأثموا في الأوزان والمكاييل بل اتخذوا ميزان الحق واتخذوا مكاييل الحق، أنا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر احفظوا جميع وصاياي وأحكامي بها، أنا الرب وليس غيري. وقال في الثاني: ومن تبع العرافين والقافة وضل بهم أنزل به غضبي الشديد وأهلكه من شعبي، وأي رجل شتم والديه يقتل قتلاً ودمه في عنقه؛ ثم قال بعده: وأي رجل أو امرأة صار عرافاً أو منجماً يقتلان قتلاً، ويكون قتلهما الرجم بالحجارة، ودمهما في أعناقهما؛ وقال قبل ذلك: وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً، ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلاً، ومن سرق إنساناً فوجد معه يريد بيعه فليقتل قتلاً، ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلاً، ثم قال: لا يؤذّن الساكن بينكم ولا تعقّوهم تحوّجوهم، لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، ولا تؤذوا الأرامل والأيتام، فإن آذيتموهم فصلوا بين يدي أسمع صلاتهم وأستجيب لهم فيشتد غضبي وأقتلكم في الحرب وتكون نساؤكم أرامل وبنوكم يصيرون يتامى، وإن أسلفت رزقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم، ولا تأخذن منه رباً؛ ثم قال: ولا تقبلن الرشوة، فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء وترد فلج الصالحين. ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم فيه من العهد، وقرن به الإخراج من الديار لأن المال عديل الروح والمنزل أعظم المال وهو للجسد كالجسد للروح فقال: {وإذ أخذنا ميثاقكم} يا بني إسرائيل {لا تسفكون دماءكم} أي لا يسفك بعضكم دماء بعض {ولا تخرجون أنفسكم} بإخراج بعضكم لبعض لأن المتواصلين بنسب أو دين كالنفس الواحدة {من دياركم}، قال الحرالي: وأصلها ما أدارته العرب من البيوت كالحلقة استحفاظاً لما تحويه من أموالها- انتهى. ولما كانوا قد نكصوا عند حقوقِ الأمر فلم يقبلوا ما أتاهم من الخير حتى خافوا الدمار بسقوط الطور عليهم أشار إلى ذلك بقوله: {ثم أقررتم} أي بذلك كله بعد ليّ وتوقف، والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره- قاله الحرالي: {وأنتم تشهدون} بلزومه وتعاينون تلك الآيات الكبار الملجئة لكم إلى ذلك، وقد مضى مما يصدق هذا عن التوراة آنفاً ما فيه كفاية للموفق، وسيأتي في المائدة بقيته، إن شاء الله تعالى. ولما كان هذا بما أكد به من ذكر الميثاق في مظهر العظمة وإضافة الجناية إلى نفس الجاني جديراً بالبعد منه أشار إلى ذلك بقوله: {ثم أنتم هؤلاء} الحقيرون المقدور عليهم المجهولون الذين لا يعرف لهم اسم ينادون به، أو الموجودون الآن؛ ثم استأنف البيان عن هذه الجملة فقال: {تقتلون أنفسكم} من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق {وتخرجون فريقاً منكم} أي ناساً هم أشقّاء لكم فهم جديرون منكم بالإحسان لا بالإخراج {من ديارهم}. ولما كان من المستبعد جداً بعد الاستبعاد الأول أن يقعوا في ذلك على طريق العدوان استأنف البيان لذلك بقوله: {تظاهرون} أي تتعاونون، من التظاهر، وهو تكلف المظاهرة وهي تساند القوة كأنه استناد ظهر إلى ظهر- قاله الحرالي: {عليهم بالإثم} أي مصاحبين للإثم وهو أسوأ الاعتداء في قول أو فعل أو حال، ويقال لكذوب: أثوم، لاعتدائه بالقول على غيره، والإثم الخمر لما يقع بها من العدواة والعدوى- قاله الحرالي: {والعدوان} أي والامتلاء في مجاوزة الحدود {وإن يأتوكم} أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم {أسارى} جمع أسرى جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو القد وهو ما يقد أي يقطع من السير {تفادوهم} أي تخلصوهم بالمال، من الفداء وهو الفكاك بعوض، و{تفادوهم} من المفاداة وهي الاستواء في العوضين. قاله الحرالي. ثم أكد تحريم الإخراج بزيادة الضمير والجملة الاسمية في قوله: {وهو محرم} من التحريم وهو تكرار الحرمة بالكسر وهي المنع من الشيء لدنايته، والحرمة بالضم المنع من الشيء لعلوه- قاله الحرالي: {عليكم} ولما كان يُظن أن الضمير للفداء عينه فقال: {إخراجهم} ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} أي التوراة وهو الموجب للمفاداة {وتكفرون ببعض} وهو المحرم للقتل والإخراج، ثم سبب عن ذلك قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك} الأمر العظيم الشناعة {منكم إلا خزي} ضد ما قصدتم بفعلكم من العز، والخزي إظهار القبائح التي يستحي من إظهارها عقوبة- قاله الحرالي: {في الحياة الدنيا} تعجيلاً للعقوبة له في الدار التي جعلها محط قصده. وقد فعل سبحانه ذلك بأنواع الذل والقتل فما دونه، {ويوم القيامة} هي فعالة تفهم فيها التاءُ المبالغةَ والغلبة، وهو قيام أمر مستعظم، والقيام هو الاستقلال بأعباء ثقيلة {يردون} أي بالبعث، والرد هو الرجوع إلى ما كان منه بدء المذهب- قاله الحرالي: {إلى أشد العذاب} لأنه الخزي الأعظم. ولما كانت المواجهة بالتهديد أدل على الغضب التفت إليهم في قراءة الجماعة فعطف على ما تقديره ذلك بأن الله عالم بما قصدتموه في ذلك فهو يجازيكم بما تستحقون قوله: {وما الله} أي المحيط علماً وقدرة {بغافل عما} أي عن شيء بما {تعملون} من ذلك ومن غيره، وقراءة نافع وابن كثير بالغيب على الأسلوب الماضي. ولما كانت هذه الآيات كلها كالدليل على قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة- ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} [البقرة: 61] فذلكة ذلك قوله تعالى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين اشتروا} أي لجوا فأخذوا {الحياة الدنيا} على خساستها {بالآخرة} مع نفاستها، والدنيا فُعلى من الدنو وهو الأنزل رتبة، في مقابلة عليا، ولأنه لزمتها العاجلة صارت في مقابلة الأخرى اللازمة للعلو، ففي الدنيا نزول قدر وتعجل وفي الأخرى علو قدر وتأخر، فتقابلتا على ما يفهم تقابلين من معنى كل واحدة منهما- قاله الحرالي: فالآية من الاحتكاك، ذكر الدنيا أولاً يدل على حذف العليا ثانياً، وذكر الآخرة ثانياً يدل على حذف العاجلة أولاً. {فلا} أي فتسبب عن ذلك أنه لا {يخفف} من التخفيف وهو مصير الثقيل والمستفل إلى حال الطافي المستعلي كحال ما بين الحجر والهواء- قاله الحرالي: {عنهم العذاب} في واحدة من الدارين {ولا هم ينصرون} وهو أيضاً من أعظم الأدلة على خذلان من غزا لأجل المغنم أو غل، وقد ورد في كثير من الأحاديث والآثار التصريح بذلك، منها ما رواه مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب» وهو أيضاً شرع قديم ففي سفر يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح مدينة أريحا بعد موت موسى عليه السلام بعث إلى مدينة عاي ثلاث آلاف مقاتل ليفتحوها، فقتل منهم أهل عاي جماعة وهزموهم، فاضطربت قلوبهم وصارت كالماء، فسجد يشوع على الأرض أمام تابوت الرب هو ومشيخة بني إسرائيل، فقال له الرب: انهض قائماً، وأخبره أن قومه قد غلوا فلا يقدرون الآن أن يثبتوا لأعدائهم حتى ينحوا الحرام عنهم، وقال الله له: وإذا كان غد فقدموا أسباطكم ليقترعوا، والسبط الذي تصيبه قرعة الرب تتقدم عشائره، والعشيرة التي تصيبها القرعة تتقدم بيوتاتها، والبيت الذي يصيبه قرعة الرب ويصاب الحرام عنده يحرق بالنار هو وكل شيء له، لأنه تعدى على أمر الرب ولأنه أثم بإسرائيل؛ ففعل ما أمره الرب فأصابت القرعة عاجار بن كرمى من سبط يهودا، فأحضره وبنيه وبناته ومواشيه وخيمته وكل من كان له، فأصعدهم إلى غور عاجار، ورجمهم جميع بني إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار، وجعلوا فوقه تلاً من الحجارة الكبار إلى اليوم، ولذلك دعي اسم ذلك الموضع غور عاجار إلى اليوم، ثم أتوا من الغد إلى عاي فقتلوا جميع من فيها من بني آدم الذكور والإناث وأحرقوها. ولما بين لهم أنهم نقضوا العهود فأحاطت بهم الخطايا فاستحقوا الخلود في النار توقع السائل الإخبار عن سبب وقوعهم في ذلك هل هو جهل أو عناد فبشع سبحانه ذلك عليهم بما افتتحه بحرف التوقع فقال: {ولقد} باللام التي هي توكيد لمضمون الكلام، و«قد» هي لوقوع مرتقب مما كان خبراً أو مما سيكون علماً- قاله الحرالي. {آتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملاً بعد موسى عليه السلام بل ضبطنا أمركم بالكتاب {وقفينا} من التقفية وهي متابعة شيء شيئاً كأنه يتلو قفاه، وقفاء الصورة منها خلفها المقابل الموجه- قاله الحرالي: {من بعده} أي بعد موسى {بالرسل} أي ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى بل واترنا من بعده إرسال الرسل مواترة، وجعلنا بعضهم في قفاء بعض ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود والرسالة انبعاث أمر من المرسل إلى المرسل إليه {وآتينا} بما لنا من العظمة {عيسى} اسم معرب. أصله يسوع {ابن مريم} الذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة تجديد ما درس من بقيتها {البينات} من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها لذي عقل، والبينة من القول والكون ما لا ينازعه منازع لوضوحه- قاله الحرالي: {وأيدناه} أي قويناه على ذلك كله، من التأييد وهو من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه، كأخذ قوة المظاهرة من الظهر، لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته، واليد موضع قوة تناوله لغيره- قاله الحرالي: {بروح القدس} أي الروح الطاهر وهو جبريل عليه السلام كما أيدنا به غيره من أولي العزم. قال الحرالي: والروح لمحة من لمحات أمر الله، وأمر الله قيوميته في كلية خلقه ملكاً وملكوتاً، فما هو قوام الخلق كله ملكاً وملكوتاً هو الأمر {ألا له الخلق والأمر}، [الأعراف: 54]، وما هو قوام صورة من جملة الخلق هو الروح الذي هو لمحة من ذلك الأمر؛ ولقيام عالم الملكوت وخصوصاً جملة العرش بعالم الملك وخصوصاً أمر الدين الباقي سماهم الله روحاً، ومن أخصهم روح القدس، والقدس الطهارة العلية التي لا يلحقها تنجس على ما تقدم، ومن أخص الروح به جبريل عليه السلام بما له من روح الأمر الديني، وإسرافيل عليه السلام بما له من روح النفخ الصوري- انتهى. وقد كان لعيسى عليه السلام بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى؛ والمعنى فعلنا بكم يا بني إسرائيل ذلك ولم تزالوا في عهد جميع من ذكر ناقضين للعهود، فلا أحد أحق منكم بالخلود في النار، ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم فلم تصدقوه. ذكر شيء من الإنجيل يدل على أنه عليه السلام أتى بالبينات مع تأييده بروح القدس مستخلصاً من الأناجيل الأربعة وقد جمعت بين ألفاظها، قال متى- ومعظم السياق له: فلما سمع يسوع أن يوحنا- يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام- قد أسلم- يعني خذله أصحابه مضى إلى الجليل وترك الناصرة وجاء وسكن كَفَرناحوم التي على ساحل البحر في تخوم زابلون وبغتاليم ليكمل ما قيل في أشعيا النبي إذ يقول: أرض زابلون أرض بغتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً الجلوس في الكورة وظلال الموت نوراً أشرق عليهم، ومن ذلك بعد حبس يوحنا وافى يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل ملكوت الله قائلاً: قد كمل الزمان وقربت ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل. قال متى: وكان يمشي على بحر الجليل فأبصر أخوين سمعان الذي يدعى بطرس واندراوس أخاه يلقيان شباكهما في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما: اتبعاني أجعلكما تكونان صيادي الناس وللوقت تركا شباكهما وتبعاه؛ وجاز من هناك فرأى أخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في سفينة مع أبيهما زبدي يصلحون شباكهم فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما زبدي وتبعاه وفي إنجيل يوحنا بعد قصة يحيى بن زكريا الآتية في آل عمران: هذا كان في بيت عينا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد، ومن الغد نظر يسوع مقبلاً إليه فقال: هذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم! هذا ذلك الذي قلت من أجله: إنه يأتي وهو كان قبلي لأنه أقدم مني وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل، من أجل هذا جئت أنا لأعمد بالماء؛ وشهد يوحنا وقال: إني رأيت الروح نزل من السماء مثل حمامة وحل عليه ولم أعرفه، لكن من أرسلني لأعمد بالماء هو الذي قال: الذي ترى الروح ينزل ويثبت عليه هو يعمد بروح القدس. وأنا عاينت وشهدت: وفي الغد كان يوحنا واقفاً واثنان من تلاميذه فنظر يسوع فقال: هذا حمل الله! فسمع تلميذاه كلامه فتبعا يسوع، فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: ماذا تريدان؟ قالا له: ربي- الذي تأويله يا معلم- أين تكون؟ فقال لهما: تعاليا لتنظرا، فأتيا وأبصرا موضعه أين يكون، وأقاما عنده يومهما ذلك وكان نحو عشر ساعات، وإن واحداً من اللذين سمعا من يوحنا وتبعا يسوع كان اندراوس أخا سمعان وإنه أبصر أولاً سمعان أخاه وقال له: قد وجدنا مسياً- الذي تأويله المسيح- فجاء به إلى يسوع؛ فلما نظر إليه يسوع قال له: أنت سمعان بن يونان الذي يدعى الصفا- الذي تأويله بطرس ومن الغد أراد الخروج إلى الجليل فلقي فيليس ناتاناييل وقاله له: الذي كتب موسى من أجله في الناموس والأنبياء وجدناه وهو يسوع الذي من الناصرة، فقال له: ناتاناييل هل يمكن أن يخرج من الناصرة شيء فيه صلاح؟ فقال له فيليس: تعال وانظر، فلما رأى يسوع ناتاناييل مقبلاً إليه قال: من أجله هذا حقاً إسرائيلي لا غش فيه، فقال له ناتاناييل: من أين تعرفني؟ فقال له يسوع: قبل أن يدعوك فيليس وأنت تحت التينة رأيتك فقال له: يا معلم! أنت هو ملك إسرائيل، قال له يسوع: لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة آمنت سوف تعاين ما هو أعظم من هذا، وقال له: الحق الحق أقول لكم، إنكم من الآن ترون السماء مفتحة وملائكة الله ينزلون ويصعدون على ابن البشر. وفي اليوم الثالث كان عرش في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي يسوع وتلاميذه إلى العرش وكان الخمر قد فرغ، فقالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة لم تأت ساعتي بعد؟ فقالت أمه للخدام: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ستة أجاجين من حجارة موضوعة لتطهير اليهود تسع كل واحدة مطرين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املؤوا الأجاجين ماء، فملؤوها إلى فوق، وقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا رئيس السقاة، فلما ذاق رئيس السقاة ذلك الماء المتحول خمراً لم يعلم من أين هو، فدعا رئيس السقاة العريس وقال له: كل إنسان إنما يأتي بالشراب الجيد أولاً فإذا سكروا عند ذلك يأتي بالدون وأنت أبقيت الجيد إلى الآن! هذه الآية الأولى التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده وآمن به تلاميذه. وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه فأقاموا هناك أياماً يسيرة؛ ثم قال: وعلم السيد يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه قد اتخذ تلاميذ كثيرة وأنه يعمد أكثر من يوحنا إذ ليس هو يعمد بل تلاميذه فترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان قد أزمع أن يعبر على موضع السامرة، فأقبل إلى مدينة السامرة التي تسمى بسوخار إلى جانب القرية التي كان يعقوب وهبها ليوسف ابنه وكان هناك بئر يعقوب وكان يسوع قد عيى من تعب الطريق، فجلس على البئر في ست ساعات، فجاءت امرأة من السامرة تستقي ماء، فقال لها يسوع أعطيني أشرب- وكان تلاميذه قد دخلوا إلى المدينة ليبتاعوا لهم طعاماً- فقالت له تلك المرأة: كيف وأنت يهودي تستقي الماء وأنا امرأة سامرية واليهود لا يختلطون بالسامرة! أجاب يسوع وقال لها: لو كنت تعرفين عطية الله ومن هذا الذي قال لك: ناوليني أشرب، لكنت أنت تسألينه أن يعطيك ماء الحياة! قالت المرأة: يا سيد! إنه لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك ماء الحياة؛ لعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته! فقال لها: كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، فأما من يشرب من الماء الذي أعطيه لا يعطش إلى الأبد، قالت المرأة: يا سيد! أعطني من هذا الماء لئلا أعطش ولا أجيء ولا أستقي من ههنا، فقال: انطلقي وادعي زوجك وتعالي إلى هاهنا، قالت: ليس لي زوج، قال لها: حسناً قلت: إنه لا بعل لي، لأنه قد كان لك خمسة بعولة والذي هو لك الآن ليس هو زوجك، أما هذا فحقاً قلت، قالت: يا سيد! إني أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون: إنه ياروشليم المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال: أيتها المرأة! آمني به، إنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في يروشليم يسجدون للأب، أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم، لكن ستأتي ساعة وهي الآن لكيما الساجدون المحقون يسجدون بالروح والحق، والرب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين، والذين يسجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، قالت المرأة: قد علمت أن مَسيا الذي هو المسيح يأتي، فإذا جاء ذاك فهو يعلمنا كل شيء، فقال: أنا هو الذي أكلمك وفي هذا جاء تلاميذه وتعجبوا من كلامه مع امرأة ولم يقل أحد: ماذا تريد ولم تكلمها فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: تعالوا انظروا رجلاً أعلمني كل ما فعلت، لعل هذا هو المسيح، فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه؛ وفي هذا سأله تلاميذه قائلين: يا معلم! كل، فقال: إن لي طعاماً لا تعرفونه أنتم، فقالوا فيما بينهم: لعل إنساناً وافاه بشيء فطعمه، فقال: طعامي أنا أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله أليس أنتم تقولون: إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا قائل لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة، والزارع والحاصد يفرحان معاً، لأنه في هذا توجد كلمة الحق، إن واحداً يزرع وآخر يحصد، أنا أسألكم تحصدون شيئاً ليس أنتم تعبتم فيه بل آخرون تعبوا فيه وأنتم دخلتم على تعب أولئك؛ فآمن به في تلك المدينة سامريون كثيرون من أجل كلمة تلك المرأة، ولما صار إليه السامريون طلبوا إليه أن يقيم عندهم، فمكث عندهم يومين فآمن به كثير، وكانوا يقولون للمرأة: لسنا من أجل قولك نؤمن به لكنا قد سمعنا وعلمنا أن هذا هو المسيح بالحقيقة مخلص العالم. وبعد يومين خرج يسوع إلى الجليل ومضى من هناك، لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته، ولما صار إلى الجليل قبله الجليليون، لأنهم عاينوا كل ما عمل بايروشليم في العيد؛ ثم جاء يسوع حيث صنع الماء خمراً وكان في كفرناحوم عند الملك ابن مريض فسمع أن يسوع قد جاء من يهودا إلى الجليل، فمضى إليه وسأله أن ينزل ويبرئ ولده، لأنه قد كان قارب الموت، فقال له يسوع: إن لم تعاينوا الآيات الأعاجيب لا تؤمنون، فقال له الملك: انزل يا سيد قبل أن يموت فتاي، قال له يسوع: امض فابنك حي، فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى، وفيما هو ماض استقبله علمانه وبشروه بأن ابنه قد عاش، فسألهم: في أي وقت؟ فقالوا له: أمس في الساعة السابعة تركته الحمى، فعلم أبوه أنه في تلك الساعة التي قال له يسوع فيها: إن ابنك قد حيي، فآمن هو وبيته بأسره؛ وهذه أيضاً آية ثانية عملها يسوع لما جاء من يهودا إلى الجليل. قال مرقس: فأقبل إلى كفرناحوم وبقي يعلم في مجامعهم يوم السبت، فتعجبوا من تعليمه لأنه كان كالمسلط. قال متى: وكان يسوع يطوف في كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويبرئ كل برص ووجع في الشعب، فخرج خبره في جميع الشام فقدم إليه كل من به أصناف الأمراض والأوجاع المختلفة والذين بهم الشياطين والمعترين في رؤوس الأهلة والمخلعين فأبرأهم، وتبعه جموع كثيرة من الجليل والعشرة المدن ويروشليم واليهودية وعبر الأردن، فلما أبصر الجميع صعد إلى الجبل وجلس، وجاء إليه تلاميذه وفتح فاه يعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح! فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى! فإنهم يعزون، طوبى للمتواضعين! فإنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش من أجل البر! فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء! فإنهم يرحمون، طوبى للنقية قلوبهم! فإنهم يعاينون الله، طوبى لفاعلي السلامة! فإنهم بني الله يُدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر! فإن لهم ملكوت السماوات طوبى لكم إذا طردوكم وعَيَّروكم وقالوا فيكم كل كلمة شر من أجلي؛ افرحوا وتهللوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لأن هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم. وقال لوقا: هكذا كان آباؤكم يصنعون بالأنبياء الويل لكم أيها الأغنياء! لأنكم قد أخذتم عزاكم، الويل لكم أيها الشباعى الآن! فإنكم ستجوعون؛ الويل لكم أيها الضاحكون الآن! فإنكم ستبكون وتحزنون، الويل لكم إذا قال الناس فيكم قولاً حسناً! لأن آباءهم كذلك فعلوا بالأنبياء الكذبة- يعني المتنبئين- وفيه من الألفاظ التي لا يجوز إطلاقها في شرعنا حمل الله والأب، وقوله: بني الله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آل عمران تأويل مثل هذا على تقدير صحته عنه وأنه يرد إلى المحكم على أوضح وجه مثل الألفاظ التي وردت في شرعنا ورددناها إلى المحكم، وضل بها من حملها على ظاهرها ممن يدعي الإسلام والله الموفق. ولما كان هذا حالهم مع الرسل مع أنسهم بهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم علم أنهم في منابذتهم لهم عبيد الهوى وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال: {أفكلما} أي أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود مع مواترة الرسل ووجود الكتاب فكلما {جاءكم رسول} أي من عند الله ربكم {بما لا تهوى أنفسكم} من الهوى وهو نزوع النفس لسفل شهوتها في مقابلة معتلى الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علواً وسفلاً- قاله الحرالي: وقد دل على أن المراد الباطل بالتعبير بالهوى والنفس {استكبرتم} أي طلبتم الكبر وأوجدتموه بما لكم من الرئاسة على قومكم عن قبول الحق ميلاً إلى سنة إبليس مع إعطائكم العهد قبل ذلك على الدوام على اتباعه {ففريقاً} أي فتسبب عن طلبكم الكبر أنكم فريقاً {كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام {وفريقاً تقتلون} أي قتلتم ولم تندموا على قتلهم بل عزمتم على مثل ذلك الفعل كلما جاءكم أحد منهم بما يخالف الهوى وهم لم يبعثوا إلا لصرف الأنفس عن الهوى لأن دعوة الرسول إلى الأعلى الذي هو ضد هوى النفس؛ والظاهر أنه سبحانه أشار بهذه الصيغة المستقبلة إلى قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسم في خيبر كما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} ولما بين سبحانه مخازيهم حتى ختمها بعظيم ما ارتكبوا من الرسل من القتل المعنوي بالتكذيب والحسي بإزهاق الروح مع العلم بأنهم أتوا بالبينات والآيات المعجزات فأرشد المقام إلى أن التقدير فقالوا للأنبياء لما أتوهم أموراً كثيرة يعجب من صدورها عن عاقل وأتوا في الجواب عن تكذيبهم وقتلهم من التناقضات بما لا يرضاه عالم ولا جاهل عطف عليه أو على {وقالوا لن تمسّنا النار} [البقرة: 80] قوله- بياناً لشدة بهتهم وقوة عنادهم: {وقالوا} في جواب ما كانوا يلقون إليهم من جواهر العلم التي هي أوضح من الشمس {قلوبنا غلف} جمع أغلف وهو المغشى الذكر بالقلفة التي هي جلدته، كأن الغلفة في طرفي المرء: ذكره وقلبه، حتى يتم الله كلمته في طرفيه بالختان والإيمان- قاله الحرالي. فالمعنى: علهيا أغطية فهي لا تفهم ما تقولون. فكان المراد بذلك مع أنهم أعلم الناس أن ما يقولونه ليس بأهل لأن يوجه إليه الفهم، ولذلك أضرب الله سبحانه عنه بقوله: {بل} أي ليس الأمر كما قالوا من أن هناك غلفاً حقيقة بل {لعنهم الله} أي طردهم الملك الأعظم عن قبول ذلك لأنهم ليسوا بأهل للسعادة بعد أن خلقهم على الفطرة الأولى القويمة لا غلف على قلوبهم، لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة يلاقي به ضرر الموطي- قاله الحرالي. ثم بين علة ذلك بقوله: {بكفرهم}. قال الحرالي: أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله تعالى عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبارهم اللعن كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله: {من الجنة والناس} [الناس: 6] ليتصل طرفاه، فيكون ختماً لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به لا يقال: هي أوله ولا آخره، ولذلك ختم بعض القراء بوصله حتى لا يتبين له طرف، كما قالت العربية لما سئلت عن بنيها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. ولما أخبر بلعنهم سبب عنه قوله: {فقليلاً ما يؤمنون}، فوصفه بالقلة وأكده بما إيذاناً بأنه مغمور بالكفر لا غناء له. ولما ذكر سبحانه من جلافتهم ما ختمه بلعنهم وكان قد قدم ذكر كتابهم مراراً وأشار إلى الإنجيل بإيتاء عيسى عليه السلام البينات ذكر سبحانه كفرهم بهذا الكتاب الذي مقصود السورة وصفه بالهدى وبهذا الرسول الآتي به دليلاً على إغراقهم في الكفر، لأنهم مع استفتاحهم به صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه على من يعاديهم واستبشارهم به وإشهادهم أنفسهم بالسرور بمجيئه كانوا أبعد الناس من دعوته تمادياً في الكفر وتقيداً بالضلال، فكان هذا الدليل أبين من الأول عند أهل ذلك العصر وذلك قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب} أي جامع لجميع الهدى لعظمته لكونه {من عند الله} الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من المحببات لهم في اتباعه قوله {مصدقاً لما معهم} على لسان نبي يعرفون صحة أمره بأمور يشهد بها كتابهم، وبتصديق هذا الكتاب له بإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم، والجواب محذوف ودل ما بعد على أنه كفروا به، وفي ذلك قاصمة لهم لأن كتابهم يكون شاهداً على كفرهم، ولما بين شهادة كتابهم أتبعه شهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك فقال {وكانوا} أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيئه {يستفتحون} أي يسألون الله الفتح بالاسم الآتي به تيمناً بذكره!! {على الذين كفروا} يعني أنهم لم يكونوا في غفله عنه بل كانوا أعلم الناس به وقد وطنوا أنفسهم على تصديقه ومع ذلك كله {فلما جاءهم} برسالة محمد صلى الله عليه وسلم علم {ما عرفوا} أي ما صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم {كفروا به} اعتلالاً بأنواع من العلل البينة الكذب، منها زعمهم أن جبريل عليه السلام عدوهم وهو الآتي به؛ قال الثعلبي والواحدي: «روى ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن صوريا حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: جبريل، ولم يبعث الله نبياً إلا وهو وليه- وفي رواية: وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبريل- فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك» وقال ابن إسحاق في السيرة: حدثني عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري «أن نفراً من أحبار يهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني، قالوا: نعم، قال: فاسألوا عما بدا لكم! قالوا: فأخبرنا: كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان الشبه لها؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا عن كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان، قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه، قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكراً لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الروح، قال: أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون جبريل وهو الذي يأتيني؟ قالوا: اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم وأنهم إنما هم مع الهوى فقال مقبلاً على خطابهم لأنه أشد في التقريع {وإذ أخذنا} وأظهره في مظهر العظمة تصويراً لمزيد جرأتهم {ميثاقكم} على الإيمان والطاعة {ورفعنا فوقكم الطور} الجبل العظيم الذي جعلناه زاجراً لكم عن الرضى بالإقامة في حضيض الجهل ورافعاً إلى أوج العلم وقلنا لكم وهو فوقكم {خذوا ما آتيناكم} من الأصول والفروع في هذا الكتاب العظيم {بقوة}. ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال {واسمعوا} وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئاً عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله: {ثم توليتم} [البقرة: 83] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً {قالوا سمعنا} أي بآذاننا {وعصينا} أي وعملنا بضد ما سمعنا؛ وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك {وأشربوا} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم، وهو من الإشراب وهو مداخلة نافذة سائغة كالشراب وهو الماء المداخل كلية الجسم للطافته ونفوذه- قاله الحرالي: وقال الكشاف: وخلط لون بلون {في قلوبهم العجل} أي حبه وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه {بكفرهم} وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس. قال الإمام أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن: اعلم أن كل مربوب يخاطب بحسب ما في وسعه لقنه وينفى عنه ما ليس في وسعه لقنه فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه، وربما كان له إباء عن بعض ذلك فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء، وربما تلافته النعمة فعاد الإقبال إليه بوجه ما دون صفاء الإقبال الأول، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة فيعلو البيان والإفهام بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض، فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 45] الآية {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} [الفرقان: 47] الآية: تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين، {أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} [الأنبياء: 30] أعرض عنهما الخطاب ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته. {خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم} خاطبهم وأمرهم، فلما عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم في تمادي الخطاب {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] تنزل الخطاب في الرتبتين ليبين للأعلى ما يبينه للأدنى {ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12] وهذا الباب عظيم النفع في الفهم لمن استوضح بيانه والتفاف موارده في القرآن- انتهى. والدليل الوجودي على إشرابهم حب العجل مسارعتهم إلى عبادة ما يشبهه في عدم الضر والنفع والصورة، ففي السفر الرابع من التوراة في قصة بالاق ملك الأمورانيين الذي استنجد بلعام بن بعور ما نصه: وسكن بنو إسرائيل ساطيم وبدأ الشعب أن يسفح ببنات مواب ودعين الشعب إلى ذبائح آلهتهم وأكل الشعب من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم وكمل بنو إسرائيل العبادة بعليون الصنم واشتد غضب الله على بني إسرائيل- انتهى. ولما بين سبحانه عظيم كفرهم وعنادهم مع وقاحتهم بادعاء الإيمان والاختصاص بالجنان أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم على وجه التهكم بهم مؤكداً لذمهم بالتعبير بما وضع لمجامع الذم فقال {قل بئسما} أي بئس شيئاً الشيء الذي {يأمركم به} من الكفر {إيمانكم} هذا الذي ادعيتموه؛ وأوضح هذا التهكم بقوله على سبيل الفرض والتشكيك {إن كنتم مؤمنين} على ما زعمتم، فحصل من هذا أنهم إما كاذبون في دعواهم، وإما أنهم أجهل الجهلة حيث عملوا ما لا يجامعه الإيمان وهم لا يعلمون. ولما نهضت الأدلة على أنه لا حظ لهم في الآخرة غير النار وذلك نقيض دعواهم أنها لهم فقط في قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] تفسيرهم ذلك بأنها سبعة أيام وأنا نخلفهم فيها ختم سبحانه ذلك بدليل قطعي بديهي فقال {قل إن كانت} وقدم الجار إشعاراً بالاختصاص فقال: {لكم الدار الآخرة} أي كما زعمتم، وميزها بقوله: {عند الله} الذي له الكمال كله وبين المراد بقوله {خالصة} ولما ذكر الخلوص تأكيداً للمعنى زاده تأكيداً بقوله {من دون الناس} أي سائرهم لا يشرككم فيها أحد منهم من الخلوص وهو تصفية الشيء مما يمازجه في خلقته مما هو دونه- قاله الحرالي. {فتمنوا الموت} لأن ذلك علم على صلاح حال العبد مع ربه وعمارة ما بينه وبينه ورجائه للقائه. قال الحرالي: فعلى قدر نفرة النفس من الموت يكون ضعف منال النفس مع المعرفة التي بها تأنس بربها فتتمنى لقاءه وتحبه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، يقع ذلك لعامة المؤمنين عند الكشف حال الغرغرة، ولخاصة المؤمنين في مهل الحياة لأنهم لو كشف لهم الغطاء لم يزدادوا يقيناً، فما هو للمؤمن بعد الكشف من محبة لقاء الله فهو للموقن في حياته ويقظته، لكمال الكشف له مع وجود حجاب الملك الظاهر؛ ولذلك ما مات نبي حتى يخير فيختار لقاء الله، لتكون وفادته على الله وفادة محب مبادر، ولتقاصر المؤمن عن يقين النبي يتولى الله الخيرة في لقائه، لأنه وليه، ومنه ما ورد: «ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه» ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه، لأنه وليه يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه- انتهى. ثم سجل عليهم بالكذب فقال: {إن كنتم صادقين} أي معتقدين للصدق في دعواكم خلوصها لكم، ولما كان التقدير: فقال لهم فما تمنوه؟ عطف عليه قوله- إخباراً بالغيب قطعاً للعناد مؤكداً لأن ادعاءهم الخلوص أعظم من ادعائهم الولاية كما في سورة الجمعة: {ولن يتمنوه أبداً}، ثم ذكر السبب في عدم التمني فقال: {بما قدمت} وهو من التقدمة وهي وضع الشيء قداماً وهو جهة القدم الذي هو الأمم والتجاه أي قبالة الوجه- قاله الحرالي: وعبر باليد التي بها أكثر الأفعال إشارة إلى أن أفعالهم لقباحتها كأنها خالية عن القصد فقال: {أيديهم} أي من الظلم وإلى ذلك أشار قوله: عاطفاً على ما تقديره: فالله عليم بذلك؟ {والله} الذي لا كفؤ له {عليم بالظالمين} أي كلهم حيث أظهر تنبيهاً على الوصف الموجب للحكم وتعميماً وتهديداً. ولما بين أنهم لا يتمنونه أثبت لهم ما هو فوق ذلك من تمني الضد الدال على علمهم بسوء منقلبهم فقال: {ولتجدنهم} أي بما تعلم من أحوالهم مما منه الوجدان. وهو إحساس الباطن بما هو فيه والإصابة أيضاً لما له علقة الباطن، كأنه فيه {أحرص} صيغة مبالغة من الحرص، وهو طلب الاستغراق فيما يختص فيه الحظ- قاله الحرالي: {الناس على حياة} على أي حالة كانت وهم قاطعون بأنه لا يخلو يوم منها عن كدر فإنهم يعلمون أنها وإن كانت في غاية الكدر خير لهم مما بعد الموت {ومن} أي وأحرص من {الذين أشركوا} الذين لا بعث عندهم على الحياة علماً منهم بأنهم صائرون إلى العذاب الدائم بالسيئات المحيطة والشرك. قال الحرالي: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس له معه أمر- انتهى. ثم بين مقدار ما يتمنونه فقال: {يود} من الود وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له- قاله الحرالي. {أحدهم} أي أحد من تقدم من اليهود والمشركين بجميع أصنافهم، أو من اليهود خاصة، أو من المشركين فتكون ودادة اليهود من باب الأولى. قال الحرالي: وهو نحو من خطاب القرآن لا يصل إليه إبلاغ الخلق {لو يعمر} من التعمير وهو تمادي العمر كأنه تكرار، والعمر أمد ما بين بدو الشيء وانقطاعه- قاله الحرالي. {ألف سنة} خوفاً من الموت أو ما بعده، والألف كمال العدد بكمال ثالثة رتبة؛ والسنة أمد تمام دورة الشمس وتمام ثنتي عشرة دورة القمر- قاله الحرالي. وهذا المعنى وإن كان موجوداً في الحول والعام والحجة غير أن مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فلبلاغة القرآن لا يطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ، فهذا السياق لما كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أي حالة كانت علماً منهم بأنها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقق شقائهم عبر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان. أو ما منه الدوران الذي فيه كد وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر قال السهيلي في الروض: وقد تسمى السنة داراً في الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار- أي سنة، ثم قال: فتأمل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح باباً من العلم بإعجاز القرآن والله المستعان. {وما هو} أي تعميره {بمزحزحه} والزحزحة إبعاد الشيء المستثقل المترامي لما يبعد عنه- قاله الحرالي: {من العذاب} أي زحزحة مبتدأة من العذاب، وعبر بمن دون عن إعلاماً بأنهم لم يفارقوا العذاب دنيا ولا آخرة وإن لم يحسوا به في الدنيا، ثم فسر الضمير بقوله: {أن يعمر} إنما تزحزحه الطاعة المقرونة بالإيمان الصحيح الذي ليس فيه تفرقة. ولما كان التقدير: لأنهم يعملون في أعمارهم الأعمال السيئة المحيطة، عطف عليه قوله: {والله} الذي له الأمر كله {بصير بما يعملون}. ولما ذكر عداوتهم لأخص البشر واجتراءهم عليه بالتكذيب والقتل، وختم ذلك بعداوتهم لأكمل الخلق وأخصهم حسداً لنزول هذا الذكر عليه عبارة ثم إشارة بما رمزه إلى نصبهم لقتله وأنهى ذلك بأنه لا محيص لهم من العذاب، لأنه بصير بأعمالهم الموجبة له ذكر ما هو من دقيق أعمالهم في عراقتهم في الكفر بعداوتهم لخواص الملائكة الذين هم خير محض لا حامل أصلاً على بغضهم إلا الكفر، وبدئ بذكر المنزل للقرآن، لأن عداوتهم للمنزل عليه لأجل ما نزل عليه عداوة لمنزله، لأنه سبب ما كانت العداوة لأجله، فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم إعلاماً بما أبصره من خفي مكرهم القاضي بضرهم: {قل} أو يقال- وهو أحسن وأبين وأمتن: ولما أمره صلى الله عليه وسلم بما دل على كذبهم في ادعائهم خلوص الآخرة لهم وأخبر بأنه لا بد من عذابهم أمره بدليل آخر على كلا الأمرين، فعلى تقدير كونه دليلاً على الأول يكون منسوقاً على {قل} الأولى بغير عاطف إشعار بأن كلاًّ من الدليلين كاف فيما سيق له: على تقدير كونه دليلاً على الثاني الذي خصه يكون جواباً لمن كأنه قال: لم لا يزحزحهم عن التعمير عن العذاب؟ {قل} أي لهؤلاء الذين ادعوا أن دار الملك خالصة لهم وهم يعادون خواص جنده {من} وهي اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحاداً وجموعاً واستغراقاً- قاله الحرالي: {كان عدواً لجبريل} أي فإنه لا يضر إلا نفسه، لأنه لا يبلغ ضره بوجه من الوجوه ولعداوته بعداوته له لله الذي خصه بقربه واختياره لرسالته، فكفر حينئذ هذا المعادي له بجميع كتب الله ورسله؛ وجبريل قال الحرالي: يقال هو اسم عبودية، لأن إيل اسم من أسماء الله عز وجل في الملأ الأعلى وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام- انتهى. ثم علل هذا الخبر المحذوف بما أرشد إليه فقال: {فإنه} أي جبريل {نزله} أي القرآن الذي كفروا به، لحسدهم للذي أنزل عليه بعد ما كانوا يستفتحون به. الآتي بما ينفعهم، الداعي إلى ما يصلحهم فيرفعهم، ولما كان المراد تحقيق أنه كلام الله وأنه أمر بإبلاغه جمع بين {قل} وبين {على قلبك} أي وهو أكمل القلوب، دون أن يقال: على قلبي- المطابق لقل؛ وأداة الاستعلاء دالة على أن المنزل تمكن في القلب فصارت مجامعه مغمورة به، فكان مظهراً له {بإذن الله} الملك الأعظم الذي له الأمر كله. فليس لأحد إنكار ما أذن فيه. والنازل به لم يتعد شيئاً مما أمر به؛ والإذن رفع المنع وإيتاء المكنة كوناً وخلقاً ما لم يمنعه حكم تصريف- قاله الحرالي: {مصدقاً لما بين يديه} من كتب الله التي أعظمها كتابهم. فكانوا أحق الناس بالإيمان به وكان جبريل عليه السلام أحق الملائكة بمحبتهم له لإنزاله، وكان كفرهم به كفراً بما عندهم، فلا وجه لعداوتهم له؛ والبين حد فاصل في حس أو معنى- قاله الحرالي: {وهدى} إلى كل خير، لأنه بيان ما وقع التكليف به من أفعال القلوب والجوارح {وبشرى} أي ببيان الثواب {للمؤمنين} أي الذين لهم الإيمان وصف لازم، فلا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله، بل حيثما قادهم الحق انقادوا؛ فلا يدخل في ذلك الذين آمنوا بألسنتهم {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] ولا من علم الله منه ذلك ولو كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم- الله أعلم بما كانوا عاملين؛ فلو أنهم مؤمنون لما عادوا من نزل به بشرى لهم ولكنهم كفرة فهم في العذاب، والآخرة ليست لهم بل عليهم. ولما كانت عداوة واحد من الحزب لكونه من ذلك الحزب عداوة لجميع ذلك الحزب تلاه بقوله: {من كان عدواً لله} ذي الجلال والإكرام لعداوته واحداً من أوليائه لكونه من أوليائه {وملائكته} النازلين بأمره {ورسله} من البشر وغيرهم، وخص من بينهم بالذكر من حباه بالفضل فقال: {وجبريل وميكال}، فإنه قد كفر فأهلك نفسه بكفره، وعلى ذلك دل قوله: {فإن الله} الملك الأعلى: {عدو للكافرين} حيث أظهر ولم يضمر، وعبر بالوصف اللازم صرفاً للخطاب عمن يتعظ منهم فيرجع فلا تلحقه المعاداة لذلك؛ وميكال يقال هو اسم عبودية أيضاً وهو يد بسط للأرزاق المقيمة للأجسام كما أن إسرافيل يد بسط للأرواح التي بها الحياة- قاله الحرالي. ولما فرغ من ترغيبهم في القرآن بأنه من عند الله وأنه مصدق لكتابهم وفي جبريل بأنه الآتي به بإذن الله ومن ترهيبهم من عداوته أتبعه مدح هذا القرآن وأنه واضح الأمر لمريد الحق وإن كفر به منهم أو من غيرهم فاسق أي خارج عما يعرف من الحق فإنه بحيث لا يخفى على أحد فقال تعالى- عطفاً على قوله: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]، أو قوله: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} [البقرة: 92]، أو على ما تقديره: فلقد بان بهذا الذي نزله جبريل عليه السلام أن الآخرة ليست خالصة لهم وأنهم ممن أحاطت به خطيئته لكفره-: {ولقد أنزلنا} بعظمتنا في ذلك وغيره {إليك} وأنت أعظم الخلق {آيات بينات} في الدلالة على صدقك وصحة أمرك، والبينة الدلالة الفاصلة بين القصة الصادقة والكاذبة، ففسقوا بكفرهم بها {وما يكفر بها} منهم ومن غيرهم {إلا الفاسقون} الذين الفسق لهم صفة لازمة، وعن الحسن أن الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظمه من كفر وغيره وفي ذلك رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو مقصود السورة. ولما أنكر عليهم أولاً ردهم للرسل لأمرهم بمخالفة الهوى في قوله: {أفكلما جاءكم رسول} [البقرة: 87] وأتبعه بما يلائمه إلى أن ختم بأن آيات هذا الرسول من الأمر البين الذي يشهد به كتابهم وقد أخذ عليهم العهد باتباعه كما أرشد إلى قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} [البقرة: 38] الآية، أنكر عليهم ثانياً كفرهم بما أتى به الرسل بقوله: {أو كلما عاهدوا عهداً نبذه} أي طرحه محتقراً له {فريق منهم} أي ناس شأنهم السعي في الفرقة. ولما كان هذا متردداً بين التقليل والتكثير لتردد التنوين بين التعظيم والتحقير رد احتمال التقليل بقوله: {بل} أي وليس الفريق الكافر بالنبذ أقلهم بل {أكثرهم لا يؤمنون} حالاً ولا مآلاً.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} ثم أتبع هذا الإنكار ذكر الكتاب والرسول كما فعل في الإنكار الأول غير أنه صرح هنا بما طواه هناك فقال: {ولما جاءهم رسول} أي عظيم محيطة دعوته بما أشعر به الاسم الأعظم في قوله {من عند الله} أي الملك الذي له جميع الملك والأمر {مصدق لما معهم} لكونه أتى بكتاب محقق أنه من عند الله لإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم {نبذ} أي رمى رمي استخفاف {فريق من الذين أوتوا الكتاب} الأول {كتاب الله} الملك الأعلى الذي أخذ عليهم فيه الميثاق على لسان نبيهم باتباع النبي الأمي أسوأ النبذ بجعله لاستخفافهم به {وراء ظهورهم} بتركهم العمل به وإن حلوه بالذهب ووضعوه على الكراسي بين أيديهم. وأشعر بعنادهم بقوله: {كأنّهم لا يعلمون} ولما كانت سنة الله جارية بأنه ما أمات أحد سنة إلا زاد في خذلانه بأن أحيى على يده بدعة أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا} أي تقرأ أو تتبع، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرته وفشوه واستمراره {الشياطين على ملك} أي زمن ملك {سليمان} من السحر الذي هو كفر. قال الحرالي: من حيث إن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر- انتهى. وكأن السحر كان في تلك الأيام ظاهراً عالياً على ما يفهمه التعبير بعلى، وأحسن من هذا أن يضمن {تتلوا} تكذب، فيكون التقدير: تتلو كذباً على ملكه، كما أشار إليه ما رواه البغوي وغيره عن الكلبي وكذا ما روي عن السدي، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: وروى في الحديث: «أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبت أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا، وجعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا كتاب آصف بن برخيا الصديق لسليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه؛ فاستخرجه بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس، فليس هو في أحد أكثر منه في يهود» انتهى. وسليمان- على ما ذكر في أول إنجيل متّى أثناء إنجيل لوقا- هو ابن داود بن لَسَّى ابن عونيد بن باعاز بن سلمون بن يصون بن عميناداب بن أرام بن يورام بن حصرون بن فارض بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام والحاصل أنهم مع تركهم للكتب المصدقة لما معهم، الكفيلة بكل هدى وبركة، الآتية من عند الله المتحبب إلى عباده بكل جميل، على ألسنة رسله الذين هم أصدق الناس وأنصحهم وأهداهم، لا سيما هذا الكتاب المعجز الذين كانوا يتباشرون بقرب زمن صاحبه، اتبعوا السحر الذي هو أضر الأشياء وأبشعها، الآتي به الشياطين الذين هم أعدى الأعداء وأفظعها، وأعجب ما في ذلك أنهم نسبوا السحر إلى سليمان عليه السلام كذباً وفجوراً وكفروه به ثم كانوا هم أشد الناس تطلباً له ومصاحبة علماً وعملاً وأكثر ما يوجد فيهم، فكانوا بذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر؛ ومن المحاسن أيضاً أنه لما كان قوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] وما بعده في الكتب والأنبياء والرسل من البشر والملائكة كانت فذلكته أن الكفرة من أهل الكتاب نبذوا ذلك كله ونابذوه وأقبلوا على السحر الذي كان إبطاله من أول معجزات نبيهم وأعظمها؛ فهو أشد شيء منافاة لشرعهم مع علمهم بأن ذلك يضرهم في الدارين ولا ينفعهم. ولما اعتقد أهل الكتاب بعد موت سليمان عليه السلام أن السحر منه، وأن انتظام ملكه على الإنس والجن والطير والوحش والريح إنما كان به، نفى الله تعالى ذلك عنه بقوله: {وما كفر سليمان}، قال الحرالي: يقال هو من السلامة، فإنه من سلامة صدره من تعلقه بما خوله الله تعالى من ملكه {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر} [النمل: 40] وهو واحد كمال في ملك العالم المشهود من الأركان الأربعة وما منها من المخلوقات- انتهى. أي ما وقع منه كفر ما فضلاً عن أن يكون بالسحر الذي هو أبعد الأشياء عن آيات الأنبياء {ولكن الشياطين كفروا}. ثم بين كفرهم بقوله: {يعلمون الناس} أي المضطرين الذين لم يصلوا إلى سِنّ الذين آمنوا {السحر} أي الذي ولدوه هم بما يزينونه من حاله ليعتقد أنه مؤثر بنفسه ونحو ذلك، كما أن الأنبياء وأتباعهم يعلمون الناس الحق بما يبينونه من أمره. والسحر قال الحرالي: هو قلب الحواس في مدركاتها عن الوجه المعتاد لها في صحتها عن سبب باطل لا يثبت مع ذكر الله عليه. وقال الكرماني: أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته. وقال الأصفهاني: اختلفوا في تعلمه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه حرام، الثاني أنه مكروه، الثالث أنه مباح، والحق أنه إن كان تعلمه للعمل فهو حرام، وإن كان لتوقيه وعدم الاغترار به فهو مباح، وقال: والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا يميز الساحر عن الولي والنبي؛ وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام، وتسميته سحراً على التجوز لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل لما خفي سببه. وقوله: {وما}، أي واتبعوا أو ويعلمون {ما أنزل على الملكين} قال الحرالي: فيه إنباء بأن هذا التخييل ضربان: مودع في الكون هو أمر الشياطين، ومنزل من غيب هو المتعلم من الملكين؛ وقال: {ببابل} تحقيقاً لنزولهما إلى الأرض {هاروت وماروت} بدل من الملكين، كأنهما لما كانا مع الحاجة إليهما لا يحتاجان إلى أحد وُصفا أيضاً بكونهما ملكين- بكسر اللام، وعبارة الحرالي: ملَكان جعلا ملِكين في الأرض، والآية من إظهار الله للملائكة أفضل الخليفة. ثم بين نصيحة الملكين بقوله: {وما} فأنبأ أن التقدير: وما كفر الملكان كما كفر الشياطين فإنهما ما {يعلمان}، وزيادة من في قوله: {من أحد} لتأكيد الاستغراق {حتى يقولا إنما نحن فتنة} أي على صورة الاختبار من الله لعباده، فإنه يعلم نبأ من يختار السحر لما فيه من النفع العاجل على أمر النبوة فيكفر، ومن يعلم حقيقته لئلا يقع فيه وهو لا يشعر ثم يتركه إقبالاً على دين الله؛ ووحد والمخبر عنه اثنان لأنها مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع. قال الحرالي: وأصل معناها من فتن الذهب وهو تسخيره ليظهر جوهره ويتخلص طيبه من خبيثه- انتهى. {فلا تكفر} بالعمل بما نعلمكه، فإن العمل به كفر، أو باعتقاد أنه حق مغن عما جاء عن الله، أو مؤثر بنفسه {فيتعلمون منهما ما يفرقون به} مخالفة للملكين في النهي عن ذلك، وذكر الفرقة في أشد الاتصال ليفهم منه ما دونه فقال: {بين المرء وزوجه}، والمرء اسم سن من أسنان الطبع يشارك الرجل به المرأة ويكون له فيه فضل ما ويسمى معناه المروة- قاله الحرالي. ولما ذكر السبب القريب للضرر رده إليه ترقية للذهن الثاقب إلى أعلى المراتب وصوناً له عن اعتقاده ما لا يناسب فقال: {وما هم بضارين} وهو من الضر- بالفتح والضم- وهو ما يؤلم الظاهر من الجسم وما يتصل بمحسوسه، في مقابلة الأذى وهو إيلام النفس وما يتصل بأحوالها، وتشعر الضمة في الضر بأنه عن علو وقهر، والفتحة بأنه ما يكون عن مماثل ونحوه، وقل ما يكون عن الأدنى إلا أذى ومنه {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111] قاله الحرالي: {به من أحد}. ولما أكد استغراقه بضروب من التأكيد تلاه بمعيار العموم فقال: {إلا بإذن الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفؤ له، وفيه إعلام لهم بأن ضرره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الضرر الضعيف حيث سحره لبيد بن الأعصم إنما هو كضرر غيره من الأسباب التي قد تخفى فيضاف الأمر في ضررها إلى الله تعالى، وقد تعرف فيضاف الضرر إليها كما كان يحصل لغيره من إخوانه من الأنبياء منهم ومن غيرهم، والعلم حاصل بأن المؤثر في الجميع في الحقيقة هو الله تعالى، وسيأتي عند قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها} [الأنعام: 97] في سورة الأنعام ما ينفع استحضاره هنا. ولما كان هذا الذي تقدم وإن كان للعامل به نفع على زعمه فضره أكبر من نفعه اتبعه قسماً آخر ليس للعامل به شيء غير الضر؛ فليس الحامل على تعلمه إلا إيثاراً للحاق بإبليس وحزبه فقال: {ويتعلمون}، أي من السحر الذي ولده الشياطين لا من الملكين {ما يضرهم} لأن مجرد العمل به كفر أو معصية ثم حقق أنه ضرر كله لا شائبة للنفع فيه بقوله: {ولا ينفعهم} لأنه لا تأثير له أصلاً، والنفع وصول موافق الجسم الظاهر وما يتصل به في مقابلة الضر، ولذلك يخاطب به الكفار كثيراً لوقوع معنيهما في الظاهر الذي هو مقصدهم من ظاهر الحياة الدنيا- قاله الحرالي. ثم أتبعه ما يعرف أنهم ارتكبوه على علم فقال محققاً مؤكداً: {ولقد علموا}، بياناً لأنهم أسفه الناس {لمن اشتراه} أي آثره على ما يعلم نفعه من الإيمان {ما له في الآخرة} الباقية الباقي نفعها {من خلاق} أي نصيب موافق أصلاً، والخلاق الحظ اللائق لمن يقسم له النصيب من الشيء كأنه موازن به خلق نفسه وخلق جسمه- قاله الحرالي. ثم جمع لهم المذامّ على وجه التأكيد فقال: {ولبئس ما شروا}، أي باعوا على وجه اللجاجة {به أنفسهم} إشارة إلى أنه مما أحاط بهم فاجتثت نفوسهم من أصلها فأوجب لهم الخلود في النار، ثم قال بعد إثبات العلم لهم: {لو كانوا يعلمون}، أي لو كان لهم قابلية لتلقي واردات الحق، إشارة إلى أن هذا لا يقدم عليه من له أدنى علم، فعلمهم الذي أوجب لهم الجرأة على هذا عدم بل العدم خير منه. ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار اتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال: {ولو أنهم آمنوا} أي بما دعوا إليه من هذا القرآن، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر {واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقاً فنسخ من التوراة فصار باطلاً، ومن الإقدام على ما لم يكن حقاً أصلاً من السحر لأثيبوا خيراً مما تركوا، لأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما يقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال: {لمثوبة} صيغة مفعلة من الثواب وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات- قاله الحرالي، وشرفها بقوله: {من عند الله} الذي له جميع صفات الكمال، وزادها شرفاً بقوله: {خير}، مع حذف المفضل عليه. قاله الحرالي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفاً لهذه المثوبة وإلحاقاً لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته- انتهى. وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرز من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه. ثم أكد الخبر بأن علمهم جهل بقوله: {لو كانوا يعلمون} وقال الحرالي: فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو شر وهذه ترغب في منال ما هو خير؛ وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو علم الأسماء ومنافع القرآن يكون لهم عوضاً من علم السيميا الذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين، قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر، زاد ما زاد». وحقيقة السيميا أمر من أمر الله أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة من مواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله تعالى لمن شاء أن يفتنه به، حتى كانت فتنة اسم السيميا من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالاً إظهاراً لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين: دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} [الروم: 14]. ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه كان من المثوبة لمن آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس والمعوذتان حرزاً وإبطالاً وتلقفاً لما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً باقياً لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقاً، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع، ويكاد أن لا يقف من جاءه هذه الآية لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات- انتهى. ولما كان من الحق كما قال الحرالي إجراء الأمور على حكم ما أثبتها الحق لأنها بذلك حق هو مثال للحق المبين وصرفها إلى من لم يثبتها الحق في حيزه إفك وقلب عن وجهه فهو خيال باطل هو في باب الرأي بمنزلة السحر في الحس فهو خيال لما صحة النسبة فيه مثال اتبع الآيات الذامة للسحر الحقيقي التنبيه على السحر المجازي الذي حيلوا به الخير وقصدوا به الشر ليكون النهي عنه نهياً عن الأول بطريق الأولى فقال ملتفتاً عن ذكرهم إلى خطاب المؤمنين الذي هو أخص من {يا بني إسرائيل} الأخص من {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] {يا أيها الذين آمنوا}، أي أقروا بالإيمان صدقوا إقراركم به بأن {لا تقولوا} للنبي صلى الله عليه وسلم: {راعنا} التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وخفض الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم ويقصدون بها الرعونة وهي إفراط الجهالة فنهاهم عن موافقتهم في القول منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال: {وقولوا انظرنا} فأبقى المعنى وصرف اللفظ. قال الحرالي: ففيه إلزام تصحيح الصور لتطابق تصحيح المقاصد وليقع الفرق بين الصورتين كما وقع الفرق بين المعنيين فهي آية فرقان خاصة بالعرب. قال الأصفهاني: وهذا النهي اختص بهذا الوقت، قال الواحدي لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذا اللفظ الآن وقال: {واسمعوا} أي قولوا ما أمرتكم به وامتثلوا جميع أوامري ولا تكونوا كاليهود في حملهم السماع على حقيقته وقولهم {سمعنا وعصينا} وعطف {وللكافرين} على غير معطوف عليه مذكور مرشد إلى أن التقدير: فإن السماع أي القبول إيمان وللسامعين نعيم كريم والإعراض كفر وللكافرين من اليهود وغيرهم {عذاب أليم}. ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال علل بعلة أخرى فقال: {ما يود الذين كفروا} مطلقاً {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى {ولا} من المشركين بأي نوع كان من أنواع الشرك بغضاً فيكم حسداً لكم {أن ينزل عليكم} وأكد الاستغراق بقوله: {من خير من ربكم} أي المحسن إليكم، فكأنه قيل: للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه: إحداهما أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلاً عن أن تمتثلوه، ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة، ولم يعطف {ما يود} لأنه مع ذلك علة للعلة، فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيراً؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه. ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقاً الأمر بالاسم الأعظم الجامع: {والله} أي ما يودون والحال أن ذا الأسماء الحسنى {يختص} ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله: {برحمته} التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك {من يشاء} أي يجعله مختصاً أي منفرداً بها من بين الناس، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم؛ و«الاختصاص» عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، و«الرحمة» نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب- قاله الحرالي. ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدراً له بالاسم الأعظم أيضاً عاطفاً على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال تعريضاً باليهود: فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم {والله} أي الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفؤ له {ذو الفضل العظيم} أي الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد.
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} ولما حرم سبحانه قوله {راعنا} بعد حله وكان ذلك من باب النسخ وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البدا- أي بفتح الموحدة مقصوراً- وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى، هذا مع أن النسخ في كتابهم الذي بين أظهرهم، فإن فيه أنه تعالى أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس بعد مقاتلة الجبارين، فلما أبوا حرم عليهم دخولها ومنعهم منه ومن القتال بالقدرة والأمر، كما ستراه عن نص التوراة في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، وأمرهم بالجمعة فاختلفوا فيه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي في قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] واختاروا السبت، ففرض عليهم وشدد عليهم فيه وأحل لهم جميع اللحوم والشحوم، لما اتخذوا العجل حرم عليهم الشحوم؛ وأعظم من ذلك تعاطيهم من النسخ ما لم يأذن به الله في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وتحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم لهم ما شاؤوا من الأحكام التي تقدم عد جملة منها أصولاً وفروعاً، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31]، ولما قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله! إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: أليسوا يحلون لهم ويحرمون؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم لهم» كما هو مبين في السيرة في وفادة عدي؛ وكما فعلوا في إبدال الرجم في الزنا بالتحميم والجلد؛ وفي اتباع ما تتلو الشياطين مع أن فيه إبطال كثير من شرعهم؛ وفي نبذ فريق منهم كتاب الله؛ وفي قولهم: {سمعنا وعصينا} [البقرة: 93]، وفي اتخاذهم العجل مع النهي عن ذلك- وكل ما شاكله في كثير من فصول التوراة وفيما أشير إليه بقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 85] إلى غير ذلك، لما كان ذلك قال تعالى جواباً عن طعنهم سابقاً له في مظهر العظمة معلماً أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهوراً فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضاً على المنعم يكون سبباً لإلباس المحسود ثوب الحاسد: {ما ننسخ} والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه. أو باقتباس يغني عن غيبته وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر- انتهى. وساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث من الأسباب {من آية} أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء كانت في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس أو لم تكن؛ وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلاً ولا خيراً، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحاً بجديد أو اغتباطاً بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته- قاله الحرالي: {أو ننسأها} أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلاً، وكذا معنى {أو نُنسها} من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها {نأت بخير منها أو مثلها} كما فعلنا في {راعنا} وغيرها. أو يكون المعنى {ما ننسخ من آية} فنزيل حكمها أو لفظها عاجلاً كما فعلنا في {راعنا} أو {ننسأها} بأن نؤخر نسخها أو نتركه- على قراءة {ننسها} زمناً ثم ننسخها كالقبلة {نأت} عند نسخها {بخير منها أو مثلها}،، وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى. والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء إلا للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة. ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخاً، وإنما كان إنساء وتأخيراً لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي، فلم يلقن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى فسره فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة»، ففي متسع فقهه أن أحكاماً تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة. ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسء، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسء الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة. قلت: وحاصله تأخير الحل كما ذكر أو الحرمة كما في المتعة ونحو ذلك إلى وقت آخر وذلك هو مدلول النسء على ما كانت العرب تتعارفه كما سيأتي تحريره في سورة براءة عند {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] قال: وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسء كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ. وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي» ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني؛ فللّه تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجباراً مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم- انتهى. واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مراراً وكان ناسخاً لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفاً، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غداً، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضاً عن خطابهم تعريضاً بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله: {ألم تعلم أن الله} أي الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم. ويقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر. ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحد والناس على قلب رجل واحد {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99] {لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 118] ولكنه مالك الملك وملك السماوات والأرض، يتصرف على حسب ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه، وهل يجوز أن يعترض العبد الذي لا ينفك أصلاً من الرق على السيد الثابت السودد على أنه لا يلزمه شيء أصلاً فلا يلزمه الأمر على حسب المصالح؛ ثم أتبع ذلك بما هو كالدليل على شمول القدرة فقال: {ألم تعلم أن الله} الجامع لأنواع العظمة {له ملك السماوات والأرض} يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء. قال الحرالي: فهو بما هو على كل شيء قدير يفصل الآيات، وهو بما له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر- انتهى. ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه وعظمته بالاسم العلم الذي هو أعظم من مظهر العظمة في ننسخ وننسا بالإقبال على خطاب من لا يعلم ذلك حق علمه غيره فتهيأت قلوب السامعين وصغت لفت الخطاب إليهم ترهيباً في إشارة إلى ترغيب فقال: {وما لكم من دون الله} المتصف بجمع صفات العظمة {من ولي} يتولى أموركم، وهو من الولاية، قال الحرالي: وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة {ولا نصير} فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه ولا تلفتوها عنه، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائناً ما كان لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحواً مما لقنت ظواهر ألسنتهم، بأن تستمسك بسابق فرقانها فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعاً لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها- أفاده الحرالي وقال: وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26] الآية، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن الجامعة لجميع ما تفصّل فيه؛ وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه؛ وهي سيدة سور القرآن؛ ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض أثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها وسيادة خطابها نحواً من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة مّا- انتهى. ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته وعظيم مملكته وما أظهر لذاته المقدس من العظم بتكرير اسمه العلَم وإثبات أن ما سواه عدم فتأهلت القلوب للوعظ صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد فقال: {أم} أي أتريدون أن تردوا أمر خالقكم في النسخ أم {تريدون أن} تتخذوا من دونه إلهاً لا يقدر على شيء بأن {تسألوا رسولكم} أن يجعل لكم إلهاً غيره {كما سئل موسى} ذلك. ولما كان سؤالهم ذلك في زمن يسير أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان إذ قال قومه بعد ما رأوا من الآيات وقد مرّوا بقوم يعكفون على أصنام لهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] وقالوا: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]. وقالوا: {لن نصبر على طعام واحد} [البقرة: 61] وكانوا يتعنتون عليه في أحكام الله بأنواع التعنتات كما تقدم. و«الإرادة» في الخلق نزوع النفس لباد تستقبله- قاله الحرالي. وأدل دليل على ما قدرته قوله عطفاً على ما تقديره: فيكفروا فإنه من سأل ذلك فقد تبدل الكفر بالإيمان {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} أي يأخذ الكفر بدلاً من الإيمان بالإعراض عن الآيات وسؤال غيرها أو التمسك بما نسخ منه، وعبر بالمضارع استجلاباً لمن زل بسؤال شيء من ذلك إلى الرجوع بالتوبة ليزول عنه الاستمرار فيزول الضلال {فقد ضل سواء السبيل} أي عدله ووسطه فلم يهتد إليه وإن كان في بينات منه، فإن من حاد عن السواء أوشك أن يبعد بعداً لا سلامة معه {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وكثيراً ما كان يتزلزل طوائف من الناس عند تبدل الآيات وتناسي الأحكام وبحسب ما يقع في النفس من تثاقل عنه أو تحامل على قبوله يلحقه من هذا الضلال عن سواء هذا السبيل؛ وفيه إشعار بأن الخطاب للذين آمنوا، لأن المؤمنين المعرفين بالوصف لا يتبدل أحوالهم من إيمان الكفر، لأن أحداً لا يرتد عن دينه بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256] {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى}؛ [لقمان: 22] وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه» فبذلك يتضح مواقع خطاب القرآن مع المترتبين في أسنان القلوب بحسب الحظ من الإيمان والإسلام والإحسان- قاله الحرالي. وعرف {السبيل} بأنه المشتمل على قوام السائر فيه والسالك له من نحو الرعي والسقي وشبهه، والسواء بأنه من الشيء أسمحه بالأمر الذي قصد له، قال: ويقال هو وسطه وخياره. ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام قال تعالى مخاطباً للمؤمنين وهم في غمارهم تنفيراً لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه فكيف وهو شماتة العدو وبتخييله وودادته تحذيراً لهم من مخالطتهم: {ود كثير} وهو تعليل لمعنى الكلام وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان، بعد تعليله بالضلال؛ وذلك كما مضى في {ما يود الذين كفروا} [البقرة: 105] سواء. ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال: {من أهل الكتاب} فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال: {لو يردونكم} أي بأجمعكم؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال: {من بعد إيمانكم} أي الراسخ {كفاراً} أي لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار {حسداً} على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة، والحسد قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد إلى غاية لا حيلة معها في تركه بقوله: {من عند أنفسهم} أي إنه راسخ في طبائعهم فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيداً بقوله مشيراً بإثبات الجار إلى ذمهم بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه وقهرهم عرفانه، ثم لم يرجعوا إليه؛ وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه {من بعد ما تبين} أي بياناً عظيماً بوضوحه في نفسه {لهم الحق} أي من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين المرسل إلى الناس كافة بشهادة ما طابقه من التوراة، ومن أنهم خالدون في النار، لأنهم ممن أحاطت به خطيئته بما دل عليه سبحانه في جميع هذه الآيات إبطالاً لدعواهم في مس النار لهم أياماً معدودة. ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسبباً عن الإخبار بأن ودهم محال وبعدم رجوعهم: {فاعفوا} أي عاملوهم معاملة العافي بأن لا تذكروا لهم شيئاً مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم، {واصفحوا} أي أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك، وأصل معناه من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء كأنه لم يره، وأمرهم بمطلق الصفح ولم يفيده بالجميل الذي اختص به خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله: {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] لتنزل الخطاب على مراتبه ومستحق مواقعه. وحثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتماداً على تفريجه سبحانه بقوله: {حتى يأتي الله} الذي لا أمر لأحد معه {بأمره} فبشرهم بذلك بظهورهم على من أمروا بالصفح والعفو عنهم، وقد كان مبدأ ذلك ويتم في زمن عيسى عليه السلام.
|