فصل: كِتَابُ الشَّرِكَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الشَّرِكَةِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً: الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ السَّائِبَ بْنَ شَرِيكٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ، وَكُنْتَ شَرِيكِي، وَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِي، وَلَا تُمَارِي» أَيْ: لَا تُدَاجِي، وَلَا تُخَاصِمُ.
وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَامَلَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ.
(ثُمَّ) الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ الْمِلْكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ.
(فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ) أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ فِي مِلْكِ مَالٍ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ: ثَابِتٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا كَالْمِيرَاثِ، وَثَابِتٌ بِفِعْلِهِمَا، وَذَلِكَ بِقَبُولِ الشِّرَاءِ، أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ.
وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
(وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ) فَالْجَائِزُ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْمُفَاوَضَةُ، وَالْعَنَانُ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ.
وَيُسَمَّى هَذَا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ.
(فَأَمَّا الْعَنَانُ) فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِل: عَنَّ لِي كَذَا أَيْ عَرَضَ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَبَّلِ.
أَيْ: عَرَضَ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي نَقَاهَا وَفِي أَحْسَابِهَا شَرَكُ الْعَنَانِ.
(وَقِيلَ): هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَانِ الدَّابَّةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ يُمْسِكُ الْعَنَانَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَيَعْمَلُ بِالْأُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَجْعَلُ عَنَانَ التَّصَرُّفِ فِي بَعْضِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ دُونَ الْبَعْضِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لِلدَّابَّةِ عَنَانَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ، وَالْآخَرُ أَقْصَرُ، فَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالرِّبْحِ، أَوْ يَتَفَاوَتَا؛ فَسُمِّيَتْ عَنَانًا (وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ) فَقَدْ قِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ التَّفْوِيضِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ فِي جَمِيعِ مَالِ التِّجَارَةِ.
(وَقِيلَ): اشْتِقَاقُهَا مِنْ مَعْنَى الِانْتِشَارِ، يُقَالُ: فَاضَ الْمَاءُ إذَا انْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ الْخَيْرُ يَسْتَفِيضُ إذَا شَاعَ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْتِشَارِ، وَالظُّهُورِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً.
(وَقِيلَ): اشْتِقَاقُهَا مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ الْقَائِلُ: لَا تَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا يَعْنِي: مُتَسَاوِينَ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ؛ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ) تُسَمَّى شَرِكَةُ الْمَفَالِيسِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِك الرَّجُلَانِ بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّسِيئَةِ، وَيَبِيعَا.
سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا وَجْهُهُمَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ فِي النَّسِيئَةِ مِمَّنْ لَهُ فِي النَّاسِ وَجْهٌ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ فِي تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَبْدَانِهِمَا.
وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا صَنْعَتُهُمَا.
(وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ) فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ بِرَأْسِ مَالٍ يُحْضِرُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، إمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِرَأْسِ مَالٍ غَائِبٍ، أَوْ دَيْنٍ.
وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُشْتَرَطُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَنْبَنِي عَلَيْهِ.
قَالَ: لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِلَاطِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمِلْكِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَا هُوَ قَضِيَّةُ اسْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ كَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالصَّرْفِ، فَإِذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ؛ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا قَبْلَ الْخَلْطِ فَالشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ لَمْ تَثْبُتْ حَتَّى إذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا، كَانَ هَالِكًا عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَلَا تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاخْتِلَاطِ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا.
وَعِنْدَنَا مُوجَبُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ بِالْمَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ؛ وَلِهَذَا شَرَطْنَا تَعْيِينَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ بِدُونِ تَعْيِينِ الْمَالِ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ، بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ، وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ الَّذِي تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى بِالْمَالِ وَالرِّبْحِ لَا فِي رَأْسَ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِدُونِ خَلْطٍ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ، وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ، تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا صَحِيحَةً عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا، وَالْآخَرِ سُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمِلْكِ لَا تَثْبُتُ هُنَا حِينَ كَانَا لَا يَخْتَلِطَانِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَطَ زُفَرُ الْخَلْطَ: جَوَابُ هَذِهِ الْفَصْلِ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، نَقُولُ: فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَذَلِكَ تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ.
وَعِنْدَنَا مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ اخْتِلَافِ النَّقْدَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، وَيَشْتَرِي الْآخَرُ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا: كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
(فَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ) فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَقْدٌ فَاسِدٌ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ.
وَرُبَّمَا قَالَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْقِمَارِ، فَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا لُغَةً فَقَدْ بَيَّنَّا اشْتِقَاقَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا شَرْعًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «تُفَاوَضُوا؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ».
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ قَطُّ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ؛ فَلِهَذَا أَفْسَدَهَا، وَقَالَ: لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لِلْمَجْهُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ، وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ، فَبِالْمَجْهُولِ أَوْلَى.
وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقِمَارِ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَلَسْنَا نَقُولُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ مَقْصُودًا، فَكَذَلِكَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ، فَأَمَّا الْجَهَالَةُ بِعَيْنِهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ، وَلَكِنْ تُمَكِّنُ الْمُنَازَعَةُ سَبَبًا، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ: الْمَضْمُونُ لَهُ، وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءٍ مَجْهُولِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ مَقْصُودًا، ثُمَّ صَحَّتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ.
وَمِنْ شُرُوطِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِهِ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ النُّقُودِ، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَضِيَّةَ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ.
ثُمَّ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ مِنْ غَيْرِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ، وَالْمَالَانِ لَا يَخْتَلِطَانِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالسُّودِ وَالْبِيضِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ.
(قَالَ): لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْعَقْدِ.
(وَقَدْ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِمَالَيْنِ لَا يَخْتَلِطَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقْوِيمِ.
وَطَرِيقُ ذَلِكَ الْحِرْزُ.
وَالْمُسَاوَاةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْمُسَاوَاةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي مُبَادَلَةِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ سُودًا، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الصَّرْفِ: لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.
(وَذَكَرَ) إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ».
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، حَتَّى إذَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ الْمُفَاوَضَةِ كَانَ عَنَانًا عَامًّا.
وَالْعَنَانُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَتَأْوِيلُ هَذَا: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الرِّضَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِهِ وَيُجْعَلُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمُفَاوَضَةِ قَائِمًا مَقَامَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْرِفَانِ أَحْكَامَ الْمُفَاوَضَةِ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا ذَكَرَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ.
(فَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا وَبَاطِلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، وَعِنْدَنَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثَلَاثًا، صَحِيحٌ.
فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي اشْتِرَاطِ الرِّبْحِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ لَهُ الزِّيَادَةُ لَيْسَ لَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا ضَمَانٍ.
فَاشْتِرَاطُ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ لَهُ يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى؛ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثُ، وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَانِ؛ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرِّبْحُ بِقَدْرِ مِلْكِهِ.
وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ عِنْدَنَا تَجُوزُ عَنَانًا وَمُفَاوَضَةً.
إلَّا أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمُشْتَرَى وَالرِّبْحِ جَمِيعًا.
(فَأَمَّا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا، وَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الْخَلْطَ فِي الْعَمَلِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ.
وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ.
وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ.
ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي طَرِيقِ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بِالْمَالِ تَارَةً وَبِالْعَمَلِ أُخْرَى، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِمَالِهِ وَالْمُضَارِبَ بِعَمَلِهِ.
وَذَلِكَ الْعَقْدُ شَرِكَةُ الْإِجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ.
فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّبْحَ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ أَوْ اخْتَلَفَتْ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ كَالْقَصَّارَيْنِ وَالصَّبَّاغَيْنِ إذَا اشْتَرَكَا يَجُوزُ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ بِأَنْ يَشْتَرِكَ قَصَّارٌ وَصَبَّاغٌ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَتِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِأَعْوَانِهِ، وَأُجَرَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا.
(وَهَذَا) النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ قَدْ يَكُونُ عَنَانًا، وَقَدْ يَكُونُ مُفَاوَضَةً عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُفَاوَضَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِمَا يَلْتَزِمُهُ صَاحِبُهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَمَتَى كَانَ عَنَانًا فَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ دُونَ صَاحِبِهِ- كَمَا هُوَ حُكْمُ الْوَكَالَةِ-.
(إذَا) عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ، وَأَنَّهُمَا كَيْفَ يَكْتُبَانِ كِتَابَ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَالشَّرِكَةُ عَقْدٌ يَمْتَدُّ فَيُسْتَحَبُّ الْكِتَابُ فِي مِثْلِهِ؛ لِيَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهُمَا فِيمَا يَجْرِي مِنْ الْمُنَازَعَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ: التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَى أَوْثَقِ الْوُجُوهِ، وَيُتَحَرَّزَ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ.
ثُمَّ بَدَأَ فَقَالَ: (هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ)، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ عَابُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ؛ فَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى الصَّكِّ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَكْتُبَ: هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ.
وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ اتَّبَعَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِيمَا اخْتَارَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ}، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَعْدِ لِلْأَبْرَارِ، وَالْوَعِيدِ لِلْفُجَّارِ.
وَلَمَّا اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا، أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ: «هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْغَدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْيَهُودِيِّ».
(وَلَمَّا) أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مَا اصْطَلَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ»؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَقْدُ أَمَانَةٍ، وَالْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْوَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ يَحْصُلُ.
(ثُمَّ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ لِيَرْجِعَا إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا).
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ بِغَائِبٍ، وَلَا دَيْنٍ، بَلْ هُوَ عَيْنٌ فِي أَيْدِيهِمَا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ شَرَطَ الْخَلْطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا.
فَلِلتَّوَثُّقِ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ أَنَّهُمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ، وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا فِي شَيْءٍ، وَيَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِرَأْيِهِ، وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ.
وَعِنْدَنَا: هَذَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ، مَا لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يُكْتَبُ هَذَا.
(ثُمَّ يَذْكُرُ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبِعَةٍ فَكَذَلِكَ).
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ.
وَإِنَّمَا يَذْكُرُ هَذَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُكْتَبُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا هَكَذَا.
ثُمَّ قَالَ: (اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا).
وَإِنَّمَا بِتَبْيِينِ التَّارِيخِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ؛ حَتَّى لَا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ.
(وَكُتِبَ) التَّارِيخُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فِي التَّارِيخِ: مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يَعْتَبِرُونَهُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى التَّارِيخِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَتَعَامَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الرِّبْحِ، لَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ، أَوْ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا، أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ.
فَأَمَّا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ: إذَا تَسَاوَيَا فِي رَأْس الْمَالِ وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثًا، أَوْ تَفَاوَتَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ، وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ: يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَجُوزُ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلٌ، وَفِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ الرِّبْحَ بِالْوَضِيعَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَاشْتِرَاطُهُمَا خِلَافَ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبْحُ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ.
فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ مِنْ الْآخَرِ فِي وُجُوهِ التِّجَارَةِ؛ فَلَا يَرْضَى بِأَنْ يُسَاوِيَهُ صَاحِبُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ مَعَ حَذَاقَتِهِ، وَخِرَقِ صَاحِبِهِ.
ثُمَّ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ بِدُونِ الْمَالِ- وَهُوَ فِي الْمُضَارَبَةِ- فَبِالْعَمَلِ مَعَ الْمَالِ أَوْلَى.
(ثُمَّ) الْوَضِيعَةُ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا يَقُولُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ يَشْتَرِطُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِلْآخَرِ بِعَمَلِهِ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا هُنَا، وَالْعَمَلُ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمَا، وَفِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، أَوْ كَوْنُ الْمَالِ فِي يَدِهِ: لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الْمُضَارَبَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ؛ فَيَكُونُ أَمِينًا عَامِلًا فِيهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِهَذَا الشَّرْطِ.
فَأَمَّا مُوجَبُ الشَّرِكَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ أَحَدِهِمَا وَالْمَالِ، فَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ مُوجَبِ الشَّرِكَةِ.
(ثُمَّ) حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ هُنَا ثَبَتَ تَبْعًا لِلشَّرِكَةِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا كَالْكَفَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْمُفَاوَضَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا يَجُوزُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ عِنْدَنَا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ.
قَالَ: (وَالشَّرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا، أَوْ مَرِضَ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَعَمِلَ الْآخَرُ: فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا)؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَنَا أَعْمَلُ فِي السُّوقِ، وَلِي شَرِيكٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَعَلَّكَ بَرَكَتُكَ مِنْهُ».
وَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ- دُونَ مُبَاشَرَتِهِ- وَالتَّقَبُّلُ كَانَ مِنْهُمَا، وَإِنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ.
أَوَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ يَسْتَوِيَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَعْمَلَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ فِيهِ سَوَاءً، وَرُبَّمَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ رِبْحٍ لِحَذَاقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ مَا بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَمَلِ أَحَدُهُمَا، وَيَسْتَوِي إنْ امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
قَالَ: (وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ نِصْفَانِ: فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ)، وَمُرَادُهُ أَنَّ شَرْطَ الْوَضِيعَةِ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ شَرَطَ ضَمَانَ شَيْءٍ مِمَّا يَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَلْفَيْنِ فَاسِدٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا أَصْلُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ الشُّرُوطُ وَتَبْقَى الْوَكَالَةُ، فَكَذَا هَذَا.
فَإِنْ عَمِلَا عَلَى هَذَا فَوَضَعَا؛ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ بِخِلَافِهِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ رَبِحَا فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ صَحِيحًا، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا.
وَإِنْ اشْتَرَطَا الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَمَلِ لَهُ فِي مَالِهِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ كَالْمُسْتَبْضَعِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ.
(وَإِنْ) اشْتَرَطَا الرِّبْحَ نِصْفَيْنِ، وَالْوَضِيعَةَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالْعَمَلَ عَلَيْهِمَا: جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ، بِعَمَلِهِ فِيهِ؛ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ لَهُ.
إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ تَبَعٌ لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ مُوجَبُ الْأَصْلِ- دُونَ التَّبَعِ- فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُمَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا.
فَإِنْ عَمَلَاهُ، أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا، فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ- بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ- بِالشَّرْطِ لَا بِنَفْسِ الْعَمَلِ.
وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمَا، فَلَا يَضُرُّهُمَا تَفَرُّدُ أَحَدِهِمَا بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفِ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ هُنَا أَبْيَنُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِسُدُسِ الرِّبْحِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ، ثُلُثُ الرِّبْحِ حِصَّةُ رَأْسِ مَالِهِ، وَسُدُسُهُ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ يُسْتَحَقُّ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمُضَارِبِ يُصَحِّحُ الْمُضَارَبَةَ، وَلَا يُبْطِلُهَا.
(فَإِنْ قِيلَ): إذَا كَانَ يَعْمَلُ هُوَ فِي شَيْءٍ شَرِيكٍ، فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ عِوَضَ عَمَلِهِ عَلَى شَرِيكِهِ؟ (قُلْنَا): اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَسْمِيَةُ مِقْدَارِ الْعَمَلِ، وَلَا بَيَانُ الْمُدَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ.
فَإِذًا الْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِصَاحِبِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ، أَوْ عَمَلٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ وَالْمَالِ، أَوْ الْعَمَلِ، أَوْ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ؛ فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لَهُ بَاطِلًا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَطْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَقْعَدَ الصَّانِعُ مَعَهُ رَجُلًا فِي دُكَّانِهِ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ)؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ مَنْفَعَةٌ وَالْمَنَافِعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ، إنْ كَانَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ، فَالْعَامِلُ أَجِيرُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُفْسِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَبِّلُ هُوَ الْعَامِلَ، فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ؛ فَأَجَازَ هَذَا لِكَوْنِهِ مُتَعَامَلًا بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ عَمَّا تَعَامَلُوا بِهِ نَوْعُ حَرَجٍ؛ فَلِدَفْعِ هَذَا الْحَرَجِ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ.
وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى هَذَا الْعَقْدِ، فَالْعَامِلُ قَدْ يَدْخُلُ بَلْدَةً لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهَا، وَلَا يَأْمَنُونَهُ عَلَى مَتَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْمَنُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ صَاحِبَ الدُّكَّانِ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ.
وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ لَا يَتَبَرَّعُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْعَامِلِ فِي الْعَادَةِ.
فَفِي تَصْحِيحِ هَذَا الْعَقْدِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِلُ إلَى عِوَضِ عَمَلِهِ، وَالنَّاسُ يَصِلُونَ إلَى مَنْفَعَةِ عَمَلِهِ، وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ يَصِلُ إلَى عِوَضِ مَنْفَعَةِ دُكَّانِهِ؛ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَيَطِيبُ الْفَضْلُ لِرَبِّ الدُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَقْعَدَهُ فِي دُكَّانِهِ وَأَعَانَهُ بِمَتَاعِهِ.
وَرُبَّمَا يُقِيمُ بَعْضَ الْعَمَلِ أَيْضًا كَالْخَيَّاطِ يَتَقَبَّلُ الْمَتَاعَ، وَيَلِي قَطْعَهُ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ؛ فَلِهَذَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ.
وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ كَجَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِيهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ.
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ)، وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ بِالنُّقُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالتِّبْرِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى بِتِبْرٍ بِعَيْنِهِ شَيْئًا، فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
فَقَدْ جَعَلَ التِّبْرَ كَالنُّقُودِ، حَتَّى قَالَ: لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
فَإِنْ كَانَتْ الْمُبَايَعَاتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَلْدَةٍ بِالتِّبْرِ؛ فَهُوَ كَالنُّقُودِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَيَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ؛ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فِيهِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ، كَتَعَيُّنِ الصَّنْجَانِ وَالْقِيمَاتِ.
(فَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ) إنْ كَانَتْ نَافِعَةً لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَتَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَذَكَرَ) الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا:، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ قُلْنَا: تَعْيِينُهُ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَتَعَيُّنُ الْفُلُوسِ بِالتَّعْيِينِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ بِالتَّعْيِينِ كَالنُّقُودِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ.
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً.
وَهُمَا يَقُولَانِ: الرَّوَاجُ فِي الْفُلُوسِ عَارِضٌ فِي اصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَلَوْ جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ بِهَا أَدَّى إلَى جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ، وَأَخَذَ النَّاسُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ، وَمَالِيَّةُ الْفُلُوسِ تَخْتَلِفُ بِالرَّوَاجِ وَالْكَسَادِ.
(وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ تَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْصُلُ رَأْسُ الْمَالِ أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، وَالْفُلُوسُ رُبَّمَا تَكْسُدُ فَلَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بَعْدَ الْكَسَادِ إلَّا بِالْحَزْرِ، وَالظَّنِّ.
وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْمَالِ.
فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالضَّرَرِ دُونَ الْآخَرِ.
(فَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ: لَا تَصِحُّ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ صَحِيحَةٌ؛ لِلتَّعَامُلِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَلِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِشَرِكَةِ الْمِلْكِ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ لِلْفَسَادِ، فَقَالَ: لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَجْهُولٌ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
وَعِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ.
فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ، فَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، وَلَا يَثْبُتُ التَّيَقُّنُ بِهِ.
ثُمَّ الشَّرِكَةُ مُخْتَصَّةٌ بِرَأْسِ مَالٍ يَكُونُ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ شِرَاءً لَا بَيْعًا، وَفِي الْعُرُوضِ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ بَيْعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضُ رِبْحِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ.
فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَكُونُ أَمِينًا، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ هَذَا رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ كَانَ ذَلِكَ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ، وَلِأَنَّ فِي الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ فَلَوْ جَازَ اسْتَحَقَّ الْآخَرُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ لَهُ فِيهِ.
وَرُبَّمَا يَخْسَرُ أَحَدُهُمَا بِتَرَاجُعِ سِعْرِ عُرُوضِهِ وَيَرْبَحُ الْآخَرُ؛ فَلِهَذِهِ الْمُعَانِي بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِنْ بَاعَا الْعُرُوضَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ قَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعٌ لِمِلْكِهِ، وَالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الْعُرُوضِ، فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةُ عَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.
(وَكَذَلِكَ) لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ عُرُوضًا فِي مُفَاوَضَةٍ وَلَا عَنَانٍ؛ لِجَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْعُرُوضِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، أَوْ مَعْدُودٍ مُتَّفِقٍ فِي الْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطَاهُ؛ فَلَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ لَهُ رِبْحُهُ، وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَتَسْتَحِقُّ أَعْيَانَهَا بِالْعَقْدِ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْعًا لَا شِرَاءً، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا، وَإِنْ خَلَطَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَا رَبِحَا فِيهِ فَلَهُمَا، وَمَا وَضَعَا فِيهِ فَعَلَيْهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، فَالْمَخْلُوطُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُمَا سَوَاءً؛ فَالرِّبْحُ وَالْوَضِيعَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ تَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ، أَوْ شَرِكَةَ عَقْدٍ.
وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكُونُ شَرِكَةَ عَقْدٍ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيهِمَا أَنَّهُمَا إذَا اشْتَرَطَا مِنْ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةً عَلَى نَصِيبِهِ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا مُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونَ عَرْضٌ مِنْ وَجْهٍ، ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِهِمَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ؛ فَكَانَ ثَمَنًا، وَأَنَّ بَيْعَ عَيْنِهِمَا صَحِيحٌ؛ فَكَانَتْ مَبِيعَةً.
وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا.
فَلِشَبَهِهِمَا بِالْعُرُوضِ قُلْنَا: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِشَبَهِهِمَا بِالْأَثْمَانِ قُلْنَا: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا بَعْدَ الْخَلْطِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ تَضْعُفُ إضَافَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ إلَيْهِمَا، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى مَا يُقَوِّيهَا، وَهُوَ الْخَلْطُ؛ لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ- لَا مَحَالَةَ- فَيَتَأَكَّدُ بِهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ- لَا مَحَالَةَ-.
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ- كَالنُّقُودِ-؛ فَكَذَلِكَ مَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْلَ الْخَلْطِ إنَّمَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ، فَتَعَيُّنُ رَأْسِ الْمَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْيَانُهَا مَبِيعَةٌ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهَا يَكُونُ بَيْعًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَعْدَ الْخَلْطِ، بَلْ يَزْدَادُ تَقَرُّرًا بِالْخَلْطِ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ، وَالْمَخْلُوطُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا؛ فَتَقَرُّرُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ لَا يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْعَقْدِ.
وَاَلَّذِي يُقَالُ لِمُحَمَّدٍ: إنَّ تَحْصِيلَ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُنَا مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَشْكُلُ بِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ.
وَكَذَلِكَ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا حِنْطَةً، وَرَأْسُ مَالٍ الْآخَرِ شَعِيرًا.
فَالشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ هُنَا بَيْنَهُمَا- خَلَطَاهُ أَوْ لَمْ يَخْلِطَاهُ- وَرَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ.
وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: عَقْدُ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ، بَعْدَ الْخَلْطِ، بِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوطِ.
فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الْمَخْلُوطِ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ هَذَا الْمَخْلُوطَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَالْمَخْلُوطُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهُ.
فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ.
(ثُمَّ) عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إذَا بَاعَا الْمَخْلُوطَ؛ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ مَخْلُوطًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ، فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْخَلْطِ؛ فَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ، وَلَكِنْ مَخْلُوطًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ؛ فَتُعْتَبَرُ صِفَةُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُهُ الْخَلْطُ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ إذَا خَلَطَاهُ بِالْحِنْطَةِ، وَقِيمَةَ الْحِنْطَةِ تُنْتَقَصُ، فَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهِ مَعَهُ.
وَصَاحِبُ الْحِنْطَةِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِعَمَلٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ- وَهُوَ الْخَلْطُ- وَقِيمَةُ مِلْكِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ نَاقِصٌ، فَلَا يَضْرِبُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ، غَلَطٌ؛ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطَا، وَلَكِنْ بَاعَا الْكُلَّ جُمْلَةً فَقِسْمَةُ الثَّمَنِ تَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْطِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخَلْطِ وَالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ سَوَاءً.
(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ مِثْلِهِ مِمَّا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوطِ مِثْلٌ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ؛ حَتَّى يُمْكِنَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْوِيمِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مُعْتَبَرًا بِوَقْتِ الْوِلَادَةِ؛ لِتَعَذُّرِ إمْكَانِ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ مُخْتَبِئًا فِي الْبَطْنِ، فَيُصَارُ إلَى تَقْوِيمِهِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ فِيهِ- وَهُوَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ- فَكَذَلِكَ هُنَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ- وَهُوَ عِنْدَ الْخَلْطِ- إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَلْطَ يُزِيدُ فِي مَالِ أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِمَا وَقْتَ الْخَلْطِ؛ لِتَيَقُّنِنَا بِزِيَادَةِ مِلْكُ أَحَدِهِمَا، وَنُقْصَانِ مِلْكِ الْآخَرِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْخَلْطِ مِلْك كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ كَالْبَاقِي فِي الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْلِطْهُ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ.
(قَالَ) فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخِرِ مِائَةُ دِينَارٍ فَخُلِطَا أَوْ لَمْ يُخْلَطَا؛ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِطَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْطَ الْمَالَيْنِ فِي النُّقُودِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي رَأْسِ مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ الشَّرِكَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ التَّصَرُّفُ بِهَا، لَا عَيْنُهَا.
فَإِذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ يَكُونُ مُبْطِلًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْكَسَادِ فِي الْفُلُوسِ.
وَانْعِدَامُ رَأْسِ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا، فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ.
وَالْمُشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً، هَكَذَا يَقُولُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقُولُ: إذَا اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرَى عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا نَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ.
فَحَيْثُ قَالَ: يَكُونُ الْبَاقِي مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ؛ فَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بِمَالِ أَحَدِهِمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِنْ قَضِيَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ مَالِ أَحَدِهِمَا؛ فَيَكُونُ الْآخَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ.
وَحَيْثُ قَالَ: الْمُشْتَرَى بِمَالٍ آخَرَ، لَا بَيْنَهُمَا.
وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا صَرَّحَا عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِهِ هَذَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ هَذَا التَّصْرِيحِ الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ قَضِيَّةِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ وَكَّلَ صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ نَصًّا عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمُشْتَرَى لَهُ.
وَالشَّرِكَةُ وَإِنْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ النِّصْفَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْفَرْقِ، وَمِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فِي الْجَوَابِ.
قَالَ: (فَإِنْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا عَلَى الْمَالِ فَنَقَدَا الثَّمَن مِنْ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّنَانِيرُ فَإِنَّهَا تَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا خَاصَّةً)؛ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمُشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ قَائِمَةً بَيْنَهُمَا حِينَ اشْتَرَيَا بِالدَّرَاهِمِ وَصَارَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ عَلَى صَاحِبِ الدَّنَانِيرِ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْقَدْرَ لَهُ بِوَكَالَتِهِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَإِنَّمَا رَضِيَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ لَهُمَا، وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ رَجَعَ بِمَا نَقَدَ مِنْ ثَمَنِ حِصَّتِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ، (ثُمَّ) لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ شَرِكَتَهُمَا فِي الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى شَرِكَةُ عَقْدٍ أَوْ شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ شَرِكَةُ عَقْدٍ حَتَّى إذَا بَاعَهُ أَحَدُهُمَا نَفَذَ بَيْعُهُ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ شَرِكَةُ مِلْكٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ قَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا هُوَ حُكْمُ الشِّرَاءِ- وَهُوَ الْمِلْكُ-؛ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِي الْمَتَاعِ شَرِكَةَ مِلْكٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَلَاكَ الدَّنَانِيرِ كَانَ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّرَاهِمِ- وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهَا-؛ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَرِكَةَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ: (فَإِنْ اشْتَرَيَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَمِيعًا مَتَاعًا فَالْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا).
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَفِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَفِي ظُهُورِ الرِّبْحِ فِي نَصِيبِهِمَا أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ رَأْسُ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ.
قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَيَا بِالْأَلْفِ مَتَاعًا، ثُمَّ اشْتَرَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ مَتَاعًا، فَوَضَعَا فِي أَحَدِ الْمَتَاعَيْنِ وَرَبِحَا فِي الْآخَرِ، فَذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ كَالْمَالِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مَا لَمْ يُغَيَّرْ ذَلِكَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ.
(وَكَذَلِكَ) رَجُلَانِ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُرِّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّةِ الْأَلْفِ، وَلِلْآخَرِ بِحِصَّةِ الْكُرِّ، وَدَفَعَا الثَّمَنَ، فَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ؛ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمُبْدَلِ بِقَدْرِ مَا نَقَدَهُ مِنْ الْبَدَلِ.
(وَكَذَلِكَ) لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ، فَكَالَ أَحَدُهُمَا كُرَّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ، وَكَالَ الْآخَرُ الشَّعِيرَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ؛ فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَقْتَسِمَا ذَلِكَ عَلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الشِّرَاءِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ الشِّرَاءِ.
فَإِنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ.
ثُمَّ إذَا بَاعَ ذَلِكَ فَثَمَنُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ لَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِعَرَضَيْنِ أَحْضَرَاهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرَضٌ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَرَاهِمَ اقْتَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا بَاعَا الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً، فَحِينَئِذٍ الثَّمَنُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ رَأْسِ مَالِهِمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى بِالْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ فِي الْمُشْتَرَى بِمَالِهِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعُرُوضِ وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بَعْدَ هَذَا.
فَقَالَ: إذَا اشْتَرَيَا بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَبَاعَاهُ مُرَابَحَةً اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ الَّذِي كَالَهُ، أَوْ وَزَنَهُ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى، وَإِنْ بَاعَاهُ بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسُ مَالِهِ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى مَا بَاعَا لِأَنَّهُمَا إذَا بَاعَا بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ بِصِفَتِهِ، وَإِذَا بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى، فَالرِّبْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
بَيَانُ هَذَا فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ: لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَالرِّبْحُ الْغَلَّةُ، وَلَوْ بَاعَهُ بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ كَأَصْلِ الثَّمَنِ.
وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الثَّمَنُ دُونَ الرِّبْحِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاَلَّذِي تَخَايَلَ لِي بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي تَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثَبَتَتْ عِنْدَ خَلْطِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ الْخَلْطَ إذَا كَانَ فِي أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاخْتِلَاطِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.
فَأَمَّا الْخَلْطُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَى.
وَالْمُشْتَرَى مُخْتَلَطٌ بَيْنَهُمَا- سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ اخْتَلَفَ- فَكَانَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ عَقْدٍ، وَرَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدَّاهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
فَلِهَذَا قَالَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ لَا تَثْبُتُ بِالْعُرُوضِ بِحَالٍ، وَلَا يَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ عَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيمَةَ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى رَجُلًا دَنَانِيرَ مُضَارَبَةً فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَا الْقِسْمَةَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَنَانِيرَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَالِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ)؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي إظْهَارِ الرِّبْحِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الْقِسْمَةِ.
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ فَصْلَ الْمُضَارَبَةِ لِإِيضَاحِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الشَّرِكَةِ.
قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: يَأْخُذُ قِيمَتَهَا يَوْمَ أَعْطَاهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ الْمُخَالِفُ قَبْلَ الْمُخَالَفِ) زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْإِعْطَاءِ.
وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهَا عَلَى أَنَّ لَهُ رِبْحَهَا، وَعَلَيْهِ الْوَضِيعَةَ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَالْقَابِضُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ مُقْرِضُ الْمَالِ مِنْهُ حِينَ شَرَطَ أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لَهُ وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِقْرَاضِ.
وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ بِهَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا وَالْوَضِيعَةَ بَيْنَنَا، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ بِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ.
وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الشَّرِيكِ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْقَرْضِ فِي النِّصْفِ هُنَا بِمُقْتَضَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، فَمَا يُنْقَدُ فِيهِ الثَّمَنُ يَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ؛ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ.
فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِهَا لِلْمُعْطَى- اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ-؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ شَرَطَ الْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الْإِقْرَاضِ؛ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَضِيعَةِ شَيْءٌ، فَجَعَلْنَاهُ مُقْرِضًا نِصْفَ الْمَالِ مِنْهُ، وَضَمَانُ الْقَرْضِ يَثْبُتُ بِالْقَرْضِ.
قَالَ: (وَإِذَا جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا بِهَا وَخَلَطَاهَا، كَانَ مَا هَلَكَ مِنْهَا هَالِكًا مِنْهُمَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ إذْ لَيْسَ صَرْفُ الْهَالِكِ إلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ شَيْءٌ مِنْ الْهَالِكِ أَوْ الْبَاقِي مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ.
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا، وَالْآخَرُ مَكْسُورًا، فَمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْ الصِّحَاحِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهَا، وَالْحَالُ فِي هَذَا قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَالِكَ وَالْقَائِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا اخْتَلَطَ مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا لِيَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَاطُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرِكَا بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا مِنْ الرَّقِيقِ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا جَائِزٌ).
وَهَذَا يُفْسِدُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ تَكُونُ مُفَاوَضَةً تَارَةً، وَعَنَانًا أُخْرَى، وَالْعَنَانُ مِنْهَا يَكُونُ عَامًّا وَخَاصًّا، كَالْعَنَانِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْمَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ نَوْعٍ خَاصٍّ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا فِي هَذَا الشَّهْرِ لِأَنَّهُ تَوْقِيتٌ فِي التَّوْكِيلِ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فِي الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا.
قَالَ: (فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ اشْتَرَيْت مَتَاعًا فَهَلَكَ مِنِّي، وَطَالَبَ شَرِيكَهُ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ لَمْ يَصْدُقْ عَلَى شَرِيكِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ، إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْته وَهَلَكَ فِي يَدِي لَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ أَمِينٍ، وَلَكِنْ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا مِثْلُ مَا لَزِمَهُ صَحَّ إلْزَامُهُ إيَّاهُ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ لَا بِإِقْرَارِهِ.
فَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ يَلْزَمُ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا يُدْخِلُهُ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا، فَأَمَّا فِي الْإِقْرَارِ لَا يُدْخِلُ شَيْئًا فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ظَاهِرًا؛ فَلَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ لِإِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ- وَهُوَ شِرَاءُ الْمُدَّعِي- وَالْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ: «يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا».
قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ ادَّعَى هَلَاكَ الْمَتَاعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْهَلَاكِ)؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، ثُمَّ هُوَ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْهَلَاكِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَتْبَعُ شَرِيكَهُ فِي نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَا مَتَاعًا وَقَبَضَاهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا لِيَبِيعَهُ، وَقَالَ قَدْ هَلَكَ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فِي نِصْفِ صَاحِبِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ فَالْقَوْلُ فِي هَلَاكِهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَاهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ: فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ.
وَلَكِنَّ أَصْلَ الشَّرِكَةِ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا اشْتَرَى، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِي الْمُشْتَرَى.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِأَمْوَالِهِمَا، أَوْ بِوُجُوهِهِمَا، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا مَتَاعًا، فَقَالَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِهِ: هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا.
وَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ لِي خَاصَّةً، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته بِمَالِي لِنَفْسِي قَبْلَ الشَّرِكَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَحَدٍ عَامِلًا لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُشْتَرَى ظَاهِرٌ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا.
(فَإِنْ قِيلَ): قِيَامُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا النَّوْعِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَيْته قَبْلَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ تَارِيخًا سَابِقًا فِي الشِّرَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّارِيخِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ.
(قُلْنَا): نَعَمْ هَذَا نَوْعٌ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِلْآخَرِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا.
وَحَاجَةُ الْآخَرِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَكْفِيهِ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْآخَرِ عَمَّا فِي يَدِهِ، فَالظَّاهِرُ يَكْفِيهِ لِذَلِكَ.
قَالَ: (رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ، ثُمَّ ذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ، وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً: فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فِي شِرَاءِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَعْزِلُ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ؛ لِمَا فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ عِلْمِهِ- كَخِطَابِ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ الْمُخَاطَبَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ- وَلِأَنَّهُ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ هُنَا فِي امْتِثَالِ أَمْرِ الْآمِرِ، فَإِنَّمَا عَزَلَهُ فِي مُخَالِفَتِهِ أَمْرَهُ لِكَيْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ.
وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا: لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمَا الْخُرُوجَ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ: لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآمِرِ.
فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ.
قَالَ: (رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ، فَقَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ: اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ.
ثُمَّ ذَهَبَ الْمَأْمُورُ فَاشْتَرَى الْعَبْدَ، فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْآمِرَ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ، وَقَدْ تَمَّتْ الْوَكَالَةُ بِقَبُولِهِ، وَصَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ، فَيَنْصَرِفُ هَذَا النِّصْفُ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ غَيْرِ النِّصْفِ الَّذِي قَبِلَ الْوَكَالَةَ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ كُلَّ النِّصْفِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ الثَّانِي النِّصْفُ الْآخَرُ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا، يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى حِصَّتِهِ خَاصَّةً.
فَهُنَا أَيْضًا يَنْصَرِفُ تَوْكِيلُ الثَّانِي إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ خَاصَّةً؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَكَالَتِهِ، وَخَرَجَ مِنْ الْبَيْنِ.
قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ، فَطَلَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ الشَّرِكَةَ؛ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ: فَلَهُ نِصْفُهُ)؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ نِصْفَ مَا مَلَكَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي مَلَكَهُ بِهِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا مَلَكَ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ؛ بِأَنْ وَلَّاهُ الْبَيْعَ: كَانَ صَحِيحًا.
فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ نِصْفَهُ.
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْأُمِّ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} اقْتَضَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
فَلَمَّا قَالَ هُنَا: أَشْرَكْتُك فِيهِ.
فَمَعْنَاهُ سَوِيَّتك بِنَفْسِي، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلنِّصْفِ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْرَكَ رَجُلَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ سَوَّاهُمَا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا.
قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ رَجُلًا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ نِصْفَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبْعَهُ)؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ بِطَرِيقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَنْ أَشْرَكَ؛ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اشْتَرَى بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: أَشْرِكْنِي فِيهِ، فَقَالَ: قَدْ أَعْتَقْته».
فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ حَتَّى امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْإِعْتَاقِ.
وَمُقْتَضَى لَفْظِ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُمَلِّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ حِينَ سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فَيُجْمَعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَكُونُ لَهُ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَقْتَضِي هَذَا اللَّفْظُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْعَبْدِ.
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا صَارَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ مِنْ جِهَة كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ جَعَلَاهُ كَالْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مَعَهُمَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ: كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ، وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ)؛ لِأَنَّ إشْرَاكَهُ فِي نَصِيبِهِ نَفَذَ فِي الْحَالِ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى إجَازَةِ الشَّرِيكِ.
وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ يَصِيرُ الشَّرِيكُ مُشْرَكًا لَهُ فِي نَصِيبِهِ.
فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ.
(وَرَوَى) ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُجِيزَ صَارَ رَاضِيًا بِالسَّبَبِ لَا مُبَاشِرًا لَهُ.
وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يُسْنَدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ، ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ أَيْضًا فِي نَصِيبِهِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَيَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ، كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِ هَذَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا، فَقَالَ لِرَجُلٍ: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ، كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ- بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي-؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ.
فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي، كَانَ بَاطِلًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ.
قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا، لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ الْكُلَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ الْبَعْضَ بِالْإِشْرَاكِ.
فَإِنْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا أَشْرَكَهُ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَلَّاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ بَائِعٌ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ لَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرَهُ.
(وَالْجَوَابُ): أَنَّهُ يَصِحُّ إشْرَاكُهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ.
(فَإِنْ قِيلَ): كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إشْرَاكُهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ خَاصَّةً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً.
(قُلْنَا): الْإِشْرَاكُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ.
ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ.
فَأَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى تَمْلِيكِ الْمَقْبُوضِ خَاصَّةً، لَا يَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا، وَتَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْمَلْفُوظَ.
فَفِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ هُنَا مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ، فَلَيْسَ فِي تَعْيِينِ نَصِيبِهِ هُنَاكَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي عَبْدٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَاهُ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ، أَوْ قَالَ: فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ.
فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ.
فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ؛ بِوَكَالَتِهِ.
فَإِذَا قَبَضَهُ فَذَلِكَ كَقَبْضِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ.
ثُمَّ يَدُ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّل، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ، حَتَّى إذَا مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا جَمِيعًا.
(فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا، أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْبَاقِي: كَانَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُمَا إنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَدْ كَانَا اشْتَرِكَا فِيهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ- عَلَى مَا وَصَفْت لَك- فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا، وَنَقَدَ الثَّمَنَ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ، بِحُكْمِ تِلْكَ الْوَكَالَةِ،.
فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَاهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّمَا أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالنِّصْفَ عَنْ شَرِيكِهِ بِوَكَالَتِهِ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ: كَانَ بَائِعًا لِنِصْفِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ فَإِنْ بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ، كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ) فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً.
فَيَحْتَاجُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ، وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
(وَالثَّانِي): أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ: بِعْته مِنْك إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ: بِعْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْت مِنْك نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ لِلْأَوَّلِ؛ فَكَانَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِهِ، وَبِالْمُعَارَضَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِيجَابَ فِي نِصْفِهِ لِلْمُخَاطَبِ، وَفِي نِصْفِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَشْتَرِي مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا،.
فَهُنَا أَيْضًا ضَمُّ نَفْسِهِ إلَى الْمُخَاطَبِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ فِي حَقِّ التَّقْسِيمِ؛ فَلِهَذَا كَانَ بَائِعًا نِصْفَهُ مِنْ الْمُخَاطَبِ بِخَمْسِمِائَةٍ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْبَائِعُ مِنْهُمَا هُنَا بَائِعُ نِصْفِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ.
فَإِذَا قَالَ: بِعْته مِنْك عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، كَانَ إيجَابُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ مُعَارَضٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَقْسِيمِ الثَّمَنِ، وَفِي إبْقَاءِ نَصِيبِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَبْقَى مُوجِبًا لِلْمُشْتَرِي نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ.
وَإِذَا قَالَ: بِعْته إلَّا نِصْفَهُ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: بِعْت نِصْفَهُ بِكَذَا.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ يَنْصَرِفُ إلَى النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ نَصِيبِهِ قَبْلَ الْوَكَالَةِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ، وَبَعْدَ الْوَكَالَةِ تَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ- وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ نَصِيبُهُ- لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ؛ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَا يَبِيعُ نِصْفَ ذَلِكَ النِّصْفِ، فَيَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِ نَفْسِهِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ.
قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ الثَّمَنَ عَنِّي، فَفَعَلَ: كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً)؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ بَيْعًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَشَرَطَ فِيهِ أَنْ يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ عَنْهُ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».
؛ فَيَبْطُلُ هَذَا الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الشَّرْطِ.
وَإِنْ نَقَدَ عَنْهُ الرَّجُلُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دِينَهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا.
قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ نِصْفَ ذَلِكَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَاهُ- مُسَاوَمَةً- بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَلَوْ بَاعَاهُ- مُرَابَحَةً- بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ: كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا).
وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَّيَاهُ رَجُلًا بِرَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بَاعَاهُ بِوَضِيعَةِ كَذَا: فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ هُوَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا، أَوْ كَانَ مُشْتَرًى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مُسَاوَمَةً.
فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي ثَمَنِهِ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضِيعَةِ: بِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ، وَفِي الْمُشْتَرَى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ،.
وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ الثَّانِي.
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الْمِلْكَ فِي قِيمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَضَيْعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبَيْهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ- بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُسَاوِمَةِ-.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فِي تِجَارَةٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَبِيعَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التِّجَارَةِ: فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ.
فَإِذَا خَصَّا نَوْعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِرَاءِ مَا سِوَى ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً.
فَأَمَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَبَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشِرَاؤُهُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ يَنْفُذُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِذَلِكَ.
وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يُصَرِّحَا؛ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ الشَّرِكَةِ.
إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالنَّسِيئَةِ بِالنُّقُودِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ جَازَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةُ عَنَانٍ، وَلَا لِلْمُضَارِبِ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِدَانَتُهُمَا زَادَ مَالُ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَمَا رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِتَصَرُّفِ صَاحِبِهِ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَا جَعَلَاهُ رَأْسَ الْمَالِ.
فَلِهَذَا كَانَ شِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ بِالدَّنَانِيرِ عِنْدَنَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا عَلَى الشَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا).
وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْقِيَاسِ جِنْسَانِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ هُمَا جِنْسَانِ، حَتَّى لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ دَنَانِيرَ.
فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ، وَعِنْدَنَا هُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بِهِمَا، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ عَلَى شَرِيكِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي تِجَارَتِهِمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ: لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَهُ)؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ- وَكِيلًا كَانَ أَوْ مُبَاشِرًا لِنَفْسِهِ-.
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ لَزِمَهُ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي النِّصْفِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبِعَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِإِقْرَارِهِ، فَبَطَلَ إقْرَارُهُ.
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ صَاحِبَهُ وَلِيَهُ: لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ.
فَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ- بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ-.
فَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَبِحُكْمِ الْوَكَالَةِ لَا يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لِشَرِيكَيْ الْعَنَانِ، عَلَى رَجُلٍ، دَيْنٌ، فَأَخَّرَهُ أَحَدُهُمَا: لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ)- بِخِلَافِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ-؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ- فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ- كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَالتَّأْجِيلُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ؛ فَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا.
وَبِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَا صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ لِصَاحِبِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَجَّلَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
وَفِي نَصِيبِ نَفْسِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ.
مَوْضِعُ بَيَانِهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا: لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَلِأَنَّ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ أَجْنَبِيٌّ، وَفِي النِّصْفِ مُوَكِّلٌ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُخَاصَمَ فِي الْعَيْبِ مَعَ الْبَائِعِ فِيمَا اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً، فَرَبِحَ فِيهِ: كَانَ الرِّبْحُ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي شَيْءٍ؛ فَعَمَلُهُ فِيهِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ شَرِيكِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ، وَكُلُّ وَضَيْعَةٍ لَحِقَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهِيَ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِشَهَادَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِمَا لَهُ مِنْ النَّصِيبِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يَضَعَ وَأَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً- وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ- وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ شَيْءٍ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَ بِالتَّصَرُّفِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ.
وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: التَّوْكِيلُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْغَائِبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النَّوْعَيْنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا- وَهُوَ الرِّبْحُ- فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْآذِنِ لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً.
وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ، وَلِهَذَا صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى وَصِفَتِهِ.
وَفِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ: لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِك؛ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ.
(وَكَذَلِكَ) لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَضَعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ لَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ.
فَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَكَذَلِكَ) لَهُ أَنْ يُودِعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ الشَّرِكَةِ.
فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُودِعَ لِيُحْفَظَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْلَى.
وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِأَجْرٍ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ.
فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لَهُمَا.
(وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ غَيْرِهِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ.
فَكَذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ: أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِعَقْدٍ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ مَا هُوَ دُونَهُ لَا مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ فَوْقَهُ، وَالْمُضَارَبَةُ دُونَ الشَّرِكَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الْوَضِيعَةِ، وَأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الْمُضَارَبَةِ مُسْتَفَادَةً بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، فَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ مَعَ الْغَيْرِ مِثْلَ الْأَوَّل؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ تَوَابِعِهِ مُسْتَفَادًا بِهِ؛ فَهُوَ نَظِيرٌ.
مَا يَقُولُ: إنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ دُونَ الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لِغَيْرِهِ مِثْلَ مَالِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – أَعْلَمُ.