الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط
.كِتَابُ الْإِبَاقِ: وَفِي الْقِيَاسِ لَا جُعْلَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ، وَلِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مُنْكَرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ جُعْلًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ مَا قَالَ، وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَقَدْ عُرِضَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَالسُّكُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ ثُمَّ هُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الْجُعْلِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَتَى اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَرَجَّحْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِقْدَارِهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَقَلِّ فِي الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ. (قُلْنَا:) إنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمَكَّنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ كَمَا فَسَّرَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ كِنَايَةً عَمَّا دُونَهُ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ كِنَايَةً عَنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِآرَائِهِمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا طَرِيقَ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ الْفَتْوَى إلَّا الرَّأْيُ أَوْ السَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا هُنَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى مَا قَالَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَالْأَخْذُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ قَامَتْ الشَّرِيعَةُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ إلَّا أَحْسَنَ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَابِحٍ، وَلَا يُصِيبُهُ كُلُّ طَالِبٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى سِوَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَيْ يَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّادَّ يَحْتَاجُ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فِي رَدِّهِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ خَشْيَةً، فَفِي إيجَابِ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ تَرْغِيبٌ لَهُ فِي رَدِّهِ وَإِظْهَارِهِ الشُّكْرَ فِي الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا يُوجِبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَرْضَخَ لِلَّذِي يَجِيءُ بِالْآبِقِ، وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلرَّادِّ دِينَارٌ إذَا أَخَذَهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَنَأْخُذُ بِذَلِكَ، وَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَيَسْتَقِيمُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَلَّدُوهُ الْقَضَاءَ وَسَوَّغُوا لَهُ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُمْ فِي الْفَتْوَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَالَفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّ مَسْرُوقًا رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُوجِبِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى قَوْلِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ اسْتَحْسَنَ بِرَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمَوْلَى خَاطَبَ قَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَدَّ مِنْكُمْ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَهَذَا شَيْءٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْمَجْهُولِ لَا يَنْعَقِدُ، وَبِدُونِ الْقَبُولِ كَذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الثَّابِتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ كَذَا وَلَمْ يُخَاطِبْ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، ثُمَّ هَذَا تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ قِمَارٌ، وَالْقِمَارُ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا، وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا. (وَإِنْ قَالَ:) اُعْتُبِرَ قَوْلُ الْمَالِكِ لِإِثْبَاتِ أَمْرِهِ بِالرَّدِّ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ ثُمَّ الْمَأْمُورُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْمُؤْنَةِ فِي ذَلِكَ. (قُلْنَا:) لَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَ فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ دُونَ الْمُسَمَّى ثُمَّ الْأَمْرُ هُنَا ثَابِتٌ أَيْضًا بِدُونِ قَوْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْهَارِبَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دَامَ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ يُنَادِي مَوْلَاهُ عَلَى أَثَرِهِ خُذُوهُ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَرَدِّهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الثَّابِتِ إفْصَاحًا، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ أَخَذَ غُلَامًا آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: أَخَذَ مَوْلَى لِلْحَيِّ آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ نَحْوَ حَيٍّ فَكَتَبَ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ فَأَقْبَلَ بِالْعَبْدِ فَأَبَقَ مِنْهُ، فَاخْتَصَمُوا إلَى شُرَيْحٍ فَضَمَّنَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ لِلْعَبْدِ الْأَسْوَدِ بِاَللَّهِ مَا أَبِقَ مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالشَّعْبِيِّ فَنَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَخَذَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّادَّ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا حَتَّى لَمْ يَخَفْ عَلَى مَوَالِيهِمْ حِينَ كَتَبَ الْآخِذُ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَالْمُسْتَوْجِبُ لِلْجُعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ كَمَا ذُكِرَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. (وَقَوْلُهُ) يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ يُرِيدُ بِهِ الرَّادَّ سَمَّاهُ أَحْمَرَ لِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِ الْآبِقِ، وَسَمَّى الْآبِقَ أَسْوَدَ لِخُبْثِ فِعْلِهِ، وَهُوَ مِنْ دُعَابَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَإِذَا أُتِيَ الرَّجُلُ بِعَبْدٍ آبِقٍ فَأَخَذَهُ السُّلْطَانُ فَحَبَسَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُ وَلَا وَهِبَتُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إلَيْهِ أَوَّلًا. نَقُولُ: يَنْبَغِي لِلرَّادِّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْآبِقِ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَرَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ لِهَذَا؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ عَلَى إبَاقِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعَزِّرَهُ، وَيَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ لِيَحْبِسَهُ، وَذَلِكَ نَوْعُ تَعْزِيرٍ، ثُمَّ مَنْ يَدَّعِيهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهِ بِالْحُجَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ ذَلِكَ فَيَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَسْتَحْلِفُهُ وَلَيْسَ هُنَا خَصِيمٌ يَدَّعِي ذَلِكَ. ؟ (قُلْنَا:) يَسْتَحْلِفُهُ صِيَانَةً لِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْخَطَأِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، أَوْ يَسْتَحِقُّهُ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ، فَإِذَا حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَأْخُذْ أَحَبُّ إلَيَّ، هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا وَسِعَهُ ذَلِكَ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَخْذَ الْكَفِيلِ لِلْمَجْهُولِ كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْوَارِثِ، هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَمَا قَالَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجُوزَانِ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَاطَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ مُسْتَحِقٌّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مُزَاحِمًا لَهُ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا لِهَذَا، وَلَكِنَّهُ مَوْهُومٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا. وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَابِتٌ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِهِ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَعْلُومَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي تَرْكُ الْعَمَلِ إلَّا بِحُجَّةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا. أَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا، أَكَانَ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ لَهُ، وَقَدْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ مُحْتَاطٌ مُجْتَهِدٌ فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا. أَمَّا الدَّفْعُ إلَيْهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا فِيمَا قَالَا، وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مِثْلُهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْقَاضِي، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ هُنَاكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّ الْقَاضِي، يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالرِّقِّ فِي تَعْيِينِ مَالِكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ، وَأَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ لِلْقَاضِي بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِحَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى إذَا حَضَرَ مَالِكُهُ وَأَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ لِيُحْضِرَهُ فَيُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقَاضِي، وَلَا يَلْحَقُ الْقَاضِي ضَمَانٌ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ، فَإِذَا طَالَ ذَلِكَ بَاعَهُ الْإِمَامُ وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيءَ لَهُ طَالِبٌ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إمْسَاكُهُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ، وَرُبَّمَا يَأْتِي ثَمَنُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْبَقَ مِنْهُ فَكَانَ حِفْظُ ثَمَنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ وَأَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا حَضَرَ أَنْ يَنْقُضَ بَيْعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَفَذَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا، وَلَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ فَيَكْتَسِبَ فَأَبَقَ ثَانِيًا فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلنَّوَائِبِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ النَّوَائِبِ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ إنْ حَضَرَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي نَفَقَةِ الْمُلْتَقَطِ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْآبِقِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِيهِ شُهُودًا نَصَارَى لَمْ تُجْزَ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِحْقَاقُ يَدِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَاعَهُ الْإِمَامُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ نَفَذَ مِنْ الْقَاضِي بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَكَأَنَّ الْمَالِكَ بَاشَرَ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَقَدْ وَلَدَتْهُ فِي مُلْكِهِ فَيَدَّعِي أَنَّهُ وَلَدُهُ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ كَانَ بَاشَرَ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ وَلَدٍ حَصَلَ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِجَارِيَتِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَمَعَهَا وَلَدٌ يَدَّعِي نَسَبَهُ كَانَ مُصَدَّقًا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً آبِقًا بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ فَرَدَّهُ إلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَلَهُ الْجُعْلُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجُعْلِ بِأَرْبَعِينَ إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ثَابِتٍ بِفَتْوَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالرَّأْيِ لَا تَجُوزُ، وَلِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ مَعْلُومٌ وَلَا نِهَايَةَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ شَرْعًا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ وَلَكِنْ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الثَّابِتَ بِالشَّرْعِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِمَا دُونَ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمُقَدَّرِ، وَلِأَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ رَادُّ الْآبِقِ، وَتَمَامُ الْإِبَاقِ بِمَسِيرَةِ السَّفَرِ فَفِيمَا دُونَهُ هُوَ كَالضَّالِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ الْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ وَالْعَنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ وُجُوبَ الْجُعْلِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْمُدَّةِ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ فِي رَدِّهِ، وَقَدْ وَجَدَ بَعْضَ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالٍ مَعْلُومٍ لِيَرُدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ مِقْدَارِ الْجُعْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَلَيْسَ لَهُ سِوَى الْجُعْلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ مَاتَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ أَبَقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ حِينَ وَجَدَهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلرَّدِّ وَلَكِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي اللُّقَطَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْآبِقِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ مِنْ الْأَخْذِ، وَهُوَ أَخْذُهُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُهُ، وَهُوَ الْإِذْنُ شَرْعًا لِكَوْنِ الْعَبْدِ آبِقًا، وَلَوْ ادَّعَى الْإِذْنَ مِنْ الْمَالِكِ لَهُ فِي أَخْذِهِ وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَدَّهُ فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا، فَلَا جُعْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِإِبَاقِهِ، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَجِبُ لَهُ الْجُعْلُ. وَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي إبَاقِهِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى يَنْفُذَ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُؤَاجَرِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ فِي الْآبِقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يُعْجِزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لِلْعَاقِدِ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ تَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ، وَلِأَنَّ فِي بَيْعِهِ مَعْنَى الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً وَلَا عَوْدَةً لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» فَالْغَرَرُ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعِتْقِ، وَلَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فِي عِيَالِهِ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَإِعْلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ بِالْيَدِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي بَقِيَ لَهُ، وَحَقُّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ لِلصَّغِيرِ إلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالْأُبُوَّةِ، فَلَا تَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي عِيَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا لِلشَّرْطِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ فِي يَدِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ كَانَ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَلَا يَنْعَدِمُ إلَّا بِاعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ، وَبِالْإِبَاقِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاقٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَوْ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ كَمَا رَوَاهُ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ صَحَّ إذْنُ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ، فَلَا يُنَافِي الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ مَا دَامَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِهِ بَعْدَ تَمَرُّدِهِ وَإِبَاقِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَيَّدَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِمَا قَبْلَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ أَوْ يَصِيرَ مَحْجُورًا بَعْدَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْحَجْرِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَجَر عَلَيْهِ، وَدَلَالَةُ الْحَجْرِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْحَجْرِ، كَمَا أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَلِهَذَا صَحَّ إذْنُ الْآبِقِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّنَاوُلِ دَلَالَةً، فَإِنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِلتَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَبَسَهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَأْدِيبِهِ فَالشَّرْعُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ. يُمَوِّتُهُ الْإِمَامُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَهُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَيْتًا حُكْمًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَةِ الْآبِقِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَفِي حُدُودِهِ كَالْحُكْمِ فِيهَا فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِ بَاقٍ بَعْدَ الْإِبَاقِ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمٌ فِيهِ، وَبِاعْتِبَارِهِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ، فَإِذَا حَضَرَ قَطَعَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْطَعُهُ، وَلَا يَنْتَظِرُ حُضُورَ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْحُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَفِيمَا كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالطَّلَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فَبَقِيَ هُوَ فِي النَّفْسِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ تَارَةً، ثُمَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ، وَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ طَعْنُهُ مَسْمُوعًا، فَفِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ كَافِرًا وَمَوْلَاهُ مُسْلِمًا لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَكَانَ لَا يُعْتَبَرُ دِينُهُ فِي ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي ذَلِكَ، فَلَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِقْرَارَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِيفَاءِ إتْلَافُ مَالِيَّةِ الْمَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ فِي الْعُقُوبَاتِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَمْتَنِعَ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ تَمَامُ قَضَائِهِ مُتَنَاوِلًا حَقَّ الْمَوْلَى يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَوِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حُضُورُ الْمَوْلَى، وَإِذَا أُخِذَ الْعَبْدُ الْآبِقُ، وَحُبِسَ فِي بَلَدٍ فَتَقَدَّمَ مَوْلَاهُ إلَى قَاضِي بَلْدَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ، وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَذْكُرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الدُّيُونِ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ تُذْكَرُ الْحُدُودُ دُونَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ، وَفِي الْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ لَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي فَلَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِيَثْبُتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِهِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَبِيدِ قَالَ: الْعَبْدُ قَدْ يَأْبَقُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ مَوْلَاهُ فِي حَاجَةٍ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَبَيْنَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَدَّى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَكَانَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَكَانَ يَقُولُ مَرَّةً فِي الْجَارِيَةِ أَيْضًا: يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ بَابَ الْفُرُوجِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْوَى تَقِلُّ فِي الْجَوَارِي فَالْمَوْلَى لَا يُرْسِلُهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ عَادَةً، وَالْإِبَاقُ فِي الْجَوَارِي يَنْدُرُ أَيْضًا. ثُمَّ بَيَانُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ عَلَى حِلْيَتِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَحْبُوسٌ، فَإِذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْخَتْمِ، وَوَافَقَ حِلْيَةَ الْعَبْدِ وَصِفَتَهُ مَا فِي الْكِتَابِ دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْمُلْكِ، وَيُخْتَمُ فِي عُنُقِهِ بِالرَّصَاصِ لِلْإِعْلَامِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعِي كَفِيلًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ الْمُدَّعِي إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ شُهُودُهُ، وَيَكْتُبُ مَعَهُ كِتَابًا إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِذَا أَتَى بِهِ إلَى هَذَا الْقَاضِي أَعَادَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ قَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ، وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ. وَفِي الْجَوَارِي عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: لَا يَدْفَعُهَا إلَيْهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَا مَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْئِهَا، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: هَذَا اسْتِحْسَانٌ فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا أَوْ يَسْتَغِلُّهُ فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ إذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَالْحِلْيَةُ وَالصِّفَةُ تُشْتَبَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحِلْيَةِ وَالصِّفَةِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَسْنَاءَ أَكَانَ يَبْعَثُ بِهَا مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ هَذَا قُبْحٌ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي بَاعَ الْعَبْدَ الْآبِقَ حِينَ طَالَ حَبْسُهُ، وَأَخَذَ ثَمَنَهُ، وَهَلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَاهُ الرَّجُلُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عَبْدًا اسْمُهُ كَذَا، وَكَذَا عَبْدُهُ فَوَافَقَ ذَلِكَ صِفَةَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، وَلَا يُدْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ شُهُودَهُ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا فِي يَدِ الْقَاضِي مِنْ الثَّمَنِ، إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى الِاسْمِ وَالْحِلْيَةِ، وَالِاسْمُ يُوَافِقُ الِاسْمَ وَالْحِلْيَةُ تُوَافِقُ الْحِلْيَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ عَبْدُ هَذَا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ الْقَاضِي بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمُلْكِ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى قُتِلَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَقْتُولَ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَالثَّمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ. وَرَجُلٌ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَبَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآخِذَ بَاعَهُ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لَهُ، فَإِنَّ وِلَايَةَ تَنْفِيذِ الْبَيْعِ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بَعْدَ مَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ بِدُونِ إذْنِ الْقَاضِي كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ مِنْ جِهَتِهِ، وَاسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ قِيمَتَهُ نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا فَضَلَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ. رَجُلٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ قَاضِي بَلَدِ كَذَا مِنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَبْدُهُ، وَأَخَذَ كِتَابَهُ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي بَاعَهُ الْآبِقَ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ الْقَاضِي إلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا ثَبَتَ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُرِيدُ أَخْذَ عَيْنِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْقَاضِي قَدْ نَفَذَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ أَخْذِ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ إثْبَاتُ حَقِّ أَخْذِ الثَّمَنِ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يُقِيمُهَا عَلَى الدَّيْنِ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، وَيَقْضِي الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. (فَإِنْ قِيلَ:) الثَّمَنُ عَيْنٌ فِي يَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي كَالْعَبْدِ. (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِذِكْرِ مِقْدَارِهِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ مِنْ الشُّهُودِ إلَى عَيْنِهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً آبِقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخَذِهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا يَغْرَقُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى مَالَهُ يَتْوَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ يَحْتَاجُ فِي رَدِّهِ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَلْتَزِمَهُ، وَلِأَنَّهُ فِي التَّرْكِ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ»، وَقَالَ: «ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ» وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ جُهَّالُ أَهْلِ التَّقَشُّفِ، وَحَمْقَى أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسَعَهُ التَّرْكُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. (وَإِذَا) أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ، وَأَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهَلَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ آخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَائِنًا فِي حَقِّهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعَبْدَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا لَا مَالِكًا، وَلِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الثَّانِي بِمَا يَضْمَنُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارٌ مِنْ الدَّافِعِ لِلْقَابِضِ بِالْمِلْكِ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارُهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ حَتَّى شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى أَقَامَهَا صَاحِبُهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِلْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ أَعَادَ الْأَوَّلُ بَيِّنَتِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْيَدِ فِي الْعَبْدِ لَهُ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، وَمَا يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ الْآبِقُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ بَعْدَ إبَاقِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَسِبُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَمَوْلَاهُ يُخْفِهِ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الَّذِي أَخَذَهُ وَأَخَذَ أُجْرَتَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَجَّرَهُ قَالَ: لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلِأَنَّهُ بِعَقْدِهِ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ إلَّا بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْغَصْبِ، وَمَنْ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مَالًا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ لَهُ كَمَنْ اتَّخَذَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ، وَقَالَ: هَذَا الْمَالُ غَلَّةُ عَبْدِكَ، وَقَدْ سَلَّمْتُهُ لَكَ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا صَنَعَ، وَتَحَرَّزَ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَعِنْدَنَا هُوَ لِلْأَجِيرِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَمْلِيكِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ طَوْعًا، ثُمَّ يَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفَقِيرِ أَثْبَتُ فِيهِ حِينَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْآخِذُ إسْقَاطَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، وَقَالَ: وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِهِ كَانَ لِخُبْثٍ دَخَلَ فِيهِ لِعَدَمِ رِضَى الْمَوْلَى بِهِ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَلْ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمَوْلَى يَزُولُ ذَلِكَ الْخُبْثُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَالْأَجْرُ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ: الْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ نَمْحَضُ ذَلِكَ الْعَقْدَ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدَ لَمْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ شَيْءٌ، فَلِهَذَا أَنْفَذْنَا ذَلِكَ الْعَقْدَ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقُّ تَضْمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ الْعَقْدِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ كَانَ حَقُّ قَبْضِ الْأَجْرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ بِأَخْذِهَا فَيَدْفَعُهَا إلَى الْمَوْلَى، وَإِبَاقُ الْمُكَاتِبِ لَا يُبْطِلُ مُكَاتَبَتَهُ وَإِذْنَهُ بِخِلَافِ إبَاقِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُكَاتِبِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتِبِ فِي نَفْسِهِ لَازِمٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَهُ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي الِاكْتِسَابِ إلَى حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ، فَإِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ فِعْلُهُ إبَاقًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآبِقٍ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، وَلِأَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِرَدِّهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّتِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَصِرْ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِإِبَاقِهِ حَتَّى يَكُونَ فِي الرَّدِّ إحْيَاؤُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقُّ الْمَوْلَى، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى التَّوَى بِإِبَاقِهِ فَيَكُونُ الرَّادُّ مُحْيِيًا لَهُ. وَيَجُوزُ عِتْقُ الْآبِقِ عَنْ الظِّهَارِ إذَا كَانَ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْفُذُ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) الْآبِقُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلِكِ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَهْلِكِ حُكْمًا عَنْ الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ كَالْأَعْمَى (قُلْنَا:) الْمُسْتَهْلَكُ مِنْهُ حُكْمًا مَالِيَّتُهُ لَا ذَاتُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِتَحْرِيرِ مُبْتَدَإٍ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِلذَّاتِ حَقِيقَةً، وَالذَّاتُ الْمَرْقُوقُ عُرْفًا، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْرِيضٌ لِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِهِ سَوَاءً، بِخِلَافِ الْأَعْمَى فَالْمُسْتَهْلَكُ هُنَاكَ الذَّوَاتُ حُكْمًا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَعِتْقُهُمَا لَيْسَ بِتَحْرِيرٍ مُبْتَدَإٍ بَلْ هَذَا مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّاهُ مُؤَجَّلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ مِمَّنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُشْتَرِي لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ فَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ مِنْهُ. وَإِذَا أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ فَرَدَّهُ رَجُلٌ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى التَّوَى بِالْإِبَاقِ، ثُمَّ قَدْ حَيَّ بِالرَّدِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، ثُمَّ بَرِئَ فَيَكُونُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الرَّاهِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ مَالِيَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّوَى سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الرَّدِّ عَمَلٌ لَهُ فَكَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ تَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجُعْلُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ لَا لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ، وَيَبْقَى جَمِيعُ دَيْنِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ، وَالْجُعْلُ لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ لَوْ انْتَقَصَتْ بِقُرْحَةٍ خَرَجَتْ بِهِ كَانَ دَوَاءُ ذَلِكَ، وَمُعَالَجَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ جُعْلُ الْآبِقِ، وَلِلَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ فَكَانَ لِمَا يَسْتَوْجِبُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ فَيُحْتَبَسُ بِهِ، كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِإِمْسَاكِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي حَبْسِهِ وَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَائِهِ مَالِيَّتَهُ، وَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ حِينَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدُ مَوْلَاهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَبِيعِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الثَّمَنِ يَسْقُطُ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ، فَهُنَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ بِمَوْتِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ. (عَبْدٌ) أَبَقَ وَذَهَبَ مَعَهُ بِمَالٍ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ مَعَهُ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُصُولَ يَدِهِ إلَى الْعَبْدِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ فِي يَدِ الْعَبْدِ حِينَ أَخَذَهُ، وَالْمَوْلَى يَدَّعِي عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مَالًا وَأَنْكَرَهُ، وَإِنْ اتَّهَمَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ كَمَا لَوْ ادَّعَى؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ حَتَّى يُقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ إقْرَارِهِ. وَلَوْ أَنَّ أَمَةً أَبَقَتْ مِنْ مَوْلَاهَا فَالْتَحَقَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَاطِئُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُمَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا، وَلَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهَا عَلَيْهَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآبِقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْأَخْذِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْضًا، فَمَنْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الشِّرَاءِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَعِنْدَهُمَا هُمْ يَمْلِكُونَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَإِذَا مَلَكُوهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي اسْتِرْدَادِهَا، وَالْجُعْلُ وَاجِبٌ فِي رَدِّ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ. (فَإِنْ قِيلَ:) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (قُلْنَا:) نَعَمْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ، وَلَكِنْ لَهُ مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، فَلَا يَكُونُ رَادُّهُ مُحْيِيًا لِلْمَوْلَى مَالِيَّةً بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُمَا الرَّادُّ إلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا عَتَقَا بِمَوْتِهِ، وَرَادُّ الْحُرِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْمُدَبَّرِ سِعَايَةٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتِبِ أَوْ الْحُرِّ، فَأَمَّا إذَا وَصَّلَهُمَا إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا، وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِمَا، وَالْمَالِيَّةُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ، وَرَادُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ آبِقًا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ كَرَادِّ الْكَبِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مِمَّا دُونَ ذَلِكَ يَرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ، وَعَنَاؤُهُ فِي رَدِّ الْكَبِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي رَدِّ الصَّغِيرِ، فَالرَّضْخُ يَكُونُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَإِذَا انْتَهَى الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ إلَى مَوْلَاهُ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ أَعْتَقَهُ فَالْجُعْلُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِإِعْتَاقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ لَمَّا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَلَامَةَ الثَّمَنِ لَهُ بِاعْتِبَارِ رَدِّ هَذَا الرَّادِّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَهُ الرَّادُّ إلَى مَوْلَاهُ فَأَبَقَ مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلَى الْوَلِيِّ جُعْلٌ تَامٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَدْخَلَهُ الْمِصْرَ، ثُمَّ أَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَالْجُعْلُ لِلْآخَرِ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَرْضَخُ لَهُ إنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّبَبِ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى، وَالْأَوَّلُ مَا أَوْصَلَهُ إلَى الْمَوْلَى فَانْتَقَصَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ بِإِبَاقِ الْعَبْدِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَوْلَى فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ أَتَمَّ السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي وَرَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَالْأَوَّلُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا، وَيَرْضَخُ لِلثَّانِي عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ لِأَنَّهُمَا تَمَّمَا السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمَّ فِعْلَهُ الثَّانِي إلَى الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الضَّمِّ يَكُونُ رَادًّا لَهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا، وَالثَّانِي إنَّمَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ، وَإِنْ رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْجُعْلِ، وَهُوَ الْإِيصَالُ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الرَّدِّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَيَسْتَوِيَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّادَّيْنِ عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا فَهُوَ مِثْلُ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ بِطَرِيقٍ هُوَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ لِمُكَاتِبٍ أَوْ عَبْدٍ تَاجِرٍ فَعَلَيْهِمَا الْجُعْلُ لِلرَّادِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي كَسْبِهِمَا بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْحُرِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ التَّصَرُّفِ، وَالرَّادُّ أَحْيَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِالرَّدِّ لَهُمَا فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآبِقُ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ يُؤَدِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ. (عَبْدٌ) جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَبَقَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ إذَا كَانَ قَبْلَ إبَاقِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْجُعْلُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ طَهَّرَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِاخْتِيَارِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ عَمَلٌ لَهُ فِي إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهُ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْجُعْلُ عَلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ اسْتَحَقَّ لَهُمْ بِالْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى شَيْئًا بَطَلَ حَقُّهُمْ فَتَبَيَّنَ بِاخْتِيَارِ الدَّفْعِ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُسْتَوْفَى الْجُعْلُ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْ الْمَوْلَى. (عَبْدٌ) أَبَقَ إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ رَجُلٌ وَجَاءَ بِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى تَمَلُّكِ الْمُشْتَرَى فَيَكُونُ هُوَ غَاصِبًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا عَامِلًا لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ أَوْ وَرِثَهُ، فَإِنْ أَشْهَدَ حِينَ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالشِّرَاءِ فَلَهُ الْجُعْلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِشْهَادِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمَوْلَى فِي الرَّدِّ، وَلَكِنَّهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمَكِّنُهُ فَيَسْتَوْجِبُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَفِي حَقِّ الرَّادِّ هُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ، وَإِنْ أَخَذَ الْآبِقَ رَجُلٌ فَجَاءَ بِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ قَالَ: لَهُ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ أَوْ وَصِيَّهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالرَّدُّ عَلَيْهِ كَالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا اسْتَوْجَبَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَالرَّادُّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ بِيعَ الْعَبْدُ، وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِيَّتِهِ إنَّمَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّادُّ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْجُعْلَ، فَكَذَا يَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَارِثَ الْمَيِّتِ وَقَدْ أَخَذَهُ، وَسَارَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي حَيَاتِهِ وَأَوْصَلَهُ إلَى الْمِصْرِ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَارِثُ الرَّادَّ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَالِكِ، وَكَذَا لَوْ أَبَقَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى الْمَالِكِ، فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَالْإِيصَالُ هُنَا لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجُعْلِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ، وَمَنْ عَمِلَ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلُ بِعَمَلِهِ فِي الرَّدِّ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ إيصَالَهُ إلَى الْمَوْلَى شَرْطٌ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ لَا بِمَا هُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَحِلِّ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْعَمَلِ إلَى غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ هُنَا مُسَلَّمًا إلَى الْمَوْلَى بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ بِالرَّدِّ عَلَى وَرَثَتِهِ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ يَنْفُذُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْجُعْلَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ لَا يُسَاوِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَهُ الْجُعْلُ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ لِلْمَوْلَى، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي حَيِيَتْ لَهُ، ثُمَّ الرَّادُّ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فِي إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ لَا فِي إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَإِيجَابِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا كَانَ فِي إيجَابِ الْأَرْبَعِينَ عَلَى الْمَوْلَى ضَرَرٌ بَيِّنٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةُ عَمَلِهِ لِلْمَوْلَى، وَذَلِكَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ عُرِفَ شَرْعًا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَدَّرُوهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِضُوا لَقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ التَّقْدِيرِ شَرْعًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَكَانَ عَمَلُ الرَّادِّ هُنَا فِي إيجَابِ جُعْلٍ مُقَدَّرٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ بَاشَرَهُ مَعَ الْمَوْلَى. فَكَمَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، وَلَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَالِيَّةُ كَسْبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى قَدْ تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْجُعْلِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ لِتَكْمِيلِ الْجُعْلِ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَجُعْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقْضَى مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَبَى بِيعَ الْعَبْدُ وَاسْتَوْفَى صَاحِبُ الْجُعْلِ جُعْلَهُ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ لِأَصْحَابِ الدُّيُون، وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ- مِمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنُ جِنَايَةٍ- سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُنَا الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ. وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَبْدَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ عَبْدَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ عَبْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٌ أَخَذَتْ عَبْدَ زَوْجِهَا فَالْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَنْ يَكُون لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْك أَحَدهمَا مُنْفَصِل عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقَ مِنْهُ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْل كَسَائِرِ الْأَجَانِب، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ خِدْمَتِهِ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ دَيْنًا؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَسْتَوْجِب الْأَجْر سَوَاء كَانَ فِي عِيَاله أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِب الْجُعْل بِرَدِّ آبِقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مَبْسُوطَةُ الْيَدِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، وَيَعُدُّ خَيْرَهُ خَيْرَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ دِينًا حَتَّى لَا يَسْتَأْجِرُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُ آبِقَ امْرَأَتِهِ عَادَةً. فَأَمَّا إذَا وَجَدَ عَبْد ابْنه، فَإِنْ كَانَ فِي عِيَال ابْنه، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ آبِق الرَّجُل إنَّمَا يَطْلُبُهُ مِنْ فِي عِيَاله عَادَة؛ وَلِهَذَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَوْجِبُ مَعَ ذَلِكَ جُعْلًا آخَرَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَب فِي عِيَال الِابْن فَلَهُ الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْأَبِ دِينًا، وَلَا هُوَ سَائِغٌ لَهُ شَرْعًا؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَبَاهُ لِيَخْدِمَهُ فَخَدَمَهُ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَذَلِكَ الْأَخ لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَال أَخِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيَاله فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعُولُهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ لِهَذَا وَنَحْوِهِ، وَإِذَا أَبَقَ عَبْد الْيَتِيم فَجَاءَ بِهِ الْوَصِيُّ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطْلُب آبِق الْيَتِيم عَادَة، وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ عَبْده، فَلَا يَكُون لَهُ الرَّدّ عَلَى نَفْسه، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيم فِي حِجْرِ رَجُلٍ. يَعُولُهُ لَهُ فَجَاءَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُهُ عَادَة، وَإِذَا صَالَحَ الَّذِي جَاءَ بِالْآبِقِ مَوْلَاهُ مِنْ الْجُعْلِ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ، وَأَحْسَنُ إلَيْهِ بِحَطِّ بَعْضِ مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا جَازَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ، وَيَطْرَحُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْأَرْبَعِينَ شَرْعًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ رَبًّا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ صَالَحَ الشَّرِيكُ الْمُعْتَقُ شَرِيكَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ كَانَ الْفَضْلُ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا أَبَقَتْ الْأَمَةُ، وَلَهَا صَبِيٌّ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ فَلَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مِنْ الرَّضِيعِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّمَا رَدَّ آبِقًا وَاحِدًا، وَهِيَ الْأَمَةُ، وَإِنْ كَانَ ابْنُهَا غُلَامًا قَدْ قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ جُعْلَانِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا، فَإِنَّمَا أَحْيَا مَالِيَّةَ مَمْلُوكَيْنِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ جُعْلًا كَامِلًا بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ مَا رَدَّ الْعَبْدَ مِنْ إبَاقِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ الْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَالِيَّةَ لَهُ بِالرَّدِّ، وَالْإِيصَالِ إلَيْهِ فَزَوَالُ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الرَّادِّ فِي الْجُعْلِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
|